في كتاب كتبه المأمون لبنى هاشم وفيه مدح علي

- الطرائف : من الطرائف المشهورة ما بلغ إليه المأمون في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومدح أهل بيته ذكره ابن مسكويه صاحب التاريخ ( المسمى ) ظ بحوادث الاسلام في كتاب سماه نديم الفريد يقول فيه حيث ذكر كتابا كتبه بنو هاشم يسألون جوابهم ما هذا لفظه : فقال المأمون : بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين ; وصلى الله على محمد وآل محمد على رغم أنف الراغمين .

اما بعد عرف المأمون كتابكم ، وتدبير أمركم ، ومخض زبدتكم ، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل ، وصرف وجوه الحق عن مواضعها ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار ، وكلما جاءكم به الصادق محمد حتى كأنكم من الأمم السالفة التي هلكت بالخسفة والغرق والريح والصيحة والصواعق والرجم .

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ، والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد ، لولا أن يقول قائل : إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم من سوء أخلاقكم ، وقلة أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ، فليستمع مستمع فليبلغ شاهد غائبا .

اما بعد : فان الله تعالى بعث محمدا على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحدا يساميهم ولا يباريهم ، فكان نبينا أمينا من أوسطهم بيتا وأقلهم مالا ، وكان أول من آمنت به خديجة بنت خويلد فواسته بمالها ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سبع سنين لم يشرك بالله شيئا طرفة عين ، ولم يعبد وثنا ولم يأكل ربا ، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم ، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين أو كافر معاند إلا حمزة فإنه لم يمتنع من الاسلام ، ولا يمتنع الاسلام منه ، فمضى لسبيله على بينة من ربه .

وأما أبو طالب فإنه كفله ورباه ، ولم يزل مدافعا عنه ومانعا منه ، فلما قبض الله أبا طالب فهم القوم وأجمعوا عليه ليقتلوه فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .

فلم يقم مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب فإنه آزره ووقاه بنفسه ، ونام في مضجعه ، ثم لم يزل بعد متمسكا بأطراف الثغور وينازل الابطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولي عن جيش ، منيع القلب ، يؤمر على الجميع ولا يؤمر عليه أحد ، أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهادا في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم ، وصاحب قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وصاحب يوم الطائف .

وكان أحب الخلق إلى الله تعالى وإلى رسول الله وصاحب الباب فتح له وسد أبواب المسجد ، وهو صاحب الراية يوم خيبر ، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة ، وأخو رسول الله حين آخى بين المسلمين .

وهو منيع جزيل ، وهو صاحب آية " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة وهو ختن خديجة عليها السلام وهو ابن عم رسول الله رباه وكفله وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده ، وهو نفس رسول الله في يوم المباهلة ، وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان حكما حتى يسألانه عنه ، فما رأى إنفاذه أنفذاه ، وما لم يره رداه ، وهو دخل من بني هاشم في الشورى .

ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه عنه كما دفع العباس رضوان الله عليه ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه . فأما تقديمكم العباس عليه ، فان الله تعالى يقول : " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله " والله لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل واحد من رجالكم أو غيره ، لكان مستأهلا متأهلا للخلافة ، مقدما على أصحاب رسول الله بتلك الخلة ، ثم لم يزل الأمور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين ، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس تعظيما لحقه ، وصلة لرحمه وثقة به ، فكان من أمره الذي يغفر الله له ، ثم نحن وهم يد واحدة ، كما زعمتم ، حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا فأخفناهم وضيقنا عليهم وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم .

ويحكم إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء ، وهيهات إنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . وأما ما وصفتم في أمر المخلوع ، وما كان فيه من لبس ، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم إذ هويتم عليه النكث ، وزينتم له الغدر ، وقلتم له ما عسى أن يكون من أمر أخيك ، وهو رجل مغرب ، ومعك الأموال والرجال نبعث إليه فيؤتي به فكذبتم ودبرتم ونسيتم قول الله تعالى " ومن بغي عليه لينصرنه الله " .

وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ولا أزهد في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات الله منه ، وإن البيعة له لموافقة رضى الرب عز وجل ، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم ، ولعمري أن لو كانت بيعتي بيعة محاباة ، لكان العباس ابني وسائر ولدي أحب إلى قلبي ، وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا وأراد الله أمرا ، فلم يسبق أمري أمر الله . وأما ما ذكرتم مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، ومما يلتكم إياه ، فلما قتلته وتفرقتم عباديد فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لاعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي ، ولولا أن شيمتي العفو ، وطبيعتي التجاوز ، ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم محل بنفسه .

وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني ، أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويلكم إن العباس غلام حدث السن ، ولم يونس رشده ولم يمهل وحده ولم تحكمه التجارب ، تدبره النساء وتكفله الإماء ، ثم لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا معرفة لا تأتي به رعية ، ولا تقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا قد أحكمته التجارب ، وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ما كان له عندي في الخلافة إلا ما كان لرجل من عك وحمير فلا تكثروا في هذا المقال ، فان لساني لم يزل مخزونا عن أمور وأنباء ، كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ، ومظهر قضاه يوما .

فإذا أبيتم إلا كشف الغطاء ، وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني عن آبائه وعما وجد في كتاب الدولة وغيرها أن السابع من ولد العباس لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودعها ، فإذا أودع فودعاها ، وإذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلا وهيهات ، ما لكم إلا السيف يأتيكم الحسني الثائر البائر ، فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغم والقائم المهدي يحقن دمائكم إلا بحقها .

وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق منه لها في نفسه واختيار مني له ، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم ، وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، و مواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه .

وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فاني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم ، وأنتم ساهون لاهون تائهون ، في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة ، وابتزاز النعمة ، همة أحدكم أن يمسي مركوبا ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي ، وتبتهجون بها وآلهتكم البرابط مخنثون مؤنثون ، لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ولا استدامة نعمة ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم . أضعتم الصلاة ، واتبعتم الشهوات ، وأكببتم على اللذات عن النغمات ، فسوف تلقون غيا .

وأيم الله لربما أفكر في أمركم ، فلا أجد أمة من الأمم استحقوا العذاب حتى نزل بهم لخلة من الخلال ، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم ، مع خلال كثيرة ، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها ، ولا أمر بالعمل عليها ، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح إنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض قد اتخذتموهم شعارا ودثارا ، استخفافا بالمعاد ، وقلة يقين بالحساب ، وأيكم له رأي يتبع ، أو روية تنفع ، فشاهت الوجوه وعفرت الخدود . وأما ما ذكرتم من العثرة كانت في أبي الحسن عليه السلام نور الله وجهه ، فلعمري إنها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة ، من الخوف يوم الفزع الأكبر ، ولا أظن عملت عملا هو عندي أفضل من ذلك إلا أن أعود بمثلها إلى مثله وأين لي بذلك وأنى لكم بتلك السعادة .

وأما قولكم إني سفهت آراء آبائكم ، وأحلام أسلافكم ، فكذلك قال مشركو قريش " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " ويلكم إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء ، فافقهوا ، وما أراكم تعقلون .

وأما تعييركم إياي بسياسة المجوس إياكم فما أذهبكم الآنفة من ذلك ولو ساستكم القردة والخنازير ما أردتم إلا أمير المؤمنين ، ولعمري لقد كانوا مجوسا فأسلموا كآبائنا وأمهاتنا في القديم ، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا ، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد ، فهم يتناهون عن المنكر ، و يأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ويتباعدون من الشر ، ويذبون عن حرم المسلمين ، يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر ، ويتباشرون بما نال الاسلام وأهله من الخير ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .

وليس منكم إلا لاعب بنفسه ، مأفون في عقله وتدبيره ، إما مغن أو ضارب دف أو زامر ، والله لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا فقيل لهم لا تأنفوا في معائب تنالونهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا .

ليس فيكم إلا من إذا مسه الشر جزع ، وإذا مسه الخير منع ، ولا تأنفون ولا ترجعون إلا خشية ، وكيف يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح بإثمه معجبا كأنه قد اكتسب حمدا غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك مقرب ، أحب الناس إليه من زين له معصية ، أو أعانه في فاحشة تنظفه المخمورة وتربده المطمورة ، فشتت الأحوال فان ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح ، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم ، وإلا فدونكم تعلوا بالحديد ولا قوة إلا بالله وعليه توكلي وهو حسبي .

بيان : " المخض " تحريك السقاء حتى يخرج منه الزبد ، وهو كناية عن مكرهم وسعيهم في استعلام ما في بطن المأمون ، ويقال : " فلان يراوض فلانا على أمر كذا ) أي يداريه ليداخله فيه ، و " ساماه " فاخره وباراه ، و " المباراة " المجاراة والمسابقة ، وفلان يباري فلانا أي يعارضه ويفعل مثل فعله ، قوله " فلتسألن " إشارة إلى قوله تعالى " وإذا الموؤودة سئلت " وأعظم الهاشمية أي عظام الفرقة الهاشمية بعدما نشرت ، والمغرب بتشديد الراء المفتوحة والمكسورة البعيد ، والضمير في قتلته راجع إلى المخلوع ، والعباديد : الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه قوله " محل بنفسه " أي يحل للناس قتل نفسه ، أحكمت العقدة قويتها وشددتها قوله من " عل " هو بالفتح القراد المهزول ، وفي أكثر النسخ بالكاف و " العكة " الاناء الذي يجعل فيه السمن و " الحمير " في بعض النسخ بالخاء المعجمة وهو الخبز البائت والذي يجعل في العجين .

قوله " إن تخنث " خنث كفرح تكسر وتثنى ، أي كراهية انكسار بعض النفوس وحزنها ، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة من الحنث بالكسر ، وهو الاثم والخلف في اليمين والميل من حق إلى باطل أي كراهية أن ينقض بعضهم عهدنا وبيعتنا و " العظاء " بالكسر والمد جمع العظاية ، وهي دويبة كسام .

أبرص ، قوله " فإذا أودعت " على بناء المجهول ، والضمير راجع إلى الحياة أي إذا أودع السابع الحياة وفارقها فودع النعمة ، والخطاب عام لكل منهم ، وقوله " فإذا أودع " أول كلام المأمون أي فأنا .

السابع وأمضي عن قريب فودعوا العافية .

والثائر : من لا يبقى على شئ حتى يدرك ثأره و " البائر " الهالك لأنه يقتل ويحتمل الباتر أي السيف القاطع ، والأفن بالتحريك ضعف الرأي ، وقد أفن الرجل بالكسر وأفن فهو مأفون وأفين ذكره الجوهري وقال : ربد بالمكان أقام به ، قال ابن الأعرابي : ربده حبسه والمطمورة حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ .

أقول : كان هذا الخبر في بعض نسخ الطرائف ولم يكن في أكثرها وكانت النسخ سقيمة .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>