شواهد قرآنية على الاختبار والبلوى

فأما شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة ، ومن ذلك قوله : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) ، وقال : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) ، وقال : ( ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) .

وقال في الفتن التي معناها الاختبار : ( ولقد فتنا سليمان ) ، وقال في قصة موسى : ( فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) ، وقول موسى : ( إن هي إلا فتنتك ) ، أي اختبارك ، فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ، ويشهد بعضها لبعض . وأما آيات البلوى بمعنى الاختيار قوله : ( ليبلوكم في ما آتاكم ) ، وقوله : ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) ، وقوله : ( إنما بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ) ، وقوله : ( وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، وقوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) ، وقوله : ( ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) .

وكل ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها ، فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثيرة ، فهي إثبات الاختبار والبلوى . إن الله جل وعز لم يخلق الخلق عبثا ، ولا أهملهم سدى ، ولا أظهر حكمته لعبا ، وبذلك أخبر في قوله : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) .

فإن قال قائل : فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم ؟ قلنا : بلى ، قد علم ما يكون منهم قبل كونه ، وذلك لقوله : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) ، وإنما اختبرهم ليعلمهم عدله ولا يعذبهم إلا بحجة بعد الفعل ، وقد أخبر بقوله : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ) ، وقوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وقوله : ( رسلا مبشرين ومنذرين ) .

فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده ، وهو القول بين الجبر والتفويض ، وبهذا نطق القرآن ، وجرت الأخبار عن الأئمة من آل الرسول .

فإن قالوا : ما الحجة في قول الله : ( يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) ، وما أشبهها ؟ قيل : مجاز هذه الآيات كلها على معنيين : أما أحدهما فإخبار عن قدرته ، أي إنه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب ، على نحو ما شرحنا في الكتاب .

والمعنى الآخر أن الهداية منه تعريفه ، كقوله : ( وأما ثمود فهديناهم ) أي عرفناهم ( فاستحبوا العمى على الهدى ) ، فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا . وليس كلما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها ، من ذلك قوله : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم ) ، وقال : ( فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) أي أحكمه وأشرحه ( أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) .

وفقنا الله وإياكم إلى القول والعمل لما يحب ويرضى ، وجنبنا وإياكم معاصيه بمنه وفضله ، والحمد لله كثيرا كما هو أهله ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

- ومما يضاف إلى موضوع الجبر والتفويض المتعلق بأفعال العباد ، ما رواه الشيخ المفيد ( رحمه الله ) في تصحيح الاعتقاد ، قال : روي عن أبي الحسن الثالث أنه سئل عن أفعال العباد ، فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال : لو كان خالقا لها لما تبرأ منها ، وقد قال سبحانه : ( إن الله بريء من المشركين ورسوله ) ، ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم .

- وما رواه الشيخ الصدوق بالإسناد عن عبد العظيم الحسني ، عن الإمام علي بن محمد الهادي ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه الرضا علي بن موسى ، قال : خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق فاستقبله موسى ابن جعفر فقال له : يا غلام ممن المعصية ؟ فقال : لا تخلو من ثلاثة : إما أن تكون من الله عز وجل ، وليست منه ، فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لم يكتسبه ، وإما أن تكون من الله عز وجل ومن العبد ، فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف ، وإما أن تكون من العبد ، وهي منه ، فإن عاقبه الله فبذنبه ، وإن عفا عنه فبكرمه وجوده .

- وروي عن الإمام علي بن محمد العسكري أن أبا الحسن موسى بن جعفر قال : إن الله خلق الخلق ، فعلم ما هم إليه صائرون ، فأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه ، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته ، بل اختبرهم بالبلوى ، كما قال تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) . 

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>