فيما أمره بأبي الصلت الهروي في دفنه

- الخرائج : حدث أبو عبد الله محمد بن سعيد النيشابوري متوجها إلى الحج عن أبي الصلت الهروي وكان خادما للرضا قال : أصبح الرضا يوما فقال لي : ادخل هذه القبة التي فيها هارون فجئني بقبضة تراب من عند بابها وقبضة من يمنتها وقبضة من يسرتها وقبضة من صدرها وليكن كل تراب منها على حدته .

فصرت إليها فأتيته بذلك وجعلته بين يديه على منديل ، فضرب بيده إلى تربة الباب فقال : هذا من عند الباب ؟ فقلت : نعم ، قال : غدا تحفر لي في هذا الموضع فتخرج صخرة لا حيلة فيها ، ثم قذف به ، وأخذ تراب اليمنة ، وقال : هذا من يمنتها ؟ قلت : نعم ، قال : ثم تحفر لي في هذا الموضع فتخرج نبكة لا حيلة فيها ، ثم قذف به وأخذ تراب اليسرة ، وقال : ثم تحفر لي في هذا الموضع ، فتخرج نبكة مثل الأولى وقذف به .

وأخذ تراب الصدر فقال : هذا تراب من الصدر ثم تحفر لي في هذا الموضع فيستمر الحفر إلى أن يتم فإذا فرغت من الحفر فضع يدك على أسفل القبر ، وتكلم بهذه الكلمات فإنه سينبع الماء حتى يمتلي القبر فتظهر فيه سميكات صغار ، فإذا رأيتها ففتت لها كسرة فإذا أكلتها خرجت حوتة كبيرة فابتلعت تلك السميكات كلها ثم تغيب ، فإذا غابت ضع يدك على الماء ، وأعد تلك الكلمات فان الماء ينضب كله وسل المأمون عني أن يحضر وقت الحفر فإنه سيفعل ليشاهد هذا كله .

ثم قال : الساعة يجئ رسوله فاتبعني فان قمت من عنده مكشوف الرأس فكلمني بما تشاء وإن قمت من عنده مغطى الرأس فلا تكلمني بشئ ، قال : فوافاه رسول المأمون فلبس الرضا ثيابه خرج وتبعته ، فلما دخل على المأمون وثب إليه فقبل بين عينيه وأجلسه معه على مقعده ، وبين يديه طبق صغير ، فيه عنب ، فأخذ عنقودا قد أكل منه نصفه ونصفه باق - وقد شربه بالسم - وقال للرضا : حمل إلي هذا العنقود ، وتنغصت به أن لا تأكل منه ، فأسألك أن تأكل منه ، قال : اعفني من ذلك قال : لا والله فإنك تسرني إذا أكلت منه .

قال : فاستعفاه ذلك ثلاث مرات ، وهو يسأله بمحمد وعلي أن يأكل منه فأخذ منه ثلاث حبات وغطى رأسه ونهض من عنده فتبعته ولم أكلمه بشئ حتى دخل منزله فأشار لي أن أغلق الباب فغلقته وصار إلى مقعد له فنام عليه ، وصرت أنا في وسط الدار فإذا غلام عليه وفرة ظننته ابن الرضا ولم أكن قد رأيته قبل ذلك ، فقلت : يا سيدي الباب مغلق فمن أين دخلت ؟ قال لا تسأل عما لا تحتاج إليه وقصد إلى الرضا .

فلما بصر به الرضا وثب إليه وضمه لي صدره وجلسا جميعا على المقعد ومد الرضا الرداء عليهما ، فتناجيا جميعا بما لم أعلمه ثم امتد الرضا على المقعد وغطاه محمد بالرداء وصار إلى وسط الدار وقال : يا أبا الصلت فقلت : لبيك يا ابن رسول الله فقال : عظم الله أجرك في الرضا فقد مضى ، فبكيت قال : لا تبك هات المغتسل والماء لنأخذ في جهازه .

فقلت : يا مولاي الماء حاضر ، ولكن ليس في الدار مغتسل إلا أن يحضر من خارج الدار قال : بل هو في الخزانة فدخلتها فوجدتها وفيها مغتسل ولم أره قبل ذلك فأتيته به وبالماء ، قال : تعال حتى نحمل الرضا فحملناه على المغتسل ثم قال : أعزب عني فغسله وهو وحده ثم قال : هات أكفانه والحنوط قلت : لم نعد له كفنا ، قال : ذلك في الخزانة فدخلتها فرأيت في وسطها أكفانا وحنوطا لم أره قبل ذلك ، فأتيته به فكفنه وحنطه .

