فقال: ويلكم! ألا تتّقون الله؟! إنْ كان عمر نهى عن ذلك فيُبتغى فيه الخير؟! فلِمَ تُحرّمون ذلك وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أفرسول الله أحقّ أن تتّبعوا سُـنّته، أم سُـنّة عمر؟!(1) .
* قال عروة بن الزبير لابن عبّاس: ألا تتّقي الله! تُرخّص في المتعة؟!
قال ابن عبّاس: سَلْ أُمّك يا عُرَيَّة!
فقال عروة: أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا.
قال ابن عبّاس: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله، نحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتُحدّثون عن أبي بكر وعمر!! أو قال: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقولون: قال أبو بكر وعمر!!(2) .
وقد أخرج مسلم نحو هذا النزاع بين ابن عبّاس وابن الزبير، فيدعو ابن عبّاس الحضورَ أن يسألوا أُمّ ابن الزبير، فيسألونها فتصُدِّق قوله.. ثمّ ذكر للحديث وجهين آخرين، في أحدهما ذكر «المتعة» ولم يقل متعة الحجّ، وفي الآخر يقول راويه: لا أدري متعة الحجّ أو متعة النساء؟(3) .
____________
(1) مسند أحمد 2/95، سنن الترمذي 3 ح 824، البداية والنهاية 5/59، تفسير القرطبي 2/258، جامع بيان العلم: 435 ح 2100 و 2101.
(2) مسند أحمد 1/337، جامع بيان العلم: ح 2095 و 2097 و 2099، رفع الملام ـ لابن تيميّة ـ: 27 ـ 28.
(3)صحيح مسلم/ 3 ـ كتاب الحجّ ـ باب 30 في متعة الحجّ ح 194 ـ 195 (1238).
وعلى قرار المنع منها ـ خلافاً للكتاب والسُـنّة ـ سار عثمان أيضاً(2) ، وتابعه معاوية في أيّامه(3) ، حتّى ظنّ الناس ـ وفيهم صحابة ـ أنّها السُـنّة! كالضحّاك بن قيس، وهو صاحب معاوية ويزيد ثمّ صاحب ابن الزبير بعدهما(4) ، فقد ذكر متعة الحجّ فقال: لا يصنع ذلك إلاّ مَن جهل أمر الله!
فقال له سعد بن أبي وقّاص: بئس ما قلت يا ابن أخي! قال: فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك!
قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنعناها معه(5) .
هكذا تصبح السنن في نظر هؤلاء حين يعتريها التغيير، وتتوالى عليها العهود!
* أمّا أصل هذا الموقف من متعة الحجّ فهو أقدم من عهد عمر، وإنّ له سرّاً خطيراً وقد كشف عنه البخاري ومسلم عن ابن عبّاس، قال: كانوا
____________
(1) صحيح البخاري/ 2 ـ كتاب الحجّ ـ باب 35 ح 1496، تفسير القرطبي 2/258 والنصّ منه.
(2) صحيح البخاري/ 2 ح 1488 و 1494.
(3) سنن الترمذي 3 ح 822.
(4) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 3/242 و 243.
(5) سنن الترمذي 3 ح 823، تفسير القرطبي 2/258.
فقدِم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم! فقالوا: يا رسول الله! أيّ الحِلّ؟! قال: «الحِلُّ كلّه»(3) .
وفي حديث البراء، قالوا: كيف نجعلها عمرة(4) وقد أحرمنا بالحجّ؟! فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «انظروا الذي آمركم به فافعلوه» فردّوا عليه القول، فغضب، ثمّ انطلق حتّى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: مَن أغضبك؟! أغضبه الله!
قال: «وما لي لا أغضب وأنا آمُر بالاَمر فلا أُتّبع؟!»(5) .
فهل يصحّ أن يقال: كان هذا الخلاف والردّ على الرسول اجتهاداً، ولاَجل المصلحة التي رآها هؤلاء الصحابة؟!
____________
(1) وهذا هو النسيء الذي كانوا يفعلونه، يؤخرّون المحرّم ويقدّمون مكانه صَفَراً ليحلّونه.
(2) يريدون: إذا شفيت ظهور الاِبل من «الدبر» الذي يصيبها من أثر الحمل ومشقّة السفر، وذلك بعد الانصراف من الحجّ، وعنذئذٍ يكون أثر سيرها قد ذهب وامّحى من الطرق لطول المدّة.
(3) صحيح البخاري /2 ـ كتاب الحجّ ـ باب 33 ح 1489، صحيح مسلم/ 3 ـ كتاب الحجّ ـ باب 31 ح 198 (1240).
(4) وفي لفظ البخاري عن جابر «متعة» بدل «عمرة». صحيح البخاري ح 1493.
(5) مسند أحمد 4/286، سنن ابن ماجة ح 2982، سير أعلام النبلاء 8/498 وقال الذهبي: هذا حديث صحيح من العوالي.
6 ـ صلاة المسافر:
صلّى عثمان وعائشة في السفر تماماً، ولم يُقصرا، فيما كان القرآن والسُـنّة بالقَصر.
أتمّها عثمان بمنى، وفعلها معه طوائف، وكان ابن عمر إذا صلّى معه أربع ركعات، انصرف إلى منزله فأعادها ركعتين!
وسئل عروة بن الزبير: لِمَ كانت عائشة تتمّ في السفر وقد علمتْ أنّ الله تعالى فرضها ركعتين؟!
فقال: تأوّلتْ من ذلك ما تأوّل عثمان من إتمام الصلاة بمنى!
واعتلّ عثمان بمنى فأتى عليٌّ، فقيل له: صلّ بالناس. فقال: إنْ شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. يعني ركعتين.
قالوا: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين! يعنون عثمان، فأبى(1) .
فيما كان ابن عمر يقول: «صلاة السفر ركعتان، من ترك السُـنّة فقد كفر» رفعه مرّة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروي مرّةً موقوفاً عليه(2) .
7 ـ وفي الطـلاق:
الذي نزل به القرآن: (الطلاق مرّتان) بينهما رجعة، فإنْ تراجعا بعد الطلاق الثاني ثمّ طلّقها ثالثاً (فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً
____________
(1) انظر ذلك كلّه في المحلّى 4/269 ـ 270. وفي المطبوع بعد كلمة «أبى» زادوا «عثمان» وليست من الاَصل! انظر هامش الصفحة المذكورة من «المحلّى».
(2) المحلّى 4/266 و 270.
ولقد كان هذا النوع الاَخير من الطلاق، والمعروف بالطلاق الثلاث في مجلس واحد، معدوداً طلاقاً واحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، حتّى قال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم»! فأمضاه عليهم(3) .
