وكما قدمنا في بحث طلحة والزبير وسعد بأنهم زرعوا الشوك وحصدوا الخسران والندامة.
فلننظر إلى عبد الرحمان بن عوف وما آل إليه تدبيره، يقول المؤرخون بأن عبد الرحمان بن عوف ندم أشد الندم لما رأى عثمان خالف سنة الشيخين وأعطى المناصب والولايات إلى أقاربه وحاباهم بالأموال الطائلة، فدخل عليه وعاتبه وقال: إنما قدمتك(1) على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر فخالفتهما وحابيت أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين.
فقال عثمان: إن عمر كان يقطع قرابته في الله وأنا أصل قرابتي في الله، قال عبد الرحمان: لله علي أن لا أكلمك أبداً، فلم يكلمه حتى مات وهو هاجر لعثمان، ودخل عليه عثمان عائداً له في مرضه فتحول عنه إلى الحائط ولم يكلمه(2) .
وبهذا يكون الله سبحانه قد استجاب دعاء الإمام علي في عبد الرحمان كما استجابه في طلحة والزبير فقتلا من يومهما.
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي ي شرح النهج إن علياً غضب يوم الشورى وعرف ما دبره عبد الرحمان بن عوف فقال له:
«والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم»(3) .
ويقصد الإمام علي بأن عبد الرحمان طمع أن يستخلفه عثمان من بعده كما فعل أبو بكر بعمر، وقد قال له علي: أحلب حلباً لك شطره واشدد له اليوم ليرده عليك غداً.
أما عطر منشم الذي دعا به علي عليهما فهو مثل سائر يقال: أشأم من عطر منشم وهو يدل على النفور والمقاتلة.
____________
(1) قوله إنما قدمتك يدل على الاستبداد برأيه ولم يكن عن مشورة ولا عن اختيار الناس له كما يزعمون.
(2) تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 166، أنساب الأشراف للبلاذري ج 5 ص 57، العقد الفريد لابن عبد ربه المالكي ج 2 ص 261.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 63.
واستجاب الله دعاء الإمام فلم تمض سنوات قليلة حتى ضرب الله بينهم العداوة والبغضاء وإذا بعبد الرحمان يعادي صهره ولا يكلمه حتى الموت ولا يأذن له بالصلاة على جنازته.
ويتجلى لنا أيضاً من هذا البحث الوجيز أن عبد الرحمان بن عوف هو رأس من رؤوس قريش الذين عملوا على طمس السنة النبوية وإبدالها ببدع الخليفتين.
كما يتجلى لنا بأن الإمام علياً (عليه السلام) هو الوحيد الذي ضحى بالخلافة وما فيها من أجل الحفاظ على السنة المحمدية التي جاء بها أخوه وابن عمه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وأنت أيها القارئ الكريم لا شك بأنك عرفت «أهل السنة والجماعة» على حقيقتهم كما عرفت بنفسك من هم أهل السنة، فالمؤمن غر كريم ولكنه لا يلدغ من جحر مرتين.
8 ـ عائشة بنت أبي بكر «أم المؤمنين»:
هي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأم المؤمنين. تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثانية أو الثالثة للهجرة وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة على أشهر الأقوال المروية.
وتجدر الإشارة بأن كل أمرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحمل هذا اللقب، فيقال أم المؤمنين خديجة أم المؤمنين حفصة، وأم المؤمنين مارية … الخ.
أقول هذا لأني فوجئت خلال حديثي مع كثير من الناس بأنهم لم يفهموا معنى الأمومة التي لقب بها أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وبما أن حديث «أهل السنة» كله عن عائشة إذا تحدثوا عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأغلب الأحاديث النبوية ينقلونها عن عائشة ونصف الدين يأخذونه عن الحميراء عائشة.
فكأنهم فهموا من كلمة «أم المؤمنين» أنها فضيلة تخصها من بين سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام وعلى آله.
والحال أن الله حرم على المؤمنين الزواج بنساء النبي بعد وفاته بقوله تعالى: «وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم عند الله عظيماً» (الأحزاب: 53) وقال أيضاً: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم …» (الاحزاب: 6).
وقد سبق أن أشرنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأذى من قول طلحة لما سمعه يقول: إذا مات محمد تزوجت عائشة بنت عمي.
فأراد الله سبحانه أن يقول للمؤمنين بأن نساء النبي حرام عليكم نكاجهن كحرمة أمهاتكم.
مع العلم بأن عائشة كانت عقيماً فلم تحمل ولم تخلف وكانت من أكبر الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين، إذ أنها لعبت أكبر الأدوار في تقريب البعض من الخلافة وإبعاد البعض عنها، وعملت على تزكية قوم وإقضاء آخرين.
وشاركت في الحروب وقادت المعارك والرجال، وكانت تبعث بالرسائل لرؤساء القبائل وتأمر وتنهي وتعزل أمراء الجيوش وتؤمر آخرين وكانت قطب الرحى في معركة الجمل وعمل طلحة والزبير تحت قيادتها.
ونحن لا نريد الإطالة في سرد أدوار حياتها فقد وافينا البحث عنها في كتاب «فاسألوا أهل الذكر» فعلى الباحثين مراجعته إن أرادوا معرفة ذلك.
ولكن الذي يهمنا في هذا البحث هو اجتهادها وتغييرها لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولابد من إبراز بعض الأمثلة لكي نفهم من خلال سلسلة هؤلاء العظماء» الذين هم مفخرة «أهل السنة والجماعة» والذين يقتدون بهم ويقدمونهم على الأئمة الطاهرين من عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس ذلك في الحقيقة إلا نزعة قبلية عملت على محق السنة النبوية وطمس معالمها وإطفاء نورها، لولا وقوف علي والأئمة من ولده لما وجدنا اليوم من سنة النبي شيئاً يذكر.
وكما عرفنا بأن عائشة لم تمتثل لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تقم لها وزناً
وعصت أمر الله وأمر رسوله لها بالذات وخرجت فقادت حرب الجمل المشؤومة التي انتهكت فيها المحارم، وقتلت الأبرياء وخانت العهد في الكتاب الذي كتبته مع عثمان بن حنيف وعندما جاؤؤها بالرجال مكتفين أمرت بضرب أعناقهم صبراً وكأنها لم تسمع قول النبي (ص): «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(1) .
