أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله

- قال موسى بن محمد بن الرضا : لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة ، فسألني عن مسائل ، فجئت إلى أخي علي بن محمد فدار بيني وبينه من المواعظ  ما حملني وبصرني طاعته ، فقلت له : جعلت فداك ، إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ، فضحك ثم قال : فهل أفتيته ؟ قلت : لا ، لم أعرفها .

قال : وما هي ؟ قلت : كتب يسألني عن قول الله : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) نبي الله كان محتاجا إلى علم آصف ؟ وعن قوله : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء ؟ وعن قوله : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب ) ، من المخاطب بالآية ؟ فإن كان المخاطب النبي فقد شك ، وإن كان المخاطب غيره فعلى من إذا أنزل الكتاب ؟ وعن قوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ، ما هذه الأبحر ، وأين هي ؟ وعن قوله : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) ، فاشتهت نفس آدم أكل البر فأكل وأطعم ، وفيها ما تشتهي الأنفس ، فكيف عوقب ؟ وعن قوله : ( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) ، يزوج الله عباده الذكران ، وقد عاقب قوما فعلوا ذلك ؟ وعن شهادة المرأة جازت وحدها ، وقد قال الله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) .

وعن الخنثى وقول علي : " يورث من المال " ، فمن ينظر إذا بال إليه ؟ مع أنه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليه الرجال ، أو عسى أن يكون رجلا وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحل ، وشهادة الجار إلى نفسه لا تقبل .

وعن رجل أتى إلى قطيع غنم ، فرأى الراعي ينزو على شاة منها ، فلما أبصر بصاحبها خلى سبيلها ، فدخلت بين الغنم ، كيف تذبح ، وهل يجوز أكلها أم لا ؟ وعن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار ، وإنما يجهر في صلاة الليل ؟ وعن قول علي لابن جرموز : " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ، فلم يقتله وهو إمام ؟ وأخبرني عن علي لم قتل أهل صفين ، وأمر بذلك مقبلين ومدبرين ، وأجاز على الجرحى .

وكان حكمه يوم الجمل أنه لم يقتل موليا ، ولم يجز على جريح ، ولم يأمر بذلك ، وقال : " من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن " ، لم فعل ذلك ، فإن كان الحكم الأول صوابا ، فالثاني خطأ .

وأخبرني عن رجل أقر باللواط على نفسه أيحد ، أم يدرأ عنه الحد ؟

جواب الإمام الهادي

قال : اكتب إليه .

قلت : وما أكتب ؟ قال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم وأنت - فألهمك الله الرشد - أتاني كتابك ، فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلا إن قصرنا فيها ، والله يكافيك على نيتك ، وقد شرحنا مسائلك ، فأصغ إليها سمعك ، وذلل لها فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجة والسلام .

سألت عن قول الله جل وعز : ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف ، لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان أودعه عند آصف بأمر الله ، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته ، كما فهم سليمان في حياة داود ، لتعرف نبوته وإمامته من بعده لتؤكد الحجة على الخلق .

وأما سجود يعقوب وولده ، فكان طاعة لله ومحبة ليوسف ، كما أن السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم وإنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم ، فسجود يعقوب وولده ويوسف معهم كان شكرا لله باجتماع شملهم ، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ) . . . إلى آخر الآية .

وأما قوله : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب ) ، فإن المخاطب به رسول الله ولم يكن في شك مما أنزل إليه ، ولكن قالت الجهلة : كيف لم يبعث الله نبيا من الملائكة ، إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق ، فأوحى الله إلى نبيه : ( فاسأل الذين يقرؤون الكتاب ) بمحضر الجهلة ، هل بعث الله رسولا قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة ، وإنما قال : ( فإن كنت في شك ) ولم يكن شك ، ولكن للنصفة ، كما قال : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) ، ولو قال : " عليكم " لم يجيبوا إلى المباهلة ، وقد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته ، وما هو من الكاذبين ، فكذلك عرف النبي أنه صادق في ما يقول ، ولكن أحب أن ينصف من نفسه .

وأما قوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) فهو كذلك ، لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر يمده سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيونا ، لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله ، وهي عين الكبريت ، وعين التمر ، وعين برهوت ، وعين طبرية ، وحمة ماسبذان ، وحمة إفريقية يدعى لسنان ، وعين بحرون ، ونحن كلمات الله التي لا تنفد ولا تدرك فضائلنا .

وأما الجنة فإن فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين ، وأباح الله ذلك كله لآدم ، والشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد ، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد ، فنسي ونظر بعين الحسد ، ولم يجد له عزما .