فهذا الذي أمضاه عمر، ومضى عليه أصحاب المذاهب الاَربعة، ولم يخالف فيه إلاّ نفر من فقهائهم (شذّوا في ذلك)! منهم ابن تيميّة وابن القيّم، ووافقهم بعض المتأخّرين، هذا الحكم سوف يترتّب عليه حكم آخر هو في غاية الخطورة والشناعة:
فالطلاق الثالث لا رجعة بعده حتّى تتزوّج المرأة رجلاً آخر، ويقع بينهما طلاق بائن، بخلاف الطلاق الاَوّل إذ لهما أن يتراجعا ما لم تنقضِ العدّة، فبحسب اجتهاد عمر أُعطي الطلاق ـ الذي كان أوّلاً بحكم القرآن والسُـنّة ـ حكم الطلاق الثالث، فمنع رجوع الزوجين، وأوجب نكاحاً جديداً!
وأغرب ما قاله المتأخّرون في تبرير هذا الاجتهاد، قول ابن القيّم بأنّ هذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان!!
____________
(1) سورة البقرة 2: 230.
(2) سنن النسائي ـ كتاب الطلاق ـ 3 باب 7 ح 5594، إرشاد الساري 8/128 ولفظه: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»، تفسير ابن كثير 1/278.
(3) صحيح مسلم ـ كتاب الطلاق ـ باب طلاق الثلاث ح 1472، مسند أحمد 1/ 314، سنن البيهقي 7/336، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين في المستدرك 2/196.
«والمقصود أنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسُـنّة والقياس والاِجماع القديم، ولم يأت بعد إجماع يُبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، كثر منهم إيقاعه جملةً واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم.. فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعهد الصدّيق وصدراً من خلافته كان الاَليق بهم...
* فهذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان!
* وعلم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيّته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به..
* فليتدبّر العالِم الذي قَصْدُه معرفة الحقّ واتّباعه من الشرع والقَدَر: في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فلمّا ركبت الناس الاَُحموقة وتركوا تقوى الله.. أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه، شرعاً وقدراً، إلزامهم بذلك وإنفاذَه عليهم... وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تُناسب عقول أبناء الزمن»!(1) .
فهذا مصدر جديد من مصادر التشريع لم يعرّفنا به القرآن، ولا عرّفنا به النبيّ، بل الذي عرّفنا به القرآن والسُـنّة هو خلاف ذلك تماماً!
فهل عرّفنا القرآن أو السُـنّة أنّ الله تعالى سوف ينسخ أحكاماً منزلة بعد موت النبيّ، بوحيٍ جديد من نوع آخر، فيُجري على لسان الخليفة الراشد أحكامه الجديدة الناسخة لاَحكام القرآن والسُـنّة؟!
أليس هذا من جنس عقائد غلاة الباطنية بأئمّتهم؟!
____________
(1) انظر: أعلام الموقّعين 3/34 ـ 37.
المرحلة الثانية
السُـنّة في عهد الاِمام عليّ عليه السلام
عليٌّ عليه السلام له مع السُـنّة علاقة أُخرى، يميّزها بُعدان:
البعد الاَوّل: عِلمه بها.. علماً شمولياً وتفصيلياً، مستوعباً لاَفرادها، عارفاً بحدودها ومواقعها، وليس هذا محض ادّعاء، بل حقيقة ثابتة لم يكن يخفيها، فلطالما أفصح عنها في خطب بليغة يلقيها على الملاَ العظيم وفيهم كثير من الصحابة الّذين عاشوا معه ومع الرسول، وعرفوه وعرفوا غيره من الصحابة، فمن ذلك قوله في كلام يصنّف فيه رواة الحديث إلى أربع طبقات، ثمّ يقول في مقارنة بينه وبين غيره من الصحابة: «وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتّى إنْ كانوا ليُحبّون أن يجيء الاَعرابي والطارىَ فيسأله عليه السلام حتّى يسمعوا، وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلاّ سألتُه عنه، وحفظتُه»(1) .
وفوق هذا قد كانت هناك عناية ربّانية خاصّة ترعاه، فإذا أنزل الله تعالى قوله: (وتعيَها أُذُنٌ واعية)(2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سألتُ الله أن يجعلها أُذنك يا عليّ» فكان عليٌّ يقول: «ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً فنسـيتُه»(3) .
____________
(1) نهج البلاغة: خ/210.
(2) سورة الحاقّة 69: 12.
(3) الشوكاني/ فتح القدير 5/882، تفسير الطبري 29/55، تفسير الماوردي 6/ 80، تفسير القرطبي 18/171.
بين مأخوذٍ ميثاق علمه، وموسّعٍ على العباد في جهله.. وبين مثبَتٍ في الكتاب فرضه، ومعلومٍ في السُـنّة نسخه.. وواجبٍ في السُـنّة أخذه، ومرخَّصٍ في الكتاب تركه.. وبين واجبٍ بوقته وزائلٍ في مستقبله..
ومباين بين محارمه: من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه.. وبين مقبولٍ في أدناه موسَّعٍ في أقصاه»(4) .
هذه أبواب من السـنن فتحت على علوم جمّة توفّر عليها، مع بصيرة لا يُخشى عليها لبس ولا توهّم.
فهذه صورة عن علمه الشمولي والتفصيلي بالسُـنّة، تلك المرتبة التي لا يشاركه فيها أحد من الصحابة، ومن هنا اشتهر عن تلميذه ابن عبّاس قوله: أُعطي عليٌّ تسعة أعشار العلم، وإنّه لاَعلمهم بالعُشر الباقي!(5) .
البُعد الثاني: منهجه في التعامل مع السُـنّة.. والمنهج هو الذي
____________
(1) أي خلّف فيكم كتاب الله.
(2) الفضائل: المستحبّات والنوافل.
(3) المرسَل: المطلق.. والمحدود: المقيّد.
(4) نهج البلاغة: خ/1، وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/295 ـ 297.
(5) طبقات الفقهاء: 42.
رفض أن يبايعوا له بالخلافة على عقدٍ يَقرن بسُـنّة النبيّ سنناً أُخرى، إذ عرض عليه عبـد الرحمن بن عوف أن يبايع له على «كتاب الله وسُـنّة رسوله وسيره الشيخين أبي بكر وعمر» فرفض أن يَقرن إلى كتاب الله وسُـنّة رسوله شيئاً آخر، فضحّى بالخلافة حفظاً لمكانة السُـنّة في درس بليغ لم تقف هذه الاَُمّة على جوهره حتّى اليوم!
ورفض أن يشتري استقرار الحكم أيّام خلافته بمداهنة أهل البدع والانحراف الّذين انتهكوا السـنن وعطّلوا الحدود، في درس عبقري يظنّه القشريّون حتّى اليوم إخفاقاً سياسيّاً!!
ورفض أن يعزّز جيشه بكتيبة جاءت تبايع له على خلاف السُـنّة يوم خرج عليه المارقون، قالوا: نبايعك على كتاب الله وسُـنّة رسوله وسيرة الشـيخين! فرفض أن يقرن بكتاب الله وسنّة رسوله شرطاً ولو أدّى رفضه إلى تمرّد هؤلاء والتحاقهم بالمارقين.
ورفض أن يعامل أعداءه ولو مرّةً بخلاف السُـنّة، وهم يمكرون وينكثون ويغدرون.
إنّه الرجل الذي كان منهاجه منهاج القرآن والسُـنّة، لقد كان التجسيد الحيّ لكتاب الله وسُـنّة رسوله.
