الأمثال الخمسة

تفسير صحة الخلقة : أما قول الصادق " وهي صحة الخلقة " فإن معناه كمال الخلق للإنسان وكمال الحواس وثبات العقل والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق ، وذلك قول الله : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) فقد أخبر عز وجل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودواب البحر والطير وكل ذي حركة تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل والنطق ، وذلك قوله : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ، وقوله : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ) ، وفي آيات كثيرة .

فأول نعمة الله على الإنسان صحة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان ، وذلك أن كل ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسه مستكمل في ذاته ، ففضل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواس ، فمن أجل النطق ملك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمرا ناهيا ، وغيره مسخر له ، كما قال الله : ( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ) ، وقال : ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) ، وقال : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) .

فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى اتباع أمره وإلى طاعته ، بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة بعد أن ملكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ) ، وقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، وقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) ، وفي آيات كثيرة .

فإذا سلب من العبد حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته ، كقوله : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ) ، الآية ، فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي لا يقوم بها .

وكذلك أوجب على ذي اليسار الحج والزكاة لما ملكه من استطاعة ذلك ، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج ، قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ، وقوله في الظهار : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) - إلى قوله : - ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) ، كل ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده إلا ما ملكهم استطاعته بقوة العمل به ، ونهاهم عن مثل ذلك ، فهذه صحة الخلقة .

وأما قوله : " تخلية السرب " فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به ، وذلك قوله في من استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلا ، كما قال الله تعالى : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) ، فأخبر أن المستضعف لم يخل سربه وليس عليه من القول شيء إذا كان مطمئن القلب بالإيمان .

وأما المهلة في الوقت : فهو العمر الذي يمنع الإنسان من حد ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير ، وذلك قوله : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ) ، وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره ، وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) ، فلم يجعل عليهن حرجا في إبداء الزينة للطفل ، وكذلك لا تجري عليه الأحكام .

وأما قوله : " الزاد " فمعناه الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به ، وذلك قوله : ( ما على المحسنين من سبيل ) ، ألا ترى أنه قبل عذر من لم يجد ما ينفق ؟ وألزم الحجة كل من أمكنته البلغة والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، وكذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقا في مال الأغنياء بقوله : ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) ، فأمر بإعفائهم ولم يكلفهم الإعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون .

وأما قوله : " والسبب المهيج " فهو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال ، وحاستها القلب ، فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عملا إلا بصدق النية ، ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله : ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون )  ، ثم أنزل على نبيه توبيخا للمؤمنين : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ، فإذا قال الرجل قولا واعتقد في قوله ، دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل ، وإذا لم يعتقد القول لم تتبين حقيقته .

وقد أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها ، لعلة مانع يمنع إظهار الفعل ، في قوله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ، وقوله : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) ، فدل القرآن وأخبار الرسول أن القلب مالك لجميع الحواس يصحح أفعالها ، ولا يبطل ما يصحح القلب شيء .

فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين ، وهما الجبر والتفويض ، فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال ، وجب عليه العمل كمالا لما أمر الله عز وجل به ورسوله ، وإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنها مطروحا بحسب ذلك .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>