1 ـ المنع من رواية الحديث:

وقد حثّ عليها النبيّ كثيراً، وأوصى بها، وأمر بها:

«نضّر اللهُ امرءاً سمع مقالتي فبلّغها، فرُبّ حامل فقه غير فقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(1) .

«الناسُ لكم تَبَع، وسيأتيكم أقوام من أقطار الاَرض يتفقّهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً، وعلّموهم ممّا علّمكم الله»(2) .

«يوشَك الرجل متّكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه!! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله»(3) .

2 ـ المنع من تدوين الحديث:

وقد أباحه النبيّ لاَصحابه:

حين كان عبـدالله بن عمرو بن العاص يكتب حديث النبيّ، فقالت له قريش: أتكتب عن رسول الله كلّ ما تسمع؟! وإنّما هو بشر! يغضب

____________

(1) سنن ابن ماجة 1 ح 230 ـ 236، سنن الترمذي 5 ح 2657 و 2658، سلسلة الاحاديث الصحيحة: ح 1721، وقد أحصى له بسيوني زغلول في موسوعة أطراف الحديث 47 طريقاً.

(2) انظر: كنز العمّال 10 ح 29533 ـ 29535.

(3) سنن ابن ماجة 1 ح 12 و 13 و 21، وقد تقدّم مع مزيد من التوثيق ص 138.


الصفحة 32
كما يغضب البشر!! فذكر ذلك للنبيّ، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشير إلى شفتيه الشريفتين: «أُكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج ممّا بينهما إلاّ حقّ»(1) .

وشكا إليه صحابي كان يسمع الحديث فلا يحفظه، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «استعن بيمينك» وأشار بيده إلى الخطّ(2) .

وكما في كتبه الكثيرة في المدينة وإلى عمّاله، وهي مشحونة بالسنن.

* ولقد أمر بكتابة الحديث أيضاً، فقال: «قيّدوا العِلم بالكتاب»(3) .

وقال: «اكتبوا لاَبي شاة» وقد طلب أبو شاة أن يكتب له خطبته صلى الله عليه وآله وسلم بمنى(4) .

وقال: «إيتوني بكتاب، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»(5) .

وكثير غير هذا، وقد تقدّم بحثه آنفاً، فهل يصحّ أن يقال إنّ المنع من رواية الحديث وتدوينه إنّما كان لمصلحة الدين والاَُمّة؟!

3 ـ سهم ذوي القربى من الخمس:

وقد نزل به القرآن، وأعطاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لبني هاشم وبني المطّلب، فمنعه أبو بكر وعمر! ونقلاه عن موضعه إلى موضع آخر في بيت المال باجتهاد رأياه، وربّما منح عثمان بعضه لبعض قرباه من بني أُميّة، مع أنّ عثمان هو الذي كان قد سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لِمَ لَمْ يعطهم ـ أي بني أُميّة ـ

____________

(1) مسند أحمد 2/207، وصحّحه الحاكم والذهبي/ المستدرك 1/104 ـ 105.

(2) سنن الترمذي 5 ح 2666، تقييد العلم: 66 ـ 68.

(3) المستدرك 1/106، تقييد العلم: 69 و 70، المحدّث الفاصل: 365 ح 318.

(4) صحيح البخاري ـ كتاب العلم ـ باب 39 ح 112، سنن الترمذي 5 ح 2667.

(5) هذا نصّ البخاري في كتاب العلم ح 114.


الصفحة 33
شيئاً مع قرابتهم، فيما أعطى بني المطّلب مع بني هاشم؟!

فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد»(1) .

ثمّ استقرّ رأي أبي بكر وعمر عند فقهاء المذاهب: أبي حنيفة ومالك وأحمد، وخالفهم الشافعي والطبري فأثبتا حقّ قربى الرسول فيه(2) .

4 ـ سهم المؤلّفة قلوبهم:

نزل به القرآن، وعمل به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمنع منه عمر في مطلع خلافة أبي بكر، فوافقه أبو بكر! فتُرِك هذا الباب لا يُنظَر إليه!

