في نزول الشعب وحماية أبي طالب وما يدل على إيمانه من طريق العامة

1 - محمد بن إسحاق ، من الجزء الأول من كتاب " المغازي " بالاسناد عن عقيل بن أبي طالب ، قال : جاءت قريش إلى أبي طالب ، قالوا : إن ابن أخيك هذا ، آذانا في نادينا ، ومتحدثنا ، فانهه عن ذلك ، فقال : يا عقيل ، انطلق فأتني بمحمد ، فانطلقت إليه ، فاستخرجته من كسر يقول من بيت صغير ، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر ، فجعل يطلب الفئ ، يمشي فيه من شدة الحر الرمض . فلما أتاهم ، قال أبو طالب : إن بني عمك هؤلاء ، قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومتحدثهم ، فانته عن أذاهم .

فحلق رسول الله ببصره إلى السماء ، فقال : أترون هذه الشمس ، فقالوا : نعم ، قال : فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم ، على أن تشعلوا منها شعلا فقال أبو طالب : ما كذب ابن أخي قط ، فارجعوا عنه . ويليه من الجزء قال : حدثنا بالاسناد عن أبي إسحاق قال : ثم قال أبو طالب في شعر : قال : من أجمع على ذلك من نصره لرسول الله ، والدفاع عنه ، على ما كان من عداوة قومه له ، قال : والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ، ما عليك غضاضة * وأبشر بذاك ، وقر منك عيونا ودعوتني ، وزعمت أنك ناصحي * ولقد صدقت ، وكنت قبل أمينا وعرضت دينا لا محالة إنه * من خير أديان البرية دينا.

2 - ومن الجزء الأول من كتاب " المغازي " أيضا ، بالاسناد قال : لما تعاورت قريش على بني هاشم ، أن لا يناكحوهم ، ولا ينازلوهم ، لأجل منع أبي طالب عليه السلام منهم ، قال أبو طالب رحمه الله : ألا أبلغا عني على ذات بيننا * لويا وخصا من لوى بني كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى ، خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب وأن الذي ألصقتم من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغية السقب أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب ولا تتبعوا أمر الوشاة لتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمر على من ذاقه جلب الحرب فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا كرب أليس أبوانا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب وقال أبو طالب : ألا أبلغا عني لويا رسالة * بحق وما تغني رسالة مرسل بني عمنا الادنين تيما نخصهم * وإخواننا من عبد شمس ونوفل يقولون لو أنا قتلنا محمدا * أقرت نواصي هاشم بالتذلل كذبتم وبيت الله يثلم ركنه * ومكة والاشعار في كل معمل وبالحج أو بالنيب تدمى نحوره * بمدماه والركن العتيق المقبل تنالونه أو تعطفوا دون قتله * صوارم تفري كل عظم ومفصل وتدعوا بويل أنتم إذ ظلمتموا * هنالك في يوم أغر محجل فمهلا ولما ينكح الحرب بكرها * وتأتي تماما أو بآخر معجل فإنا متى ما نمرها بسيوفنا * تجلجل ونفرك من نشاء بكلكل وتلقوا ربيع الأبطحين محمدا * على ربوة من رأس عنقاء عيطل وتأوي إليها هاشم إن هاشما * عرانين كعب آخرا بعد أول فإن كنتموا ترجون قتل محمد * فروموا بما جمعتموا نقل يذبل فإنا سنحميه بكل طمرة * وذي منعة نهد المراكل هيكل وكل رديني  ظماء كعوبه * وعضب كإيماض الغمامة مقصل بأيمان شم من ذؤابة هاشم * مغاوير بالابطال في كل محفل ومن الجزء المذكور أيضا ، بالاسناد عن ابن إسحاق قال : فلما سمعت بذلك قريش ورأوا من أبي طالب الجد ، وأيسوا منه ، أمدوا لبني عبد المطلب الجفاء ، وانطلق بهم أبو طالب ، وقاموا بين أستار الكعبة ، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم ، وفي قطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم ، وتناولهم سفك دمائهم .

