الصفحة 240

أهل البيـت أوّلاً

يقول ابن تيميّة: إنّ بني هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم، كما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله في الحديث الصحيح: «إنّ الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش»..

* وفي السنن أنّه شكا إليه العبّاس أنّ بعض قريش يُحقّرونهم، فقال: «والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنّة حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي»..

* ثمّ قال: وإذا كانوا أفضل الخلائق فلا ريب أنّ أعمالهم أفضل الاَعمـال(121).

ولا ريب أنّ أهل البيت أفضل بني هاشم:

يقول ابن تيميّة في الموضع ذاته: وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال يوم غدير خمّ: «أُذكّركم اللهَ في أهل بيتي، أُذكّركم اللهَ في أهل بيتي، أُذكّركم اللهَ في أهل بيتي».

وظاهرٌ أنّ ابن تيميّة لا يريد أن يذكر مقدّمة الحديث: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله... وأهل بيتي» لاَنّه لا يريد أن يرى الاَمر جليّاً بوجوب التمسّك بأهل البيت!

ويمكن أن يضاف إلى هذا كثير:

* «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، ولا أحد سواهم(122).. (إنّما يريد اللهُ ليُذهِبَ عنكم

____________

(121) ابن تيميّة| رأس الحسين: 200 ـ 201.

(112) صحيح مسلم ـ فضائل الصحابة ـ: ح 2424، سنن الترمذي: ح 3205 و 3787 و 3871، مسند أحمد 4|107 و 6|292 و 304، مصابيح السُـنّة 4|183 ح 4796، أسباب النزول: 200.


الصفحة 241
الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(123).

* «نحن بنو عبد المطّلب سادة أهل الجنّة: أنا، وحمزة، وعليّ، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهديّ»(124).

* «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(125).

* «المهديّ من عترتي، من وُلْد فاطمة»(126).

فلم يبق في الاَمر أدنى غموض، بعد تقديم بني هاشم الصريح، وتقديم أهل البيت خاصّة على سائر بني هاشم، وصراحة النصوص المتقدّمة، لا سيّما الغدير والولاية والثقلين، وببساطة كبساطة هذا الدِين الحنيف، وبعيداً عن شطط التأويل بُعد هذا الدِين عن التعقيد والتنطُّع، تبدو عندئذٍ كم هي ظاهرةٌ إمامة اثني عشر سيّداً من سادة أهل البيت.. وتحديداً: أوّلهم عليّ، فالحسن، فالحسين، وآخرهم المهديّ.

ومن لحظ الاضطراب الشديد والتهافت الذي وقع فيه شرّاح الصحاح عند حديث الخلفاء الاثني عشر(127)، ازداد يقيناً في اختصاص سادة أهل البيت بهذا الحديث، دون سواهم.

وقد اهتدى إلى هذا المعنى بعض من شرح الله صدره للاِسلام من أهل الكتاب لمّا رأوا في أسفارهم الخبر عن اثني عشر إماماً يكونون

____________

(123) سورة الاَحزاب 33: 33.

(124) سنن ابن ماجة ج 2 ح 4087.

(125) مسند أحمد 3|3 و 62 و 64 و 80 و 82.

(126) سنن أبي داود: ح 4284، تاريخ البخاري 3|346، مصابيح السُـنّة: ح 4211.

(127) أُنظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13|180 ـ 183، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 15|212 ـ 213، صحيح مسلم بشرح النووي 12|201 ـ 203، البداية والنهاية 6|278 ـ 281.


الصفحة 242
بعد النبيّ العظيم من وُلْد إسماعيل(128)، فناقضهم ابن كثير، نقلاً عن شيخه ابن تيميّة، ليجعل هؤلاء العظماء هم الخلفاء الّذين يعدّون فيهم معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك وهشام، أو الّذين لا يدرون من هُم!!(129).

وأهل البيـت أوّلاً

لو لم يكن ثمّة نصّ في الاِمامة، وكان للاَُمّة أن تُرشّح لها أهلها، وبعد ما تقدّم في تفضيل بني هاشم، وأهل البيت خاصّة، فهم الاََوْلى بالاِمامة بلا منازع.

لو كانت الخلافة محصورة في قريش، إمّا لنصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو لقول المهاجرين في السقيفة، «أنّ قريشاً أولياؤه وعشيرته»، «وقومه أَوْلى به»، «وهيهات أن يجتمع سيفان في غمد»، «ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم»..

وأخيراً: «فمَن ينازعنا سلطان محمّـد ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاّ مُدلٍ بباطلٍ، أو متجانف لاِثمٍ، أو متورّط في هَلَكة؟!»(130).

فإنّ هذا كلّه لا يرشّح أحداً قبل بني هاشـم، فإذا كان قومه أَوْلى به فلا ينازعهم إلاّ ظالم، فما من أحد أَوْلى به من بني هاشـم، ثمّ أهل البيت خاصّة!

____________

(128) العهد القديم ـ سفر التكوين ـ إصحاح 17: آية 20.

