خطبة الإمام الحسين في منى

ولم يزل الحسين بن علي يطلب الفرصة لانهاض المسلمين وإيقاظهم وتحذيرهم من إمارة يزيد :

سليم بن قيس : أنه لما كان قبل موت معاوية بسنة ، حج الحسين بن علي صلوات الله عليهما ، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر معه ، فجمع الحسين بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم ، ومن الأنصار ممن يعرفه الحسين وأهل بيته ثم أرسل رسلا لا تدعوا أحدا ممن حج العام من أصحاب رسول الله المعروفين بالصلاح والنسك إلا أجمعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادقه ، عامتهم من التابعين ، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبى ، فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإني أريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدقوني وإن كذبت فكذبوني ، وأسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله وقرابتي من نبيكم لما سيرتم مقامي هذا ، ووصفتم مقالتي ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم من أمنتم من الناس .

وفي رواية أخرى بعد قوله : فكذبوني : إسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس .

ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويغلب ، ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) وما ترك شيئا مما أنزل الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره ، ولا شيئا مما قاله رسول الله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه ، وكل ذلك يقول أصحابه : أللهم نعم ، وقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : أللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة ، فقال : أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه .

قال سليم : فكان فيما ناشدهم الحسين وذكرهم أن قال : أنشدكم الله ! أتعلمون أن علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة ؟ قالوا : أللهم نعم ! قال : أنشدكم الله ! هل تعلمون أن رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل ، تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي ، ثم سد كل باب شارع إلى المسجد غير بابه فتكلم في ذلك من تكلم ، فقال : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه ، ولكن الله أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه .

ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يجنب في المسجد ، ومنزله في منزل رسول الله فولد لرسول الله وله فيه أولاد .

قالوا : أللهم نعم ! قال : أفتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه ، ثم خطب ، فقال إن الله أمرني أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أنشدكم الله ! أتعلمون أن رسول الله نصبه يوم غدير خم ، فنادى له بالولاية ، وقال : ليبلغ الشاهد الغائب ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أنشدكم الله ! أتعلمون أن رسول الله قال له في غزوة تبوك : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأنت ولى كل مؤمن بعدي ؟ قالوا أللهم نعم .

قال : أنشدكم الله ! أتعلمون أن رسول الله حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه ، قالوا : أللهم نعم .

قال : أنشدكم الله ! أتعلمون أنه دفع إليه اللواء يوم خيبر ثم قال : لأدفعه إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ، كرار غير فرار ، يفتحها الله على يديه ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله بعثه ببراءة وقال : لا يبلغ عني إلا أنا ، أو رجل مني ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله لم تنزل به شدة قط إلا قدمه لها ثقة به ، وأنه لم يدعه باسمه قط إلا يقول : يا أخي ! وادعوا لي أخي ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله قضى بينه وبين جعفر وزيد فقال : يا علي ! أنت مني وأنا منك ، وأنت ولى كل مؤمن بعدي ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أنه كانت له من رسول الله كل يوم خلوة ، وكل ليلة دخلة ، إذا سأله أعطاه ، وإذا سكت أبداه ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله فضله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة : زوجتك خير أهل بيتي ، أقدمهم سلما ، وأعظمهم حلما ، وأكثرهم علما ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله قال : أنا سيد ولد بني آدم ، وأخي علي سيد العرب ، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، والحسن والحسين ابناي سيدا شباب أهل الجنة ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله أمره بغسله وأخبره أن جبرئيل يعينه عليه ؟ قالوا : أللهم نعم .

قال : أتعلمون أن رسول الله قال في آخر خطبة خطبها : إني تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسكوا بهما لن تضلوا ؟ قالوا : أللهم نعم .

فلم يدع شيئا أنزله الله في علي بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيه إلا ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : أللهم نعم ، قد سمعنا ، ويقول التابع : أللهم قد حدثنيه من أثق به فلان وفلان ، ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه يقول : من زعم أنه يحبني ويبغض عليا فقد كذب ليس يحبني ويبغض عليا ، فقال له قائل : يا رسول الله ! وكيف ذلك ؟ قال : لأنه مني وأنا منه ، من أحبه فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ، فقالوا : أللهم نعم ، قد سمعنا وتفرقوا على ذلك .

