بحث ومناظرة في الإمامة وصفاته

- إكمال الدين : الهمداني وابن ناتانة معا ، عن علي عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عن علي الأسواري قال : كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة ، يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم على بعض فبلغ ذلك الرشيد فقال ليحيى بن خالد : يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم على بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم .

قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء قال : فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري ، ففعل ، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم ، وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الإمامة ، لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة .

قال : فحضروا وحضر هشام ، وحضر عبد الله بن يزيد الأباضي - وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم ، وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل هشام سلم على عبد الله ابن يزيد من بينهم ، فقال يحيى بن خالد لعبد الله بن يزيد : يا عبد الله كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الإمامة فقال هشام : أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة ، فلا حين كانوا معنا عرفوا الحق ، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا ؟ فليس لهم علينا مسألة ولا جواب .

فقال بيان وكان من الحرورية : أنا أسألك يا هشام ، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين ؟ أم كافرين ؟ قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف ، صنف مؤمنون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال . فأما المؤمنون : فمن قال مثل قولي ، الذين قالوا : إن عليا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي وأقروا به .

وأما المشركون : فقوم قالوا : علي إمام ، ومعاوية يصلح لها ، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي . وأما الضلال : فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر ، لم يعرفوا شيئا من هذا ، وهم جهال . قال : وأصحاب معاوية ما كانوا ؟ قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون وصنف مشركون ، وصنف ضلال .

فأما الكافرون : فالذين قالوا : إن معاوية إمام ، وعلي لا يصلح لها ، فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من الله ، ونصبوا إماما ليس من الله .

وأما المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام ، وعلي يصلح لها ، فأشركوا معاوية مع علي .

وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر . فانقطع بيان عند ذلك .

فقال ضرار : فأنا أسألك يا هشام في هذا ؟ فقال هشام : أخطأت قال : ولم ؟ قال : لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب قال ضرار : فسل قال : أتقول إن الله عدل لا يجور ؟ قال : نعم ، هو عدل لا يجور ، تبارك وتعالى قال : فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد ، والجهاد في سبيل الله ، وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب ، أتراه كان عادلا أم جائرا ؟ قال ضرار : ما كان الله ليفعل ذلك قال هشام : قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك ، ولكن على سبيل الجدل والخصومة ، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا ؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه .

قال : لو فعل ذلك لكان جائرا قال : فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم ؟ قال : بلى قال : فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين ؟ أو كلفهم مالا دليل على وجوده ؟ فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب ، والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد ؟ .

قال : فسكت ضرار ساعة ثم قال : لا بد من دليل ، وليس بصاحبك ، قال : فضحك هشام وقال : تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة ، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية قال : ضرار : فإني أرجع إليك في هذا القول قال : هات ، قال ضرار : كيف تعقد الإمامة ؟ قال هشام : كما عقد الله النبوة قال : فإذا هو نبي ؟ قال هشام : لا لان النبوة يعقدها أهل السماء ، والإمامة يعقدها أهل الأرض ، فعقد النبوة بالملائكة ، وعقد الإمامة بالنبي ، والعقدان جميعا بإذن الله عز وجل .

قال : فما الدليل على ذلك ؟ قال هشام : الاضطرار في هذا قال ضرار : وكيف ذلك ؟ قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه : إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول فلم يكلفهم ولم يأمرهم ولم ينههم ، وصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها ، أفتقول هذا يا ضرار أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله ؟ قال : لا أقول هذا .

قال هشام : فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء ، في مثل حد الرسول في العلم ، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم ، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا أن الناس قد استحالوا علماء حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق ؟ قال : لا أقول هذا ، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم .

قال : فبقي الوجه الثالث لأنه لابد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ، ولا يحيف ، معصوم من الذنوب ، مبرأ من الخطايا ، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد .

قال : فما الدليل عليه ؟ قال هشام : ثمان دلالات أربع في نعت نسبه ، وأربع في نعت نفسه .

فأما الأربع التي في نعت نسبه : بأن يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة معروف البيت ، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة ، فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الذين منهم صاحب الملة والدعوة ، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فتصل دعوته إلى كل بر وفاجر ، وعالم وجاهل ، ومقر ومنكر ، في شرق الأرض وغربها ، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا ، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله ، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد .

فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش ، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ، ولما كثر أهل هذا البيت ، وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم ، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره .

وأما الأربع التي في نعت نفسه : أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه ، وأحكامه ، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها ، وأن يكون أشجع الناس ، وأن يكون أسخى الناس ، قال : من أين قلت : إنه أعلم الناس ؟ قال : لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه ، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حده ، و من وجب عليه الحد قطعه ، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا .

قال : فمن أين قلت : إنه معصوم من الذنوب ؟ قال : لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب ، دخل في الخطاء فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، ويكتم على حميمه وقريبه ، ولا يحتج الله عز وجل بمثل هذا على خلقه .

قال : فمن أين قلت : إنه أشجع الناس ؟ قال : لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب وقال الله عز وجل " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من الله ، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه .

قال : فمن أين قلت : إنه أسخى الناس ؟ قال : لأنه خازن المسلمين ، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها ، فكان خائنا ، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن ، فقال عند ذلك ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت ؟ فقال : صاحب العصر أمير المؤمنين - وكان هارون الرشيد : قد سمع الكلام كله - فقال عند ذلك : أعطانا والله من جراب النورة ، ويحك يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا ؟ قال : يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر قال : ما عنى بها غير أهلها ، ثم عض على شفته ، وقال : مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة ؟ ! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف .

وعلم يحيى أن هشاما قد اتي فدخل الستر فقال : ويحك يا عباسي من هذا الرجل ؟ فقال : يا أمير المؤمنين تكفى تكفى ، ثم خرج إلى هشام فغمزه ، فعلم هشام أنه قد أتى فقام يريهم أنه يبول أو يقضي حاجة ، فلبس نعليه وانسل ، ومر ببنيه وأمرهم بالتواري ، وهرب ، ومر من فوره نحو الكوفة ، ونزل على بشير النبال وكان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد الله فأخبره الخبر ، ثم اعتل علة شديدة فقال له بشير : آتيك بطبيب ؟ قال لا : أنا ميت .

فلما حضره الموت قال لبشير : إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكناسة ، واكتب رقعة وقل هذا هشام بن الحكم الذي طلبه أمير المؤمنين مات حتف أنفه ، وكان هارون قد بعث إلى إخوانه وأصحابه ، فأخذ الخلق به فلما أصبح أهل الكوفة رأوه ، وحضر القاضي ، وصاحب المعونة ، والعامل والمعدلون بالكوفة ، وكتب إلى الرشيد بذلك فقال : الحمد لله الذي كفانا أمره فخلى عمن كان اخذ به .

بيان : قد اتي على المجهول أي هلك من قولهم : أتى عليه أي أهلكه ، وقوله تكفى على المجهول أي تكفى شره ونقتله .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>