(129) أُنظر: البداية والنهاية 6|280.

(130) أُنظر: الاِمامة والسياسة: 12 ـ 16، الكامل في التاريخ 2|329 ـ 330.


الصفحة 243
فبنو هاشم، دون سواهم من بطون قريش، هم المعنيّون بآية الاِنذار في بدء الدعوة النبوية: (وأنذر عشيرتك الاَقربين)(131).

وبنو هاشم هم المعنيّون بالمحاصرة في شعب أبي طالب ثلاث سنين، وليس معهم إلاّ بني المطّلب، أمّا بطون قريش الاَُخَر، تَيم وعديّ وأُميّة ومخزوم وزهرة وغيرها، فهم الّذين تحالفوا على محاصرة عشيرة محمّـد الاَقربين، بني هاشم وبني المطّلب!!

فهل خفي هذا على أحد، لو خفيت عليه النصوص؟!

فالذي جادل في النصوص ودَفَعها بأنّها لو صحّت، أو لو أفادت الخلافة، لَما خفيت على عظماء الصحابة وجمهورهم.. عليه أن يقف أمام هذه الحقيقة، كيف خفيت عليهم؟!

سـلوك النبيّ في ترشيح عليّ

عمليّاً كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمارس إعداد عليٍ لخلافته، ومنذ بدء الدعوة، ويُظهر لصحبه وللناس أنّه يرشّحه لذلك، عملاً مشفوعاً بالقول أحياناً(132)..

* منذ البـدء، نشأ عليٌّ في بيت النبيّ يتبعه اتّباع الظلّ، حتّى بُعث صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليٌّ أوّل من آمن به مع زوجته خديجة(133)..

* وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى البيت الحرام ليصلّي فيه، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلّيان خلفه، على مرأىً من الناس، ولم يكن على الاَرض من

____________

(131) سورة الشعراء 26: 214.

(132) إلى هنا سـتثير هذه الكلمة الكثيرين، ولكن مهلاً حتّى ينظروا في ما بعدها!

(133) الطبقات الكبرى 3|21، سيرة ابن هشام 1|228، كتاب الاَوائل: 91 ـ 93، البدء والتاريخ 4|145، السيرة النبوية| ابن حبّان: 67، جوامع السيرة| ابن حزم: 45، السيرة النبوية| الذهبي: 70، الاِصابة 4|269.


الصفحة 244
يصلّي تلك الصلاة غيرهم(134)..

* وكـان عليٌّ يصف أيّامه تلـك، فيقول: «وقـد علمتم موضعي مـن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعـني في حِجـره وأنا ولـد، يضمّني إلى صـدره... وكان يمضـغُ الشيء ثمّ يُلقمنيه، وما وجـد لي كذبةً في قول، ولا خَطلةً في فِعل... ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل أثَرَ أُمّه، يرفعُ لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنةٍ بحِراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الاِسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريـح النبوّة..»(135).

* ويوم أنذر عشيرته الاَقربين، رفع شأن عليٍ عليهم جميعاً، وخصّه بمنزلة لا يشركه فيها غيره.

* ويوم هجرته إلى المدينة، اختار عليّاً يبيت في فراشه، ثمّ يؤدّي ما كان عند النبيّ من أمانات، ثمّ يهاجر بمن بقي من نساء بني هاشم.

* ثمّ اختصّه بمصاهرته في خير بناته سيّدة نساء العالمين(136)، بعد أن تقدّم لخطبتها أبو بكر ثمّ عمر فردّهما صلى الله عليه وآله وسلم !(137) وقال لها: «زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً»(138).

* وآخى بين المهاجرين والاَنصار، ثمّ اصطفى عليّـاً لنفسه فقال له:

____________

(134) مسند أحمد 1|209، المستدرك 3|183 وتلخيصه للذهبي، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 2 و 3، تاريخ الطبري 2|311، مجمع الزوائد 9|103.

(135) نهج البلاغة ـ شرح صبحي الصالح ـ: 300 ـ 301 خطبة 192.

(136) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 127 و 128 و 129.

(137) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 120.

(138) مسند أحمد 5|26.


الصفحة 245
«أنت أخي في الدنيا والآخرة»، أو: «أنت أخي وأنا أخوك»(139). فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول ربّ العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعليّ بن أبي طالب، أخوَين(140).

* وفي سائر حروبه كان لواؤه صلى الله عليه وآله وسلم أو راية المهاجرين بيد عليٍ عليه السلام (141).

* وفي خيبر بعث أبا بكرٍ براية، فرجع ولم يصنع شيئاً، فبعث بها عمر، فرجع ولم يصنع شيئاً، فقال: «لاَُعطينَّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، لا يخزيه الله أبداً، ولا يرجع حتّى يفتح عليه» فدعا عليّـاً ودفع إليه الراية ودعا له، فكان الفتح على يديه(142).