ثم قال لي : هات التابوت من الخزانة فاستحييت منه أن أقول : ما عندنا تابوت فدخلت الخزانة فوجدت بها تابوتا لم أره قبل ذلك فأتيته به فجعله فيه فقال : تعال حتى نصلي عليه ، وصلى به وغربت الشمس ، وكان وقت صلاة المغرب ، فصلى .

بي المغرب والعشاء وجلسنا نتحدث فانفتح السقف ورفع التابوت .

فقلت : يا مولاي ليطالبني المأمون به فما تكون حيلتي ؟ فقال : لا عليك سيعود إلى موضعه فما من نبي يموت في مغرب الأرض ولا يموت وصي من أوصيائه في مشرقها إلا جمع الله بينهما قبل أن يدفن ، فلما مضى من الليل نصفه أو أكثر إذا التابوت رجع من السقف حتى استقر مكانه . فلما صلينا الفجر قال : افتح باب الدار فان هذا الطاغي يجيئك الساعة فعرفه أن الرضا قد فرغ من جهازه ، قال : فمضيت نحو الباب فالتفت فلم أره يدخل من باب ولم يخرج من باب فإذا المأمون قد وافى فلما رآني قال : ما فعل الرضا ؟ قلت : عظم الله أجرك ، فنزل وخرق ثيابه ، وسفى التراب على رأسه وبكى طويلا ثم قال : خذوا في جهازه فقلت : قد فرغ منه ، قال : ومن فعل به ذلك ؟ قلت : غلام وافاه لم أعرفه إلا أني ظننته ابن الرضا .

قال فاحفروا له في القبة قلت : فإنه سألك أن تحضر موضع دفنه قال : نعم فأحضروا كرسيا وجلس عليه وأمر أن يحفروا له عند الباب فخرجت الصخرة فأمر بالحفر في يمنة القبة ، فخرجت النبكة ثم أمر بذلك في يسرتها فبرزت النبكة الأخرى وأمر بالحفر في الصدر فاستمر الحفر .

فلما فرغت منه وضعت يدي إلى أسفل القبر وتكلمت بالكمات ، فنبع الماء وظهرت السميكات ، ففتت لها كسرة فأكلت ثم ظهرت السمكة الكبيرة فابتلعتها كلها وغابت فوضعت يدي على الماء وأعدت الكلمات فنضب الماء كله وانتزعت الكلمات من صدري من ساعتي فلم أذكر منها حرفا واحدا فقال المأمون : يا أبا الصلت الرضا أمرك بهذا ؟ قلت : نعم قال : ما زال الرضا يرينا العجائب في حياته ثم أراناها بعد وفاته .

فقال لوزيره : ما هذا ؟ قال : ألهمت أنه ضرب لكم مثلا بأنكم تمتعون في الدنيا قليلا مثل هذه السميكات ثم يخرج واحد منهم فيهلككم فلما دفن قال لي المأمون : علمني الكلمات ، قلت : قد والله انتزعت من قلبي فما أذكر منها كلمة واحدة حرفا وبالله لقد صدقته فلم يصدقني وتوعدني القتل إن لم اعلمه إياها وأمرني إلي الحبس ، فكان في كل يوم يدعوني إلى القتل أو أعلمه ذلك ، فأحلف له مرة بعد أخرى كذلك سنة فضاق صدري فقمت ليلة جمعة فاغتسلت وأحييتها راكعا وساجدا وباكيا ومتضرعا إلى الله في خلاصي فلما صليت الفجر إذا أبو جعفر ابن الرضا قد دخل إلي وقال : يا أبا الصلت قد ضاق صدرك ؟ قلت : إي والله يا مولاي قال : أما لو فعلت قبل هذا ما فعلته الليلة لكان الله قد خلصك كما يخلصك الساعة .

ثم قال : قم ! قلت : إلى أين والحراس على باب السجن ، والمشاعل بين أيديهم ؟ قال : قم فإنهم لا يرونك ولا تلتقي معهم بعد يومك ، فأخذ بيدي وأخرجني من بينهم وهم قعود يتحدثون والمشاعل بينهم فلم يرونا ، فلما صرنا خارج السجن قال : أي البلاد تريد ؟ قلت : منزلي بهراة قال : أرخ رداءك على وجهك وأخذ بيدي فظننت أنه حولني عن يمنته إلى يسرته ، ثم قال لي : اكشف فكشفته فلم أره فإذا أنا على باب منزلي فدخلته فلم ألتق مع المأمون ولا مع أحد من أصحابه إلى هذه الغاية .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>