ووفق هذا المنهج سوف نرى له ـ وباختصار شديد ـ مواقف وسياسة
وسوف نتناول هذه المرحلة في ثلاثة مباحث بإيجاز تغني فيه الشواهد الحيّة عن السرد الطويل:
المبحث الاَوّل: تدوين السُـنّة
إنّه قبل كلّ شيء كان كاتباً للحديث بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان قد اشتهر عنه أمر الصحيفة (صحيفة عليّ) التي كتبها من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحملها معه في قائم سيفه، وذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن بطرق شتّى، فلم تكن هي كلّ ما كتبه عليٌّ من حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان له صحف أُخرى غير هذه، وكان له كتاب كبير ليس فيه إلاّ أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عُرف بـ (كتاب عليّ) وهو غير تلك الصحيفة التي اختلفوا في حجمها.
* قالت أُمّ سَلَمة: «دعا النبيّ بأديم، وعليّ بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُملي وعليٌّ يكتب، حتّى ملاَ بطن الاَديم وظهره وأكارعه»(1) .
الصحيفـة:
مشهورة جدّاً أنباء الصحيفة، لا يكاد يخلو منها واحد من كتب الحديث والسنن، البخاري وغيره(2) ، نقلوا منها نصوصاً متفرّقة، بعضها
____________
(1) الرامهرمزي/ المحدّث الفاصل: 601 ح 868.
(2) صحيح البخاري/ كتاب العلم ـ باب كتابة العلم، وكتاب الديات ـ باب الدية على العاقلة، سنن ابن ماجة 2 ح 2658، سنن أبي داود: ح 2035.
وجمع الدكتور رفعت فوزي ما نُقل عن هذه الصحيفة في كتب الحديث السُـنّيّة، في كتاب أسماه: «صحيفة عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دراسة توثيقية فقهية»(2) .
كتاب عليّ:
حديث أُمّ سَلَمة المتقدّم يصف كتاباً أكبر من هذه الصحيفة التي لا تفارق قائم سيفه، أو قراب سيفه! وأصبح «كتاب عليّ» عَلَماً يتكرّر في أحاديث أهل البيت عليهم السلام، كتاب كبير كانوا يحتفظون به ويتوارثونه:
* أخبر أحمد بن حنبل أنّ كتاباً كهذا كان عند الحسن بن عليّ يرجع إليـه(3) .
* وأخرج الاِمام محمّـد الباقر عليه السلام هذا الكتاب أمام طائفة من أهل العلم، منهم: الحكم بن عُتيبة، وسـلمة، وأبو المقدام، فرأوه كتاباً مدرجاً عظيماً، فجعل ينظر فيه حتّى أخرج لهم المسألة التي اختلفوا فيها، فقال
____________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/166، والقسطلاني/ إرشاد الساري 1/358 ـ 359.
(2) طبع سنة 1406 هـ ـ 1986 م.
(3) كتاب العلل ومعرفة الرجال 1/346 ح 639، الجامع في العلل ومعرفة الرجال 1/137 ح 624.
* وعرض هذا الكتاب أيضاً الاِمام الصادق عليه السلام، والاِمام الهادي عليّ ابن محمّـد بن عليّ الرضا عليه السلام، غير مرّة، يقول: «إنّه بخطّ علي، وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نتوارثها صاغراً عن كابر»(2) .
دعوته إلى تدوين السُـنّة:
دعوة صريحة يعلنها على الملاَ في مواضع كثيرة:
* خطب الناس مرّةً، فقال: «قيّدوا العلم، قيّدوا العلم» يكرّرها(3) .. أي اكتبوه واحفظوه لئلاّ يُدرس.
* وقال في خطبة أُخرى له: «مَن يشتري منّي علماً بدرهم؟».
قال أبو خيثمة: يعني يشتري صحيفةً بدرهم يكتب فيها العلم..
فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ثمّ جاء بها عليّاً عليه السلام فكتب له علماً كثيراً(4) .
____________
(1) رجال النجاشي: 360 ت 966 ترجمة محمّـد بن عُذافر الصيرفي.
(2) الشيخ الطوسي/ تهذيب الاَحكام 1 ح 963 و 966، وج 5 ح 1337.. وقد أحصى السيّد محمّـد رضا الحسيني الجلالي عشرات الموارد عن أهل البيت عليهم السلام في ذِكر هذا الكتاب (كتاب عليّ)، انظر: تدوين السُـنّة الشريفة: 65 ـ 79.
(3) تقييد العلم: 89 و 90.
(4) الطبقات الكبرى 6/168، تقييد العلم: 89.
* عادت الحياة إذن إلى السُـنّة النبوية، وتبدّد خطر ضياعها ونسيانها.. تلك هي أمانة الرسالة ووعيها.
من أدب الكتابة عند علي عليه السلام:
تقرأ في أحاديثه اهتماماً كبيراً ورعاية لاَمر الكتابة، في أروع صورة لوعي حضاري بأمر الكتابة آنذاك:
* يقول: «الخطّ علامة، فكلّ ما كان أبْيَن كان أحسن»(5) .
* ويقول للكاتب: «أَلْقِ دواتَك، وأَطِل شَقّ قلمِك، وأَفْرِج بين السطور، وقَرمِط بين الحروف»(6) .
* ويقول: «أَطلِ جلفةَ قلمِك، وأَسمِنها، وأَيمِن قطّتَك، وأَسمِعني طنين النون، وحوّر الحاء، وأَسمِن الصاد، وعرّج العين، واشقق الكاف، وعظّم الفاء، ورتّل اللام، وأسلس الباء والتاء والثاء، وأقم الزاي وعَلِّ
____________
(1) انظر: فؤاد سزگين/ تاريخ التراث العربي مج 1 ج 1/127.
(2) الجلالي/ تدوين السُـنّة الشريفة: 137 ـ 143.
(3) صحيح مسلم/ المقدّمة.
(4) سير أعلام النبلاء 3/354 ـ 355.
(5) كنز العمّال 10 ح 29562.
(6) كنز العمّال 10 ح 29563.. وقرمط: أي قارِب.
الرواية، قبل التدوين، دخلت عهداً جديداً، رفع عنها الحظر، ودُعيَت إلى سماعها طوائف الناس:
* قال عليٌّ عليه السلام لاَصحابه: «تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يُدرَس»!(2) .
* وخطب في الناس مرّة فقال: «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللّهمّ ارحم خلفائي ـ ثلاث مرّات ـ قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ فقال: الّذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسُـنّتي ويعلّمونها الناس»!(3) .
* وكم قام عليٌّ في الناس فذكّرهم أحاديث قد غابت عنهم زمناً طويلاً، مُنع التحديث بها لربع قرن! كمناشدته في الرحبة بحديث الغدير، وتذكيره بحديث «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن...» وأحاديث في ذِكر أهل البيت وفضلهم، والحديث الذي أعاده على الزبير يوم الجمل، وغيرها كثير..
هكذا كان عهده مع السُـنّة رواية وتدويناً، فهما السبيل إلى نشرها وحفظها، وإلاّ فمصيرها النسيان والضياع!