وفي عبارة بعضهم: بعث أبا بكر فسار بالناس فانهزم حتّى رجع إليه، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه(143).. وفي عبارة بعضهم: فعاد يُجبِّن أصحابه ويجبّنونه!(144).

* ويقول لاَصحابه: «إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله» فيسـتشـرفون له، كلٌّ يقول: أنا هـو؟ وفيهم أبو بكر وعمر،

____________

(139) مسند أحمد 1|230، سنن الترمذي ج 5 ح 3720، مصابيح السُـنّة ج 4 ح 4769، الطبقات الكبرى 3|22، البداية والنهاية 7|371، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ 4|209.

(140) سيرة ابن هشام 2|109.

(141) الاِصابة 2|30 ترجمة سعد بن عبادة.

(142) المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ: ج 7 فضائل عليّ ح 17، سنن النسائي ج 5 ح 8402، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 14 وصحّحه، المستدرك 3|37 وصحّحه ووافقه الذهبي، سيرة ابن هشام 3|216، تاريخ الطبري 3|12، الكامل في التاريخ 2|219، البداية والنهاية 7|373.

(143) ابن أبي شيبة| المصنّف 7|497 ح 17 فضائل عليّ.

(144) الحاكم والذهبي| المستدرك 3|37 وتلخيصه.


الصفحة 246
فيقول: «لا، لا، لكنّه عليّ»(145).

* ويبعث أبا بكر بسورة براءة أميراً على الحجّ، ثمّ يبعث خلفه عليّـاً فيأخذها منه، فيعود أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أحَدَثَ فيَّ شيءٌ، يا رسول الله؟!

فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا، ولكنّي أُمرتُ ألاّ يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل مـنّي»!(146)

* وكان لبعض الاَصحاب أبواب شارعة في المسجد، فقال لهم: «سدّوا هذه الاَبواب، إلاّ باب عليّ»(147).

* وكان الصحابة عنده في المسجد، فدخل عليٌّ، فلمّا دخل خرجوا، فلمّا خرجوا تلاوموا! فرجعوا، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «والله ما أنا أدخلته وأخرجتكم، بل الله أدخله وأخرجكم»(148).

* ودعاه يوم الطائف يناجيه، فقال بعضهم: لقد طال نجواه مع ابن عمّـه!!

فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أنا انتجيته، ولكنّ الله انتجاه»(149).

____________

(145) مسند أحمد 3|82، صحيح ابن حبّان 9|46 ح 6898، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ج 7 ـ فضائل عليّ ـ ح 19، البداية والنهاية 7|398.

(146) مسند أحمد 1|3 و 331، و 3|212 و 283، و 4|164 و 165، سنن الترمذي ج 5 ح 3719، سنن النسائي ج 5 ح 8461، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 23 و 72 و 73 وصحّحها جميعاً، البداية والنهاية 7|374 و 394، تفسير الطبري 10|46.

(147) مسند أحمد 1|331، سنن الترمذي ج 5 ح 3722، الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 23 و 41، البداية والنهاية 7|374 و 379، فتح الباري 7|13، الاِصابة 4|270.

(148) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 38.

(149) سنن الترمذي ج 5 ح 3726، مصابيح السُـنّة ج 4 ح 4773، جامع الاَُصول ج 9 ح 6493، البداية والنهاية 7|369.


الصفحة 247
* في حجّة الوداع أشركه في هديه، دون غيره من أصحابه أو ذوي قربـاه(150).

* وفيها خطب خطبته الشهيرة في عليٍ في طريق عودته من حجّة الوداع، وهو آخذ بيده يرفعها حتّى يراها الجمع الكبير: «إنّما أنا بشر يوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم ما إن تمسّـكتم به لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي».. «ألستُ أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟! فمن كنت مولاه فعليٌّ مـولاه»(151).

* وخصّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مدّة حياته الشريفة بمنزلةٍ ليست لاَحد! خصّه بساعةٍ من السحر يأتيه فيها كلّ ليلة(152).

* وإذ نـزل قـولـه تـعـالى: (وَأْمُـرْ أهـلَـك بالـصـلاة)(153) كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأتي باب عليٍ صلاة الغداة كلّ يوم، ويقول: «الصلاة، رحمكم الله، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً»(154).

* وحين يُتوَفّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخصُّ عليّـاً بميراثه دون عمّه العباس، فسُئل وُلْـدُ العبّاس عن ذلك فقالوا: إنّ عليّـاً كان أوّلنا به لحوقاً، وأشدّنا به لصوقاً(155).

____________

(150) الكامل في التاريخ 2|302.

(151) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 76، المستدرك وتلخيصه 3|109، البداية والنهاية 5|228. وقد تقدّم.

(152) الخصائص ـ بتخريج الاَثري ـ: ح 112 و 113، وخرّجه على النسائي وابن ماجة وابن خزيمة من وجوه.

(153) سورة طـه 20: 132.

(154) تفسير القرطبي 11|174، تفسير الرازي 22|137، روح المعاني 16|284 والنصّ عنه.

