حلمه وزهده وهيبته

 حلمه : كان الإمام الهادي يسير على هدى آبائه في العفو والصفح عن المسيئين لانتزاع روح الشر والأنانية من نفوسهم ، والصبر على كيد الأعداء والظالمين ، ومقابلة الإساءة بالإحسان ، ويكفي مثالا على سعة حلمه ، موقفه من بريحة عامل المتوكل على المدينة الذي كان يقصد الإمام بالإساءة والوشاية والافتراء والتهديد ، ومع ذلك فإنه قابل ذلك بالعفو وكظم الغيظ .

 زهده : لقد واظب الإمام على العبادة والورع والزهد ، ولم يحفل كشأن آبائه المعصومين بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ومتعها الزائفة ، بل اتجه إلى الله تعالى ورغب فيما أعده له في دار الخلود من النعيم والكرامة ، وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء عاملا كل ما يقربه إليه زلفى .

فلقد داهمت قوات السلطة العباسية في زمان المتوكل داره في يثرب ، ففتشوها بدقة ، فلم يجدوا شيئا من متاع الدنيا وزخرفها ، قال يحيى بن هرثمة ، وهو الموكل بإشخاص الإمام من المدينة إلى سامراء بأمر المتوكل : كان ملازما للمسجد ، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا ، وقد فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم .

ومرة أخرى في سامراء اقتحم داره ليلا جماعة من الأتراك من جند المتوكل ، فلم يجدوا فيها شيئا ، ووجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى ليس تحته فراش ، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيا من القرآن .

قال سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن بالليل ، ومعي سلم ، فصعدت منه إلى السطح ، ونزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها ، وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة .

ونقل ابن أبي الحديد عن المفاخرة بين بني هاشم وبني أمية للجاحظ ، قال : وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا ، لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته .

هيبته   في قلوب الناس : لقد ورث الإمام الهادي من آبائه الكرام العلم ومكارم الأخلاق والهيبة في قلوب الناس ، ولقد كانت هيبته تملأ القلوب إكبارا وتعظيما ، وذلك ناشئ من طاعته لله تعالى وزهده في الدنيا وتحرجه في الدين ، وقد بلغ من عظيم هيبته أن جميع السادة العلويين والطالبيين وغيرهم المعاصرين له ، قد أجمعوا على تعظيمه والاعتراف له بالزعامة والفضل مع كونهم من المشايخ الكبار والسادة المقدمين أمثال عم أبيه زيد بن الإمام موسى بن جعفر .

روى ابن جمهور عن سعيد بن عيسى ، قال : رفع زيد بن موسى إلى عمر ابن الفرج مرارا يسأله أن يقدمه على ابن أخيه ، ويقول : إنه حدث وأنا عم أبيه ، فقال عمر ذلك لأبي الحسن فقال : إفعل واحدة ، أقعدني غدا قبله ، ثم انظر ، فلما كان من الغد أحضر عمر أبا الحسن فجلس في صدر المجلس ، ثم أذن لزيد بن موسى فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن ، فلما كان يوم الخميس أذن لزيد بن موسى قبله فجلس في صدر المجلس ، ثم أذن لأبي الحسن فدخل ، فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه وجلس بين يديه .

وعن محمد بن الحسن الأشتر العلوي الحسيني ، قال : كنت مع أبي على باب المتوكل ، وأنا صبي ، في جمع من الناس في ما بين طالبي إلى عباسي إلى جعفري إلى غير ذلك ، إذ جاء أبو الحسن علي بن محمد فترجل الناس كلهم ، حتى دخل فقال بعضهم لبعض : لم نترجل لهذا الغلام ؟ فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سنا ولا بأعلمنا ! فقالوا : والله لا ترجلنا له .

فقال أبو هاشم الجعفري : والله لتترجلن له [ على ] صغره إذا رأيتموه ، فما هو إلا أن طلع وبصروا به حتى ترجل له الناس كلهم ، فقال لهم أبو هاشم : ألستم زعمتم أنكم لا تترجلون له ؟ فقالوا : ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا .

وعندما أرسل المتوكل يحيى بن هرثمة إلى المدينة لإشخاص الإمام الهادي إلى سامراء ، فدخل المدينة ، ضج أهلها ضجيجا عظيما ما سمع الناس بمثله خوفا على الإمام ، قال يحيى : وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسنا إليهم ملازما للمسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا .

وعندما وصل موكب الإمام إلى الياسرية نزل هناك ، فرأى يحيى بن هرثمة تشوق الناس إلى الإمام وهيبته في قلوبهم واجتماعهم لرؤيته ، فأنفذه ليلا إلى بغداد ، وأقام بعض تلك الليلة ، ثم سار فيها إلى سامراء .

وبلغ من عظيم هيبة الناس له أنه كان إذا دخل على المتوكل لا يبقى أحد في القصر إلا قام بخدماته ، وكانوا يتسابقون إلى رفع الستائر وفتح الأبواب ولا يكلفونه بشيء من ذلك .

ومن مظاهر تعظيم الإمام أنه لما أقيمت الصلاة عليه بعد استشهاده كثر الناس واجتمعوا وكثر بكاؤهم وضجتهم ، فرد النعش إلى داره ، فدفن فيها .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>