ودعنا من الحروب والفتن التي أشعلت نارها أم المؤمنين وأهلكت بها الحرث والنسل، وهيا بنا إلى تأولها هي الأخرى والقول برأيها في دين الله، وإذا كان مجرد الصحابي له رأي وقوله حجة فكيف بمن يؤخذ نصف الدين عنها ؟ !
أخرج البخاري في صحيحه من أبواب التقصير عن الزهري عن عروة عن عائشة (رضي الله عنها» قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم ؟ قال: تأولت ما تأول عثمان(2) .
أفلا تعجب كيف تترك أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة رسول الله التي روتها بنفسها وصححتها، ثم تتبع بدعة عثمان بن عفان والتي كانت تحرض على قتله بدعوى أنه غير سنة النبي وأبلاها قبل أن يبلى قميصه ! ؟
نعم ذلك ما وقع في عهد عثمان ولكنها غيرت رأيها في عهد معاوية بن أبي سفيان، و ما أسرع أن تغير أم المؤمينن رأيها فقد حرضت على قتل عثمان ولكنها لما عرفت بأنهم قتلوه وبايعوا عليا غيرت رأيها وبكت على عثمان بكاء شديداً وخرجت للطلب بدمه هي أيضاً.
والمفهوم من الرواية أنها أتمت صلاة السفر وجعلتها أربع ركعات بدلاً من ركعتين في زمن معاوية الذي كان حريصاً على إحياء بدع ابن عمه وولي نعمته عثمان بن عفان.
____________
(1) صحيح البخاري ج 8 ص 91 وصحيح مسلم في كتاب الإيمان.
(2) صحيح البخاري ج 2 ص 36.
والناس على دين ملوكهم، وكانت عائشة من أولئك الناس الذين صالحوا معاوية بعد العداء، فهو الذي قتل أخاها محمد بن أبي بكر ومثل به أشنع مثلة.
ومع ذلك فإن المصالح الدنيوية المشتركة تجمع الأعداء وتوحد الأضداد، لذلك تقرب إليها معاوية وتقربت إليه وأصبح يبعث لها بالهدايا والعطايا والأموال الطائلة.
يقول المؤرخون: إن معاوية لما قدم المدينة دخل على عائشة لزيارتها، فلما قعد قالت له: يا معاوية أأمنت أن اخبئ لك من يقتلك بأخي محمد بن أي بكر ؟
فقال معاوية: إنما دخلت بيت الأمان.
فقالت: أما خشيت الله في قتل حجر بن عدي وأصحابه ؟
فقال: إنما قتلهم من شهد عليهم(1) .
وروي أيضاً أن معاوية كان يبعث لها بالهدايا والثياب وأشياء توضع في أسطوانها، وبعث لها مرة بمائة ألف دفعة واحدة(2) .
كما بعث لها مرة أخرى وهي بمكة طوقا قيمته مائة ألف كما قضى معاوية كل ديون عائشة التي بلغت ثمانية عشر ألف دينار وكل ما كانت تعطيه للناس(3) .
وقد قدمنا في كتاب «فاسألوا أهل الذكر» أنها أعتقت في يوم واحد أربعين رقبة تكفيراً عن يمينها(4) .
كما أن الولاة والأمراء من بني أمية كانوا يوصلونها ويبعثون لها بالهدايا والأموال أيضاً(5) .
____________
(1) تاريخ ابن كثير وابن عبد البر في الاستيعاب ترجمة حجر بن عدي.
(2) تاريخ ابن كثير ج 7 ص 136 ومستدرك الحاكم ج 4 ص 13.
(3) تاريخ ابن كثير ج 7 ص 137.
(4) صحيح البخاري ج 7 ص 90 من كتاب الأدب باب الهجرة. مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 6 ص 77.
(5) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج6 ص77.
وإذا بحثنا عن هذا التقارب بين عائشة ومعاوية قلنا: متى كان البعد والعداء حتى نقول بالتقارب فأبو بكر هو الذي شارك معاوية في الحكم وولاه على الشام بعد موت أخيه ومعاوية يشعر دائماً بفضل أبي بكر عليه فلولاه لم يكن معاوية يحلم يوماً بالوصول إلى الخلافة.
ثم إن معاوية يلتقي مع الجماعة في مؤامرتهم الكبرى لمحق السنة والقضاء على العترة، وقد تقاسموا تلك المهمة فأحرقوا السنة وتركوا له القضاء على العترة فأتم معاوية ما أوكل إليه حتى أجبر الناس على لعن العترة، وبمؤامرته خرج الخوارج على الإمام علي وبمؤامرته قتل علي وبمؤامرته قتل الحسن بن علي وقد دس له السم، وقضى يزيد ابنه من بعده على بقية العترة.
فليس بين معاوية وعائشة عداء حتى قولها أأمنت أن اخبئ لك من يقتلك بأخي محمد بن أبي بكر ؟ لم يكن إلا مداعبة وإلا فإنها لا تحت ابن الخثعمية محمد بن أبي بكر والذي كان يحارب ضدها مع علي ويستحل قتلها.
ثم هي تلتقي مع معاوية في بغض أبي تراب إلى أبعد الحدود وبحقد يفوق التصور والخيال.
ولا أدري أيهما المتفوق في ذلك، أهو الذي حاربه وسبه ولعنه وعمل على إطفاء نوره ؟
أ هي التي عملت على إبعاده عن الخلافة وحاربته وعملت على محو اسمه فكانت لا تذكر اسمه ولما بلغها خبر قتله سجدت شكراً لله ؟
وقد بقي بغضها لولده من بعده إلى أن منعت أن يدفن الإمام الحسن بجانب جده، وخرجت تصيح راكبة على بغلة تستنفر بني أمية وتستيعن بهم على بني هاشم قائلة: لا تدخلوا بيتي من لا أحب، وأرادت أن تشعل حرباً أخرى، حتى قال لها بعض أقاربها: «ألا يكفينا يوم الجمل الأحمر حتى يقال يوم البغلة الشهباء».
وهي بلا شك واكبت مسيرة كبرة من حكم بني أمية وسمعتهم يلعنون عليا وأهل البيت على المنابر، فما أنكرت ذلك ولا نهت عنه ولعلها كانت تشجع على ذلك من طرف خفي.
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده قال: جاء رجل فوقع في علي وعمار عند عائشة فقالت: أما علي فلست قائلة لك فيه شيئاً، وأما عمار فإني سمعت النبي يقول فيه لا يخير بين أمرين إلا اختار أرشدهما(1) .