(155) السنن الكبرى 5|139 ح 8493 و 8494.


الصفحة 248
وغير هذا كثير، وقد عرفه الصحابة في حياة الرسول..

الصحابـة والمعرفـة بالترشـيح

سمع الصحابة وشهدوا نصوص النبيّ وسلوكه في ترشيح عليٍ وتعيـينه لخلافته مباشرةً، فأدركوا ذلك ووعوه، حتّى ظهر في أقوال بعضهم، وظهر عند آخرين قولاً وعملاً.

* فاشتهر عن بعضهم تمنّيه أن لو كانت له واحدة من تلك الخصال التي خُصَّ بها عليٌّ عليه السلام، كما عرف ذلك عن: عمر بن الخطّاب، وسعد بن أبي وقّاص، وعبـدالله بن عمر(156).

* واشتهر عن آخرين متابعتهم له حتّى عرفوا في ذلك العهد بشيعة عليّ، منهم: أبو ذرّ، وعمّار، وسلمان، والمقداد(157).

* بل كان عامّة المهاجرين والاَنصار لا يشكّون في عليّ(158).

* وأبو بكر سمع بنفسه قول ابنـته عائشة لرسول الله بصوت عال: «والله لقد علمتُ أنّ عليّـاً أحبّ إليك من أبي»! فأهوى إليها ليلطمها، وقال: يا ابنة فلانة، أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله(159).

* قال معاوية بن أبي سفيان في رسالته إلى محمّـد بن أبي بكر، وهي الرسالة التي أشار إليها الطبري ثمّ قال: كرهتُ ذِكرها لاَُمور لا تحتملها

____________

(156) منهاج السُـنّة 3|11 ـ 12، المستدرك 3|125، مجمع الزوائد 9|130، الصواعق المحرقة: 127 باب 9 فصل 1، تاريخ الخلفاء: 161.

(157) أبو حاتم الرازي| كتاب الزينة: 259 تحقيق عبـدالله سلّوم السامرّائي، محمّـد كرد علي| خطط الشام، تاريخ ابن خلدون 3|214 ـ 215.

(158) الاستيعاب 3|55، تاريخ اليعقوبي 2|124، تاريخ الطبري 3|202، الكامل في التاريخ 2|335، شرح نهج البلاغة 6|21.

(159) أخرجه النسائي بإسناد صحيح في السنن الكبرى 5|139 ح 8495.


الصفحة 249
العامّة!(160)، قال فيها معاوية مخاطباً محمّـد بن أبي بكر: «قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّـنا نرى حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرَّزاً علينا»(161).

* وشـهيرةٌ كلمة عمر بن الخطّاب يـوم غـدير خـمّ: «هنيئاً لك يابن أبي طالب، أصبحتَ مولى كلّ مؤمن ومؤمنة»(162).

علماً أنّ هذه الكلمة «مولى» و «وليّ» لم تُعرف لاَحد من الصحابة إلاّ لعليٍ عليه السلام في جملة من الاَحاديث النبويّـة:

«مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه».

«وهو وليُّـكم بعدي».

«أنت وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي».

بل في القرآن أيضاً: (إنّما وليّـكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(163).

قال الآلوسي: غالب الاَخباريّين على أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب(164)، وعليه شِبهُ إجماعٍ لدى المفسِّـرين(165)، وطائفة من أصحاب

____________

(160) راجع صفحة من بحث «هويّة التاريخ».

(161) مروج الذهب 3|21، وقعة صِفّين: 118 ـ 120، شرح نهج البلاغة 3|188. وللرسالة تتمّة تأتي في محلّها من بحث لاحق.

(162) مسند أحمد 4|281، تفسير الرازي 12|49 ـ 50، سبط ابن الجوزي| تذكرة الخواصّ: 29 ـ 30.

(163) سورة المائـدة 5: 55.

(164) روح المعاني 6|167.

(165) معالم التنزيل ـ للبغوي ـ 2|272، الكشّاف 1|649، تفسير الرازي 12|26، تفسير أبي السعود 2|52، تفسير النسفي 1|420، تفسير البيضاوي 1|272، فتح القدير ـ للشوكاني ـ 2|53، أسباب النزول ـ للواحدي ـ: 114، لباب النقول ـ للسيوطي ـ: 93.


الصفحة 250
الحـديث(166).

وهذا كلّه كان يعرفه الصحابة من المهاجرين والاَنصار خاصّة لقربهم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

* ومن قول محمّـد بن أبي بكر في رسالته إلى معاوية، يصف عليّـاً عليه السلام: «وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّه، وأبو وُلْده، أوّل الناس له اتّباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويُطلعه على أمره»(167).

* وعبـدالله بن عبّاس، حبر الاَُمّة، يصفه أيضاً لمعاوية، فيسمّيه «سـيّد الاَوصيـاء»(168).

* وأبو ذرّ الغفاري: «وعليُّ بن أبي طالب وصيّ محمّـد ووارث علمـه»(169).

