فكرنا السياسي إسلامي أم سلطوي ؟
هذه الأحداث التي ذكرناها في الفصل السابق باختصار، هي أهم جزء في تاريخنا السياسي، ومن هنا فليس بمستغرب أن تكون هي الأعمدة التي قام عليها صرح ما لدينا من فكر سياسي ودستوري نسبناه للإسلام.
كما أن هذه الاحداث العظيمة كان لها أسوأ الاثر على كيان الأمة الواحدة ـ وهي خير أمة ـ لأنها قسمتها ثلاثة قطاعات:
قطاع استولى على السلطة ـ بهذه أو تلك من الطرق ـ على النحو الذي رأيناه، وبالممارسات التي سجلتها لنا كتب الحديث والتاريخ.
وقطاع آخر معه شيء آخر كان ينبغي سماعه ودراسته ولا زال وهؤلاء حرموا حق التعبير عن أنفسهم في شكل كيان
وقطاع ثالث رأى تنافس القطاع الأول، واستئثاره على الآخرين، فظل ينظر الى الكبار وأفعالهم وممارساتهم، ويتأسف لها ولا يبدي رأياً، وساعده على الإعتزال قوة شوكة الكبار من الفريق الأول، وعدم اشراكهم له في شيء له فيه حق وهؤلاء هم العامة من الناس.
وظل الوضع على هذا، نعم كان من هم في السلطة يشعرون بخطر المعارضين، لكنهم لم يقاوموهم فكرة بفكرة، إذ جعلتهم قوة الحكم والسلطان في غير حاجة لفكر متين، فأسفر ذلك عن أمور:
الأول:
أن الفكر السياسي عند أهل السنة بدأ متأخراً جداً إذا قورن بفكر شيعة أهل البيت الذين بقوا في المعارضة.
ولما قرر علماؤنا أن يكتبوا في السياسة والدستور وجدوا أن هذا العلم قد
الثاني:
أن علم السياسة عندنا أهل السنة، ما كان يملك نظرية سياسية واضحة قائمة برأسها يتخذها أساسا لما يريد أن يتكلم فيه، ومن ثم جاءت كتابات من كتبوا فيه رد فعل لآراء المعارضين، فبدت كأنها إجابات ـ مجرد إجابات ـ لرد أقوالهم، وسد الخانات بأي شكل وأي كلام.
وأول من تكلموا في هذا العلم عندنا كالماوردي، وأبي يعلى، وابن العربي المالكي، وابن خلدون، والجويني، وغيرهم، عاشوا في حدود القرنين الرابع والخامس الهجري، وكان الآخرون قد سبقوهم بأربعة قرون على الأقل هي نفس الفارق في النضج السياسي اليوم بين أتباع المدرستين.
الثالث:
أن هؤلاء العلماءلم يحاولوا تأسيس نظرية مختلفة، ولكن نحوا منحى خطيراً للغاية اذ أسسوا كتاباتهم على أربعة أسس:
الأول:
المصادقة على الأمر الواقع، واعتبار أن نتائج الأحداث التي وقعت هي عين ما كان ينبغي أن يكون، بل وهي الاسلام ونظريته السياسية.
الثاني:
أنهم في تأييد ذلك فتشوا في القرآن والحديث عن نصوص فأولوها تارةً ولووا أعناقها تارة ليلائموا بينها وبين الأحداث، بصرف النظر عن موقف الاسلام الحقيقي.
وهذه العملية التي مارسوها لأسلمة وقائع ونتائج ربما كانت غير إسلامية أجبرتهم على تفصيل حلل وأثواب من الأدلة الواهية، فأدى ذلك الى أمرين، الأول: إضفاء القداسة على أحداث التاريخ البشري الخاص بتلك الحقبة، فاعتبرناه عبر أجيال طويلة جزءً من الدين له قداسته واحترامه بكل ما فيه، ولو كان مخالفا للدين في بعض الأحيان.