فلا نستغرب إذا من عائشة إذا أماتت سنة النبي وأحيت بدعة عثمان في إتمام الصلاة لإرضاء معاوية وحكام بني أمية الذين كانوا يتبعونها في حلها وفي ترحالها ويمجدونها ويأخذون الدين عنها.
كما أن عائشة كانت تفتي لهم برضاعة الكبير وكانت ترى أن الرجال يمكنهم أن يرضعوا من النساء فيصبحوا بذلك من محارمهن(2) .
وما أخرجه الإمام مالك في موطأه تقشعر منه جلود المؤمنين والمؤمنات إذ يقول بأنها كانت تبعث بالرجال إلى أختها أم كلثوم وإلى بنات أخيها فيرضعوا منهن وتسبيح أم المؤمنين عائشة بعد تلك الرضاعة مقابلتهم بدون حجاب(3) لأنهم على رأيها أصبحوا من محارمها !
وما علينا الا أن نتصور أحد يتحمل بدعة عائشة ولو يجد في نفسه حرجاً مما قضيت ويسلم تسليماً.
وأنا ألفت الباحثين والمحققين الى هذه الطامة فهي وحدها كافيه للكشف عن الحقيقة ولمعرفة الحق من الباطل.
وبهذا يتبين لنا بأن (أهل السنة والجماعة) يعبدون الله ينصوص ما أنزل بها من سلطان، بدون تمحيص ولا تثبيت، ولو تبينوا تلك البدع لنفرت نفوسهم منها وتركوها طائعين.
____________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 6 ص 113.
(2) قد وفينا البحث في هذه المهزلة في كتاب لأكون مع الصادقين في باب خلاف عائشة مع بقية أزواج النبي.
(3) موطأ مالك ج 2 ص 116 باب رضاعة الكبير.
هذا ما لا مسته شخصياً عند بعض (علماء السنة) المتحررين الذين عندما اطلعوا على حديث رضاعة الكبير استغربوا وذهلوا وأكدوا بأنهم لم يسمعوا به أبداً.
وهذه ظاهرة سارية عند (أهل السنة والجماعة) فكثير من الأحاديث التي يحتج بها الشيعة موجودة في صحاحهم وهو يجعلونها ويكفرون من يقول بها.
(ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع لداخلين) (التحريم: 10).
9 ـ خالد بن الوليد:
خالد بن الوليد بن المغيرة من بني مخزوم الملقب عند (أهل السنة والجماعة) بسيف الله.
أبوه من أكبر الاثرياء الذين لا يقدر ثراؤهم بقيمة، يقول عباس محمود العقاد: كان أغنى أبناء زمانه في صفوف الثراء المعروفة بينهم كافة، الذهب والفضة والبساتين والكروم والتجارة والعروض والخدم والجواري والعبيد، وسمي من أجل ذلك بالوحيد(1) .
وأبوه هذا هو الدليد بن المغيرة الذي نزل فيه القرآن يتوعده بالنار وبئس القرار، فقال
تعالى في شأنه: «ذرني ومن خلقت وحيداً * وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهوداً * ومهدت له تمهيداً * ثم يطمع أن أزيد * كلا انه كان لايانتا عنيداً * كأرهقه صعوداً * انه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال ان هذا الا سحر يؤثر * ان هذا الا قول البشر * سأصليه سقر …» (المدثر: 11ـ26).
ويروي أن الوليد جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يغريه بالاموال ليترك الذين الجديد فأنزل الله فيه: «ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد
____________
(1) عبقرية خالد: عباس العقاد ص 24.
وكان الوليد يعتمد بأنه أحق وأولى بالنبوة من محمد فكان يقول: أينزل القرآن والنبوة على محمد الفقير وأترك أنا كبير قريش وسيدها ؟
وعلى هذه، مفيدة تربى خالد بن الوليد حاقداً على الإسلام وعلى نبي الإسلام الذي سفه أحلام أبيه وقوض عرشه فشارك خالد في الحروب كلها ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا شك بأن خالداً كان يشارك أباه في اعتقاده بأنه أولى بالنبوة من محمد الفقير اليتيم ولأن خالداً كأبيه من عظماء قريش إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، فلو نزل القرآن والنبوة على أبيه لكان لخالد منهما النصيب الأوفر ولورث النبوة والملك كما ورث سليمان داود.
وقد سجل الله سبحانه اعتقادهم هذا بقوله:
«ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون * وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» (الزخرف: 30 ـ 31).
فلا غرابة أن يعمل كل ما في وسعه للقضاء على محمد ودعوته وقد رأيناه يجهز جيشاً كبيراً بما أتاح له الثراء في غزوة أحد ويكمن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم محاولاً القضاء عليه، وقد حاول أيضاً عام الحديبية أن يغتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله سبحانه أفشل مخططاته كلها فباءت بالفشل ونصر نبيه في المواطن كلها.
ولما عرف خالد كغيره من عظماء قريش بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقهر، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، عند ذلك استسلم للأمر الواقع وفي نفسه حسرة، فكان إسلامه متأخراً إلى السنة الثامنة للهجرة وقبل فتح مكة بأربعة شهور.
ودشن خالد إسلامه بمخالفة أوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث نهاهم عن القتال فدخل خالد إلى مكة يوم الفتح بعد ما قتل أكثر من ثلاثين رجلاً أغلبهم من قريش وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاهم بأن لا يقتلوا أحداً.
ومهما اعتذر المعتذرون عن خالد بأنه صد عن الدخول إلى مكة ويأنه شهروا في وجهه السلاح، فهذا لا يبيح له القتال بعد نهي النبي عنه، وكان بوسعه أن يرجع إلى باب آخر فيدخله بدون قتال، كما فعل الآخرون، أو أن يبعث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشيره في قتال الذين منعوه الدخول.
ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، واجتهد خالد برأيه مقابل النص الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وما دمنا نتحدث عن الاجتهاد مقابل النص والذي أصبح له أنصار ومؤيدون، أو قل أصبحت له مدرسة قائمة تخرج منها عظماء الصحابة والمشرعون وسميت فيما بعد بمدرسة الخلفاء، لابد لنا من الإشارة هنا بأن الاجتهاد بهذا المعنى هو معصية الله ورسوله لا غير، ولأننا الفنا اصطلاح الاجتهاد مقابل النص فأصبح وكأنه أمر مشروع، وفي الحقيقة يجب أن نقول: وعصى خالد أمر النبي بدل أن نقول: واجتهد خالد برأيه مقابل النص كما علمنا القرآن عندما قال: «وعصى آدم ربه فغوى» (طه: 121)، لأن الله نهاه عن الأكل من الشجرة ولأن آدم أكل منها، فلا تقول: فاجتهد آدم برأيه مقابل النص.
