بطلان الجبر والتفويض

وإنما قدمنا هذا الشرح والبيان دليلا على ما أردنا ، وقوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين ، وبالله العون والقوة ، وعليه نتوكل في جميع أمورنا .

فإنا نبدأ من ذلك بقول الصادق : " لا جبر ولا تفويض ، ولكن منزلة بين المنزلتين ، وهي صحة الخلقة ، وتخلية السرب ، والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله " .

فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق جوامع الفضل ، فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسبه ، فأخبر الصادق بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته ، ونطق الكتاب بتصديقه ، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله ، لأن الرسول وآله لا يعدون شيئا من قوله ، وأقاويلهم حدود القرآن ، فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل ، فوجد لها موافقا وعليها دليلا ، كان الاقتداء بها فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد ، كما ذكرنا في أول الكتاب .

ولما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق من المنزلة بين المنزلتين ، وإنكاره الجبر والتفويض ، وجدنا الكتاب قد شهد له ، وصدق مقالته في هذا ، وخبر عنه أيضا موافق لهذا ، أن الصادق سئل هل أجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال الصادق : " هو أعدل من ذلك " ، فقيل له : فهل فوض إليهم ؟ فقال : " هو أعز وأقهر لهم من ذلك " .

وروي عنه أنه قال : " الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الأمر مفوض إليه ، فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ، ولم يكلفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ " ، فأخبر أن من تقلد الجبر والتفويض ودان بهما ، فهو على خلاف الحق .

فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ ، وأن الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما .

ثم قال ( عليه السلام ) : وأضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلا يقرب المعنى للطالب ، ويسهل له البحث عن شرحه ، تشهد به محكمات آيات الكتاب ، وتحقق تصديقه عند ذوي الألباب ، وبالله التوفيق والعصمة .

 بطلان الجبر :

فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذبه ورد عليه قوله : ( ولا يظلم ربك أحدا ) ، وقوله : ( ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ) ، وقوله : ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) ، مع آي كثيرة في ذكر هذا .

فمن زعم أنه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة .

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا ، لا يملك نفسه ، ولا يملك عرضا من عرض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ، ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور ، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه ، وعلم أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك ، فلما صار العبد إلى السوق ، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها ، وجد عليها مانعا يمنع منها إلا بشراء ، وليس يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه ، أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه ، وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا ، ولم يملكه ثمن حاجته ؟ فإن عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا .

فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر ، فقد ظلم الله ، ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إن الله يدفع عنهم العقوبة . ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب ، فقد كذب الله في وعيده حيث يقول : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ، وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) ، وقوله : ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ) .

مع آي كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله ، ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر ، وهو ممن قال الله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) .

بل نقول : إن الله جل وعز جازى العباد على أعمالهم ، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، وقال جل ذكره : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه ) ، وقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) ، فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به ، ومثلها في القرآن كثير ، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب ، وبالله التوفيق .

بطلان التفويض :

وأما التفويض الذي أبطله الصادق وخطأ من دان به وتقلده ، فهو قول القائل : إن الله جل ذكره فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ، وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته ، وإلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول ، فإنهم قالوا : لو فوض إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه ، واستوجبوا منه الثواب  ، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعا .

وتنصرف هذه المقالة على معنيين : إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة ، كره ذلك أم أحب ، فقد لزمه الوهن ، أو يكون جل وعز عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته كرهوا أو أحبوا ، ففوض أمره ونهيه إليهم ، وأجراهما على محبتهم ، إذ عجز عن تعبدهم بإرادته ، فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان .

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ، ويعرف له فضل ولايته ، ويقف عند أمره ونهيه ، وادعى مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم ، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب ، وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ، ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأي أمر أمره ، وأي نهي نهاه عنه ، لم يأته على إرادة المولى ، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه واتباع هواه ، ولا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته ، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه ، ورضي منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك ، وبعثه في بعض حوائجه ، وسمى له الحاجة ، فخالف على مولاه ، وقصد لإرادة نفسه واتبع هواه ، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به ، فإذا هو خلاف ما أمره به ، فقال له : لم أتيتني بخلاف ما أمرتك ؟ فقال العبد : اتكلت على تفويضك الأمر إلي ، فاتبعت هواي وإرادتي ، لأن المفوض إليه غير محظور عليه ، فاستحال التفويض .

أو ليس يجب على هذا السبب إما أن يكون المالك للعبد قادرا ، يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد ، ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه ، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه الثواب والعقاب عليهما ، وحذره ورغبه بصفة ثوابه وعقابه ، ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة  لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه ، فيكون عدله وإنصافه شاملا له وحجته واضحة عليه للإعذار والإنذار ، فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه ، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه ، أو يكون عاجزا غير قادر ، ففوض أمره إليه ، أحسن أم أساء ، أطاع أم عصى ، عاجز عن عقوبته ورده إلى اتباع أمره .

وفي إثبات العجز نفي القدرة والتاء له وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب ومخالفة الكتاب إذ يقول : ( ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) ، وقوله عز وجل : ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ، وقوله : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) ، وقوله : ( اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) ، وقوله : ( أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) .

فمن زعم أن الله تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده ، فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير وشر ، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ، لعلة ما زعم أن الله فوضها إليه ، لأن المفوض إليه يعمل بمشيئته ، فإن شدة الكفر أو الإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور ، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى ، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه ، وهو من أهل هذه الآية : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) ، تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>