صياغـة الفكـر السياسـي
ليس بعيب أن نعترف بسذاجة الفكر السياسي عندنا أهل السنة إذا اعتبرنا ما تركه لنا علماء المذهب منذ القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة من آراء وأوراق فكراً سياسياً، فهذا المتوارث المتروك هش متناقض في بعضه، يشبه الغربال لكثرة ما به من ثغرات، ومن هنا لا أعتقد أنه يصمد أمام نقاش علمي.
والسبب في أنني لا أرى في الإعتراف بهذا عيباً أنه ركام موضوع على أساس آراء أشخاص ماتوا لكنهم ما زالوا يحكموننا من قبورهم رغم بعد الأزمان والمسافات.
ولئن كان هذا الكتاب لا ينصب على هذا الموضوع رأساً، إلا أنه سيلمس ـ من بعيد ـ هذا الفكر لمساً خفيفاً، علَّ هذا اللمس يوقظ عقولاً في نصف غيبوبتها أو تكاد تفيق
ومن أراد حل المعضلة استعار لها مفهوم الغرب، فلم يزد حجمه عن قائد حزب، أو رئيس تنظيم، ودار كل أحد في حلقة مغلقة ليس منها مخرج، وأصبح الكل يسأل نفسه: ما الحل ؟ وما العمل ؟ أليس منا رجل رشيد ؟ .
والذين أزعجهم هذا الأمر، لم يردوه الى جذوره، ويبحثوا في الماضي ليفهموا الحاضر، بل علىالعكس تحزب كل منهم لجماعته، وتعصب لموقف شيوخه ـ أحياءً وأمواتاً ـ فازداد طيننا بلة
فالذين تميزوا بوضوح الرؤية من رجال الجيل الأول، وتبلورت لديهم المفاهيم، تمسكوا بها وبقوا بعيداً عن السلطة، وخضعوا للتقتيل والتشريد والمصادرة والحرمان السياسي والاقتصادي شأنهم شأن المعارضين في كل مكان كل بحسب نظريته، فنضجت أفهامهم واستوت، واكتملت نظريتهم، إذ كان عليهم عرضها وتقديمها للناس مزينة بالأدلة العقلية والنقلية، مكتملة من كل جوانبها أو تكاد، وظلوا كذلك منذ البداية،
والذين وصلوا الى السلطة، واقترفوا ما هو مسطور في تاريخنا بما أملته عليهم السلطة، لم يحتاجوا الى نظرية سياسية مكتملة الجوانب قوية الأدلة، إذ كانوا قادرين على قمع المخالفين، ومد النفوذ إلى الخارج، والتعامل مع الآخرين لا بالحجة والمنطق، بل بما تتعامل به السلطة ـ أيُّ سلطة ـ مع القوى السياسة التي لا يعجبها حالها.
وتبلور الوضع العام في تاريخنا على هذين المحورين، وعاش أهل السلطة كما شاؤوا، وبقي المعارضون كما هم، وامتدت القرون. ولفترة ما حاول المعارضون أن يفعلوا شيئاً، ثم تحولوا في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري تقريباً الى المقاومة السلبية.
وفي الفترة الأولى عبروا عن أنفسهم في شكل انتفاضات وثورات ناضجة وغير ناضجة، وسلكت السلطات معهم سياسة ذات شقين، الأول: أبعادهم عن مسرح الحياة السياسية العامة، بل وحياة المسلمين العادية مرة بالقهر ومرة بالتشويه، والثاني:
حتى إذا جاء دور كتابة السير والتاريخ ـ بعد قرون من وقوع حوادثه ـ فإذا بمن كتبوه يصيغونه من وجهة نظر رجال السلطة لا وجهة نظر الذين دفعوا الثمن من دمائهم وأرواحهم، ولذلك مجدوا كل من في السلطة، وقدحوا في كل من عارضهم، ولم يعطوا الثورات والإنتفاضات العظيمة حقها من التاريخ، أو حتى من الإنصاف والأمانة العلمية، واستمر الحال على هذه الوتيرة الى أن نزل الينا في الأصلاب وورثناه كابراً عن كابر، واذا بما فشا في أيدينا عبر قرون وقرون يصور لنا من في السلطة على أنهم أهل الحق، ومن عارضوها على أنهم مارقون خارجون عن الجماعة، وصدقناهم دون أن ننظر الى تاريخهم نظرة تحليل تدرس الظروف الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي عاش في ظلها هؤلاء الكتاب، وما تأثروا به ومن أثر فيهم.. الى غير ذلك من عوامل المجتمع التي تتحكم بالضرورة في صياغة التاريخ.