ويجب على المسلم أن يقف عند حده ولا يقول برأيه في مسألة ورد فيها امر أو نهي من الله أو من رسوله، لأن ذلك هو الكفر الصريح.
قال الله للملائكة: «اسجدوا لآدم» ، فهذا أمر، «فسجدوا» (طه / 116)، وهذا إيجاب وامتثال وطاعة.
إلا إبليس فإنه اجتهد برأيه فقال: أنا خير منه فكيف أسجد له ؟ وهنا عصيان وتمرد، بقطع النظر عمن هو خير، آدم أم إبليس ؟
ولذلك قرر سبحانه: «ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة» (الأحزاب: 36).
وإلى هذا أشار الإمام جعفر الصادق عندما قال لأبي حنيفة: لا تقس فإن
وقوله: إن الشريعة إذا قيست محقت هو أحسن تعبير للدلالة على فساد القياس، فلو استعمل الناس آراءهم المختلفة مقابل النصوص فلا ولن يبق للشريعة أثر، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.
ونعود بعد هذا العرض الوجيز للاجتهاد لنقول في هذه المرة بأن خالد بن الوليد عصى أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى عندما بعثه إلى بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام ولم يأمره بقتال.
فذهب إليهم وأوقع فيهم وغذر بهم بعدما أعلنوا إسلامهم وقتلهم صبراً، حتى أتهمه عبد الرحمان بن عوف ـ الذي حضر معه تلك الوقعة ـ بأنه إنما قتلهم ليثأر لعميه اللذين قتلهما بنو جذيمة(1) .
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الوقعة الشنيعة تبرأ إلى الله مما صنع خالد ثلاث مرات، ثم أرسل إليهم علي بن أبي طالب بأموال كثيرة فودى لهم كل الدماء التي أهرقها خالد.
ومهما يعتذر المعتذرون من «أهل السنة والجماعة» عن خالد بن الوليد، فإن صفحات تاريخه حافلة بالمآسي والمعاصي لكتاب الله وسنة رسوله، ويكفي الباحث أن يقرأ تاريخه وما فعله في اليمامة أيام أبي بكر، وغدره بمالك بن نويره وقومه وكيف قتلهم صبراً وهم مسلمون ودخل بزوجة مالك ونكحها في ليلتها ولم يراع في ذلك شرع الإسلام ولا مروءة العرب.
حتى أن عمر بن الخطاب مع تساهله في الأحكام إلا أنه شنع عليه وسماه عدو الله وتوعده بالرجم.
____________
(1) أخرج اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 61 أن عبد الرحمان بن عوف قال: والله لقد قتل خالد القوم وهم مسلمون، فقال خالد: إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف، فقال له عبد الرحمان: ما قتلت بأبي ولكنك قتلت بعمك الفاكه بن المغيرة.
أنظر رعاك الله: إن خالداً لم ينكر قتله للقوم وهم مسلمون بل اعترف بأنه قتلهم بعوف والد عبد الرحمان فهل يحق في دين الله أن يقتل قوم برجل واحد وهل يجوز قتل المسلمين برجل كافر.
وعلى الباحثين أن يراجعوا التاريخ بعين البصيرة ومن وجهة النقد البناء الذي يوصلهم إلى الحقيقة بكل تجرد وحياد ولا تأخذهم العصبية المذهبية فيقوموا الأشخاص من خلال الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن «أهل السنة والجماعة» وهم بنو أمية في الواقع يمسحون الأحداث التاريخية بحديث واحد يضعونه من عندهم ليقطعوا به الطريق على الباحثين فلا يصلون إلى الحقيقة.
وما أسهل أن يقول أحدهم: قال رسول الله لخالد بن الوليد: «مرحباً بسيف الله»: فيأخذ هذا الحديث المكذوب مأخذه من نفوس المسلمين الأبرياء الذين يحسنون الظن ولا يعرفون خفايا الأمور ودسائس الأمويين، فيتأولون بعد هذا الحديث الموضوع كل ما يقال في خالد من حقائق ويلتمسون لها أعذاراً.
وهذا ما يسمى بالتأثير النفسي على الأشخاص وهو الداء العضال الذي يحجب الإنسان عن الحق ويقلب الواقع تماماً.
خذ لذلك مثلاً، أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل إنه مات على الكفر وإن النبي قال فيه: أبو طالب في ضحضاح من نار يغلي منها دماغه.
ومن أجل هذا الحديث المكذوب يعتقد «أهل السنة والجماعة» بأن أبا طالب مشرك وهو في النار ولا يتقبلون بعد ذلك التحليل العقلي الذي يوصلهم إلى الحقيقة وبهذا الحديث تنسف كل حياة أبي طالب وجهاده في سبيل الإسلام من أجل دعوة ابن أخيه حتى عافاه قومه وعاداهم إلى أن رضي بالحصار في شعب مكة لمدة ثلاث سنين مع ابن أخيه يأكل خلالها أوراق الشجر، وتنسف كل مواقفه البطولية واشعاره العقائدية في نصرة دعوة النبي، وكذلك يعفى كل ما فعله النبي في حق عمه وكيف غسله وكفنه في قميصه ونزل في قبره وسمى ذلك العام بعام الحزن وقال: والله ما نالت مني قريش إلا بعد موت أبي طالب، وإن الله أوحى إلي أن أخرج منها فقد مات ناصرك، فهاجر من مكة في يومه.
وخذ لذلك مثلاً أبا سفيان بن حرب والد معاوية، قيل إنه أسلم بعد فتح مكة وقال النبي فيه: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
ومن أجل هذا الحديث الذي ليس فيه فضل ولا فضيلة يعتقد «أهل النسة
ولا يتقبلون بعد ذلك التحليل العقلي الذي يوصلهم إلى الحقيقة، وبهذا الحديث أيضاً يعفى كل ما فعله أبو سفيان تجاه صاحب الرسالة ودعوته، وتنسى كل الحروب التي قادها ومولها للقضاء على محمد، وينسى حقده وبغضه للنبي حتى أنه لما جاؤوا به وقالوا له أسلم وإلا ضربنا عنقك قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقالوا: قل: أشهد أن محمدا رسول الله فقال: أما هذه ففي نفسي شيء منها.