* وحذيفة بن اليمان: «إلحقوا بأمير المؤمنين، ووصيّ سيّد المرسَـلين»(170).

* وعمرو بن الحَمِق الخزاعي، الصحابي الذي دعا له النبيّ أن يُمتَّع بشـبابه، فبقي إلى آخر عمره يتمتّع بكلّ سيماء الشباب، يقول لعليّ: أحبـبتك بخصال خمس: إنّك ابن عمّ رسول الله، ووصيّه..(171).

* والحسن السبط عليه السلام خطب خطبته الاَُولى بعد وفاة أبيه فذكر: عليّـاً

____________

(166) أخرجه: عبد الرزّاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب في «المتّفق والمفترق». انظر: فتح القدير ـ للشوكاني ـ 2|53.

(167) مروج الذهب 3|21، وقعة صِفّين: 118، شرح نهج البلاغة 3|188.

(168) مروج الذهب 3|8.

(169) تاريخ اليعقوبي 2|171.

(170) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 2|188.

(171) وقعة صِفّين: 103 ـ 104، شرح نهج البلاغة 3|81 ـ 82.


الصفحة 251
خاتم الاَوصيـاء(172).

* وخزيمة بن ثابت، ذو الشهادتين، يصفه إلى عائشة، فيقول:

وصيّ رسول الله من دون أهلِه * وأنتِ على ما كان مِن ذاكَ شاهِدَهْ(173)

* وحُجر بن عَدِيّ، حجر الخير، الصحابي الذي بكاه أهل السماء، يصفه في أُرجوزة له يقول في آخرها:

واحفظه ربي واحفظ النبيّا
فيه، فقد كان له وليّا
ثم ارتضاه بعده وصيا(174)

* والنقيب البدري أبو الهيثم بن التيّهان، يقول فيه:

إنّ الوصيّ إمامنا ووليّنا * بَرَحَ الخفاءُ وباحتِ الاَسرارُ(175)

* فكما عرفوه «وليّاً» عرفوه «وصيّاً» أيضاً، وذو الشهادتين حين أدلى، في حديثه المتقدم، بشهادتيه على أنّ عليّـاً وصيّ النبيّ، لم يقف عند هذا الحدّ، بل ألزم عائشة أيضاً الشهادة على ذلك.

إذن لم يكن لقب «الوصيّ» محدَثاً كما صوّره بعض الدارسين الّذين أغفلوا شهادة التاريخ ثمّ أسقطوا نزعاتهم الشخصية على المفاهيم، وعلى التاريخ كلّه، فصوّروا «الوصيّ» وكأنّه من صنع اليهود، ومنهم انتقل إلى

____________

(172) مجمع الزوائد 9|146.

(173) شرح نهج البلاغة 1|143 ـ 150 فصل (ما ورد في وصاية عليٍ من الشِعر) أورد فيه أربعاً وعشرين مقطوعةً للصحابة والتابعين، ثمّ قال: والاَشعار التي تتضمّن هذه اللفظة كثيرة جدّاً، تجلّ عن الحصر، وتعظم عن الاِحصاء والعدّ.

واُنظر أيضاً: الكامل ـ للمبرّد ـ 2|170 ـ 171 في رثاء عليّ بن أبي طالب.

(174) شرح نهج البلاغة 1|143 ـ 150.

(175) شرح نهج البلاغة 1|143 ـ 150.


الصفحة 252
المسلمين(176)، عن طريق عبـدالله بن سبأ المزعوم أو غيره(177)، أو هو من صنع الشيعة ابتدعه هشام بن الحكم (191هـ) ولم يكن معروفاً قبله لا من ابن سبأ ولا من غيره!(178)، فالاَشعار المتقدّمة المحفوظة عن الصحابة سبقت ميلاد هشام بن الحكم بنحو ثمانين سنة!

كـلاّ، بل ذاك ممّا عرفه الصحابة أو بعضهم لعليٍ، وحفظه تاريخهم، لهم أو عليهم!

ربّما يقال إنّ في تلك المصادر نزعة شيعية، والشيعة ليس من حقّهم أن يساهموا في كتابة التاريخ، بل ليس من حقّهم أن يكتبوا تاريخهم الخاصّ أيضـاً!

لكن هل يقال هذا في ابن حجر العسقلاني؟!

في شرحه لصحيح البخاري يُثبـت ابن حجر أنّ (الشيعة) كانوا يتداولون أحاديث الوصيّة، فنهضت السيّدة عائشة في مواجهة ذلك التيّار بحديثها الذي أثبته البخاري، تقول فيه إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزل به الموت ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ثمّ أفاق، فقال: «اللّهمّ الرفيق الاَعلى» فكانت آخر كلمة تكلّم بها «اللّهمّ الرفيق الاَعلى».

قال العسقلاني نقلاً عن الزهري في ما يرويه عن جماعة من أهل العلم فيهم عروة بن الزبير: كأنّ عائشة أشارت إلى ما أشاعته الرافضة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوصى إلى عليٍ بالخلافة وأن يوفي ديونه!(179).