فقال أبو طالب : اللهم إن قومنا أبى النصر علينا فعجل نصرنا ، وحل بينهم وبين قتل ابن أخي ، ثم أقبل إلى جمع قريش ، وهم ينظرون إليه وإلى أصحابه . فقال أبو طالب رحمه الله : ندعو رب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم ، والله لتنهن عن الذي تريدون ، أو لينزل الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون ، فأجابوه : إنكم يا بني عبد المطلب ، لا صلح بيننا ، ولا رحم ، إلا على قتل هذا الصبي السفيه .

ثم عمد أبو طالب ، فأدخل الشعب ابن أخيه ، وبني أبيه ، ومن اتبعهم : من بين مؤمن دخل لنصر الله ونصر رسول الله ، ومن بين مشرك ، فدخلوا شعبهم ، وهو شعب أبي طالب ، في ناحية من مكة .

3 - فلما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ، إلى قريش ، فأخبروهم بالذي قال النجاشي لمحمد وأصحاب ، اشتد وجدهم ، وآذوا النبي وأصحابه أذى شديدا ، وضربوهم في ظل الطريق ، وحصروهم في الشعب ، وقطعوا عنهم المادة من الأسواق ، فلم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم بطعام ، ولا شيئا مما يرزقونهم ، فكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم ، فكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق ، فيشرونها ويغلونها عليهم ، ونادى منادي الوليد في قريش : أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه .

4 - وبالاسناد ، ومن الجزء المذكور ، يليه بلا فاصلة ، قال ، عن ابن إسحاق في حديثه عن الوليد : فمن رأيتموه عند طعام يشتريه ، فزيدوا عليه ، وحولوا بينهم وبينه ، ولم يكن عنده نقد فليشتر على النقد ، ففعلوا ذلك ثلاث سنين ، حتى بلغوا القوم الشديد ، وحتى سمعوا أصوات صبيانهم يتصائحون من وراء الشعب ، فكان المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء ، حتى كره عامة قريش ما أصاب ببني هاشم ، وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة ، التي تعاهدوا فيها على محمد ورهطه ، وحتى أراد رجل منهم أن يبرء منها .

وكان أبو طالب يخاف أن يغتالوا رسول الله ليلا وسرا ، فكان رسول الله إذا أخذ مضجعه أو رقد ، بعثه أبو طالب من فراشه ، وجعله بينه وبين بنيه ، خشية أن يغتالوه .

وتصبح قريش ، فيسمعون من الليل أصوات صبيان بني هاشم الذين في الشعب يتصايحون من الجوع ، فإذا أصبحوا ، جلسوا عند الكعبة ، فيسأل بعضهم بعضا ، فيقول الرجل لصاحبه : كيف بات أهلك البارحة ؟ فيقول : بخير ، لكن إخوانكم هؤلاء الذي في الشعب بات صبيانهم يتصايحون من الجوع حتى أصبحوا .

فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد ورهطه ، ومنهم من يكره ذلك . فقال أبو طالب : وهو يذكر ما طلبوا من محمد ، وما حسدوهم ، في كل موسم يمنعوهم أن يبتاعوا بعض ما يصلحهم ، وذكر ذلك شعرا : ألاما لهم في آخر الليل معتم * طواني ، وأخرى النجم لم يتفحم طواني وقد نامت عيون كثيرة * وسائر أخرى ساهم لم تنوم لأحلام أقوام أرادوا محمدا * بسوء من لا يتقي الظلم يظلم سعوا سفها واقتادهم سوء رأيهم * على قائل من رأيهم غير محكم رجال نووا ما لن ينالوا نظامها * وإن حسدوا في كل نفر وموسم أيرجون أن نسخي بقتل محمد * ولم تختضب سمر العوالي من الدم ؟ أيرجون منا خطة دون نيلها * ضراب وطعن بالوشيح المقوم ؟ خزيتم - وبيت الله - لا تقتلونه * جماجم نلقى بالحطيم وزمزم وتقطع أرحام وتسبى حليلة * ويغشى عليه مجرم بعد مجرم وينهض قوم بالدروع إليكم * يذبون عن أحسابهم كل مجرم