____________
(1) كنز العمّال 10 ح 29564.
(2) كنز العمال 10 ح 29522 عن الخطيب في الجامع.
(3) شرف أصحاب الحديث: 31 ح 58، كنز العمّال 10 ح 29488 عن الرامهرمزي، والقشيري، وأبي الفتح الصابوني، والديلمي، وابن النجّار، وآخرين.
التحذير من الكذب:
في أثناء فتحه لباب الرواية والتدوين كان يكثر التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقرع أسماعهم بين الحين والحين بحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار»(1) .
وحتّى من كذب عليه في الرؤيا فادّعى مناماً يكذب فيه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(2) .
مع القصّـة:
هذه الحرفة التي تستدرج أصحابها شيئاً فشيئاً نحو الكذب والسخرية والاَساطير، كانت ممنوعة في الاِسلام، وأوّل ما ظهرت في عهد عمر بن الخطّاب حين أذِن لتميم الداري بالجلوس في المسجد للقصّة! فكان تميم الداري أوّل قاصٍّ مأذون في الاِسلام!
وتميم الداري هذا هو الرجل النصراني الذي قدم في عشرة من قومه من أرض فلسطين إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في العام التاسع للهجرة، بعد فتح مكّة بعام، وهو صاحب قصّة «الجسّاسة» التي يرويها عنه مسلم وأحمد(3) هذه القصّة التي لم يحدّث بها أحدٌ من الصحابة خلا فاطمة بنت قيس!
____________
(1) انظر: البخاري/ كتاب العلم ـ باب من كذب على النبيّ، فتح الباري 1/161 ـ 162، مسند أحمد 1/78 و 130، كنز العمّال 10 ح 29498.
(2) انظر: مسند أحمد 1/90 و 129.
(3) صحيح مسلم/ كتاب الفتن ـ قصّة الجسّاسة ـ ح 2942 و 2943، مسند أحمد 6/373 و 374.
ثمّ ينقل لهم بنفسه ما حدّث به تميم الداري من أنّه قذفت به السفينة إلى جزيرة لا يدري ما هي! فرأى فيها دابّة لا يعرف قُبلها من دبرها من كثرة شعرها! وهذه الدابّة تتكلّم، فكلّمته بلسان طليق! وأمرته أن يتوجّه إلى رجل في دير في تلك الجزيرة، فتوجّه إليه فوجده مكبّلاً بأصفاد الحديد! فحدّثه هذا الرجل بأشياء من الغيب! ثمّ عرّفه بنفسه، إنّه المسيح الدجّـال!!
هذا الخبر، على هذه الصورة، ينبغي أن يرويه غير واحد، فالنبيّ يجمع له الناس ويأمرهم أن يلزموا أماكنهم حتّى يحدّثهم بحديث مصدّق لحديثه!
ومنذ ذلك الحين والبحر يُمخَر كلّ يوم مرّات، تجوبه السفن المدنية والعسكرية، وتحلّق فوقه الاَقمار الصناعية، ولم يزل أمر هذه الجزيرة مجهولاً! وما بلغ داروِن وأصحابه نبأ هذه الدابّة الناطقة باللسان العربي!!
لكنّ البسطاء وذوي القلوب الغافلة طفقوا يستلهمون من هذه القصّة العبر، فوجدوا فيها درساً متقدّماً في الدراية، فهي مثال رائع لرواية الفاضل عن المفضول، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدّث عن نصرانيّ أسلم لتوّه!
وأيضاً فقد كشفت عنهم كرباً وحلّت لغزاً كان يحيّرهم وهم يقرأون:
* فلمّا أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله مُظهرك على الاَرض كلّها، فهب لي قريتي من بيت لحم!
فقال له النبيّ: هي لك.. وكتب له بها، فلمّا فُتحت فلسطين جاء تميم بالكتاب إلى عمر، فقال عمر: أنا شاهد ذلك.. فأمضاه! وذكروا أنّ النبيّ قال له: «ليس لك أن تبيع» فهي في أيدي أهله إلى اليوم(3) .
ولم تُجعل هذه الاَرض في بيت المال، ولا صُرف ريعها في الكراع والسلاح.. فلا الاَرض كانت فدكاً، ولا تميم كان فاطمة الزهراء!!
لكن هل احتاج النبيّ إلى بشرى تميم هذه ليهب له تلك القرية؟! أم أنّ تميماً قد أحرز لغده ثمن إسلامه كما فعل النبيّ مع المؤلّفة قلوبهم؟!
لا غرابة، فإنّ تميماً لم يزل في المدينة حتّى قُتل عثمان، فلمّا قُتل عثمان فرّ تميم إلى الشام!!(4) .
ذلك لاَنّه حسن إسلامه جدّاً! فهو لا يطيق أن يرى عليّـاً في الخلافة! ولا يسـعه إلاّ جوار معاوية!
ولاَجل تأكيد حسن إسلامه وعظمة إيمانه، قالوا: إنّه كان يختم القرآن
____________
(1) سورة النحل 16: 82.
(2) انظر هذا كلّه في صحيح مسلم بشرح النووي مج 9 ج 18: 78 ـ 84 قصّة الجسّاسة.. ومن المعاصرين الّذين اطمأنّوا إلى هذا التفسير: د. محمّـد السيّد حسين الذهبي، في كتابه/ الاِسرائيليات في التفسير والحديث: 93!!
(3) سير أعلام النبلاء 2/443.
(4) سير أعلام النبلاء 2/443، الطبقات الكبرى 7/409.
وأساطير مضحكة نسجوها حول تميم، صاحب القصص والاَساطير.
قالوا: كان عمر يسمّيه «خير المؤمنين»! لقد جاءه رجل كان قد أذنب ذنباً، فلبث في المسجد ثلاثاً لا يأكل، ثمّ جاء عمرَ فقال: تائب من قبل أن تقدر عليه. فقال له عمر: إذهب إلى خير المؤمنين فانزل عليه. فذهب الرجل طوعاً إلى تميم الداري، فهو خير المؤمنين لا يشكّ هذا الرجل!!(2) ) .
وذات ليلة خرجت نار بالحرّة، ناحية المدينة، فجاء عمر إلى تميم، فقال: قم إلى هذه النار!
قال: يا أمير المؤمنين، ومَن أنا؟! ومَن أنا؟! فلم يزل عمر به حتّى قام معه، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها بيده حتّى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم يرَ! قالها ثلاثاً!
هاتان أُسطورتان يرويهما معاوية بن عجلان، قال الذهبي: رجل قالوا إنّه لا يُعرَف(3) .
لكن ابن حجر العسقلاني سمّاه «معاوية بن حرمل» وعدّه في الصحابة، وقال: هو صهر مسيلمة الكذّاب! وكان مع مسيلمة في الردّة، ثمّ قدم على عمر تائباً!
ثمّ يقول ابن حجر عن هذه القصّة: «له قصّة مع عمر فيها كرامة
____________
(1) سير أعلام النبلاء 2/445.
(2) سير أعلام النبلاء 2/446.
(3) سير أعلام النبلاء 2/447.
