زواج النبي من خديجة

روى القطب الراوندي في كتابه ( الخرائج والجرائح ) ، عن جابر أ نه قال : كان سبب تزويج خديجة محمدا : أن أبا طالب قال : يا محمد : إني أريد أن أزوجك ، ولا مال لي أساعدك به ، وإن خديجة قرابتنا ، وتخرج كل سنة قريشا في مالها مع غلمانها ، يتجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير مما أتى به .

فهل لك أن تخرج ؟ قال : نعم .

فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك ، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة : أنت وهذا المال كله بحكم محمد .

وربحا في ذلك السفر ربحا كثيرا . فلما انصرفا قال ميسرة : لو تقدمت يا محمد إلى مكة وبشرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك ! فتقدم محمد على راحلته .

وكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة في غرفة لها مع نسوة ، فظهر لها محمد راكبا ، ونظرت خديجة إلى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره ! . فقالت : إن لهذا الراكب لشأنا عظيما ليته جاء إلى داري ! فإذا هو محمد قاصد إلى دارها ، فنزلت حافية إلى باب الدار ! فلما رجع ميسرة حدث : أ نه ما مر بشجرة ولا مدرة الا قالت : السلام عليك يا رسول الله ! ولما رأى بحيرا الراهب الغمامة تسير على رأسه حيثما سار تظلله النهار ، خدمنا . فقالت : يا محمد اخرج واحضرني عمك أبا طالب الساعة .

ثم بعثت إلى ( ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد : أن زوجني من محمد إذا دخل عليك . فلما حضر أبو طالب قالت : اخرجا إلى ( ابن ) عمي ليزوجني من محمد ، فقد قلت له في ذلك ، فقاما ودخلا على ( ابن ) عمها ، وخطبها أبو طالب منه .

الخاطب أبو طالب :

 وروى الكليني في ( فروع الكافي ) بسنده عن أبي عبد الله الصادق أ نه قال : لما أراد رسول الله أن يتزوج خديجة بنت خويلد ، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل ( ابن ) عم خديجة ، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال : " الحمد لرب هذا البيت ، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل ، وأنزلنا حرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه . ثم إن ابن أخي هذا - يعني رسول الله - لا يوزن برجل من قريش الا رجح ، ولا يقاس بأحد منهم الا عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق ، وان كان مقلا في المال ، فإن المال رفد جار وظل زائل .

وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة . وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها . والمهر علي في مالي ، الذي سألتموه ، عاجله وآجله .

وله - ورب هذا البيت - حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل " ثم سكت أبو طالب .

فتكلم ابن عمها وتلجلج ، وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر ، وكان رجلا من القسيسين .

فقالت خديجة مبتدئة : يا ( ابن ) عماه انك وان كنت أولى بنفسي مني في ( الغياب ) فلست أولى بي من نفسي في الشهود .

قد زوجتك يا محمد نفسي ، والمهر علي في مالي ، فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها ، وادخل على أهلك .

فقال أبو طالب : اشهدوا عليها بقبولها محمدا ، وضمانها المهر في مالها .

فقال بعض قريش : وا عجباه ! المهر على النساء للرجال ؟ ! فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا الا بالمهر الغالي ! ونحر أبو طالب ناقة . ودخل رسول الله بأهله .

من تولى تزويج خديجة ؟ !

وروى الصدوق في : ( كتاب من لا يحضره الفقيه ) مرسلا : أنه لما تزوج النبي خديجة بنت خويلد خطبها أبو طالب إلى أبيها - ومن الناس من يقول إلى عمها - ثم روى الخطبة ثم قال : فتزوجها ودخل بها من الغد ، فكان أول ما حملت ولدت عبد الله بن محمد .

وروى ابن إسحاق في سيرته : أن خديجة بنت خويلد عرضت على رسول الله أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرا مع غلامها ميسرة ، فقبل رسول الله وخرج حتى قدم الشام ، فباع سلعته واشترى ما أراد ، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة ، فلما قدم مكة على خديجة حدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من اظلال الملكين إياه .

فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول الله فقالت له : يا بن عم ، اني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك .

ثم عرضت عليه نفسها .

فلما قالت ذلك لرسول الله ذكر ذلك لأعمامه .

فخرج معه عمه حمزة ابن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه فتزوجها .

بل مر أن الذي نهض معه هو أبو طالب ، وهو الذي خطب خطبة النكاح ، وكان أسن من حمزة ، وهو الذي كفل محمدا ، فلم يكن حمزة ليتزعم الأمر دون أبي طالب ، وأبو طالب هو أخو عبد الله لامه دون سائر إخوانه أبناء عبد المطلب .