وأغرب ما في هذا الباب دعوى الاِجماع، لسكوت الصحابة وعدم مخالفة أحدهم! ناسين أنّ هذا الاَمر لم يُرفع إلى الصحابة ليُنظَر ما يقولون، ولا خرج مخرجاً يوحي بوجود مطمع في تعديله أو مناقشته، وإنّما صدر أمراً سلطانياً لا ترديد فيه: جاء نفر من مؤلَّفة المسلمين إلى أبي بكر يطلبون سهمهم، فكتب لهم به، فذهبوا إلى عمر ليعطيهم وأروه كتاب أبي بكر، فأبى ومزّق الكتاب، فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟! فقال: بل هو، إن شاء!!

فأيّ محلّ الآن لمراجعة صحابي ومعارضته؟! وكيف يسمّى مثل هذا إجماعاً؟!(3) .

____________

(1) صحيح البخاري/3 كتاب الخمس ـ باب 17 ح 2971، سنن النسائي/3 كتاب الخمس ح 4438 و 4439.

(2) انظر: د. أحمد الحصري/ السياسة الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الاِسلامي: 195 ـ 203.

(3) انظر: تفسير المنار 10/496.


الصفحة 34
أمّا دعوى أنّ عثمان وعليّـاً لم يعطيا أحداً من هذا الصنف، فقد أُجيب عنها، بأنّها «لا تدلّ على ما ذهبوا إليه من سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم، فقد يكون ذلك لعدم وجود الحاجة إلى أحد يتألّفوه آنذاك، وهذا لا ينافي ثبوته لمن احتاج إليه من الاَئمّة، على أنّ العمدة في الاستدلال هو الكتاب والسُـنّة، فهما المرجع الذي لا يجوز العدول عنه بحال»(1) .

وفسّر بعضهم رأي عمر بأنّه اجتهاد منه، إذ رأى أنّه ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء بعد أن ثبت الاِسلام في أقوامهم، وأنّه لا ضرر يخشى من ارتدادهم عن الاِسلام.

وعلى هذا فلا يعدّ سهم المؤلّفة قلوبهم ساقطاً ليقال بمعارضة الكتاب والسُـنّة، وإنّما توقّف العمل به لانتفاء موضوعه، وإذا ما وجدت الحاجة إليه عاد للظهور في أيّ زمان ومكان.

وبهذا قال بعض فقهاء الجمهور(2) ، وهو جيّد حين يكون تقدير الموضوع دقيقاً وحكيماً، فيكون حكمه حكم سهم (الرقاب) المخصّص لتحرير الرقيق، حين يمرّ على المسلمين عهد ليس فيهم رقيق يُطلب عتقهم، فسوف يتوقّف العمل بهذا السهم ولكن من غير أن يكون ذلك ناسخاً للحكم.

لكنّ السؤال ما زال قائماً: هل كانت علّة هذا الحكم هي ضعف الاِسلام وحاجته إلى قوّة هؤلاء، لا غير، لينتفي عند انتفاء علّته؟!

قال بعض فقهاء الجمهور: إنّ المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في

____________

(1) سيّد سابق/ فقه السُـنّة 1/343.

(2) الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الاِسلامي وأدلّته 2/872، محمّـد رشيد رضا/ المنار 10/496 و 497.


الصفحة 35
الاِسلام لاَجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لاِعانتهم لنا حتّى يسقط بفُشُوّ الاِسلام(1) .

وقال محمّـد رشيد رضا: «إنّنا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردّهم عن دينهم، يخصّصون من أموال دولهم سهماً للمؤلّفة قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلّفونه لاَجل تنصيره وإخراجه من حضيرة الاِسلام، ومنهم من يؤلّفونه لاَجل الدخول في حمايتهم ومشاقّة الدول الاِسلامية والوحدة الاِسلامية، ككثير من أُمراء جزيرة العرب وسلاطينها!!(2) أفليس المسلمون أَوْلى بهذا منهم؟!»(3) .

فليس الاَمر إذن منوط بعلّة واحدة استطاع عمر استنباطها بدقّة، فوقف الحكم عليها.