أما الذين بقوا في المعارضة أربعة عشر قرناً فقد تراكم لديهم تراث سياسي وحركي غزير الكثافة ثري الثمار عميق المفاهيم، صاغوه على تؤدة من خلال تجاربهم وهم يعارضون كل الأنظمة لأنها غير شرعية، فلما دارت الدوائر، وقضت قوانين التاريخ
هذا تفسير ما حدث في ايران.
ولا يحسبن أحدكم أنني ألبس تاريخنا قديمه وحديثه ثوب الديمقراطية الغربية باستخدامي لاصطلاحات كالمعارضة والسلطة وغيرها، فتشابه الإصطلاحات اللفظية لا يعني بحال وحدة الفكر، لأن دلالات الألفاظ شيء، والإيمان بالنظريات التي تستخدم هذه المصطلحات شيء آخر.
إذا كنا نريد الخروج من هذا المأزق فأول ما علينا أن لا نقبل ما في أيدينا من تراث سياسي على أنه مسلمات لا يرقى إليها الشك، مهماً كانت تمس شخصيات لها مكانة في مذهبنا، بل إني أرى الشك في هذه الكتابات واجباً من أجل تحرير الإرادة
ثم علينا ونحن نستخلص موقفنا السياسي أن ننزع برقع الحياء ولا نخجل في تحليل وقائع تاريخنا، مهماً بلغ المشاركون في صنعها من علو المنزلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن أدرنا وجوهنا عن هذه الوقائع يميناً أو شمالاً وقلنا تلك أمة قد خلت، فعلينا إذن أن نجيب على من يسألنا لماذا إذن تطلبون إعادة مجد هذه الأمة، وتتمسكون بها وتتخذونها نموذجاً ?
وإن كنا نعتبرها مثالاً لنا، ونؤمن حقاً ـ لا مجرد كلام ـ أنها كانت أمة من البشر، ونعيب على غيرنا عصمتهم للبشر، فلا
نحن في هذا أمام خيارين إما أن ننظر لأفعال وأحداث ماضينا نظرة علمية ترشدنا الى الحق، أو أن نبقي على نظرتنا العاطفية فلا نهتدي إلا الى امتداد الأخطاء، واتصال حلقاتها، وتراكم كمها وكيفها.
فنحن نقرأ مثلاً في كتب السير والتاريخ أن الخلافة ـ وهي مثلنا الأعلى ـ انقلبت ملكاً عضوضاً منذ سنة إحدى وأربعين بعد الهجرة، أما لماذا انقلبت ؟ فهذا ما لم نقف إزاءه بجرأة وشجاعة، أو حتى بمنطق وعقل، وسكوتنا عن نقد أنفسنا شجع المستشرقين والمغرضين على أن يغمس كل منهم مغرفته في تاريخنا، ويستخرج منه ما يحلو له ويراه بعينه وعين قومه، مبتوراً عن سياق واقعي معترف به من قبل أهله، فأجابوا هم على ما تساءل عنه أبناؤنا والعقلاء منا، فانفتح بذلك علينا باب خطر عظيم
وقد تكون نوايا هؤلاء حسنة، لكن طريقة معالجتهم للأمور لم تكن عملية ولا إسلامية بل عاطفية لجأت في كثير من الأحيان الى تحسين كل قبيح، جهلاً بوسائل الدفاع، فعانت الأمة الإسلامية وخاصة الأجيال التالية من منهجهم هذا..
إن التحولات الإجتماعية والسياسة في أي مجتمع لا تقع في يوم وليلة، بل هي نتيجة عملية اجتماعية لها قوانينها وضوابطها التي وضعها الخالق وحتمها، ثم اكتشفها المخلوق ودونها وصاغها في شكل علم يدرس ويستفاد به.