ومن هنا يستدلّون على وثاقة تميم وعلوّ منزلته(2) .. من شهادة صهر مسيلمة الكذّاب الذي كان معه في الردّة!!
وأمّا قصّته هو عن «الجسّاسة» ومسيح الدجّال، فلولا ما حظي به صحيح مسلم من قداسة لَما ارتاب فيها عاقل!
وهذه القداسة هي التي حالت دون السؤال: كيف صحّح مسلم هذه الرواية؟!
إنّ مسلماً رجلٌ نشأ في وسط يوثّق رجالاً ويأخذ عنهم الحديث، فوثّقهم مسلم.. لقد وثّقهم ذلك التاريخ الذي عرفناه، وعرفنا كيف وثّقهم!
وحين تُغفل هذه الحقيقة فقط تنفذ مثل هذه الاَساطير...
وأغرب ما في الدفاع عن هذه القصّة، دفاع الناقد الدكتور الذهبي الذي عاد إلى فقرات من القصّة نفسها، وأكثر فقراتها محل للتهمة والريبة، ليجعلها دليلاً على صحّتها، إذ يقول.. «وهل يُتصوّر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المؤيدّ بوحي السماء أن يتقبّل من رجل يلوّث الاِسلام بمسيحيّاته حديثاً كحديث الجسّاسة، ثمّ هو لا يكتفي بذلك بل يجمع أصحابه ويحدّثهم به ويقرّر من فوق منبره صدق حديثه؟!»!!(3) .
____________
(1) انظر: الاِصابة/ ترجمة تميم الداري 1/184، وترجمة معاوية بن حرمل 3/ 497.
(2) انظر: د. محمّـد سيّد حسين الذهبي/ الاِسرائيليات في التفسير والحديث: 91 ـ 94 وهو يكافح لاَجل توثيق تميم! وانظره في ص 95 ـ 96 وهو يوثّق كعب الاَحبار، ويجعل واحداً من أهمّ أدلّته: أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يعظّمه!!
(3) الاِسرائيليّات في التفسير والحديث: 93.
فمن قال لك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قام مصدّقاً لهذه الرواية؟! هل سمعته من أحد غير هذه الرواية نفسها؟!
إنّ مثل هذه القصّة ليست ممّا يرتاب العقل في تكذيبها بعد المسح العلمي الدقيق، إنّها تماماً من قبيل روايات تقول: إنّ الاَرض تقف على قرن ثور، والثور على ظهر حوت، وهو النون التي في قوله تعالى: (ن والقلم) !!
فإذا كان يصدّقها بالاَمس ناس عمدتهم وثاقة الرواة، فليس لهذه الوثاقة اليوم محلٌّ أمام الكشف العلمي الدقيق والمباشر.. ولا يعاب في ذلك المتقدّمون! ولكن يعاب الّذين قرضوا القرن التاسع عشر والقرن العشرين وما زالوا يلتمسون ذلك وراء وثاقة الراوي وأهمّـيّة المصدر، بدلاً من أن يضع ذلك كلّه موضع الاختبار بناءً على هذه الحقائق الملموسة.
وتميم هذا هو الذي ابتدأ فاستأذن عمر أن يقصّ، فأذِن له بعد أن ردّه أوّلاً، فهو أوّل قاصٍّ مأذون في الاِسلام(1) ، فكان يقوم في المسجد كلّ جمعة يعظ أصحاب رسول الله! قبل أن يخرج عمر إلى الجمعة.. فلمّا جاء عثمان طلب منه تميم أن يزيده، لاَنّ موقفاً واحداً في الاَُسبوع لا يكفيه، فزاده عثمان يوماً آخر يُتحف فيه أصحاب رسول الله بمزيد من مواعظه!
لكن في تلك السنين كان التحدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) انظر ترجمة تميم بن أوس الداري في: الاستيعاب، أُسد الغابة، الاِصابة، سير أعلام النبلاء.
إنّ لتميم سرّاً هو من صنف سرّ كعب الاَحبار، لكنّ تميماً تقدّم على كعب حين أدرك النبيّ فسُمّي صحابياً!
ولمّا قُتل عثمان لم يعد أمر تميم بتلك الدرجة من الخفاء؛ إنّه لم يأت عليّـاً يستأذنه في المضيّ على شأنه، أو يسـتزيده، كلاّ، بل ترك المدينة كلّها، ضاقت عليه بما رحبت أرضٌ يحكمها عليّ، فليس أمامه إلاّ الشام في أجواء تنتظر تميماً ونظراءه، فخرج إلى الشام دون أن يضيع مزيداً من الوقت!
لقد كان عمر يمنع من القصص، ويكذّب محترفيها، حتى أقنعه تميم في نفسه خاصّة، لكنّ عليّـاً لم يأذن بشيء من ذلك، ولم يكن تميم بالرجل الساذج أو الغبيّ الذي يلتمس مثل ذلك من علي! ولا هو بتارك مهنته، فترك بلاداً تدين لعلي، قافلاً إلى حيث تنفق سلعته، وله في كنف معاوية أوسع جوار!
* والذي لا نزاع فيه أنّ القصص قد انتشرت في أواخر عهد عثمان، وبرز قصّاصون يقصّون في المساجد، حتّى طردهم عليّ عليه السلام، كما أثبته المروزي وغيره(1) .
والشيخ الغزالي يثبّت ذلك أيضاً، ويقول: إنّ عليّـاً عليه السلام منع القصّ في المساجد، ولم يأذن إلاّ للحسن البصري(2) .
____________
(1) انظر: كنز العمّال 10 ح 29449، وبعده.
(2) كيف نتعامل مع القرآن:
قال: وقد كثر القُصّاص في العصر الاَُموي، وكان بعضه صالحاً وكثير منه غير صالح، وربّما كان هذه القصص هو السبب في دخول كثير من الاِسرائيليات في كتب التفسير وكتب التاريخ الاِسلامي..
وإنّ القصص في كلّ صوره التي ظهرت في ذلك العصر كان أفكاراً غير ناضجة تلقى في المجالس المختلفة، وإنّ من الطبيعي أن يكون بسببها خلاف، وخصوصاً إذا شايعَ القاصُّ صاحب مذهب أو زعيم فكرة أو سلطان، وشايع الآخر غيره، فإنّ ذلك الخلاف يسري إلى العامّة، وتسوء العُقبى، وكثيراً ما كان يحدث ذلك في العصور الاِسلامية المختلفة(1) .
فلماذا لا يكون كِلا الاَمرين قد أرادهما تميم الداري: دخول الاِسرائيليات والاَساطير في التفسير والتاريخ، وظهور الخلافات والنزاعات بين المسلمين؟!
لماذا إذن فرّ من علي إلى معاوية؟!
والاَمران اللذان أرادهما تميم، ونشط فيهما كعب الاَحبار أيضاً في عهد عثمان، وساهم فيهما آخرون، كلاهما قد أراد عليٌّ عليه السلام أن يقطع دابرهما، ويخيّب آمال هؤلاء الّذين يكيدون للاِسلام وأهله كلّ شرّ،
____________
(1) محمّـد أبو زهرة/ المذاهب الاِسلامية: 20.