والثاني: أن كتاباتهم ـ أودعنا نقول ما قدموه من نظرية سياسية إسلامية ـ جاءت تبريرية تهيىء للحكام ـ كل الحكام صالحهم وفاسدهم ـ أدلة شرعية لتبرير أفعاله، ولعل لافتة (الاجتهاد) التي لصقوها على أفعال الحكام جميعاً منذ وفاة
وحملنا معنا هذا كله في أوردتنا وشرايينا، وتناقلته خلايانا الوراثية عبر قرون وقرون، فإذا بحكام اليوم يرتكبون الأخطاء، فتوقع المعاهدات اللاإسلامية مثلاً، أو تستدعي قوات الإحتلال من هنا وهناك، ثم تجدنا نتساءل بين أنفسنا: وما حكم الاسلام في هذا ؟
وتجدهم ـ وهم أصلاً حكام وأنظمة غير شرعية ـ يلجؤون الى العلماء ـ إن صح تسميتهم بهذا ـ ويطلبون منهم التبريرات، فإذا بمشايخنا يخرجون من بطون الكتب ما شاءوا ويفصلون للافعال غير الإسلامية أثواباً إسلامية، مزينة بآيات من القرآن وأحاديث الرسول.
إنها عملية متصلة منذ قديم، فكما فعلوا في الماضي يفعل أمثالهم في الحاضر.
فإن قلتم إن أهل الحاضر يقلدون أسلافهم، قلنا فمن كان قدوة الأسلاف ؟
الثالث:
أنهم فهموا الشرعية القانونية بمفهوم سقيم ـ وإن كان له مؤيدوه في العصر الحاضر ـ فاعتبروا التمكن هو الشرعية، والقيادة المتمكنة هي القيادة الشرعية، بصرف النظر عن طريق تمكنها، وأسلوب وصولها.
فإذا وصل رجل ما ـ أي رجل ـ الى مركز القيادة، وتمكن من أعنة الحكم، فهو حاكم شرعي وقيادة شرعية نتعامل معها على النحو الذي يأمر به الاسلام، فيصبح واجبنا السمع والطاعة، ويصبح أسلوب وصوله إسلامياً.
وهذا سفه فكري، لأن الشرعية في جميع قوانين الأرض والسماء غير التمكن، فالشرعية تقوم على مواصفات إن وجدت أصبح الشيء شرعياً، وإن لم تتوافر هذه المواصفات فلا يصبح الشيء أو النظام شرعياً، مهما بلغ حجم التأييد فيما بعد، لأن وجود الشيء بالفعل لا يعني شرعيته.
على أن ضمير الأمة ووجدانها الاجتماعي والديني ظل يرفض هذه النظرية ـ ولا زال ـ ومن هنا وجدنا في العصور الأولى من كان يعرف اصطلاحاً بـ (الامام بالفعل) و (الامام بالحق) فالأول هو الشخص المتمكن من السلطة فعلاً ولديه القوة، والثاني هو الإمام الشرعي الذي كان ينبغي وجوده في السلطة ولم يحصل، وعادة ما كان الناس يوالون الثاني ويلتفون حوله ويحترمونه، رغم كونه لا حول له ولا قوة.
وأمثلة هذا في السير والتاريخ كثيرة لا داعي لذكرها هنا فإني أخشى الإطالة.
إن السلطة ـ أي سلطة ـ حقيقة واقعية ملموسة وموجودة أمام الناس بأشكال مختلفة، لكن شرعيتها ليست في مجرد كونها كذلك أو في وجودها الفعلي في حيزالزمان والمكان، بل في كونها
وكان من نتائج الاقتصار على اعتبار الشرعية مرادفاً لمجرد الوجود مهما كانت طريقة تحقيق هذا الوجود، أن وقع الإنفصام بين المجتمع وبين السلطة على مدى تاريخنا الإسلامي.
ولا زلنا نرى هذا الإنفصام حقيقة شاخصة أمامنا، لأن المذهب السياسي هو بعينه لم يتغير بعد، ويعتمد ـ كما كان من قبل ـ على المعيار الصوري للشرعية لا المعيار الموضوعي لها.
