أحوال إسماعيل ، وعبد الله ، ومحمد واكرامه المأمون

وروي أن أبا عبد الله جزع عليه جزعا شديدا ، وحزن عليه حزنا عظيما ، وتقدم سريره بغير حذاء ولا رداء ، وأمر بوضع سريره على الأرض مرارا كثيرة ، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه ، يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده ، وإزالة الشبهة عنه في حياته ، ولما مات إسماعيل رحمة الله عليه انصرف عن القول بإمامته بعد أبيه من كان يظن ذلك ويعتقده من أصحاب أبيه وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ولا من الرواة عنه وكانوا من الأباعد والأطراف ، فلما مات الصادق انتقل فريق منهم إلى القول بامامة موسى بن جعفر بعد أبيه ، وافترق الباقون فرقتين : فريق منهم رجعوا على حياة إسماعيل وقالوا : بامامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه وأن الابن أحق بمقام الإمامة من الأخ ، وفريق ثبتوا على حياة إسماعيل وهم اليوم شذاذ لا يعرف منهم أحد يومئ إليه ، وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية ، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده و ولد ولده إلى آخر الزمان .

وكان عبد الله بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل ولم يكن منزلته عند أبيه منزلة غيره من ولده في الاكرام ، وكان متهما بالخلاف على أبيه في الاعتقاد فيقال إنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذاهب المرجئة ، وادعى بعد أبيه الإمامة واحتج بأنه أكبر إخوته الباقين ، فتابعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله ، ثم رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى لما تبينوا ضعف دعواه ، وقوة أمر أبي الحسن ، ودلالة حقيقته ، وبراهين إمامته وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بامامة عبد الله ، وهم الطائفة الملقبة بالفطحية ، وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد الله ، وكان أفطح الرجلين ويقال إنهم لقبوا بذلك لان داعيهم إلى إمامة عبد الله كان يقال له عبد الله بن أفطح .

وكان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد ، وروى عنه الناس الحديث والآثار ، وكان ابن كاسب إذا حدث عنه يقول حدثني [ الثقة ] الرضي إسحاق بن جعفر وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى ابن جعفر ، وروى عن أبيه النص بالإمامة على أخيه موسى .

وكان محمد بن جعفر سخيا شجاعا ، وكان يصوم يوما ، ويفطر يوما ، ويرى رأي الزيدية بالخروج بالسيف ، وروى عن زوجته خديجة بنت عبد الله بن الحسن أنها قالت : ما خرج من عندنا محمد يوما قط في ثوب فرجع حتى يكسوه ، وكان يذبح في كل يوم كبشا لأضيافه ، وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة ، واتبعته الزيدية الجارودية فخرج لقتاله عيسى الجلودي ففرق جمعه وأخذه وأنفذه إلى المأمون ، فلما وصل إليه أكرمه المأمون ، وأدنى مجلسه منه ، ووصله وأحسن جائزته فكان مقيما معه بخراسان يركب إليه في مركب من بني عمه ، وكان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيته ، وروي أن المأمون أنكر ركوبه إليه في جماعة من الطالبيين الذين خرجوا على المأمون في سنة المأتين ، فأمنهم و خرج التوقيع إليهم : لا تركبوا مع محمد بن جعفر ! واركبوا مع عبيد الله بن الحسين فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلها ، فخرج التوقيع : اركبوا مع من أحببتم وكانوا يركبون مع محمد بن جعفر إذا ركب إلى المأمون ، وينصرفون بانصرافه .

وذكر عن موسى بن سلمة أنه قال : أتى إلى محمد بن جعفر فقيل له : إن غلمان ذي الرياستين قد ضربوا غلمانك على حطب اشتروه ، فخرج متزرا ببردتين ومعه هراوة وهو يرتجز ويقول : " الموت خير لك من عيش بذل " . وتبعه الناس حتى ضرب غلمان ذي الرياستين ، وأخذ الحطب منهم ، فرفع الخبر إلى المأمون فبعث إلى ذي الرياستين فقال له : ائت محمد بن جعفر فاعتذر إليه وحكمه في غلمانك ، قال : فخرج ذو الرياستين إلى محمد بن جعفر فقال له موسى بن سلمة : كنت عند محمد بن جعفر جالسا حتى أتى فقيل له : هذا ذو الرياستين فقال : لا يجلس إلا على الأرض ، فتناول بساطا كان في البيت فرمي به هو ومن معه ناحية ، ولم يبق في البيت إلا وسادة جلس عليها محمد بن جعفر ، فلما دخل عليه ذو الرياستين وسع له محمد على الوسادة ، فأبى أن يجلس عليها ، وجلس على الأرض واعتذر إليه ، وحكمه في غلمانه ، وتوفي محمد بن جعفر في خراسان مع المأمون ، فركب المأمون ليشهده ، فلقيهم وقد خرجوا به ، فلما نظر إلى السرير نزل فترجل ، ومشى حتى دخل بين العمودين ، فلم يزل بينهما حتى وضع به فتقدم فصلى عليه ، ثم حمله حتى بلغ به القبر ، ثم دخل قبره ولم يزل فيه حتى بني عليه ، ثم خرج فقام على قبره حتى دفن ، فقال له عبيد الله بن الحسين ودعا له : يا أمير المؤمنين إنك قد تعبت فلو ركبت ، فقال له المأمون : إن هذه رحم قطعت من مأتي سنة .

وروي عن إسماعيل بن محمد بن جعفر أنه قال : قلت لأخي وهو إلى جنبي والمأمون قائم على القبر : لو كلمناه في دين الشيخ ، ولا نجده أقرب منه في وقته هذا ، فابتدأنا المأمون فقال : كم ترك أبو جعفر من الدين ؟ فقلت له : خمسة وعشرون ألف دينار فقال : قد قضى الله عنه دينه ، إلى من وصى ؟ قلت : إلى ابن له يقال له يحيى بالمدينة فقال : ليس هو بالمدينة وهو بمصر ، وقد علمنا كونه فيها ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة لئلا يسوءه ذلك ، لعلمه بكراهتنا لخروجهم عنها .

وكان علي بن جعفر رضي الله عنه راوية للحديث ، سديد الطريق ، شديد الورع كثير الفضل ، ولزم موسى أخاه ، وروى عنه شيئا كثيرا .

وكان العباس بن جعفر رحمه الله فاضلا .

وكان موسى بن جعفر أجل ولد أبي عبد الله قدرا ، وأعظمهم محلا و أبعدهم في الناس صيتا ، ولم ير في زمانه أسخى منه ، ولا أكرم نفسا وعشرة ، وكان أعبد أهل زمانه ، وأورعهم وأجلهم وأفقههم ، واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته ، والتعظيم لحقه ، والتسليم لامره ، ورووا عن أبيه نصوصا عليه بالإمامة ، وإشارات إليه بالخلافة ، وأخذوا عنه معالم دينهم ، وروي عنه من الآيات والمعجزات ما يقطع بها على حجته ، وصواب القول بإمامته .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>