5 - ومن الجزء المذكور أيضا ، بالاسناد أيضا ، عن ابن إسحاق قال : ثم إن الله عز وجل برحمته : أرسل على صحيفة قريش التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم الأرضة ، فلم يدع فيها اسما لله تعالى إلا أكلته ، وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان ، فأخبر الله عز وجل بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأخبر أبا طالب .

فقال له أبو طالب : يا ابن أخي من حدثك بهذا ، وليس يدخل علينا أحد ، ولا تخرج أنت إلى أحد ، ولست في نفسي من أهل الكذب ؟ فقال رسول الله : أخبرني ربي بهذا . فقال له عمه : إن ربك الحق وأنا أشهد أنك صادق .

فجمع أبو طالب رهطه ، ولم يخبرهم بما أخبره به رسول الله ، كراهية أن يفشوا ذلك الخبر ، فيبلغ المشركين ، فيحتالوا للصحيفة الخب والمكر .

فانطلق أبو طالب برهطه ، حتى دخل المسجد ، والمشركون من قريش في ظل الكعبة ، فلما أبصروه تباشروا به ، وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله فيقتلوه .

فلما انتهى إليهم أبو طالب ورهطه ، رحبوا به ، فقالوا : قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل ، في قتله صلاحكم وجماعتكم ، وفي حياته فرقتكم وفسادكم . فقال أبو طالب : قد جئتكم في أمر ، لعله يكون فيه صلاح وجماعة ، فاقبلوا ذلك منا ، هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا ، فجاءوا بها ، ولا يشكون إلا أنهم يدفعون رسول الله إذا نشروها ، فلما جاؤوا بصحيفتهم ، قال أبو طالب : بيني وبينكم ، إن ابن أخي قد أخبرني - ولم يكذبني - أن الله عز وجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم تدع لله تعالى اسما إلا أثبتته ونفت منها الظلم والقطعية والبهتان ، فإن كان كاذبا ، فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه ، وإن كان صادقا ، فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا ؟ فأخذ عليهم المواثيق ، وأخذوا عليه ، فلما نشروها ، فإذا هي كما قال رسول الله ، وكانوا هم بالعذر أولى منهم فاستسر أبو طالب وأصحابه ، وقالوا : أينا أولى بالسخر والقطيعة والبهتان .

فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن مناف ، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لوي بن حارثة ، فقالوا : نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة ،ولن نمالي أحدا في فساد أمرنا وأشرافنا ، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش ، فخرج أقوام من شعبهم ، وقد أصابهم الجهد الشديد ، فقال أبو طالب في ذلك أمر محمد ، وما أرادوا من قتله : تطاول ليلي بهم نصب * ودمع كسح السقاء السرب للعب قصي بأحلامها * وهل يرجع الحلم بعد اللعب ونفى قصي بني هاشم * كنفي الطهاة لطاف الحطب وقالوا لأحمد أنت امرء * خلوف الحديث ضعيف النسب وإن كان أحمد قد جاءهم * بحق ولم يأتهم بالكذب على أن إخواننا وازروا * بني هاشم وبني المطلب هما أخوان كعظم اليمين * أمرا علينا بعقد الكرب فيا لقصي ألم تعلموا * بما قد مضى من شؤون العرب فلا تمسكن بأيديكم * بعيد الأنوق بعجم الذنب علام علام تلافيتم * بأمر مراح وحلم عزب ورمتم بأحمد ما رمتم * على الآصرات وقرب النسب فأما ومن حج من راكب * وكعبة مكة ذات الحجب تنالون أحمد أو تصطلوا * ظباة الرماح وحد القضب وتفترفوا بين أبياتكم * صدور العوالي وخيل عصب تراهن ما بين ضافي السبيب * قطور الحزام طويل اللبب وجرداء كالطير سمحوجة * طواها النقائع بعد الحلب عليها صناديد من هاشم * هم الأنجبون مع المنتجب وقال أبو طالب في شأن الصحيفة لما رأى من قومه لا يتناهون وقد رأوا ما فيها من العلم بما رأوا : ألا من لهم أخر الليل منصب * وشعب العصا من قومك المتشعب وحرب أتينا من لوى بن غالب * متى ما تزاحمها الصحيفة تخرب إذا قائم في القوم قام بخطبة * ألدوا به ذنبا وليس بمذنب وقد جربوا فيما مضى غب أمرهم * وما عالم أمرا كمن لم يجرب وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب محى الله منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب فأصبح ما قالوا من الامر باطلا * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على سخط من قومنا غير معتب فلا تحسبونا مسلمين محمدا * لذي عزة منا ولا متعرب ستمنعه منا يد هاشمية * مركبها في الناس خير مركب وما ذنب من يدعو إلى الرب والتقى * ومن يستطع أن يرأب الشعيب برأب