فهناك دساتير رسمية أقرتها وتقرها المجالس النيابية المختلفة المنتخبة، وهناك هيئات تشريعية تسن القوانين وتضع القواعد، وهناك أحزاب وصحف ومنابر، لكن هذا كله غير مبني على المعيار الموضوعي للشرعية، وهو ما يعتمد على أمرين، أولهما: أن يكون هذا كله نابعاً من العقل العام والإرادة العامة للمجتمع، فما أسهل تلفيق الدساتير وطبخ القوانين وتزوير الإنتخابات والإستفتاءات
الرابع:
أنهم وضعوا لأسلمة الأحداث والإجراءات التي رأيناها وإضفاء الشرعية عليها أساساً واهياً هو عدم اعتراض الناس أو من أسموهم اصطلاحاً بالجمهور.
أي أن سكوت أفراد المجتمع على شيء يعنى شرعيته، وهو أساس مختل، لأن أسباب السكوت قد تكثر وتتنوع، فربما سكت الناس بسبب الإنفصام بينهم وبين السلطة، أو بحكم القوة، أو بفعل الخوف، أو ربما الجهل، أو سلبية التعبير عن الرفض، أو ربما غير ذلك، وهذا كله يتشكل في هيئة سكوت.
فالسكوت إذن ليس دليلاً على الرضا أبداً.
وأساس السكوت هذا تعتمد عليه هذه الأنظمة في إثبات شرعيتها للعالم الخارجي، وكلنا يعرف أسباب السكوت، لكنه يؤمن بعدم شرعيتها.
هذا النقد المختصر لمذهب من كتبوا لنا في التاريخ والسياسة منذ القدم، ونسبوا مقالاتهم للاسلام ليس تجنياً عليهم، ولا من باب تحويل الحبة الى قبة، بل هو بالفعل منهج مدون مطبق، وفي سبيل إثباته أستعرض هنا شيئاً من آراء بعضهم فيما يخص موضوع الكتاب ـ أي القيادة أو ما أطلقوا عليه اصطلاح الإمامة والخلافة ـ وهو موضوع واحد فقط من موضوعات علم السياسة.
فالقيادة عندهم (تنعقد من وجهي أحدهما باختيار أهل الحل والعقد، والثاني بعهد الإمام من قبل.
فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم
فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد، ليكون الرضا به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى: أقل ما تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين
أحدهما
أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها وهم: عمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم.
والثاني:
أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
وأوضح امام الحرمين عبد الملك الجويني هذه النقطة فقال (لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع بل تنعقد الإمامة وإن لم نجمع الأمة على عقدها.
والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين، ولم يتأن لانتشار الأخبار الى من نأى من الصحابة في الأقطار، ولم ينكر عليه منكر، ولم يحمله على التريث حامل، فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة، لم يثبت عدد معدود ولا حد محدود، فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد)(2)
وقال القرطبي في معرض تفسيره لقوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت... ودليلنا أن عمر عقد البيعة لأبي بكر، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك... قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له
____________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص504.
(2) الإرشاد للجويني: ص424، مصر 1369هـ.
(وأما انعقاد الامامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الاجماع على جوازه، ووقع الإتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما.
أحدهما: أن أبابكر رضي الله عنه عهد بها الى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده، والثاني: أن عمر رضي الله عنه عهد بها الى أهل الشورى، فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر اعتقاداً بصحة العهد بها... والصحيح: أن بيعته منعقدة، وأن الرضا بها غير معتبر، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة، ولأن الإمام أحق بها)(3)
____________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 268 ـ 272، مصر 1387هـ.
(2) المواقف: 8/351 ـ 353، مصر 1325.
(3) الماوردي: ص8.
(فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبه، فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها)(2) أي لا إشكال فيه.
