تشييع أبي ذر

الكليني : سهل ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن حفص التميمي ، قال : حدثني أبو جعفر الخثعمي ، قال : لما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة شيعه أمير المؤمنين ، وعقيل ، والحسن ، والحسين وعمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) ، فلما كان عند الوداع قال أمير المؤمنين : يا أبا ذر ! إنك إنما غضبت لله عزوجل فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فأرحلوك عن الفناء وامتحنوك بالبلاء ، والله ! لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله عزوجل لجعل له منهما مخرجا فلا يؤنسك إلا الحق ، ولا يوحشك إلا الباطل .

ثم تكلم عقيل فقال : يا أباذر ! أنت تعلم أنا نحبك ونحن نعلم أنك تحبنا ، وأنت قد حفظت فينا ما ضيع الناس إلا القليل ، فثوابك على الله عزوجل ولذلك أخرجك المخرجون ، وسيرك المسيرون ، فثوابك على الله عزوجل ، فاتق الله واعلم أن استعفاءك البلاء من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع وقل : حسبي الله ونعم الوكيل .

ثم تكلم الحسن فقال : يا عماه ! إن القوم قد أتوا إليك ما قد ترى ، وإن الله عزوجل بالمنظر الأعلى فدع عنك ذكر الدنيا بذكر فراقها وشدة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك وهو عنك راض إن شاء الله .

ثم تكلم الحسين فقال : يا عماه ! إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغير ما ترى ، وهو كل يوم في شأن ، إن القوم منعوك دنياهم ومنعتهم دينك فما أغناك عما منعوك ، وما أحوجهم إلى ما منعتهم ، فعليك بالصبر فإن الخير في الصبر ، والصبر من الكرم ، ودع الجزع فإن الجزع لا يغنيك .

ثم تكلم عمار ( رضي الله عنه ) فقال : يا أبا ذر ! أوحش الله من أوحشك ، وأخاف من أخافك ، إنه والله ! ما منع الناس أن يقولوا الحق إلا الركون إلى الدنيا والحب لها ، ألا إنما الطاعة مع الجماعة ، والملك لمن غلب عليه ، وان هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم ، فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم فخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .

ثم تكلم أبو ذر ( رضي الله عنه ) فقال : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، بأبي أمي هذه الوجوه ! فإني إذا رأيتكم ذكرت رسول الله بكم ، ومالي بالمدينة شجن ولا سكن غيركم ، وإنه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام ، فآلى أن يسيرني إلى بلدة ، فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة ، فزعم أنه يخاف أن أفسد على أخيه الناس بالكوفة ، وآلى بالله ليسيرني إلى بلدة لا أرى فيها أنيسا ، ولا أسمع بها حسيسا ، وإني والله ! ما أريد إلا الله عزوجل صاحبا ، ومالي مع الله وحشة ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين .

ابن أبي الحديد : روى هذا الكلام أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة ، عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس : أن لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه .

وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به ، فخرج به ، فتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا وعمارا ، فإنهم خرجوا معه يشيعونه ، فجعل الحسن يكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيها يا حسن ! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام ذلك الرجل ! ؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك .

فحمل علي على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنح لحاك الله إلى النار . فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر . فتلظى على علي ، ووقف أبو ذر فودعه القوم ومعه ذكوان مولى أم هاني بنت أبي طالب ، قال ذكوان : فحفظت كلام القوم ، وكان حافظا .

فقال علي : يا أباذر إنك غضبت لله ، وإن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقلى ، ونفوك إلى الفلا ، والله ! لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منهما مخرجا ، يا أباذر لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل . ثم قال لأصحابه : ودعوا عمكم ، وقال لعقيل : ودع أخاك .

فتكلم عقيل فقال : ما عسى أن نقول يا أباذر ! أنت تعلم أنا نحبك وأنت تحبنا فاتق الله ، فإن التقوى نجاة ، واصبر فإن الصبر كرم ، واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع .

ثم تكلم الحسن فقال : يا عماه ! لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك وهو عنك راض .

ثم تكلم الحسين فقال : يا عماه ! إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى ، والله ( كل يوم هو في شأن ) .

وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عما منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصبر والنصر .

واستعذ به من الجشع والجزع ، فإن الصبر من الدين والكرم ، وإن الجشع لا يقدم رزقا ، والجزع لا يؤخر أجلا . ثم تكلم عمار ( رحمه الله ) مغضبا فقال : لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله ! لو أردت دنياهم لآمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .

فبكى أبو ذر ( رحمه الله ) - وكان شيخا كبيرا - ، وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ، مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما ، فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ، والله ! ما اريد إلا الله صاحبا ، وما أخشى مع الله وحشة . . . .

البرقي : عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن إسحاق بن جرير الحريري ، عن رجل من أهل بيته ، عن أبي عبد الله ، قال : لما شيع أمير المؤمنين أبا ذر ( رحمه الله ) وشيعه الحسن والحسين وعقيل بن أبي طالب ، وعبد الله بن جعفر ، وعمار بن ياسر عليهم سلام الله ، قال لهم أمير المؤمنين : ودعوا أخاكم ، فإنه لابد للشاخص من أن يمضي ، وللمشيع من أن يرجع ، قال : فتكلم كل رجل منهم على حياله ، فقال الحسين بن علي : رحمك الله يا أبا ذر ! إن القوم إنما امتهنوك بالبلاء ؛ لأنك منعتهم دينك ، فمنعوك دنياهم ، فما أحوجك غدا إلى ما منعتهم ، وأغناك عما منعوك ، فقال أبو ذر : رحمكم الله من أهل بيت ، فمالي في الدنيا من شجن غيركم ، إني إذا ذكرتكم ذكرت رسول الله .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>