6 - وبالاسناد ، قال : فلما ما رآهم أبو طالب بالعداوة ، وباراهم بالحرب ، عدت قريش على من منهم ، فأوثقوه وآذوه ، واشتد البلاء عليهم ، وعظمت الفتنة فيهم ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، وعدت بنو جمح على عثمان بن مظعون ، وفر أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه ، وكان خاله ، فجاءت بنو مخزوم ليأخذوا به ، فمنعه .

فقالوا : يا أبا طالب ، منعت منا ابن أخيك ، أتمنع منا ابن أخينا ؟ فقال أبو طالب : أمنع منه ما أمنع ابن أخي ، فقال أبو لهب ، ولم يتكلم بكلام خير قط ليس يومئذ : صدق أبو طالب ، لا يسلمه إليهم ، وطمع فيه أبو طالب حين سمع منه ما سمع ، ورجاء نصره والقيام معه .

7 - قال : وحدثنا يونس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله قال : ما زالت قريش كافين عني ، حتى مات أبو طالب .

8 - وعن أبي إسحق قال : قال علي بن أبي طالب ، يرثي أبا طالب حين مات : أرقت لنوح آخر الليل غردا * لشيخي ينعى والرئيس المسودا أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى * وذا الحلم لا خلفا ولم يك قعددا أخا الملك خلا ثلمة سيسدها * بنو هاشم أو تستباح وتضهدا فأمست قريش يفرحون لفقده * ولست أرى حبا لشئ مخلدا أرادت أمورا ألزبتها حلومها * ستوردها يوما من الغي موردا يرجون تكذيب النبي وقتله * وأن يفتروا بهتا عليه ومجحدا كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم * صدور العوالي والصفيح المهندا فإما تبيدونا وإما نبيدكم * وإما تروا سلم العشيرة أرشدا وإلا فإن الحي دون محمد * بنو هاشم خير البرية محتدا وإن له فيكم من الله ناصرا * وليس نبي صاحب الله أوحدا نبي أتى من كل وحي بخطبة * فسماه ربي في الكتاب محمدا أغر كضوء البدر صورة وجهه * جلا الغيم عنه ضوءه فتفردا أمين على ما استودع الله قلبه * وإن قال قولا كان فيه مسددا ونقتصر في هذا الباب على ما ذكرنا هنا ، من طريق العامة ، من حماية أبي طالب لرسول الله ، وذكر غير ذلك يطول به الكتاب ، ومن أراد الوقوف على الزيادة على ما ذكرنا ، فعليه بكتاب مستدرك يحيى بن الحسن بن البطريق ، فقد ذكر الكثير من طرق الجمهور ، ما يدل على حماية أبي طالب لرسول الله ، وما يدل على إيمانه والحمد لله .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>