الطبرسي : وفي رواية أخرى : فلما كان قبل موت معاوية بسنتين حج الحسين بن علي وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عباس معه ، وقد جمع الحسين بن علي بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم من حج منهم ومن لم يحج ، ومن بالأمصار ممن يعرفونه وأهل بيته ، ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله ومن أبنائهم والتابعين ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم ، فاجتمع إليهم بمنى أكثر من ألف رجل ، والحسين بن علي في سرادقه ، عامتهم التابعون وأبناء الصحابة .

فقام الحسين فيهم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن هذا الطاغية ، قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ، ورأيتم ، وشهدتم ، وبلغكم ، وإني أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني ، وإن كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، من أمنتم ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون ، فإني أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .

فما ترك الحسين شيئا أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسره ، ولا شيئا قاله الرسول في أبيه وأمه وأهل بيته إلا رواه ، وكل ذلك يقول الصحابة : اللهم نعم قد سمعناه وشهدناه ، ويقول التابعون : أللهم قد حدثناه من نصدقه ونأتمنه ، حتى لم يترك شيئا إلا قاله .

ثم قال : أنشدكم بالله إلا رجعتم وحدثتم به من تثقون به ، ثم نزل وتفرق الناس عن ذلك .

الحراني : ( وهيهنا خطبة أخرى للحسين ، ذكر بعض العلماء أنها من خطبته بمنى ، وإليك نصها : ) من كلامه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويروى عن أمير المؤمنين : اعتبروا أيها الناس ! بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم ) ، وقال : ( لعن الذين كفروا منم بنى إسرائيل ) إلى قوله : ) لبئس ما كانوا يفعلون ) وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون [ من ] الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ، ورهبة مما يحذرون ، والله يقول : ( فلا تخشوا الناس واخشون ) ، وقال : ( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت ، استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع رد المظالم ، ومخالفة الظالم ، وقسمة الفيىء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ، ووضعها في حقها .

ثم أنتم أيها العصابة ! عصابة بالعلم مشهورة ، وبالخير مذكورة ، وبالنصيحة معروفة ، وبالله في أنفس الناس مهابة ، يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها ، وتمشون في الطريق بهيئة الملوك وكرامة الأكابر ، أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله ، وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون ، فاستخففتم بحق الأئمة ، فأما حق الضعفاء فضيعتم ، وأما حقكم بزعمكم فطلبتم ، فلا مالا بذلتموه ، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها ، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله ، وأنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأمانا من عذابه .

لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله ! أن تحل بكم نقمة من نقماته ، لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها ، ومن يعرف بالله لا تكرمون ، وأنتم بالله في عباده تكرمون ، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون ، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تقزعون وذمة رسول الله مخفورة ، والعمي والبكم والزمني في المدائن مهملة لا ترحمون ، ولا في منزلتكم تعلمون ، ولا من عمل فيها تعينون ، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون ، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون ، وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون .

ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، الامناء على حلاله وحرامه ، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة ، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في الألسنة [ السنة ] بعد البينة الواضحة ، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد ، وعنكم تصدر ، وإليكم ترجع ، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم ، وأسلمتم أمور الله في أيديهم ، يعملون بالشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، سلطهم على ذلك فراركم من الموت ، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم ، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم ، فمن بين مستعبد مقهور وبين مستضعف على معيشته مغلوب ، يتقلبون في الملك بآرائهم ، ويستشعرون الخزي بأهوائهم ، اقتداء بالأشرار ، وجرأة على الجبار ، في كل بلد منهم على منبره خطيب مصقع ، فالأرض لهم شاغرة ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس ، فمن بين جبار عنيد ، وذي سطوة على الضعفة شديد ، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد . فيا عجبا ! وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم ، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم ، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا .

أللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان ، ولا التماسا من فضول الحطام ، ولكن لنري المعالم من دينك ، ونظهر الاصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك ، فإنكم [ إلا ] تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم ، وعملوا في إطفاء نور نبيكم ، وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>