إذ الإسلام إلهي من حيث النظرية، بشري من حيث التنفيذ، وسقوط الخلافة على يد معاوية أمر بشري مرتبط بالتنفيذ لا بالإسلام من حيث هو
وعادة ما يحدث في الثورات ـ والإسلام نظرية ثورية بلا شك ـ أن يقع الإنحراف بعد وفاة المؤسس ولو خفيفاً كالشعرة، أو بدرجة واحدة غير ملحوظة ثم إذا به ـ إن أهمل ـ ما يفتأ يتسع يوماً بعد يوم حتى يصل الى مائة وثمانين درجة، فإذا بنا نرى الإتجاه المعاكس تماماً، لكنه يحمل اسم النظرية الأولى.
هذه العملية التحولية هي ما لا بد وأنها حدثت ـ وفق قوانين التاريخ والإجتماع ـ في فترة الثلاثين عاماً منذ وفاة المؤسس الأعظم عليه وآله الصلاة والسلام وحتى انقلاب معاوية.
ثم من بعدها لم تقم لنا دولة نموذجية، ولم تؤثر عنا نظرية سياسية معقولة.
والإعتقاد بأن الجيل الأول منزه عن الخطأ أثناء التنفيذ أو العملية الإجتماعية البشرية، أو أنهم خلوا من انفعالات النفس
لقد كنا خير أمة أخرجت للناس، فاذا بخير أمة يلي أمرها البيت الذي ظل يقاتل مؤسس الدولة ورسالته حتى آخر وقت، فإذا بدفة الحكم في يد من لعنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمروان بن الحكم، ومن أباح دمه كابن أبي سرح، وأخيراً تربع على عرشها من لو وزن المسلمون آنذاك في ميزان الكفاءة والخلق والرجولة لكان أقلهم وأحقرهم كيزيد بن معاوية.
ولم تكن ممارسات هؤلاء وأشباههم إلا ثورة مضادة على الإسلام المحمدي، والنظرية الصافية.
نحن أمام حالة اجتماعية وسياسية ـ والله ـ جديرة بالدراسة، إذ المفروض في نظرية قوية كالإسلام منزلة من عند الله أن تستمر ـ إذا طبقت ـ قرناً على الاقل أو قرنين أو أكثر، قبل أن يدب في أتباعها الوهن.
وما حدث من التدهور السياسي السريع يضعنا أمام خيارين أثناء تحليل الأحداث لا ثالث لهما: إما أن نظرية الاسلام السياسية لم تطبق أصلاً، واما أن يكون ما طبق ـ بقطع النظر عن صوابه وخطئة ـ واعتبرناه نظرية الإسلام السياسية على درجة من الضعف، بحيث لم يستطع معها ملاءمة بقية جوانب النظرية، والحفاظ على تماسك الدولة أكثر من ثلاثة عقود من السنين.
وسواء كنا مع الرأي الأول أم الرأي الثاني، أم ملنا الى غير ذلك، فإن هذا التحول السياسي الضخم في تاريخنا ينبغي أن نحلله وفق مبادئ الإسلام نفسه، وقواعده التي وضعها في هذا الشأن، وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ، لكي نعرف
على أنني أدرك تماماً أن هذه المهمة صعبة للغاية في زمن نرى فيه ما نرى، وأهون نتائجها أن يرمى المضطلعون بها بشتى التهم، وربما يهدر دمهم ظلماً، لكن الأصعب والأخطر أن نسكت ونتعامى ونترك الناس حيرى، فهذا ذنب عظيم.
والسؤال الذي يوجع رأس الباحثين والمتحركين الآن هو:
كيف يتم تعيين القيادة في الحركة الإسلامية ؟ وإن كان لدينا ـ نحن أهل السنة ـ منهج واضح في هذا فما هو ؟ وكيف طبقه الجيل الأول ؟
وان لم يكن لنا هذا بضاعة فما هي النظرية، وما هو المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات الجيل الأول في هذا الشأن، في ضوء السير والتاريخ المكتوب باعتبار هؤلاء قدوة قد نقتدى بها في غياب النص ؟
الأولى:
أنه لا يوجد في ذلك نص محدد، وأن الأسلاف اجتهدوا، ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وسبب كارثة، والكل مأجور مهما فعل.
