في خطب الإمام علي بن الحسين وما جرى مجراها من بليغ كلامه وفصيح بيانه

بسم الله الرحمن الرحيم

فمن كلام له يحمد الله ويثنى عليه ، ثم يذكر النبي الحمد لله الأول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين ، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا ، واخترعهم على مشيئته اختراعا ، ثم سلك بهم طريق إرادته ، وبعثهم في سبيل محبته ، لا يملكون تأخيرا عما قدمهم إليه ، ولا يستطيعون تقدما إلى ما أخرهم عنه ، وجعل لكل روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقه ، لا ينقص من زاده ناقص ، ولا يزيد من نقص منهم زائد .

ثم ضرب له في الحياة أجلا موقوتا ، ونصب له أمدا محدودا ، يتخطى إليه بأيام عمره ، ويرهقه بأعوام دهره ، حتى إذا بلغ أقصى أثره ، واستوعب حساب عمره ، قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه ، أو محذور عقابه ( ليجزى الذين أسائوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ) عدلا منه ، تقدست أسماؤه ، وتظاهرت آلاؤه ، ( لا يسل عما يفعل وهم يسلون ) .

والحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده - على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة - لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمية ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) .

والحمد لله على ما عرفنا من نفسه ، وألهمنا من شكره ، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته ، ودلنا عليه من الإخلاص له في توحيده ، وجنبنا من الإلحاد والشرك في أمره ، حمدا نعمر به فيمن حمده من خلقه ، ونسبق به فيمن سبق إلى رضاه وعفوه ، حمدا يضيء لنا به ظلمات البرزخ ، ويسهل علينا به سبيل المبعث ، ويشرف به منازلنا عند مواقف الأشهاد ( لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) ( يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون ) ، حمدا يرتفع منا إلى أعلى عليين ، في كتاب مرقوم يشهده المقربون ، حمدا تقر به عيوننا إذا برقت الأبصار ، وتبيض به وجوهنا إذا اسودت الأبشار ، حمدا نعتق به من أليم نار الله إلى كريم جوار الله ، حمدا نزاحم به ملائكته المقربين ، ونضام به أنبياؤه المرسلين في دار المقامة التي لا تزول ، ومحل كرامته التي لا تحول .

والحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخلق ، وأجرى علينا طيبات الرزق ، وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق ، فكل خليقته منقادة لنا بقدرته ، وصائرة إلى طاعتنا بعزته .

والحمد لله الذي أغلق عنا باب الحاجة إلا إليه ، فكيف نطيق حمده ، أم متى نؤدي شكره ، لا متى ؟ ! والحمد لله الذي ركب فينا آلات البسط ، وجعل لنا أدوات القبض ، ومتعنا بأرواح الحياة ، وأثبت فينا جوارح الأعمال ، وغذانا بطيبات الرزق ، وأغنانا بفضله ، وأقنانا بمنه ، ثم أمرنا ليختبر طاعتنا ؛ ونهانا ليبتلي شكرنا ، فخالفنا عن طريق أمره ، وركبنا متون زجره ، فلم يبتدرنا بعقوبته ، ولم يعاجلنا بنقمته ، بل تأنانا برحمته تكرما ، وانتظر مراجعتنا برأفته حلما .

والحمد لله الذي دلنا على التوبة التي لم نفدها إلا من فضله فلو لم نعتدد من فضله إلا بها ، لقد حسن بلاؤه عندنا ، وجل إحسانه إلينا ، وجسم فضله علينا ، فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان قبلنا ، لقد وضع عنا ما لا طاقة لنا به ، ولم يكلفنا إلا وسعا ، ولم يجشمنا إلا يسرا ، ولم يدع لأحد منا حجة ولا عذرا ، فالهالك منا من هلك عليه ، والسعيد منا من رغب إليه .

والحمد لله بكل ما حمده به أدنى ملائكته إليه ، وأكرم خليقته عليه ، وأرضى حامديه لديه ، حمدا يفضل سائر الحمد ، كفضل ربنا على جميع خلقه ، ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا ، وعلى جميع عباده الماضين والباقين ، عدد ما أحاط به علمه من جميع الأشياء ، ومكان كل واحدة منها ، عددها أضعافا مضاعفة أبدا سرمدا إلى يوم القيامة ، حمدا لا منتهى لحده ولا حساب لعدده ، ولا مبلغ لغايته ، ولا انقطاع لأمده ، حمدا يكون وصلة إلى طاعته وعفوه ، وسببا إلى رضوانه ، وذريعة إلى مغفرته ، وطريقا إلى جنته ، وخفيرا من نقمته ، وأمنا من غضبه ، وظهيرا على طاعته ، وحاجزا عن معصيته ، وعونا على تأدية حقه ووظائفه ، حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه ، ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه ، إنه ولي حميد .

والحمد لله الذي من علينا بمحمد نبيه ، دون الأمم الماضية ، والقرون السالفة ، بقدرته التي لا تعجز عن شئ وإن عظم ، ولا يفوتها شئ وإن لطف ، فختم بنا على جميع من ذرأ ، وجعلنا شهداء على من جحد ، وكثرنا على من قل .

اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك ، ونجيبك من خلقك ، وصفيك من عبادك ، إمام الرحمة ، وقائد الخير ، ومفتاح البركة ، كما نصب لأمرك نفسه ، وعرض فيك للمكروه بدنه ، وكاشف في الدعاء إليك حامته ، وحارب في رضاك أسرته ، وقطع في إحياء دينك رحمه ، وأقصى الأدنين على جحودهم ، وقرب الأقصين على استجابتهم لك ، ووالى فيك الأبعدين ، وعادى فيك الأقربين ، وأدأب نفسه في تبليغ رسالتك وأتعبها بالدعاء إلى ملتك ، وشغلها بالنصح لأهل دعوتك ، وهاجر إلى بلاد الغربة ، ومحل النأي عن موطن رحله ، وموضع رحله ومسقط رأسه ، ومأنس نفسه ، إرادة منه لإعزاز دينك ، واستنصارا على أهل الكفر بك ، حتى استتب له ما حاول في أعدائك ، وأستتم ما دبر في أوليائك ، فنهد إليهم مستفتحا بعونك ، ومتقويا على ضعفه بنصرك ، فغزاهم في عقر ديارهم ، وهجم عليهم في بحبوحة قرارهم ، حتى ظهر أمرك ، وعلت كلمتك ، ولو كره المشركون . اللهم فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنتك ، حتى لا يساوى في منزلة ، ولا يكافأ في مرتبة ، ولا يوازيه لديك ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وعرفه في أهله الطاهرين ، وأمته المؤمنين من حسن الشفاعة أجل ما وعدته ، يا نافذ العدة ، يا وافي القول ، يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات ، إنك ذو الفضل العظيم .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>