وكان إذا اجتمع بالنبي بعد استسلامه يقول في نفسه: بأي شيء غلبني هذا ؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالله عليك يا أبا سفيان.
فهذان مثلان ضربتهما من واقعنا الإسلامي حتى يتبين للباحثين مفعول التأثير النفسي على الناس وكيف يحجبهم عن الحق، ومن هذا نفهم بأن «أهل السنة والجماعة» غلفوا الصحابة بهالة من الأحاديث المكذوبة أكسبتهم حصانة وقدامة في نفوس الغافلين فلم يعودوا يتقبلون فيهم نقد الناقدين ولومة اللائمين.
وإذا اعتقد المسلم بأن هؤلاء بشرهم رسو الله بالجنة فلا يتقبل بعد ذلك فيهم أي قول وكل ما فعلوه يهون ويلتمس لهم فيه أعذار أو تأويلات هذا إذا لم يغلق الباب من أوله.
ولذلك وضعوا لكل واحد من كبرائهم لقباً نسبوه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهذا صديق وهذا فاروق وهذا ذو النورين، وهناك حب رسول الله وهناك حواري رسول الله وهناك حبيبه رسول الله، وهناك أمين الأمة وهناك راوية الإسلام، وهناك كاتب الوحي، وهناك صاحب النعلين، وحجام الرسول وسيف الله المسلول، وغير ذلك.
وكلها في الحقيقة لا تسمن ولا تغني من جوع في ميزان الحق عند الله إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنما الذي ينفع عند الله ويضر هو الإعمال.
والتاريخ هو خير شاهد على الأعمال وبها نقيم شخصية الإنسان وقيمته ولا نقيم الإنسان مما يقال فيه كذباً وبهتاناً.
وهي بالضبط مقولة الإمام علي: إعرف الحق تعرف أهله. وبما أننا درسنا التاريخ وعرفنا ما فعله خالد بن الوليد وعرفنا الحق من الباطل فلا يمكن لنا أن نسميه سيف الله، ويحق لنا أن نسأل متى لقبه رسول الله بذلك، هل سماه سيف الله عندما قتل أهل مكة يوم الفتح وقد عرفنا بأنه صلى الله عليه وآله وسلم نهاه عن القتال ؟ أم عندما بعثه مع سرية زيد بن حارثة إلى مؤتة وقال: إذا قتل زيد، فجعفر بن أبي طالب وإذا قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، ولم يعينه حتى في المرتبة الرابعة لقيادة الجيش، وبعد مقتل الثلاثة لاذ خالد بالفرار من المعركة بمن بقي من الجيش ؟
أم لقبه بسيف الله عندما خرج معه إلى غزوة حنين صحبة اثني عشر ألف مقاتل فأعطى بالأدبار وولى هارباً تاركاً رسول الله في المعركة ومعه اثنا عشر رجلاً ؟
وإذا كان الله يقول: «ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاص إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئيس المصير» (الأنفال: 16).
فكيف يسمح لسيفه بالهروب ؟ إنه حق أمر عجيب !
وأنا أعتقد أن خالداً لم يكن يعرف هذا اللقب في حياة النبي أصلاً ولم يقله رسول اله أبداً، وغاية ما هناك أن أبا بكر هو الذي أعطى لخالد هذا الوسام عندما بعثه لإسكات الثائرين عليه من أجل الخلافة وفعل بهم ما فعل ونقم عليه عمر بن الخطاب وقال لأبي بكر: «إن سيف خالد لرهقاً» وهو أعرف الناس به وأقربهم إليه، عند ذلك قال أبو بكر لعمر: إن خالداً سيف من سيوف الله سله على أعدائه، إنه تأول فأخطأ، (ومن هنا جاء هذا اللقب).
وأخرج الطبري في الرياض النضرة أنه كان في بني سليم ردة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحضائر وأضرم عليهم النار فأحرقهم، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: تدع رجلاً يعذب بعذاب الله عز وجل ؟
فقال أبو بكر: والله لا أشم سفاً سله الله على عدوه حتى يكون هو الذي يشيمه، ثم أمره فمضى من وجهه إلى مسيلمة(1) .
ومن هنا سمى «أهل السنة والجماعة» خالداً بـ «سيف الله المسلول» ولو أن خالداً عصى أمر الرسول وحرق الناس بالنار ضارباً بالسنة عرض الجدار.
فقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن النار لا يعذب بها إلا الله»، وقوله أيضاً: «لا يعذب بالنار إلا ربها»(2) .
وقد قدمنا أن أبا بكر كان يقول قبل موته: يا ليتني لم أحرق الفجاءة السلمي !
ونحن نقول يا ليت سائلاً يسأل عمر بن الخطاب ويقول له: إذا كنت تعرف أنه لا يعذب بالنار إلا الله، فلماذا أقسمت غداة وفاة الرسول لتحرقن بيت الزهراء بمن فيها أو يخرجوا للبيعة ؟ ولولا تليم علي وأمره الجماعة بالخروج للبيعة لنفذت فيم مرادك.
وإن الشك يداخلني بعض الأوقات فأستبعد أن يكون عمر يعارض أبا بكر فلا يلتفت إليه وإلى معارضته، فهذا غريب. وقد رأينا أبا بكر لا يقف بوجه عمر ولا يثبت أمام معارضته حتى قال له غير مرة: لقد قلت لك بأنك أقوى مني على هذا الأمر فغلبتني ومرة أخرى لما اشتكى إليه المؤلفة قلوبهم فعل عمر بالكتاب الذي كتبه إليهم وأنه بصق فيه ومزقه، وسألوه: أأنت الخليفة أم عمر ؟ فقاتل: بل هو إن شاء الله.
ولذلك أقول: لعل المعارض له في أفعال خالد البشعة هو علي بن أبي طالب، ولكن المؤرخين الأولين كانوا كثيراً ما يتحاشون ذكر اسمه فأبدلوه بعمر، كما وردت بعض الروايات المسندة إلى أبي زينب أو إلى رجل ويقصدون به علياً ولا يصرحون بذلك.
وليس هذا إلا مجرد احتمال، أو أننا نقبل قول بعض المؤرخين بأن عمر بن
____________
(1) الرياض النضرة للطبري ج 1 ص 100.
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 325.
والمهم أ، عمر عزل خالداً يوم تولى الخلافة ولكن لم يقم عليه الحد بالرجم كما وعده بذلك.
