ومن كلام له في الحث على التقوى

عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال : كان إذا تلا قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصدقين ) قال : اللهم ارفعني في أعلى درجات هذه الندبة ، وأعني بعزم الإرادة ، وهبني حسن المستعتب من نفسي ، وخذني منها حتى تتجرد خواطر الدنيا عن قلبي من برد خشيتي منك ، وارزقني قلبا ولسانا يتجاريان في ذم الدنيا ، وحسن التجافي منها ، حتى لا أقول إلا صدقا ، وأرني مصاديق إجابتك بحسن توفيقك ، حتى أكون في كل حال حيث أردت .

فقد قرعت بي باب فضلك فاقة * بحد سنان نال قلبي فتوقها وحتى متى أصف محن الدنيا ومقام الصديقين ؟ وأنتحل عزما من إرادة مقيم بمدرجة الخطايا ؟ أشتكي ذل ملكة الدنيا وسوء أحكامها علي ، فقد رأيت وسمعت لو كنت أسمع في أداة فهم ، أو أنظر بنور يقظة .

وكيلا ألاقي نكبة وفجيعة * وكأس مرارات ذعافا أذوقها وحتى متى أتعلل بالأماني ، وأسكن إلى الغرور ، وأعبد نفسي للدنيا على غضاضة سوء الاعتداد من ملكاتها ؟ وأنا أعرض لنكبات الدهر علي ، أتربص اشتمال البقاء ، وقوارع الموت تختلف حكمي في نفسي ، ويعتدل حكم الدنيا .

وهن المنايا أي واد سلكته * عليها طريقي أو علي طريقها وحتى متى تعدني الأيام فتختلف ؟ ! وأتمنها فتخون ! لا تحدث جدة إلا بخلوق جدة ، ولا تجمع شمل إلا بتفريق شمل ، حتى كأنها غيرى ، محجبة ضناء ، تغار على الألفة ، وتحسد على أهل النعم .

فقد آذنتني بانقطاع وفرقة * وأومض لي من كل أفق بروقها ومن أقطع عذرا من مغذ سيرا ، يسكن إلى معرس غفلة ، بأدواء نبوة الدنيا ، ومرارة العيش ، وطيب نسيم الغرور ، وقد أمرت تلك الحلاوة على القرون الخالية ، وحال دون ذلك النسيم هبوات وحسرات ، وكانت حركات فسكنت ، وذهب كل عالم بما فيه . فما عيشة إلا تزيد مرارة * ولا ضيقة إلا ويزداد ضيقها فكيف يرقأ دمع لبيب ؟ ! أو يهدأ طرف متوسم على سوء أحكام الدنيا ، وما تفجأ به أهلها من تصرف الحالات ، وسكون الحركات ! وكيف يسكن إليها من يعرفها وهي تفجع الآباء بالأبناء ؟ ! وتلهي الأبناء عن الآباء ! تعدمهم أشجان قلوبهم ، وتسلبهم قرة عيونهم .

وترمي قساوات القلوب بأسهم * وجمر فراق لا يبوخ حريقها وما عسيت أن أصف محن الدنيا ، وأبلغ عن كشف الغطاء ، عما وكل به دور الفلك من علوم الغيوب ، ولست أذكر منها إلا قليلا منه أفنته ، أو مغيب ضريح تجافت عنه ، فاعتبره أيها السامع بهلكات الأمم ، وزوال النعم ، وفظاعة ما تسمع وتروى من سوء آثارها في الديار الخالية ، والرسوم الفانية ، والربوع الصموت .