المبحث الثالث: إحيـاء السُـنّة
في غير الرواية والتدوين، تُحدّثنا الاَخبار الدقيقة عن مشكلات أُخرى قد تعرّضت لها السُـنّة، فتداركها عليٌّ:
1 ـ قال أبو موسى الاَشعري: «لقد ذكّرنا عليّ بن أبي طالب صلاةً كنّا نصلّيها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إمّا نسيناها، أو تركناها عمداً»!!(1) .
إذن هذه الصلاة أيضاً قد أُصيبت في صورتها، وطريقة أدائها؟!
ثمّة شهادة أُخرى على ذلك، شاهدها الصحابي الجليل أبو الدرداء، الذي توفّي في خلافة عثمان!(2) .
* قالت أُمّ الدرداء: دخل علَيَّ أبو الدرداء مغضباً، فقلتُ: مَن أغضبك؟!
قال: «والله لا أعرف فيهم من أمر محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً»!(3) .
إذن كلّ شيء قد تغيّر عن أمر محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم ولم تَعُد تُـرَ تلك السنن التي ميّزت المجتمع أيّام الرسول، ولم يبق فيهم إلاّ صورة الاجتماع في الصلاة، الاجتماع وحده، لا سنن الصلاة التي تحدّث عنها أبو موسى
____________
(1) مسند أحمد 4/392 من طريقين، وهما في الطبعة المرقّمة في ج 5 ح 19000 و 19004.
(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 2/353، والاِصابة 3/46.
(3) مسند أحمد 6/443 من طريقين، وهما في الطبعة المرقّمة في ج 7 ح 26945 و 26955.
2 ـ وقبل قرأنا صلاة عثمان وعائشة في السفر تماماً، لا يُقصَران، وقد أبى عليٌّ ذلك، وأنكره نفر من الصحابة، وحين مرض عثمان في تلك الاَثناء ودعوا عليّـاً للصلاة بهم، قال: «إنْ شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». فقال أكثرهم: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين!!
وهكذا تتغيّر السـنن وتختفي لتحلّ محلّها محدَثات ينصرها كثير وكثير من السلف، ثمّ تصل إلى اللاحقين فيأخذون عن سلفهم برضاً وتسليم لفرط حسن الظنّ بهم حتّى أعفاهم من النقد ومن ضوابط التحقيق والنظر!
3 ـ وقصّة علي مع صلاة التراويح جماعةً، أيّام خلافته، هي الاَُخرى من هذا القبيل، فحين أمر عليه السلام بتفريقهم ليعيدهم على ما كان أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: «وا سُـنّة عمراه»!!(1) .
فهم يعلمون أنّها سُـنّة عمر، وأنّ الذي يدعوهم إليه عليٌّ عليه السلام هي سُـنّة النبيّ!!
تقرأ ذلك صريحاً في صحيح البخاري، وغيره، أنّها سُـنّة عمر(2) .
وفي صحيح البخاري أنّ عمر لمّا جمع الناس عليها قال: «نِعْمَ البدعة هذه!»(3) .
قال القسطلاني في شرحها: سمّاها بدعة لاَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسـنَّ لهم، ولا كانت في زمن الصدّيق، ولا أوّل الليل، ولا هذا
____________
(1) شرح نهج البلاغة 12/283.
(2) صحيح البخاري ـ كتاب صلاة التراويح.
(3) صحيح البخاري ـ كتاب صلاة التراويح ـ 2 ح 1906.
4 ـ وتقرأ في أوّليّات عمر: «هو أوّل من حرّم المُتعة» وتقدّم حديثها(2) ، وأمّا قول عليٌّ عليه السلام فيها فهو المشهور:«لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شفىً» أو: «إلاّ شقيّ».
5 ـ وفي أوّليّات عمر أيضاً: «وأوّل من جمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز»(3) .
أخرج أحمد من حديث حذيفة بن اليمان، أنّه صلّى على جنازة فكبّر خمساً، ثمّ التفت إلى الناس، فقال: «ما نسيتُ ولا وهمتُ، ولكن كبّرت كما كبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»!(4) ، يريد أن يذكّرهم بأمر نسوه واستبدلوه بأمر محدَث مضوا عليه حتّى نسوا الاَمر الاَوّل، وكم توجّع حذيفة لهذا النسيان أو التناسي!
ومثله ثبت عن زيد بن أرقم، كبّر على الجنازة خمساً، فاستنكروا عليه، فقال: «سُـنّة نبيّـكم».. «ولن أدعها لاَحد بعده».. «ولن أدعها أبـداً»(5) . والتكبيرات الخمس هي التي مضى عليها عليٌّ عليه السلام(6) ، ومثله صنع
____________
(1) إرشاد الساري 4/656.
(2) هذا كلّه تقدّم في ص 160 ـ 164، وانظر أيضاً: الاَوائل ـ لاَبي هلال العسكري ـ: 112، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ: 128.
(3) العسكري/ الاَوائل: 113، ابن الاَثير/ الكامل في التاريخ 3/59 السيوطي/ تاريخ الخلفاء: 128.
(4) مسند أحمد 5/406.
(5) مسند أحمد 4/370 ـ 371، سنن الدارقطني 2/75.
(6) مصنّف عبـد الرزّاق 3/481، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 1/221 ـ 222.
6 ـ ومع عثمان، في أمر الزكاة، بعث إليه علي عليه السلام بكتاب فيه حكم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الزكاة، بعثه بيد ولده محمّـد بن الحنفيّة، فقال له عثمان: أغنها عنّا!!
فرجع بها إلى أبيه عليه السلام، فقال له: ضع الصحيفة حيث وجدتها(2) .
هذه سـنن طرأ عليها هذا النحو من التبديل والتغيير، فكان تداركها لاِحياء السُـنّة النبوية الثابتة هو من أهمّ ما وضعه عليّ عليه السلام نصب عينيه وهو يتولّى الحكم: «لنردّ المعالم من دينك».
وهكذا استعادت السُـنّة روحها ودورها في أيّامه، ليكون ذلك طريقاً إلى حفظها من الضياع وحفظ مكانتها في التشريع.
مقولات فيها مصادرة:
* الاَُستاذ الدكتور نور الدين عتر/ في كتابه «منهج النقد في علوم الحـديث».
* محمود أبو ريّة/ في كتابه «أضواء على السُـنّة المحمّـدية».
* الدكتور محمّـد سلام مدكور/ في كتابه «مناهج الاجتهاد في الاِسـلام».
____________
(1) الاَحبار الطوال: 216، شرح نهج البلاغة 6/122.
(2) ابن حزم/ الاَحكام 1/253.
فبعد أن نقل رغبة عمر في التدوين أوّلاً، واستشارته الصحابة وإشارتهم عليه بالتدوين، ثمّ تبدّل رأي عمر، قال: وقد أعلن عمر هذا على ملاَ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقرّوه، ممّا يدلّ على استقرار أمر هذه العلّة في نفوسهم!(1) .