وحمزة لا يكبر النبي الا بسنتين أو أربع .

خديجة تعرض نفسها على النبي : وجاء في رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر ما يفيد أن خبر سفر النبي بأموال خديجة إلى الشام وأن خديجة أحبته حيث حدثها غلامها ميسرة بأخباره ، وأنها بعثت إلى النبي فعرضت نفسها عليه . . . كان هذا قد شاع في الناس يومذاك فكانوا يقولون : إنها استأجرته بشئ من أموالها ، وكان عمار بن ياسر يقول " أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله خديجة بنت خويلد . . . انه ما كان مما يقول الناس انها استأجرته بشئ ، ولا كان أجيرا لأحد قط . . . بل كنا نمشي يوما بين الصفا والمروة إذ بخديجة بنت خويلد وأختها هالة ، فلما رأت رسول الله جاءتني هالة أختها فقالت : يا عمار ما لصاحبك حاجة في خديجة ؟ قلت : والله ما أدري .

فرجعت فذكرت ذلك له ، فقال : ارجع فواضعها وعدها يوما نأتيها فيه ، ففعلت .

فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن أسد ( عمها ) وطرحت عليه حبرا ودهنت لحيته بدهن أصفر . . . ثم جاء رسول الله في نفر من أعمامه ، يتقدمهم أبو طالب ، فخطب أبو طالب فقال .

ثم روى الخطبة المذكورة ثم قال : فتزوجها وانصرف .

هذا ، ولم يرد لفظ الاستيجار فيما نعلم من الأخبار الا في أخبار ثلاثة : الأول : ما رواه الصدوق في ( اكمال الدين ) بسنده إلى بكر بن عبد الله الأشجعي عن آبائه : أن رفاق رسول الله في سفره إلى الشام قالوا لأبي المويهب الراهب عنه : انه يتيم أبي طالب أجير خديجة .

ورواه ابن شهرآشوب في ( المناقب ) .

الثاني : ما ساقه ابن شهرآشوب في " المناقب " أيضا قال : كانت خديجة قد استأجرت النبي على أن تعطيه بكرين ويسير مع غلامها ميسرة إلى الشام .

الثالث : ما رواه الدولابي الحنفي في " الذرية الطاهرة " بسنده عن الزهري قال : لما استوى رسول الله وبلغ أشده - وليس له كثير مال - استأجرته خديجة - بنت خويلد إلى سوق حباشة - وهو سوق بتهامة واستأجرت معه رجلا آخر من قريش .

فقال رسول الله : ما رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة ورواه الطبري في تأريخه عن ابن سعد صاحب الطبقات بسنده عن الزهري أيضا ، لكنه عقبه يقول : " قال محمد بن سعد : قال الواقدي : فكل هذا مخلط " .

هل كان النبي أجيرا لخديجة أو مضاربا ؟ ولئن كان ما افتتحنا به الفصل من خبر ( الخرائج ) عن جابر لا يعين نوع المعاملة وانما يقول " يتجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير مما أتى به " مما هو أعم من الإجارة والوكالة والمضاربة ، فان ما جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي يصرح بذلك فيقول : ان رسول الله كان يسافر إلى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد وكذلك ابن إسحاق يقول " كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات مال وشرف ، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشئ تجعله لهم منه " .

وعلى هذا فقد يكون سفره إلى الشام لا لكونه أجيرا لخديجة ، بل مضاربا بأموالها .

ومجمل القول : إن رواية اليعقوبي عن عمار بن ياسر تنفي أن يكون النبي أجيرا لأحد حتى خديجة ، كما تنفي أن يكون قد رعى الغنم لأحد من المكيين ، كما ادعي عن أبي هريرة .

والعمل لا يتنافى مع العبقريات والنبوات ، ولا يضع من شأن الانسان مهما كان ، بل هو من أفضل الطاعات إذا كان في سبيل العيال والأولاد وخير الناس ، ولكن تأريخ محمد منذ ولادته إلى أن بلغ سن الرجولة وأصبح زوجا لخير امرأة عرفها تأريخ المرأة ، ومواقف جده ثم عمه والمراحل التي عاش فيها معهما عزيزا موفور الكرامة ، لا يفارقهما في ليل أو نهار ، يبذلان في سبيل راحته واطمئنانه الغالي والنفس ، من تتبع ذلك وأدرك أنهما منذ طفولته كانا يترقبان له مستقبلا يهز العالم من أقصاه إلى أقصاه ويحدث تحولا في تأريخ البشرية ، وأنهما كانا يخافان عليه دعاة الأديان وطواغيت العرب . .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>