لكن لا العسقلاني ولا الزهري ولا جماعة أهل العلم يشاءون أن

____________

(176) د. مصطفى حلمي| نظام الخلافة: 157.

(177) كما نقله الكشّي في رجاله| ترجمة عبـدالله بن سبأ.

(178) د. محمّـد عمارة| الخلافة ونشأة الاَحزاب الاِسلامية: 155.

(179) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8|122.


الصفحة 253
يتقدّموا في التحقيق خطوة واحدة إلى الاَمام، لاَنّ الخطوة اللاحقة سوف تنفض أيديهم ممّا وضعه فيها حديث عائشة!

فالسيّدة أُمّ سَلَمة أقسمت على كذب الحديث المرويّ عن عائشة، حين أقسمت أنّ آخر الناس عهداً بالنبيّ هو عليّ بن أبي طالب! قالت: «والذي أحلف به، إنْ كان عليٌّ لاَقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عُدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداةً بعد غداة يقول: جاء عليّ؟ مراراً، فجاء بعـد، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنتُ من أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه عليٌّ، فجعل يُسارّه ويناجيه، ثمّ قُبض صلى الله عليه وآله وسلم من يومه ذاك وكان أقرب الناس به عهداً»(180).

فالصحابة كانوا يعرفون ذلك وإنْ أنكرته عائشة، فدخل حديثها صحيح البخاري دون حديث أُمّ سلمة الذي كان رجاله من رجال الصحيح!

* فى محاورة السيّدة أُمّ سلمة للسيّدة عائشة وقد أغضبتها البيعة لعليٍ فعزمت على المسير إلى البصرة، أعادت عليها أشياء كثيرة تُذكّرها ما تعلمه من حقّ عليّ عليه السلام، ومن ذلك: «قالت أُمّ سلمة: يوم كنتُ أنا وأنتِ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأقبل أبوكِ وعمر فاستأْذَنا، فقمنا إلى الحجاب، فدخلا ثمّ قالا: يا رسول الله، إنّا والله ما ندري ما قدر ما تصحبنا، أفلا تعلمنا خليفتك فينا فيكون مفزعنا إليه؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنّي قد أرى مكانه، ولو فعلتُ لنفرتم عنه كما نفرت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران!

فلمّـا خرجـا خرجـتُ أنـا وأنتِ فقلـتِ له ـ وكنتِ جريئـةً عليه ـ: يا رسول الله، مَن كنتَ مستخلفاً عليهم؟

____________

(180) مسند أحمد 6|300، وصحّحه الهيثمي في مجمع الزوائد 9|112.


الصفحة 254
فقال: خاصف النعل.

فنظرتِ إلى عليٍ فقلتِ: ما أرى إلاّ عليّ بن أبي طالب!

فقال: هـو ذاك.. أتذكرين هذا؟!

قالت: نعـم».

هذا الحـوار نقلته مصادر مهمّـة(181).

* والحوارات التي أدارها عمر بن الخطّاب مع ابن عبّاس هي الاَُخرى حوارات كاشفة عن هذا المعنى:

* ففي أحدها:

يكشف عمر عن معرفته بذلك فيقول: «لقد كان النبيّ يَربَع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعتُ من ذلك، إشفاقاً وحيطةً على الاِسلام! وربِّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبـداً.

أمّا ابن عبّاس فيؤكّد له أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد نصّ على عليٍ، وأنّه سمع ذلك من عليٍ والعبّاس(182).

* وفي أُخرى: يؤكّد عمر إرادة قريش، فيقول: كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فتجخفوا جخفاً(183)، فنظرتْ قريش لنفسها فاختـارت!!

لكنّ ابن عبّاس يحمل على هذه الحجّة حملاً عنيفاً، متسلّحاً بآي القرآن هذه المرّة، فيقول: «أمّا قولك: كرهت قريش! فإنّ الله تعالى قال لقوم:

____________

(181) ابن أعثم| الفتوح 1|456، ابن الاِسكاف| المعيار والموازنة: 27 ـ29، ابن أبي الحديد| شرح نهج البلاغة 6|217 ـ 218، عمر رضا كحّالة| أعلام النساء 3|38.

(182) شرح نهج البلاغة 12|21 عن أحمد بن أبي طاهر في «تاريخ بغداد».

(183) الجخـف: التكـبّر.


الصفحة 255
(ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللهُ فأحبط أعمالهم)(184).

وأمّا قولك: إنّا كنّا نجخف! فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال له الله تعالى: (وإنّك لَعلى خُلُقٍ عظيم)(185) وقال له: (واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين)(186).

وأمّا قولك: فإنّ قريشاً اختارت! فإنّ الله تعالى يقول: (وربّك يخلقُ ما يشاء ويختار ما كانَ لهم الخِيَرة)(187).

وقد علمتَ يا أمير المؤمنين أنّ الله اختار مِن خَلقه لذلك مَن اختار! فلو نظرتْ قريش من حيث نظر الله لها لَـوُفِّـقَت وأصابت!!