(ولو عهد الخليفة الى اثنين أو أكثر، ورتب الخلافة فيهم فقال: الخليفة بعدي فلان، فإن مات فالخليفة بعد موته فلان فالخليفة بعده فلان، جاز، وكانت الخلافة منتقلة الى الثلاثة على ما رتبها... فقد عمل بذلك في الدولتين (يقصد بني أمية وبني العباس) من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر، هذا سليمان بن عبدالملك عهد الى عمر بن عبدالعزيز، ثم من بعده الى يزيد بن عبد الملك... وقد رتبها الرشيد رضي الله عنه (كذا) في
____________
(1) نفس المصدر، نفس الصفحة.
(2) نفس المصدر، ص9.
واذا ارتاح بعضنا لفكرة أهل الحل والعقد، وتخويلهم سلطة اختيار القيادة، فمن الذي يختار أهل الحل والعقد هؤلاء ؟ فهل يجوز للخليفة ذلك ؟ (يجوز لأنها من حقوق خلافته)(3) (ولا يجب على كافة الناس معرفة الإمام بعينه واسمه إلا من هو من أهل الاختيار)(4)
____________
(1) الماوردي: ص11.
(2) ابو يعلى: ص4.
(3) نفس المصدر ص10.
(4) الماوردي: ص13، أبو يعلى: ص11.
هذه هي بضاعتنا التي ننسبهاالى الاسلام وليست منه في شيء، إذ لم يؤت عليها بدليل من كتاب أو سنة، بل هي من نحت من كتبوها بعد أن نظروا في ظاهر الأحداث والتغييرات التي طرأت على الدولة الاسلامية في عصورها الأولى، فبرروها وألبسوها ثياباً شفافة، لم تستر ما بها من عورات عن عيون المبصرين.
فهذه الآراء السياسية التي عرضنا بعضها آنفاً تعني في بساطة أن أية مجموعة من المسلمين من خمسة أو ثلاثة بل واحد أيضاً يجوز له أن يحدد قيادة الأمة بمبايعته لهذا أو ذاك، وتصير بيعته هذه ملزمة لا يمكن نقضها، فمستقبل الأمة يجدده شخص واحد أو بضعة أشخاص.
وتجوز البيعة أيضاً بالعهد تبريراً لحكم بني أمية وبني العباس، لأنها إن كانت لا تجوز بهذا الطريق كانت نظم هذه الدول باطلة، والقاعدة تنسحب أيضاً على النظم المشابهة في
ويجوز لواحد أن يحدد مستقبل الأمة كلها لقرون طويلة اذا ولى من بعده بالعهد أكثر من واحد على التوالي، ولا حد ولا عد، لأن بني أمية وبني العباس فعلوا ذلك ولم يعترض عليهم أحد.
ولا يهم رضا الناس ولا عقل الأمة ووجدانها وإرادتها، لأن ذلك لم يلزم لإمضاء بيعة أبي بكر وعمر (رض).
ويجوز التأمير بالسيف ـ أو بالدبابة والصاروخ والعسكر بعد تقدم التكنولوجيا الحربية ـ ومن ثم فالانقلابات العسكرية من صميم الإسلام أسوة بما فعل معاوية.
وطوبى للمسلمين لأن إسلام المشايخ يأمرهم بالسمع والطاعة للفاجر وشارب الخمر والفاسق والسارق والزاني، إذا تأمر عليهم بأي طريق فهو أمير المؤمنين، فمن إذن أمير الفاسقين والمجرمين ؟
أما الشعب والأمة والجمهور فلا دخل له في هذه الأمور، وحرام عليه أن يتكلم في السياسة، إذ لا يلزمه على شريعة مشايخنا أن يعرف قيادته ولا إمامه بعينه وشخصه واسمه، لأن
وأهل الحل والعقد يختارهم وينتقيهم الخليفة على عينه، ثم هم بدورهم يختارونه، لأن الخلافة أصلاً شيء غير مهم، وهي من المصالح العامة المفوضة الى نظر الخلق، ولم تكن مهمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.(2)
ولست أدري لماذا لم يؤسس مشايخنا نظرية الاسلام السياسية على أساس يتفق وعقل الإنسان، وفي ضوء الأدلة والنصوص المتوفرة، وهي كثيرة، إن كنا نعتقد بأن نظرية الإسلام السياسية ـ والقيادة من موضوعاتها ـ مسألة اجتهادية متروكة لنظر الخلق ؟
خذ لذلك مثلا لعن الله ورسوله لمن قام بانقلاب عسكري وبالتالي تحريم هذا الأسلوب في تحديد قيادة الأمة، ما رواه العالم
____________
(1) المقدمة: ص206.