وبالنتيجة إن خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب كانا مترادفين في الشدة والغطرسة كل منهما غظ غليظ القلب عمل كل منهما على مخالفة السنة النبوية وعصيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد وفاته، كما كان كل منهما يبغض وصي النبي ويعمل على إبعاده، وقد تآمر خالد مع عمر وأبي بكر على أغتيال علي عقيب وفاة النبي(1) ولكن الله سبحانه وتعالى نجاه منهم ليقضي أمراً كان مفعولاً.
ومرة أخرى يتضح لنا بعد دراسة لشخصية خالد بن الوليد الذي يتغنى به «أهل السنة والجماعة» بأنهم أكثر بعداً عن السنة النبوية وهم يقتدون بمن خالفها ونبذها وراء ظهره ولم يراع لها ولا لكتاب الله حرمة ولا احتراماً.
10 ـ أبو هريرة الدوسي:
هو من الصحابة المتأخرين عن الإسلام وعلى حسب ترتيب الطباقت لابن سعد فهو يعد من الطبقة التاسعة أو العاشرة.
قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر السنة السابعة للهجرة وبذلك يقول المؤرخون بأن صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تتجاوز ثلاث سنين(2) على أكثر تقدير ومنهم من ينزل بتلك الصحبة إلى أقل من سنتين باعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه مع ابن الحضرمي إلى البحرين فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالبحرين.
ولم يكن أبو هريرة من الذين عرفوا بجهاد أو شجاعة ولا من أولئك الداهة المفكرين ولا من الفقهاء الحافظين ولم يكن يعرف القراءة والكتابة، وقدم على
____________
(1) يراجع في ذلك كتاب الاحتجاج للطبرسي.
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 175 في ما رواه أبو هريرة عن نفسه باب علامات النبوة.
ولكنه اشتهر بكثرة الأحاديث التي يرويها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبلغت مروياته ما يقرب من ستة آلاف حديث، وهذا ما ألفت نظر المحققين إليه ولأنه مع قلة الصحبة روى أحاديث ووقائع لم يحرضها أبداً.
وجمع بعض المحققين مجموع مرويات الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين وأمهات المؤمنين وأهل البيت الطاهرين. فلم تبلغ كلها عشر معشار ما رواه أبو هريرة بمفرده، (مع العلم بأن من هؤلاء علي بن أبي طالب الذي صاحب النبي ثلاثين عاماً).
ومن ثم توجهت إلى أبي هريرة أصابع الأتهام ووصفته بالكذب والوضع والتدليس وقالوا بأنه أول راوية أتهم في الإسلام.
ولكن «أهل السنة والجماعة» يلقبونه بـ «راوية الإسلام» ويحترمونه كثيراً ويحتجون به ولعل البعض منهم يعتقد بأنه أعلم من علي وذلك لحديث يرويه هو عن نفسه قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه قال: أبسط رداءك فبسطته قال فغرف بيديه ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت شياً بعدها(1) .
وأكثر أبو هريرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ضربه عمر بن الخطاب بالدرة وقال له: قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله. وذلك لرواية رواها أن الله غلق السماوات والأرض والخق فعد سبعة أيام، فلما سمع بذلك عمر دعاه وطلب منه إعادة الحديث فلما أعاده ضربه عمر وقال: يقول الله في ستة أيام وأنت تقول في سبعة ؟ فقال أبو هريرة: علني سمعته من كعب الأحبار، فقال عمر: ما دمت لا تفرق بين أحاديث النبي وكعب الأحبار فلا تحدث(2) .
____________
(1) صحيح البخاري ج 1 ص 38 من كتاب العلم باب حفظ العلم وكذلك ج 3 ص 2.
(2) انظر كتاب أبي هريرة لمحمود أبو ربه المصري.
كما يروي أن الإمام علي بن أبي طالب قال: ألا إن أكذب الأحياء على رسول الله أبو هريرة الدوسي(1) .
كما أن عائشة أم المؤمنين كذبته عدة مرات في عدة أحاديث كان يرويها عن رسول الله، فأنكرت عليه مرة وقالت له: مى سمعت رسول الله يقول ذلك ؟
فقال لها: لقد شغلك عن حديث رسول الله (ص9 المرآة والمكحلة والخضاب، ولما أصرت على تكذيبه وشهرت به، وتدخل مروان بن الحكم وتثبت من صحة الحديث اعترف عند ذلك أبو هريرة وقال: إني لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما سمعته من الفضل بن العباس(2) .
وفي هذه الرواية بالخصوص اتهمه ابن قتيبة وقال فيه: لقد استشهد أبو هريرة بالفضل بن العباس بعد موته، ونسب الحديث إليه ليوهم الناس بأنه سمعه منه(3) .
كما قال ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث»: «كان أبو هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، وإنما سمعته من غيره».
كما أن الذهبي أخرج في كتابه «أعلام النبلاء» بأن يزيد بن إبراهيم سمع شعبة بن الحجاج يقول: كان أبو هريرة مدلساً.
وجاء في كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير أن يزيد بن هارون سمع شعبة يقول فيه ذلك أيضاً يعني كان مدلساً، وكان يروي ما سمعه من كعب الأحبار ومن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يميز ين هذا وهذا.
كما أن أبا جعفر الإسكافي قال: أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية(4) .
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 28.
(2) صحيح البخاري ج 2 ص 232 باب الصائم يصبح جنبا وموطأ مالك ج 3 ص 272.
(3) سر أعلام النبلاء للذهبي.
(4) شرح ابن ابي الحديد المعتزلي ج 4 ص 68.
وقد اشتهر أبو هريرة في حياته من بين الصحابة بالكذب والتدليس والإكثار من الأحاديث الموضوعة حتى أن بعضهم كان يستهزئ به ويطلب منه وضع الأحاديث لما يريد.
فقد روي أن رجلاً من قريش لبس جبة جديدة وأخذ يتبختر فيها ومر بأبي هريرة فقال له: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً ؟
فقال أبو هريرة: سمعت أبا القاسم يقول: إن رجلاً ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حلته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة، فو الله ما أدري لعله كان من قومك ورهطك(1) .
وكيف لا يشك الناس في روايات أبي هريرة إذا كانت متناقضة، فقد يروي حديثا ثم يروي نقيضه وإذا عارضوه واحتجوا عليه بما رواه سابقاً، يعرض عنهم أو يرطن بالحبشية(2) .
وكيف لا يتهمونه بالكذب والوضع وقد شهد هو على نفسه بأنه يحدث من جعبته وينسبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أخرج البخاري في صحيحه أن أبا هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة أما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني، فقالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ !
فقال: لا هذا من كيس أبي هريرة(3) .
أنظر كيف يبدأ الحديث بقوله: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعد ذلك عندما ينكرون عليه ويستفهمونه، يعترف بوضعه ويقول هو من كيس أبي هريرة !
____________
(1) البداية والنهاية ج 8 ص 108. (2) صحيح البخاري ج 7 ص 31 باب لا هامة. (3) صحيح البخاري ج 6 ص 190 باب وجوب النفقة على الأهل والعيال.
فهنيئاً لأبي هريرة بهذا الكيس المليء بالأكاذيب والأساطير والذي وجد له رواجاً عند معاوية وبني أمية واكتسب من ورائه الجاه والسلطان والأموال والقصور فقد ولاه معاوية ولاية المدينة المنورة وبنى له قصر العقيق وزوجه من المرأة الشريفة التي كان أبو هريرة يخدمها.
وإذا كان أبو هريرة وزير معاوية المغرب فليس ذلك لفضله ولا لشرفه أو علمه ولكنه كان يحد عنده الأحاديث التي يريدها ويرويها وإذا كان بعض الصحابة يتلكأون في لعن أبي تراب ويجدون في ذلك حرجاً، فإن أبا هريرة لعن علياً في عقر داره وعلى مسمع من شيعته.
روى أبن ابي الحديد قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته وقال: يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على رسول الله وأحرق نفسي بالنار، والله لقد سمعت رسول الله يقول: إن لكل نبي حرماً وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد أن عليا قد أحدث فيها.
فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه المدينة(1) .
ويكفينا دليلاً أنه كان والياً على المدينة من قبل معاوية، ولا شك في أن المحققين والباحثين الأحرار سيشكون في كل من تولى عدو الله ورسوله وعادى ولي الله ورسوله.
ولا شك في أن أبا هريرة لم يصل إلى ذلك المنصب الرفيع وهو ولاية المدينة عاصمة الإسلام، إلا للخدمات التي أسداها لمعاوية وحكام بني أمية، وسبحان مقلب الأحوال فقد جاء أبو هريرة إلى المدينة عرياناً ليس له إلا نمرة يستر بها عورته ويستدى المارة ليسدوا رمقه والفعل يجري فوق جلده.
وإذا به فجأة يصبح والي المدينة المنورة يسكن قصر العقيق وعنده الأموال والخدم والعبيد ولا يتكلم الناس إلا بإذنه.
كل ذلك من بركات كيسه، فلا تنس ولا تتعجب فإنك ترى اليوم نفس المسرحيات تتكرر والتاريخ يعيد نفسه فكم من معدم جاهل تقرب إلى الحاكم وانخرط في الحزب فأصبح سيداً مهاباً يقيم الدنيا ويقعدها، يصول ويجول وتحت تصرفه الأموال التي لا تخضع للحساب والسيارات التي لا تخضع للرقابة والمأكولات التي لا تباع في الأسواق ومع كل ذلك فهو لا يحسن الكلام حتى بلغته ولا يفهم من معاني الحياة غير بطنه وفرجه غاية ما هنالك أن له كيساً مثل كيس أبي هريرة مع وجود الفارق طبعاً، ولكن الهدف واحد هو إرضاء الحاكم والترويج له لدعم ملكه وتثبيت عرشه والقضاء على أعدائه.
وقد كان أبو هريرة يحب الأمويين ويحبونه من زمن عثمان بن عفان زعيمهم، فكان رأيه في عثمان مخالف لكل الصحابة من المهاجرين والأنصار، فهو يكفر الصحابة الذين شاركوا في قتل عثمان وألبوا عليه.
ولا شك بأنه كان يتهم علي بن أبي طالب بقتل عثمان، ونفهم ذلك من حينه في مسجد الكوفة وقوله بأن علياً أجدث في المدينة ويلعنه على لسان النبي والملائكة والناس أجمعين.
ولذلك ينقل ابن سعد في طبقاته أنه لما مات أبو هريرة سنة 59 كان ولد عثمان بن عفان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع حفظاً بما كان من رأيه في عثمان(2) .
وإن لله في خلقه شؤوناً، إذ يموت عثمان بن عفان سيد قريش وعظيمها مقتولاً ويذبح بذبح النعاج وهو خليفة المسلمين الذي لقبوه بذي النورين والذي تستحي منه الملائكة كما يزعمون، ولا يغسل ولا يكفن ويعطل دفنه ثلاثة أيام ثم يدفن في مقرة اليهود.
ويموت أبو هريرة الدوسي في العز والجاه وقد كان معدما ولا يعرف أحد قومه ولا عشيرته وليس له في قريش قرابة، فيحمله أولاد الخليفة الذين أصبحوا في عهد معاوية ولاة الأمور ويدفنونه في بقيع رسول الله !
وهلم بنا الآن إلى أبي هريرة لنعرف موقفه من السنة النبوية.
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 67.
(2) طبقات ابن سعد ج 2 ص 63.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم(1) .
وإذا قلنا في الأبحاث السابقة أن أبا بكر وعمر قد أحرقا السنة النبوية المكنونة ومنعا المتحدثين من نقلها، فها هو أبو هريرة يفصح بهذا الحديث عن المكنون ويؤكد ما ذهبنا إليه، ويعترف بأنه ما كان يحدث إلا بما يروق الخلفاء الحاكمين.
وعلى هذا الأساس فإن أبا هريرة كان يملك كيسين أو وعاءين أحدهما كان يبثه وهو الذي تحدثنا عنه وفيه ما يشتيهيه الحاكمون.
وأما الوعاء الثاني الذي كتمه أبو هريرة ولم يحدث به خوفاً من أن يقطع بلعومه فهو الذي يحوي الأحاديث الصحيحة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو كان أبو هريرة ثقة ما كان ليكتم الأحاديث الحقيقية ويبث الأوهام والأكاذيب لتأييد الظالمين، وهو يعلم بأن الله لعن من يكتم البينات.
فقد أخرج له البخاري قوله: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حدياً، ثم تلو: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنم اللاعنون ن وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلوم النبي يشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون(2)
فكيف يقول أبو هريرة: لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يقول هنا حفظت عن رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الوعاء الثاني لو بثثته قطع هذا البلعوم ! وهل هذه إلا شهادة منه بأنه كتم الحق رغم الآيتين في كتاب الله ؟ !