ولهذا الحوار مصادره المهمّة أيضاً(188).

وهذه هي نظريّة النصّ في إطارها التامّ: (وربّك يخلقُ ما يشـاء ويختار ما كانَ لهم الخِيَرة)، وإنّ الله اختار مِن خلقه لهذا الاَمر مَن اختار.. النظرية التي أصبحت من مقولات الشيعة ومن خصائص التشـيّع وأعمدته(189)، ومن لا يحبّ أن يكون شيعيّاً فعليه أن يخالف فيها ولو بمجرّد الاِعراض عنها!

* وأُخـرى:

إنّ ابن عمّك قد أجهد نفسه في العبادة، يرشّح نفسه بين

____________

(184) سورة محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم 47: 9.

(185) سورة القلم 68: 4.

(186) سورة الشعراء 26: 215.

(187) سورة القصص 28: 68.

(188) تاريخ الطبري 4|223، الكامل في التاريخ 3|63 ـ 65، شرح نهج البلاغة 12|53 ـ 54.

(189) أُنظر: ابن المطهّر الحلّي| الاَلفين: 36، آل كاشف الغطاء| أصل الشيعة وأُصولها: 98.


الصفحة 256
الناس للخلافة؟!

قال ابن عبّاس: وما يصنع بالترشيح؟! قـد رشّحه لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصُرِفت عنـه!(190).

* والحوار الطويل

الذي أداره عثمان أيّام خلافته مع ابن عبّاس، يكشف عن وضوح تامّ لهذه القضيّة، إذ يختم عثمان حديثه بقوله: «ولقد علمتُ أنّ الاَمر لكم، ولكنّ قومكم دفعوكم عنه، واختزلوه دونكم»!

فأكّد ابن عبّاس هذا المعنى في جوابه، وذكر العلّة فيه كما يراها، ويرى أنّها لم تكن خفيّةً أيضاً على عثمان، فيقول: «أمّا صَرفُ قومِنا عنّا الاَمرَ فعن حسـدٍ قد والله عرفتَه...»(191).

هذا كلّه وكثير غيره عرفه الصحابة، وحفظه التاريخ، لهم أو عليهم!

فحقَّ إذن لقائل أن يقول: إنّ غالبية المسلمين حين توفّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانوا مع الاتّجاه الذي يمثّله عليُّ بن أبي طالب وأصحابه، لاَنّ النبيّ كان زعيم هذا الاتّجاه(192).

لقد كان عامّة المهاجرين والاَنصار لا يشكّون في عليّ(193).

____________

(190) شرح نهج البلاغة 12|80، عن أمالي أبي جعفر محمّـد بن حبيب، صاحب «المحبّر»، من علماء بغداد باللغة والشعر والاَخبار والاَنساب. ترجمته في معجم الاَُدباء 18|112.

(191) أخرجه الزبير بن بكّار في «الموفّقيّات»، وعنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 9|9.

(192) أحمد عبّاس صالح| مجلّة «الكاتب» القاهرية ـ يناير 1965، وعنه محمّـد جواد مغنية| الشيعة في الميزان: 431.

(193) الاستيعاب 3|550 ترجمة النعمان بن العجلان، تاريخ اليعقوبي 2|124، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 6|21.


الصفحة 257

النصّ والترشيح في حديث عليّ

واضح جدّاً في قراءة تلك الحقبة من التاريخ أنّ عليّـاً عليه السلام هو أكثر مَن تبنّى إظهار النصوص والاِشارات الدالّة على ترشيحه لخلافة الرسول، أو النصّ عليه بالاسـم.

فكلماته دالّة على إيمانه بحقّه في الخلافة بعد الرسول بلا فصل، وبترشيح من الرسول أو نصّ، وأنّ انتقال الخلافة إلى غيره كان بغير حقّ، بل اسـتئثار وغلَبَة، بل كلماته نصوص صريحة في هذه المعاني كما سنرى هنا.

أمّا سلوكه مع الخلفاء فهو دالّ على أنّه عليه السلام بعد بيعته لهم لم يكن يرى بُطلان رئاستهم بطلاناً يتبعه بطلان جميع العقود التي تتمّ في أيّامهم، لا عقود الزواج فحسب، بل عقود الأموال والاِدارات أيضاً.

في حقّه خاصّـة:

عليّ عليه السلام هو الذي أعاد إلى الاَذهان أحاديث نبويّةً تبرز حقّه بالخلافة بلا منازع، لم يكن مأذوناً بها أيّام الخلفاء، إذ منعوا من الحديث إلاّ ما كان في فريضة، يريدون بها الاَحكام وفروع العبادات:

1 ـ فقد جمع الناس أيّام خلافته فخطبهم خطبته المنقولة بالتواتر، يناشد فيها أصحاب رسول الله مَن سمع منهم رسولَ الله بغدير خمّ يخطب فيقول: «مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه» إلاّ قام فشهد(194).