ولقد قسّم فقهاءُ الاِسلام المؤلّفة قلوبهم إلى أصناف عديدة، لا يكاد يخلو زمان من بعضها، ولا تشترك صفاتهم بالصفة التي اعتمدها عمر في اجتهاده، بل لكلّ صنفٍ صفته الخاصّة، ولقد كان تصنيفهم قائماً أساساً على اختلاف صفاتهم، حتّى جعلوهم سـتّة أصناف على هذا الاَساس(4) .

وأخيـراً، حتّى عند الرضا بما قيل في تصحيح اجتهاد عمر، فإنّ مثله لا يصلح جواباً عن اجتهاده وأبي بكر السابق في إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس وصرفه إلى أيّ جهة أُخرى، فإنّ الله تعالى الذي أنزل هذا

____________

(1) راجع: الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الاِسلامي وأدلّته 2/872.

(2) علامتا التعجّب منه.

(3) المنار 10/495.

(4) انظر الاَصناف السـتّة في: تفسير المنار 10/494 ـ 495، الفقه الاِسلامي وأدلّته 2/871 ـ 872.


الصفحة 36
النصّ أنزله على علم بمصالح عباده، وحكمة في وضع الاَشياء في مواضعها، علم وحكمة غنيّان عن استدراكات البشر، سواء كانوا حكّاماً أو لم يكونوا، بل كلّ استدراك من هذا القبيل فهو ردٌّ على الله تعالى، وليس تقديماً بين يديه وحسب!!

5 ـ متعة النساء ومتعة الحجّ:

قال عمر بن الخطّاب في خطبة له: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحـجّ»(1) …؟.

أمّا متعة النساء: فقد نزل بها القرآن: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورَهنّ)(2) .

وأخرج الطبري أنّ في قراءة أُبَيّ بن كعب وابن عبّاس: (فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجلٍ مسمّىً ـ فآتوهنّ أُجورَهنّ)(3) .

وأذِن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بها، قال عبـدالله بن مسعود: كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس لنا نساء، فقلنا، ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخَّص لنا أن ننكِح المرأةَ بالثوب إلى أجل. ثمّ قرأ عبـدالله: (يا أيّها الّذين آمنوا لا تُحرّموا طيّبات ما أحلَّ اللهُ لكم ولا تعتدوا إنّ

____________

(1) البيهقي/ السنن الكبرى 7/206، الجصّاص/ أحكام القرآن 1/342 و 345، ابن القيّم/ زاد المعاد 1/444، 2/205، الرازي/ التفسير (مفاتيح الغيب) 10/50، القرطبي/ التفسير (الجامع لاَحكام القرآن) 2/261.

(2) سورة النساء 4: 24.

(3) تفسير الطبري 5/12 ـ 13.


الصفحة 37
الله لا يحبّ المعتدين)(1) .

وجاء عنه من وجه آخر أنّه قال: «كنّا ونحن شباب، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصي؟...» الحديث؛ ولم يقل: كنّا نغزو!(2) .

وقال جابر بن عبـدالله الاَنصاري: «استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر»(3) .

وقال: «كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الاَيّامَ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو ابن حـريث»(4) .

وذكر البيهقي: أنّ ربيعة بن أُميّة استمتع بامرأة فحملت منه، فخرج عمر يجرّ رداءه فزعاً، فقال: هذه المتعة! ولو كنتُ تقدّمتُ فيها لرجمـتُ!(5) .

فهذه الاَخبار الصحيحة كلّها هي الموافقة لقول عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليها» وشاهدة على أنّ ما ورد في تحريمها مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يصحّ عنه.

وأمّا متعة الحجّ: فهي الاَُخرى نزل بها القرآن: (فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي)(6) وأمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حجّته الوحيدة بالمسلمين، المعروفة بحجّة الوداع(7) .

____________

(1) صحيح مسلم/ 3 ـ كتاب النكاح ـ باب 3 ح 11.

(2) صحيح مسلم/ 3 ـ كتاب النكاح ـ باب 3 ح 12.

(3 و 4) صحيح مسلم/ 3 ـ كتاب النكاح ـ باب 3 ح 15 و 16، ونحوهما ح 17.

(5) السنن الكبرى7 / 206.

(6) سورة البقرة 2: 196.

(7) انظر: صحيح البخاري / 2- كتاب الحجّ - باب 33 ح1486- 1494، وباب35 ح 1496