ومن كلام له وكان لما يحاسب نفسه ، ويناجي ربه

ويقول : يا نفس ، حتام إلى الحياة سكونك ، وإلى الدنيا وعمارتها ركونك ؟ أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ! ومن وارته الأرض من ألافك ، ومن فجعت به من إخوانك ، ونقل إلى الثرى من أقرانك ( ونقلت إلى دار البلى من أقرانك ) فهم في بطون الأرض بعد ظهورها * محاسنهم فيها بوال دواثر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمتهم نحو التراب الحفائر كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون ؟ وكم غيرت الأرض ببلائها ، وغيبت في ترابها ، ممن عاشرت من صنوف الناس ، وشيعتهم إلى الأرماس ، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الإفلاس .

وأنت على الدنيا مكب منافس * لخطابها فيها حريص مكاثر على خطر تمسي وتصبح لاهيا * أتدري بماذا لو عقلت تخاطر وإن امرأ يسعى لدنياه جاهدا * ويذهل عن أخراه لا شك خاسر حتام على الدنيا إقبالك ، وبشهواتها اشتغالك ، وقد وخطك القتير ، ووافاك النذير ، وأنت عما يراد بك ساه ، وبلذة يومك لاه ، وقد رأيت انقلاب الشهوات ، وعانيت ما حل بهم المصيبات .

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى * عن اللهو واللذات للمرء زاجر أبعد اقتراب الأربعين تربص * وشيب القذال منذ ذلك ذاعر كأنك معني بما هو ضائر * لنفسك عمدا أو عن الرشد حائر أنظر إلى الأمم الماضية ، والقرون الفانية ، والملوك العاتية ، كيف إنتفتهم الأيام ، فأفناهم الحمام ، فأمحت من الدنيا آثارهم ، وبقيت فيها أخبارهم .

وأضحوا رميما في التراب وأقفرت * مجالس منهم عطلت ومقاصر وحلوا بدار لا تزاور بينهم * وأنى لسكان القبور التزاور فما إن ترى إلا قبورا ثووا بها * مسطحة تسفي عليها الأعاصر كم عاينت من ذي منعة وسلطان ، وجنود وأعوان ، تمكن من دنياه ، ونال فيها ما تمناه ، وبنى فيها القصور والدساكر ، وجمع فيها الأموال والذخائر ، وملح السراري والحرائر . فما صرفت كف المنية إذ أتت * مبادرة تهوى إليه الذخائر ولا دفعت أهل الحصون التي بنى * وحفت بها أنهارها والدساكر ولا قارعت أهل المنية حيلة * ولا طمعت في الذب عنه العساكر أتاه من أمر الله ما لا يرد ، ونزل به من قضائه ما لا يصد ، فتعالى الله الملك الجبار ، المتكبر العزيز القهار ، قاصم الجبارين ، ومبيد المتكبرين ، الذي ذل لعزه كل سلطان ، وباد بقوته كل ديان .

مليك عزيز لا يرد قضائه * حكيم عليم نافذ الأمر قاهر عنى كل ذي عز لعزة وجهه * فكم من عزيز للمهيمن صاغر لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر فالبدار البدار ! الحذار الحذار ! من الدنيا ومكائدها ، وما نصبت لك من مصائدها ، وتحلت لك من زينتها ، وأظهرت لك من بهجتها ، وأبرزت لك من شهواتها ، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها .

وفي دون ما عاينت من فجعاتها * إلى دفعها داع وبالزهد آمر فجد ولا تغفل وكن متيقضا * فعما قليل يترك الدار عامر فشمر ولا تفتر فعمرك زائل * وأنت إلى دار الإقامة صائر ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها * وإن نلت منها غبة لك صائر فهل يحرص عليها لبيب ، أو يسر بها أريب ، وهو على ثقة من فنائها ، وغير ‹ صفحة 79 › طامع في بقائها ، أم كيف تنام عين من يخشى البيات ؟ وتسكن نفس من توقع جميع أموره الممات .

ألا ، لا ولكنا نغر نفوسنا * وتشغلنا اللذات عما نحاذر وكيف يلذ العيش من هو موقن * بموقف عدل يوم تبلى السرائر كأنا نرى أن لا نشور وأننا * سدى ما لنا بعد الممات مصادر وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ، ويتمتع به من بهجتها ، مع صنوف عجائبها ، وقوارع فجائعها ، وكثرة عذابه في مظانها وطلبها ، وما يكابد من أسقامها وأوصابها ، وآلامها : أما قد ترى في كل يوم وليلة * يروح علينا صرفها ويباكر تعاورنا آفاتها وهمومها * وكم قد نرى يبقى لها المتغاور فلا هو مغبوط بدنياه آمن * ولا هو عن تطلابها النفس قاصر كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها ، وصرعت من مكب عليها ، فلم تشفه من عثرته ، ولم تنفذه من صرعته ، ولم تشفه من ألمه ، ولم تبرأ من سقمه ، ولم تخلصه من وصمه .