2 ـ وعليٌّ هو الذي أعاد نشر حديث آخر يرشّحه على أبي بكر وعمر خاصّة، إذ أخبر النبيّ أنّ مِن أصحابه مَن يقاتل بعده على تأويل القرآن كما

____________

(194) تقدّم مع مصادره، راجع صفحة228.


الصفحة 258
قاتل هو صلى الله عليه وآله وسلم على تنزيله، فتمنّى أبو بكر أن يكون هو ذلك الرجل، فلم يصدّق النبيّ أُمنيّـته، بل قال له «لا»! فتمنّى ذلك عمر لنفسه فلم يكن أحسن حظّـاً من أبي بكر، ثمّ قطع النبيّ الاَمانيّ كلّها حين أخبرهم أنّه عليٌّ، لا غيـر!(195).

هذه الاَحاديث وغيرها وإنْ رُويت عن غيره إلاّ أنّ روايتها عنه امتازت بكونها خطبةً على جمهور الناس، لا حديثاً لواحد أو لبضعة نفر، وهذا أبلغ في التأكيد على حقّه الذي أيقن به، وأيقن بأنّ كثيراً من الصحابة كانوا يعرفونه ولا يجهلونه!

3 ـ وقد ذُكر عنه أكثر من هذا بكثير في يوم الشورى أو بعدها، لكن اختلفوا في تفصيله وفي إسناده أيضاً، وإنْ كان قد ثبـت عندهم ذلك بالجملة، وأقلّ ما ذكر من مناشدته تلك ما أخرجه ابن عبد البرّ: قال عليٌّ لاَصحاب الشورى: «أنشدُكم الله، هل فيكم أحد آخى رسول الله بينه وبينه إذ آخى بين المسلمين غيري؟».

وقال ابن عبد البرّ بعده: رويناه من وجوه عن عليٍ رضي الله عنه أنّه كان يقول: «أنا عبدُ الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد غيري إلاّ كذّاب»(196).

ورواها في «كنز العمّال» حديثاً طويلاً عن أبي الطفيل أنّه سمع عليّـاً يوم الشورى يقول.. الحديث(197)، وما أخرجه ابن عبد البرّ قطعة منه، لكنّ إسناد «كنز العمّال» فيه جهالة(198)، وقد دار حوله جدل، فقيل: رواه زافر عن

____________

(195) سنن الترمذي ج 5 ح 3715، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ج 5 ح8416. وقـد تقـدّم.

(196) الاستيعاب 3|35.

(197) كنز العمّال ج 5 ح 14243.

(198) زافر، عن رجل، عن الحارث بن محمّـد، عن أبي الطفيل.


الصفحة 259
رجل، فالرجل مجهول، وزافر لم يتابع عليه، وأنكره بعضهم لاَجل متنه.

ولا يعتدّ بهذا الاِنكار لاَنّه مبنيٌّ على فهم لا أصل له يصوّر البيعـة لأبي بكر على أنّها كانت إجماعاً أو شبه إجماع، وما خالف هذا التصوّر فهو عنده منكَر، وهذا فرط خيال كما هو ثابت.

وأمّا الاِسناد فقد توبع عليه زافر كما في الاِسناد الذي أورده ابن عبد البرّ في «الاسـتيعاب»(199)، وقد قال ابن حجر العسقلاني: إنّ زافراً لم يُتّهم بكذب، وأنّه إذا توبع على حديث كان حَسَناً(200).

وفي أوّل هذا الحديث، قال أبو الطفيل: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الاَصوات بينهم، فسمعتُ عليّـاً يقول: «بايع الناسُ لأبي بكر وأنا والله أَوْلى بالاَمر منه، وأحقّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافةَ أن يرجعَ الناسُ كفّاراً يضربُ بعضُهم رقابَ بعض بالسيف، ثمّ بايع الناسُ عمرَ وأنا والله أَوْلى بالاَمر منه، وأحـقّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجعَ الناسُ كفّاراً يضربُ بعضُهم رقابَ بعضٍ بالسيف، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان! إذاً أسمع وأُطيع» ثمّ ذكر أمر الشورى وشرع يحصي عليهم من فضائله وخصائصه التي امتاز بها عليهم، وكانت أُولاها القطعة التي رواها ابن عبد البرّ في المـؤاخاة(201).

ولهذا الكلام ما يشهد له أيضاً مما سيأتي في فقرات لا حقه.

____________

(199) عبد الوارث، حدّثنا قاسم، حدّثنا أحمد بن زهير، حدّثنا عمرو بن حمّاد القتاد، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الاَزدي، عن زياد بن المنذر عن سعيد بن محمّـد الاَزدي، عن أبي الطفيل.

(200) أُنظر: كنز العمّال 5|726.

(201) وقريب منه أخرجه الموفّق الخوازمي بالاِسناد إلى أبي ذرّ، وفيه أنّ المناشدة حصلت بعد الشورى وعزمهم على مبايعة عثمان. المناقب ـ للخوارزمي ـ: 213.