وكم عالم أفنت فلم تبك شجوة * ولابد أن تفنى سريعا لحوقها فانظر بعين قلبك إلى مصارع أهل البذخ ، وتأمل معاقل الملوك ، ومصانع الجبارين ، وكيف عركتهم الدنيا بكلاكل الفناء ، وجاهرتهم بالمنكرات ، وسحبت عليهم أذيال البوار ، وطحنتهم طحن الرحا للحب ، واستودعتهم هوج الرياح ، تسحب عليهم أذيالها فوق مصارعهم في فلوات الأرض . فتلك مغانيهم وهذي قبورهم * توارثها أعصارها وحريقها أيها المجتهد في آثار من مضى من قبلك من الأمم السالفة ، توقف وتفهم ، وانظر إليه ! أي عز ملك ، أو نعيم أنس ، أو بشاشة ألف ، إلا نغصت أهله قرة أعينهم ! وفرقتهم أيدي المنون ، وألحقتهم بتجافيف التراب ! فأضحوا في فجوات قبورهم يتقلبون ، وفي بطون الهلكات عظاما ورفاتا وصلصالا في الأرض هامدون . وآليت لا تبقى الليالي بشاشة * ولا جدة إلا سريعا خلوقها وفي مطامع أهل البرزخ ، وخمود تلك الرقدة ، وطول تلك الإقامة ، طفئت مصابيح النظر ، واضمحلت غوامض الفكر ، وذم الغفول أهل العقول . وكم بقيت متلذذا في طوامس هوامد تلك الغرفات ، فنوهت بأسماء الملوك ، وهتفت بالجبارين ، ودعوت الأطباء والحكماء ، وناديت معادن الرسالة والأنبياء ، أتملل تملل السليم ، وأبكي بكاء الحزين ، وأنادي ولات حين مناص . سوى أنهم كانوا فبانوا وإنني * على جدد قصد سريعا لحوقها وتذكرت مراتب الفهم ، وغضاضة فطن العقول ، بتذكر قلب جريح ، فصدعت الدنيا عما التذ بنواظر فكرها من سوء الغفلة ، ومن عجب كيف يسكن إليها من يعرفها ، وقد استذهلت عقله بسكونها ، وتزين المعاذير ، وخسأت أبصارهم عن عيب التدبير ، وكلما تراءت الآيات ونشرها من طي الدهر عن القرون الخالية الماضية ، وحالهم وما بهم ، وكيف كانوا ، وما الدنيا وغرور الأيام .

وهل هي إلا لوعة من ورائها * جوى قاتل أو حتف نفس يسوقها وقد أغرق في ذم الدنيا الأدلاء على طرق النجاة من كل عالم ، فبكت العيون بشجن القلوب فيها دما ، ثم درست تلك المعالم ، فتنكرت الآثار ، وجعلت في برهة من محن الدنيا ، وتفرقت ورثة الحكمة ، وبقيت فردا كقرن الأعضب وحيدا ، أقول فلا أجد سميعا ، وأتوجع فلا أجد مشتكى .

وإن أبكهم أجرض وكيف تجلدي * وفي القلب مني لوعة لا أطيقها وحتى متى أذكر حلاوة مذاق الدنيا ، وعذوبة مشارب أيامها ، وأقتفي آثار المريدين ، وأتنسم أرواح الماضين مع سبقهم إلى الغل والفساد ، وتخلفي عنهم في فضالة طرق الدنيا منقطعا من الأخلاء ، فزادني جليل الخطب لفقدهم جوى ، وخانني الصبر حتى كأنني أول ممتحن أتذكر معارف الدنيا وفراق الأحبة .

فلو رجعت تلك الليالي كعهدها * رأت أهلها في صورة لا تروقها فمن أخص بمعاتبتي ، ومن أرشد بندبتي ، ومن أبكي ، ومن أدع ؟ أشجو بهلكة الأموات ! أم بسوء خلف الأحياء ! وكل يبعث حزني ، ويستأثر بعبراتي ، ومن يسعدني فأبكي ، وقد سلبت القلوب لبها ، ورق الدمع ، وحق للداء أن يذوب على طول مجانبة الأطباء ، وكيف بهم وقد خالفوا الآمرين ؟ وسبقهم زمان الهادين ، ووكلوا إلى أنفسهم ، يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات . حيارى وليل القوم داج نجومها * طوامس لا تجري بطيء خفوقها.

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>