وأما قوله : ( أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ) أي يولد له ذكور ، ويولد له إناث ، يقال لكل اثنين مقرنين زوجان ، كل واحد منهما زوج ، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) إن لم يتب .

وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت ، فهي القابلة ، جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضى فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة ، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها .

وأما قول علي في الخنثى فهي كما قال : ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة ، وتقوم الخنثى خلفهم عريانة ، وينظرون في المرايا ، فيرون الشبح فيحكمون عليه .

وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة ، فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين ، وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ، ثم يفرق النصف الآخر ، فلا يزال كذلك حتى تبقى شاتان ، فيقرع بينهما ، فأيتها وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ، ونجا سائر الغنم .

وأما صلاة الفجر ، فالجهر فيها بالقراءة ، لأن النبي كان يغلس بها فقراءتها من الليل . وأما قول علي : بشر قاتل ابن صفية بالنار ، فهو لقول رسول الله ، وكان ممن خرج يوم النهروان ، فلم يقتله أمير المؤمنين بالبصرة ، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان . وأما قولك : إن عليا قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين ، وأجاز على جريحهم ، وإنه يوم الجمل لم يتبع موليا ، ولم يجز على جريح ، ومن ألقى سلاحه آمنه ، ومن دخل داره آمنه ، فإن أهل الجمل قتل إمامهم ، ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، رضوا بالكف عنهم ، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم ، والكف عن أذاهم ، إذ لم يطلبوا عليه أعوانا ، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح الدروع والرماح والسيوف ، ويسني لهم العطاء ، يهيئ لهم الأنزال ، ويعود مريضهم ، ويجبر كسيرهم ، ويداوي جريحهم ، ويحمل راجلهم ، ويكسو حاسرهم ، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم ، فلم يساو بين الفريقين في الحكم ، لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد ، لكنه شرح ذلك لهم ، فمن رغب عرض على السيف ، أو يتوب من ذلك .

وأما الرجل الذي اعترف باللواط ، فإنه لم تقم عليه بينة ، وإنما تطوع بالإقرار من نفسه ، وإذا كان للإمام الذي من الله أن يعاقب عن الله ، كان له أن يمن عن الله ، أما سمعت قول الله : ( هذا عطاؤنا ) الآية .

قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه ، فاعلم ذلك ، والحمد لله رب العالمين .

- وروى ابن شهرآشوب نحو ما تقدم مع اختلاف في أول الحديث ، ونحن نورد أول الحديث عن المناقب ، لأنه يدل على أن المتوكل طلب من العالم الكبير يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت أن يمتحن الإمام بمسائل غامضة معقدة ، لعله لا يهتدي لجوابها ، فيتخذها وسيلة للتشهير به والحط من شأنه ، ولكن لم يتم له ما أراد ، فقد فوت الإمام بعلمه الذي لا يحد ومعرفته التي لا تحاط ، على المتوكل الفرصة للنيل منه ، فقد أملى الإمام على ابن السكيت أجوبة تلك المسائل الدقيقة بمجرد النظر إليها ، فدلل بذلك على طاقاته العلمية الهائلة التي هي إحدى العناصر البارزة في معالم شخصية الإمام العظيمة .

وتدل رواية ابن شهرآشوب أيضا على أن يحيى بن أكثم رفع أسئلة إلى الإمام ، كان قد كتبها من قبل ، وأعدها للامتحان ، منددا بابن السكيت وبإمكانيته في المناظرة ، فأخذ الإمام الأسئلة ، وأمر ابن السكيت أن يكتب أجوبتها ، وفي ما يلي نورد أول حديث ابن شهرآشوب ، لأن آخره مشابه لما أوردناه في الحديث الأول .

قال ابن شهرآشوب : قال المتوكل لابن السكيت : اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي ، فسأله فقال : لم بعث الله موسى بالعصا ، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وبعث محمدا بالقرآن والسيف ؟ فقال أبو الحسن : بعث الله موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجة عليهم ، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطب ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم ، وبعث محمدا بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر ، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم ، وقهر سيفهم ، وأثبت الحجة عليهم .

فقال ابن السكيت : فما الحجة الآن ؟ قال : العقل ، يعرف به الكاذب على الله فيكذب .

فقال يحيى بن أكثم : ما لابن السكيت ومناظراته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة ، ورفع قرطاسا فيه مسائل ، فأملى علي بن محمد على ابن السكيت جوابها . . .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>