(2) نفس المصدر: ص212 ـ 213.
أخرجه الترمذي عن عائشة وابن عساكر عن ابن عمر)(1)
ولماذا نستسيغ الكم الهائل من الأحاديث التي روتها الكتب الستة وغير الستة في تحريم الثورة على الحاكم وإن كان فاسقاً فاجراً، وتلقين الناس السمع والطاعة للنظم والحكومات وإن لم يستنوا بسنة الرسول ويلتزموا بأحكام الشرع، ونحض المسلم على أن لا يخوض في الفتن ـ أي الخلافات السياسية ـ ولو بأن يلجأ الى رؤوس الجبال أو يعض على جذع شجرة، وعليه الصبر كي لا يموت ميتة الجاهلية، الى غير ذلك مما هو مروي في أبواب الفتن، والإمارة، والأمر بلزوم الجماعة، وغيرها من الأبواب، في الصحاح والمسانيد... وهو ما جعل المسلمين أرانب مستأنسة.
____________
(1) النصائح الكافية، ص29 الطبعة الرابعة، 1966 بدون مكان.
ولا أرى ضرورة لتقديس الأشخاص، لأن التاريخ عندنا قد امتزج بالحديث، وكتَّاب التاريخ في أغلبهم محدثون، وهم ـ أي علماء الحديث ـ حين وضعوا كتبهم إنما وضعوها كل وفق رأيه الشخصي، ومعتقداته الذاتية التي لا يلزم المؤمن اتباعها.
فهم كأهل التاريخ لم يسمحوا لنا بقراءة ما خالف رأيهم.
ومن أجل معرفة رأيهم لا ينبغي إغفال العناصر المؤثرة في تشكيل المناخ الثقافي لكل عالم منهم على حدة، في ضوء دراسة طبيعة النظم التي عاشوا تحتها، وعلاقتهم بحكومات عصرهم، ووضعهم الإجتماعي والإقتصادي، وموقف الأنظمة التي عاشوا في ظلها
إن الله عزوجل أنزل هذا الدين ليظهره على الدين كله كما هو منصوص في الكتاب، ولئن كان الجانب العقائدي والأخلاقي محفوظاً مؤهلاً لأن يظهر على كل الأديان إن شاء الله، إلا أن الجانب السياسي بالطريقة المدونة عندنا والتي رأينا بعضها ـ لا يبشر بظهور هذا الدين ولو حتى على أديان حي من أحياء مدينة من مدن المسلمين، وعلينا أن نعيد النظر في تراثنا السياسي ونزيح الغبار عن نظرية الإسلام السياسية الحقيقية، ونتخذ موقفاً محدداً من قضايا علم السياسة، ونقدمه للناس بطريقة مقنعة، تجعل هذا الجانب من ديننا غالباً ظاهراً كالشمس.
إن العالم لن يقبل حقية
والذين كتبوا في موضوعنا من المحدثين غالباً ما اعتبروا الشورى قاعدة انطلقوا منها في تصوير نظام الحكم في الاسلام، لكنهم تغافلوا عن شكل الشورى كما طبقة الأوائل ومالوا الى الشكل الغربي الحديث المسمى بالديمقراطية، مع أن الشورى كما مارسها الأوائل ما كانت غير استشارة نخبة النخبة لا كل النخبة والصفوة، ولا كل المسلمين(1) .