وهذا القول ناشىَ عن رؤية مثالية أوّلاً، وفيه مصادرة لآراء الصحابة ثانياً:
فالرؤية التي تصوّر سكوت الصحابة أمام أيّ قرار تصدره الخلافة، على أنّه إجماع إقراري، رؤية مثالية، وهذا الخبر هو واحد من أهمّ الاَدلّة على ذلك، فقبل شهر واحد فقط من صدور هذا القرار كانوا قد أعطوا رأيهم المؤيّد لتدوين السُـنّة بالاِجماع، ولم يظهر في ذلك أدنى خلاف حتّى صدر قرار الخليفة بعكسه، فبعد أن أعطوه الرأي ثمّ عزم على خلافه فلا محلّ إذن للمعارضة.
وإذا زعمنا أنّ سكوتهم كان إقراراً كاشفاً عن الاِجماع، فما هي قيمة إجماعهم السابق على خلافه؟!
هل سيبقي هذا التصوّر على شيء من قيمة (إجماع الصحابة)؟ لا في هذه المسألة وحدها، بل في كلّ مسألة!
وثمّة دليل عملي على عدم إقرار الصحابة بقرار المنع:
لقد راحوا من وراء الخليفة يكتبون الحديث والسـنن، حتّى كثرت
____________
(1) منهج النقد في علوم الحديث: 44.
فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بها، فأحرقها بالنار!(1) .
فما زال الصحابة إذن عند إجماعهم الاَوّل، وما زال عمر عند رأيه المخالف.
والثانية: ما خلص إليه محمود أبو ريّة في إثبات النهي عن تدوين السُـنّة، وانصياع الصحابة لهذا الاَمر انصياعاً تامّاً، ليقضي على السُـنّة كلّها بالضياع، ولم يُبقِ منها إلاّ حديثين صحّا عنده، وبلغا التواتر، وهما: حديث النهي عن التدوين، وحديث «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار» مؤكّداً عدم ورود كلمة «متعمّداً» في هذا الحديث، ليجعل من الكذب عليه رواية الحديث بالمعنى! متمسّـكاً بأدلّة حاكمة عليه، لا له(2) .
فكلّ ما ورد عن أبي بكر وعمر والصحابة في عهديهما كان صريحاً جدّاً بعدم ورود النهى عن تدوين السُـنّة من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم..
أضف إلى ذلك ما هو ثابت من تدوينها بأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو بإذنه، ومن ذلك:
* الصحيفة التي كانت في قائم سيفه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بعض السنن، ثمّ
____________
(1) الطبقات الكبرى 5/188، تقييد العلم: 52.
(2) راجع كتابه «أضواء على السُـنّة المحمّـدية» والذي ارتضى أن يسمّيه في طبعته الثانية باسم «دفاع عن السُـنّة»!!
* وما ثبت من كتابة عبـدالله بن عمرو بن العاص، قال: فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكلّم في الرضا والغضب؟! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بإصبعه إلى فمه وقال: «أُكتبْ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حـقّ»(2) .
* وقول أبي هريرة: إنّ عبـدالله بن عمرو كان يكتب، وكنت لا أكتب(3) .
* وحين طلب أبو شاة اليماني من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبوا له خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة، وكان أبو شاة قد شهدها، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اكتبوا لاَبي شاة»(4) .
* وحديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قيّدوا العلم بالكتاب»(5) .
* وكان أنس قد كتب حديثاً كثيراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه حتّى وقت متأخّر من عهد الصحابة، فكان يملي الحديث، حتّى كثر عليه الناس يوماً يطلبون الحديث، فجاء بمجالٍّ(6) من كتب، فألقاها،
____________
(1) ذكرها البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
(2) مسند أحمد 2/207، سنن أبي داود 3/318 ح 3646، المستدرك 1/104 ـ 105 ووافقه الذهبي.
(3) صحيح البخاري ـ كتاب العلم 1/40 ح 113.
(4) صحيح البخاري ـ كتاب العلم ـ باب 39 ح 112، سنن الترمذي 5 ح 2667، سنن أبي داود ـ كتاب العلم 3/319 ح 3649.
(5) جامع بيان العلم 1/86 ـ 87.
(6) المجالّ: جمع مجلّة، وهي الصحيفة التي يُـكتب فيها.
* وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كتاب في الصدقات، والديات، والفرائض، والسـنن، لعمّاله(2) .
* وقال صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الاَخير: «هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعـده»(3) .
وغير هذا كثير، وقد تناولت الكتابة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم قسماً كبيراً من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنّفاً كبيراً من المصنّفات الحديثـة(4) .
أمّا موقف الصحابة من الكتابة فقد عرفناه، وقد ذكر ابن عبـد البرّ وغيره عدداً كبيراً من كتب الصحابة، ومنهم عبـدالله بن مسعود الذي عدّوه في المانعين من الكتابة، فقد أخرج ابنه عبـد الرحمن كتاباً وحلف أنّه خطّ أبيه بيده(5) .
وأمّا حديث أبي سعيد الخدري الذي يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، فمن كتب غير القرآن فليمحه» والذي عدّوه أصحّ ما ورد في النهي عن كتابة الحديث(6) ، وهو أصحّ حديث عند
____________
(1) تقييد العلم: 95 ـ 96.
(2) نور الدين عتر/ منهج النقد: 47 ـ 48.
(3) متّفق عليه.
(4) نور الدين عتر/ منهج النقد: 45، وانظر: د. محمّـد عجاج الخطيب/ أُصول الحديث: 187 ـ 190.
(5) جامع بيان العلم: 87، أُصول الحديث: 160 ـ 165، و 191 ـ 205.
(6) محمود أبو ريّة/ أضواء على السُـنّة المحمّـدية: 48.
بل ثبت عن أبي سعيد نفسه خلافه، حين شهد أنّه كان يكتب التشهّد ـ تشهّد الصلاة ـ عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(2) .
والثالثة: مقولة الدكتور محمّـد سلام مدكور.
إذ مثّل لاختلاف الصحابة في فهم النصّ بما وقع بالنسبة لتدوين السُـنّة، لمّا قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: «لا تكتبوا عنّي غير القرآن، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حَرَج، ومن كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار».
قال: فقد اتّجه فقهاء الصحابة في ذلك إلى وجهتين متعارضتين:
* فريق منهم، وكانت له الغَلَبة: فهموا أنّ ذلك نهي عامّ وليس قاصراً على كُتّاب الوحي! فامتنعوا عن تدوين السُـنّة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب... وقالوا: إنّ ما دوّنه بعض الصحابة منها إنّما كان تدويناً مؤقّتاً حتّى يحفظه ثمّ يُمحى المكتوب بعد ذلك.
* بينما ذهب الفريق الآخر إلى أنّ ذلك كان خاصّاً بكُتّاب الوحي دون سواهم، خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، بدليل أنّه أباح الكتابة عند أمن الاختلاط، كما ثبت في حديث عبـدالله بن عمرو(3) ..
وهذا التفصيل كلّه لا يقوم على حجّة صحيحة، بل الحجّة الصحيحة تنقضه بكامله، كما سنتابعه في الفقرات الآتية:
____________
(1) انظر: فتح الباري: 1/168، تدريب الراوي 2/63.