بلى أوردته بعد عز ومنعة * موارد سوء ما لهن مصادر فلما رأى أن لا نجاة وأنه * هو الموت لا ينجيه منه التحاذر تندم إذا لم تغن عنه ندامة * عليه وأبكته الذنوب الكبائر إذ بكى على ما أسلف من خطاياه ، وتحسر على ما خلف من دنياه ، واستغفر حيث ما لا ينفعه الاستغفار ، ولا ينجيه الاعتذار عند هول المنية ، ونزول البلية . أحاطت به أحزانه وهمومه * وأبلس لما أعجزته المعاذر فليس له من كربة الموت فارج * وليس له مما يحاذر ناصر وقد جشأت خوف المنية نفسه * ترددها منه اللهاة والحناجر هنالك خف عنه عواده ، وأسلمه أهله وأولاده ، وارتفعت الرنة والعويل ، ويأسوا من برء العليل ، فغمضوا بأيديهم عينيه ، ومدوا عند خروج روحه رجليه ، وتخلى عنه الصديق والصاحب الشفيق .

فكم موجع يبكي عليه تفجعا * ومستنجد صبرا وما هو صابر ومسترجع داع له الله مخلصا * يعدد منه كل خير ما هو ذاكر وكم شامت مستبشر بوفاته * وعما قليل للذي صار صائر فشقت جيوبها نساؤه ، ولطمت خدودها إماؤه ، وأعول لفقده جيرانه ، ( وتوجع لرزئه إخوانه ) ، ثم أقبلوا على جهازه ، وشمروا لإبرازه كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى ، ولا الحبيب المبدى .

وضل أحب القوم كان بقربه * يحث على تجهيزه ويبادر وشمر من قد أحضروه لغسله * ووجه لما فاض للقبر حائر وكفن في ثوبين واجتمعت له * مشيعة خوانه والعشائر فلو رأيت الأصغر من أولاده ، وقد غلب الحزن على فؤاده ، فغشى من الجزع عليه ، وقد خضبت الدموع عينيه ، وهو يندب أباه ويقول : يا ويلاه واحرباه ! لعاينت من قبح المنية منظرا * يهال لمرآة ويرتاع ناظر أكابر بأولاد يهيج اكتئابهم * إذا ما تناساه البنون الأصاغر ورنة نسوان عليه جوازع * مدامعها فوق الخدود غوازر ثم أخرج من سعة قصره إلى ضيق قبره ، فلما استقر في اللحد ، وهيء عليه اللبن ، احتوشته أعماله ، وأحاطت به خطاياه ، وضاق ذرعا بما رآه ، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب ، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب ، ثم وقفوا ساعة عليه ، وأيسوا من النظر إليه ، وتركوه رهنا بما كسب وطلب .

فولوا عليه معولين وكلهم * لمثل الذي لاقى أخوه محاذر كشاء رتاع آمنين بدالها * بمديته بادي الذراعين حاسر فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت * فلما نأى عنها الذي هو جازر عادت إلى مرعاها ، ونسيت ما في أختها دهاها ، أفبأفعال الأنعام أقتدينا ؟ أم على عادتها جرينا ؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلا ، واعتبر بموضعه تحت الثرى ، المدفوع إلى هول ما ترى .

ثوى مفردا في لحده وتوزعت * مواريثه أولاده والأصاهر وأحنوا على أمواله يقسمونها * فلا حامد منهم عليها وشاكر فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها * ويا آمنا من أن تدور الدوائر كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة ؟ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى مماتك ؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك ؟ أم كيف تهنأ بالشهوات وهي مطية الآفات ؟ ( أم كيف تتهنأ بحياتك وهي مطيتك إلى مماتك ) ؟ ولم تتزود للرحيل وقد دنا * وأنت على حال وشيك مسافر فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي * وعمري فان والردى لي ناظر وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت * يجازى عليه عادل الحكم قادر فكم ترقع بآخرتك دنياك ؟ وتركب غيك في ذلك وهواك ؟ أراك ضعيف اليقين ، يا مؤثر الدنيا على الدين ، أبهذا أمرك الرحمن ؟ أم على هذا نزل القرآن ؟ أما تذكر ما أمامك من وسدة الحساب ، وشر المآب ؟ أما تذكر حال من جمع وثمر ، ورفع البناء وزخرف وعمر ؟ أما صار جمعهم بوارا ، ومساكنهم قبورا ؟ تخرب ما يبقى وتعمر فانيا * ولا ذاك موفور ولا ذاك عامر وهل لك إن وافاك حتفك بغتة * ولم تكتسب خيرا لك الله عاذر أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي * ودينك منقوص ومالك وافر فبك يا إلهنا نستجير ، يا عليم يا خبير ، من نؤمل لفكاك رقابنا غيرك ، ومن نرجو لغفران ذنوبنا سواك ، وأنت المتفضل المنان ، القائم الديان ، العائد علينا بالإحسان بعد الإساءة منا والعصيان ، يا ذا العزة والسلطان ، والقوة والبرهان ، وأجرنا من عذابك الأليم ، واجعلنا من سكان دار النعيم ، برحمتك يا أرحم الراحمين .

العودة إلى الصفحة الرئيسية

www.mezan.net <‎/TITLE> ‎<META HTTP-EQUIV="Content-Type" CONTENT="text/html; charset=windows-1256">‎ ‎<META NAME="keywords" CONTENT=" السيد محمد حسين فضل الله في الميزان ">‎ ‎<META NAME="description" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله في كتبه ">‎ ‎<META NAME="author" CONTENT=" مقولات السيد فضل الله بصوته ">‎ ‎<META NAME="copyright" CONTENT=" رأي المراجع العظام والعلماء ">‎ <‎/HEAD>