صورة كتاب كتبه المأمون له في ولاية العهد

- كشف الغمة : قال الفقير إلى الله تعالى علي بن عيسى أثابه الله : وفي سنة سبعين وستمائة ، وصل من مشهده الشريف أحد قوامه ومعه العهد الذي كتبه له المأمون بخط يده وبين سطوره وفي ظهره بخط الإمام ما هو مسطور فقبلت مواقع أقلامه ، وسرحت طرفي في رياض كلامه ، وعددت الوقوف عليه من منن الله وإنعامه ونقلته حرفا فحرفا وهو بخط المأمون : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده أما بعد فان الله عز وجل اصطفى الاسلام دينا ، واصطفى له من عباده رسلا دالين وهادين إليه ، يبشر أولهم بآخرهم ويصدق تاليهم ماضيهم ، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد على فترة من الرسل ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين وجعله شاهدا لهم ومهيمنا عليهم وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، بما أحل وحرم ، ووعد وأوعد ، وحذر وأنذر ، وأمر به ونهى عنه ، ليكون له الحجة البالغة على خلقه ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة ، وإن الله لسميع عليم .

فبلغ عن الله رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ثم بالجهاد والغلظة حتى قبضه الله إليه واختار له ما عنده ، فلما انقضت النبوة وختم الله بمحمد صلى الله عليه وآله الوحي والرسالة جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة وإتمامها وعزها والقيام بحق الله تعالى فيها بالطاعة ، التي بها يقام فرائض الله وحدوده ، وشرائع الاسلام وسننه ويجاهد لها عدوه .

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله وأمن السبيل وحقن الدماء وصلاح ذات البين ، وجمع الألفة ، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم ، واختلاف ملتهم وقهر دينهم واستعلاء عدوهم ، وتفرق الكلمة ، وخسران الدنيا والآخرة .

فحق على من استخلفه الله في أرضه ، وائتمنه على خلقه ، أن يجهد لله نفسه ويؤثر ما فيه رضى الله وطاعته ، ويعتد لما الله موافقه عليه ومسائله عنه ، ويحكم بالحق ، ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده ، فان الله عز وجل يقول : لنبيه داود " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) وقال الله عز وجل : " فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون " .

وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال : لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني الله عنها ، وأيم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه الموقوف على عمله فيما بين الله وبينه ، ليعرض على أمر كبير وعلى خطر عظيم فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة وبالله الثقة ، وإليه المفزع والرغبة ، في التوفيق والعصمة ، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ، والفوز من الله بالرضوان والرحمة .

وأنظر الأمة لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه ، من عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه في مدة أيامه وبعدها وأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده ، ويختاره لامامة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علما لهم ومفزعا في جمع ألفتهم ، ولم شعثهم ، وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فرقتهم ، وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ورفع نزع الشيطان وكيده عنهم ، فان الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الاسلام وكماله ، وعزه وصلاح أهله ، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة ، وشملت فيه العافية ، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة والسعي في الفرقة ، والتربص للفتنة .

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة ، فاختبر بشاعة مذاقها ، وثقل محملها ، وشدة مؤنتها ، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ، ومراقبته فيما حمله منها فأنصب بدنه ، وأسهر عينه ، وأطال فكره ، فيما فيه عز الدين ، وقمع المشركين ، وصلاح الأمة ، ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة ، ومنعه ذلك من الخفض والدعة ، ومهنؤ العيش ، علما بما الله سائله عنه ، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه وعباده ، ومختارا لولاية عهده ، ورعاية الأمة من بعده أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه مناجيا الله بالاستخارة في ذلك ومسألته الهامة ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليلة ونهاره معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فيكره ونظره ، مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته .

حتى استقصى أمورهم معرفة ، وابتلى أخبارهم مشاهدة ، واستبرأ أحوالهم معاينة ، وكشف ما عندهم مسألة ، فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين جميعا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما رأى من فضله البارع ، وعلمه النافع ، وورعه الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخليه من الدنيا ، وتسلمه من الناس .

وقد استبان له ما لم تزل الاخبار عليه متواطئة ، والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة ، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشئا ، وحدثا ومكتهلا فعقد له بالعقد والخلافة من بعده ، واثقا بخيرة الله في ذلك إذ علم الله أنه فعله إيثارا له وللدين ، ونظرا للاسلام والمسلمين ، وطلبا للسلامة وثبات الحجة ، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين .

ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه فبايعوا مسارعين مسرورين عالمين بايثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده ، وغيرهم ممن هو أشبك منه رحما وأقرب قرابة ، وسماه الرضا إذ كان رضى عند أمير المؤمنين فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين ، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين لأمير المؤمنين ، وللرضا من بعده علي بن موسى ، على اسم الله وبركته ، وحسن قضائه لدينه وعباده ، بيعة مبسوطة إليها أيديكم ، منشرحة لها صدوركم ، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها ، وآثر طاعة الله ، والنظر لنفسه ، ولكم فيها شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ، راجين عائدة ذلك في جمع ألفتكم ، وحقن دمائكم ، ولم شعثكم ، وسد ثغوركم ، وقوة دينكم ، ووقم عدوكم ، واستقامة أموركم ، وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين فإنه الامن إن سارعتم إليه ، وحمدتم الله عليه وعرفتم الحظ فيه إنشاء الله .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>