وإن كان من فصلوا الدين عن السياسة أو جعلوا نظام الحكم في الاسلام مسألة اجتهادية متروكة لاستصواب الناس على اختلاف أمزجتهم وطبائعهم، مثل الأستاذ مصطفى عبدالرزاق في كتابه الاسلام وأصول الحكم، قد انتهوا الى تفضيل النظام الديمقراطي على اختلاف في الدرجات، فان الذين دافعوا عن
____________
(1) لابد أن يكون المقصود بالنخبة والصفوة عند المؤلف مجموعة الذين أجادوا التخطيط واستغلال ظرف وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
أما النخبة والصفوة بمفهوم الإسلام فلها معني آخر (الناشر).
والسبب في وحدة النتائج رغم اختلاف المشارب ـ كما يتهيأ لي ـ يرجع الى طبيعة المذهب نفسه، إذ يخلو كما ذكرت من شيء محدد نمسكه في يدنا.
يقول أحد أعضاء الفريق الثاني:
(فالحكومات التي تجمع في حصيلتها من دلائل الرضا أكثر من إمارات السخط، هي خير الحكومات وأرشدها وأصلحها)(1) (إن الحاكم أياً كان من العدل والإستقامة وسلامة القصد، لن يبلغ من المحكومين في ميزان حكمه، وأحسن من هذا أن ترجح كفة الرضا على كفة السخط، أما أن يحوز رضا الناس كلهم، فذلك ما لا ينال أبداً)(2)
____________
(1) الامامة والسياسة، عبد الكريم الخطيب، ص194، الطبعة الثانية، لبنان 1975 وانظر الخلافة والملك للمودودي.
(2) نفس المصدر: ص197.
ومن هذا نفهم أن المسلمين في حاجة الى إعادة صياغة فكرهم السياسي أو على الأقل تحديد الأمور الأساسية في.
يقول الدكتور طه حسين وهو يناقش الأزمة الدستورية التي واجهتها الدولة الاسلامية الوليدة فسبب لها ما وقع من انقلاب:
(كان المسلمون في حاجة الى أن ينشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستوراً مكتوباً يبين الحدود والإعلام، يعصمهم من الفرقة والإختلاف... فلم يتح للشيخين وأصحابهما من الوقت ولامن الفراغ والدعة ولا من التطور والإتصال بأسباب الحضارة ما كان من شأنه أن يمكنهم من وضع هذا النظام، إنما السبيل على الذين جاؤوا بعدهم فأتيحت لهم السعة والدعة والفراغ، ولم يفكروا مع ذلك في أن يضعوا نظاماً لتداول الحكم ولا في أن يضعوا نظاماً يكفل رعاية العدل السياسي والإجتماعي، وإنما أهملوا ذلك إهمالاً وآثروا أنفسهم بالحكم والغلب والاستعلاء)(1)
____________
(1) الفتنة الكبرى: ص41 ـ 42
ومن الأصنام في عصرنا ما نحت بتوجيه أجنبي خفي أو جلي في شكل كتب أو أشخاص أضفينا عليهم القداسة واعتبرنا ما يقولونه وحياً منزلاً.
ولا أرى ـ إن كان لي حق في الرؤية ـ علاجاً لما نحن فيه إلا إتاحة جو عام من التفكير بحرية، والنقاش العلمي بحرية، وطرح المعطيات والمقدمات باستقلالية، ثم بعد ذلك استخلاص النتائج دون قيود، معنا كانت هذه النتائج أم علينا.
نحن في حاجة إذن الى ثورة في أسلوب التفكير قبل ثورة الفكر وثورة التنفيذ، لأننا لا نعرف حتى الآن كيف نتعامل مع الفكر
إن الإنقسام الذي نراه بيننا، والإنفصام الذي نعايشه بين السلطة والشعب وبين القيادة والقاعدة، وإن كان واقعنا الناطق وحاضرنا التعيس، إلا أنه عتيق له جذور تصل الى ذلك العهد البعيد قبل أربعة عشر قرناً، حين اختلف سلفنا الصالح واقتتلوا على القيادة، فنخر السوس في الجذور، وتركناه ينخر، وقتلنا الأطباء، وقاطعنا كل دواء !