وهذا مذهب ابن خلدون وابن كثير وغيرهما من المؤرخين إذ أقروا بأن (كله تمام) وأن جميع الناس حتى هارون الرشيد وبعض أبنائه كانوا على صواب، وأن المأثور عن الأسلاف من ممارسات من لدن وفاة نبي الله عليه وآله الصلاة والسلام حتى بني العباس هو السياسة الشرعية التي على المسلم أن لا يترك التمسك بعروتها.
وهذه الإجابة تفضي بنا الى نتيجة حتمية هي أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي محدد، ولا القيادة فيه يمكن تعيينها بدقة، وأن أفعال الجيل الأول بما فيها خاصة من قتل بعضهم للبعض، وسبي للمسلمات، وهدم للكعبة، وهتك لحرمات الصحابيات واغتصابهن، وقتل وسبي لأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حلالاً مشروعاً، ومن فعلوه مأجورون وإن أخطأوا في ذلك.
الثانية:
أن الإسلام له في ذلك نظام محدد لكن الجيل الأول غلبته النفس البشرية، فخالف ما هو مرسوم في هذا الصدد، اقتضاء لما عليه الفطرة البشرية، فارتكب البعض خطأ، وانحرفوا عن الدستور شعرة ثم ما لبث هذا الإنحراف أن اتسع وتعاظم حتى أفلت زمام الأمور من أيديهم، وأن التحول السياسي والإجتماعي الذي طرأ على الدولة الإسلامية الوليدة فجعل رأسها مكان أرجلها، إنما وقع تدريجياً نتيجة أخطاء أولية تراكمت عليها أخطاء فأخطاء، وبمرور الزمن أدت هذه التراكمات الى سقوط الخلافة.
وهذه الإجابة تقودنا الى تحديد الإنحراف، وبالتالي معرفة الصواب، ومن بعد إصلاح المسيرة البشرية خلال العملية التنفيذية في العصر الحاضر.
لكن بألف حسرة وأسف راقت الإجابة الأولى للكثرة وأعجبتها على ما فيها من جنينية في التفكير ومخالفة للمنطق والعقل، ومن هنا فقدت الكثرة المنهج التحليلي السليم،
وانتقلت وجهة النظر العاطفية من صلب الى صلب حتى وصلت عصرنا الحاضر، فإذا بها تنعكس على الجو الحركي العام الذي يضم كل العاملين للإسلام فتؤثر فيه على نحو كبير، حائلة دون تحكيم المنطق والعقل.
وهكذا دخلت الحركة الإسلامية دوامة المتناقضات، فلم تنجح في إسقاط طاغوت أو اجتياز عقبة لسبب بسيط هو أنها في الوقت الذي تمسكت فيه أشد التمسك بتاريخنا السياسي القديم، واعتبرت أخطاء شخصياته منجزات ومفاخر إسلامية عظيمة، إذا بها تريد مواجهة الأنظمة المعاصرة وهي أيضاً متناقضة تراكمت فيها الأخطاء، علاوة على فسقها وكفرها، فلما نظرنا فيما في
وقد يكون من الأجمل استعراض الأحداث السياسية الكبرى في تاريخنا ـ أن كنا خير أمة ـ مما هو متصل بموضوع واحد فحسب من موضوعات علم السياسة والقانون الدستوري، وهو في نفس الوقت موضوع الكتاب، أعني (القيادة) وتعيينها، لنرى كيف أثرت هذه الأحداث، واستولت على وجدان الأمة وعقلها الباطن، وكمنت فيه لتحكم فيما بعد سلوك أفرادها، وتوجه تصرفاتهم، ولننظر أيضاً كيف وقف علماؤنا تجاهها، وما استنبطوه منها من أحكام، واستخرجوه من وقائعها من مواد سياسية ودستورية فرضوها على المسلمين، وأمروهم بتقديسها على أنها (إسلام).