____________
(1) صحيح البخاري ج 1 ص 38 باب حفظ العلم.
(2) صيحيح البخاري ج 1 ص 37 باب حفظ العلم.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم(1) وقال: رب مبلغ أوعى من سامع. وأخرج البخاري أن النبي حرض وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا به من وراءهم(1) .
فهل لنا أن نتساءل وهل للباحثين أن يتساءلوا لماذا قتل الصحابي عندما يتحدث بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقطع منه البلعوم ؟ !
فلابد أن هناك سراً لا يحب الخلفاء إفشاءه وقد أشرنا إلى ذلك السر في الأبحاث السابقة من كتاب «فاسألوا أهل الذكر» ونوجز هنا بأنه يتعلق بالنص على خلافة علي.
وليس اللوم على أبي هريرة فقد عرف قدره وشهد على نفسه بأن الله لعنه ولعنه اللاعنون إذ كتم حديث النبي.
ولكن اللوم على «أهل السنة والجماعة» الذي يجعلون من أبي هريرة راوية السنة، وهو يشهد بأنه كتمها ويشهد بأنه دلسها وكذب عليها ويشهد أيضاً بأنها اختلطت عليه فلم يعرف حديث النبي من حديث غيره.
وهذا كله من أحاديث واعترافات صحيحة جاءت في صحيح البخاري وغيره من صحاح «أهل السنة والجماعة».
كيف يطمئنون لرجل طعن في عدالته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأتهمه بالكذب فقال: إنه أكذب الأحياء على النبي، واتهمه عمر بن الخطاب وضربه وهدده بالنفي، كما طعنت فيه عائشة وكذبته عدة مرات، وطعن فيه كثير من الصحابة وردوا أحاديثه المتناقضة فكان يعترف مرة ويرطن بالحبشية أخرى وطعن فيه كثير من علماء الإسلام واتهموه بالكذب والتدليس والتكالب على موائد معاوية وذهبه وفضته.
فكيف يصح بعد كل هذا أن يصبح أبو هريرة راوية الإسلام ويأخذون عنه أحكام الدين ؟
وقد أكد بعض العلماء المحققين بأن أبا هريرة هو الذي أدخل في الإسلام
____________
(1) صحيح البخاري ج 1 ص 30.
فهل يتوب «أهل السنة والجماعة» إلى رشدهم ليعرفوا عمن يأخذون السنة الحقيقية وإذا ما سألوا فنقول لهم: تعالوا إلى باب مدينة العلم والأئمة من بنيه فهم حفظة السنة وهم أمان الأمة وهم سفينة النجاة وهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وهم العروة الوثقى وحبل الله المتين.
11 ـ عبد الله بن عمر:
هو من مشاهير الصحابة الذين كان لهم دور كبير في سير الأحداث التي وقعت في زمن الخلفاء الثلاثة وفي عهد بني أمية، ويكفي أن أباه عمر بن الخطاب ليكون عند «أهل السنة والجماعة» معظماً ومحبوباً، فهم يعدونه من أكبر الفقهاء ومن حفاظ «الأحاديث النبوية»، حتى أن الإمام مالكاً اعتمد عليه في أكثر أحكامه، كما أنه أشبع كتاب الموطأ من أحاديثه.
وإذا تصفحنا كتب «أهل السنة والجماعة» وجدناها حافلة بذكره والثناء عليه.
غير أننا عندما نقرأ ذلك بعين الباحث البصير يتبين لنا بأنه كان بعيداً عن العدالة وعن الصدق وعن السنة النبوية وعن الفقه وعلوم الشريعة.
وأول ما يلفت انتباهنا هو عداؤه الشديد وبغضه لسيد العترة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وصل به إلى حد الوقيعة فيه واعتباره من سوقة الناس.
وقد قدمنا فيما سبق بأنه روج أحاديث مكذوبة مفادها أنهم كانوا يفاضلون على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى مسمع منه بأن أفضل الناس أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم الناس بعد ذلك سواء، فسمع ذلك النبي ولا ينكره(1) .
____________
(1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم.
وهو كما ترى كذب مفضوح يضحك منه العقلاء وقد بحثنا عن حياة عبد الله بن عمر في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدناه شابا صغيراً لم يبلغ الحلم ولم يكن له مع أهل الحل والعقد شأن يذكر ولا رأي يسمع، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن عمر في التاسعة عشر من عمره على أحسن التقادير.
فكيف يقول والحال هذه: كنا نفاضل في عهد النبي ؟ اللهم إلا إذا كان ذلك حديث الصبيان فيما بينهم من أولاد أبي بكر وعثمان وإخوته هو، ومع ذلك فلا يصح أن يقال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع ذلك فلا ينكره ! فدل ذلك على كذب الحديث وسوء النوايا.
أضف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن لعبد الله بن عمر بالخروج معه إلا في غزوة الخندق وما بعدها من الغزوات إذ بلغ عمره خمسة عشر عاماً(1) .
فلا شك أنه حضر غزوة خيبر التي وقعت في السنة السابعة للهجرة النبوية، ورأى بعينيه هزيمة أبي بكر وكذلك هزيمة أبيه عمر، وسمع بلا شك قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: «لأعطين الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا ليس فرارا امتحن الله قلبه للإيمان» ولما أصبح أعطاها لقاطع اللذات ومفرق الجماعات ومفرج الكربات وصاحب الكرامات أسد الله الغالب علي بن أبي طالب(2) .
وقد أبان حديث الراية هذا فضل علي وفضائله على سائر الصحابة وعلو مقامه عند الله ورسوله وفوزه بمحبة الله ورسوله. ولكن بغض عبد الله بن عمر شاء أن يجعل علياً من سوقة الناس !
وقد قدمنا بأن «أهل السنة والجماعة» عملوا بهذا الحديث الذي أوحاه إليهم سيدهم عبد الله بن عمر، فلم يعدوا علي بن أبي طالب ضمن الخلفاء الراشدين، كلا ولم يعترفوا بخلافته إلا في زمن أحمد بن حنبل كما أثبتناه، عندنا افتضحوا في عهد كثر فيه الحديث المحدثون، وبدأت أصابع الأتهام تتوجه
____________
(1) صحيح اليخاري كتاب الشهادات باب بلوغ الصبيان ج 3 ص 158. وكذلك صحيح مسلم كتاب الإمارة باب سن البلوغ.
(2) ذكر حديث الراية كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والإمام أحمد وأبو داود وكل المحدثين.