(2) تقييد العلم: 93.
(3) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 85.
ب ـ إنّ الفريق الاَوّل، والذي كانت له الغلبة، لم يحتجّ يوماً ما بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن كتابة السُـنّة، فهذا لم يحدث منهم ألبتّة.
ج ـ إنّ هذا الفريق نفسه قد باشر تدوين السُـنّة أحياناً ابتداءً، كما صنع أبو بكر، أو أمر بتدوينها وشاور الصحابة على ذلك فأجمعوا على كتابتها دون تردّد. وفي ذلك كلّه لم يظهر لهذا الحديث المرويّ عن أبي سعيد ذِكر ولا أثر.. بل فعلهم هذا، وهم الفريق المانع، لهو أوضح دليل على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع من تدوين السُـنّة قطّ، لا منعاً خاصّاً ولا عامّاً.
د ـ الحديث المذكور عن أبي سعيد الخدري يقول فيه أيضاً: «وحدّثوا عنّي ولا حرج» وهذا الفريق الغالب قد منع عن التحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم بنفس القوّة التي منع فيها عن التدوين! فكيف يُدّعى أنّهم امتنعوا عن التدوين تمسّـكاً بنهي النبيّ عنه؟! فماذا عن رواية حديثه وسُـنّته التي أمر بها على أيّ حال إلاّ أن يقعوا بالكذب؟!
هـ ـ إنّ الاعتذار بخوف اختلاط القرآن بالسُـنّة اعتذار واهٍ ومتهافت، وقد مرّ نقده مفصّلاً.
و ـ إنّ هذا التمييز بين كُتّاب الوحي وغيرهم في شأن كتابة السُـنّة تمييز لم يُعرف في عهد الصحابة قطعاً، ولا يستطيع أحد نسبته إليهم بصدق، وإنّما هو من تبرير المتأخّرين دفعاً لِما يلزمهم من تخطئة المانعين من كتابة السُـنّة، ليس أكثر من ذلك.
وهنا ملاحظتان تجدر الاِشارة إليهما:
2 ـ نسبة هذه المقولات إلى الاَعلام المذكورين لم تأت من كونهم أوّل مَن قالوا بها، فهي آراء قديمة تتّصل بعصر التابعين، وبعضها بعصر الصحابة، لكنّ الاَعلام المذكورين انتخبوها من بين الرؤى وحاولوا تدعيمها بالدليل والبرهان، فحظيت على أيديهم بالرواج نظراً لاَهمّـيّة وسعة انتشار كتبهم التي تضمّنتها، وعلى هذا الاَساس الاَخير كان تصنيفنا.
1 ـ كان تدوين الحديث أمراً مألوفاً يمارسه الصحابة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، برضاً منه، وبإذنه أحياناً، وبأمره أحياناً أُخرى.
أمّا رواية الحديث ونشره فقد أمر بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمراً صريحاً ومكرّراً.
2 ـ ظهر في عهد أبي بكر أوّل أمر بالمنع من الحديث، لعلّة أو أُخـرى.
3 ـ أحرق أبو بكر كتاباً يضمّ خمسمئة حديث كان قد كتبها بيده، وهذا أوّل كتاب حديث أُحرق.
4 ـ واصل عمر المنع من الحديث، مؤكّداً ذلك بعهوده على عمّاله، وبحبسه بعض الصحابة في المدينة حين لم يأمن امتثالهم أمره.
5 ـ أحرق عمر مزيداً من كتب الحديث، جمعها من عدد كبير من الصحابة.
6 ـ ابتدأ عثمان سيرته مع الحديث بقوله: «لا يحلّ لاَحد يروي حديثاً لم يُسمَع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر». لكنّه لم يدقّق في ذلك كما فعل أبو بكر وعمر، فلا أحرق شيئاً من كتب الحديث، ولا تتبّع كُتّابه ورواته، بل على العكس، فقد وجد أبو هريرة وكعب الاَحبار خاصّة في عهده ما لم يحلما ببعضه في عهد عمر.
7 ـ وافق الخلفاء على المنع نفر قليل من الصحابة لا يتجاوزون
8 ـ كانت السيرة المذكورة سبباً في ضياع حديث ليس بالقليل، إن اقتصر حفظه على هذه المصادر التي أُحرقت وأُتلفت، ليس على يد أبي بكر وعمر فقط، بل مارس غيرهم نحو ذلك، فقد جاء علقمة بصحيفة(2) من اليمن أو من مكّة، فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل ومعه جماعة على عبـدالله بن مسعود، قالوا: فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا بطست فيه ماء! فقلنا: يا أبا عبـد الرحمن، انظر فيها، فإنّ فيها أحاديث حساناً! قالوا: فجعل يُميثها فيها!(3) .
وكتب أبو بردة، عن أبيه ـ أبي موسى الاَشعري ـ كتباً كثيرة، فقال له أبوه: ائتني بكتبك، فلمّا أتاه بها غَسَلَها!(4) .
9 ـ وعلى خلاف ذلك فإنّ الاَكثرين من الصحابة ما زالوا على الاَمر الشرعي برواية الحديث والاِذن بكتابته، فحدّثوا وكتبوا، منهم من عُرِّضت كتبه للاِحراق أو الغسل، ومنهم من حفظها عن عيون الخليفة فبقيت بعده، كما هو مشهور عن: صحيفة علي عليه السلام، وصحيفة جابر بن عبـدالله الاَنصاري، وكتاب أبي رافع مولى رسول الله، وكتب أنس بن مالك، وصحيفة سعد بن عبادة، وصحيفة عبـدالله بن عمرو، وكتاب عبـدالله بن
____________
(1) انظر: تدوين السُـنّة الشريفة: 269 عن مقدّمة ابن الصلاح: 296، وعلوم الحديث ـ لابن الصلاح/ تحقيق عتر ـ: 181.
(2) تكرّر ذِكر الصحيفة في هذه الفقرة، والمراد بالصحيفة:الكتاب
(3) تقييد العلم: 54. وقوله: «جعل يميثها فيها»: أي يفركها في طست الماء لتذوب فيه الكتابة.
(4) جامع بيان العلم: 79 ح 317 و80 ح 325.
10 ـ الاِمام عليّ عليه السلام أوّل حاكم يدعو إلى كتابة السُـنّة، ويحثّ الكُتّاب أن يكتبوا ما يحدّثهم به ويمليه عليهم، وينشر على الملاَ أحاديث نبوّية كانت طيلة ربع قرن ممنوعةً منعاً مغلّظاً. وهو في نفس الوقت يسدّ الاَبواب على الكذّابين والمشبوهين، فلا يجدون تحت سلطانه متنفّساً، فإمّا أن يرعووا ويستقيموا، وإمّا أن يسكتوا ويكفّوا فَرَقاً، وإمّا أن تضيق صدورهم فيفرّون إلى الشام، حيث معاوية الذي يشتري منهم دينهم بما يطمعون به من دنيا!
____________
(1) انظر: أصول الحديث: 160 ـ 165 و191.