الصفحة 244
وبكافة المناصب المتفرقة عنها تصرف المالك بملكه، فالخليفة يولي منصب الخلافة لمن يشاء، ويحرم منه من يشاء، حتى قال ابن خلدون: " إن الخليفة ينظر للناس حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته فيقيم لهم من يتولى أمورهم بعد وفاته " (1) فابن خلدون يصور هذه الحرية المطلقة بالتصرف بمنصب الخلافة كأنها حق مطلق للخليفة الغالب القائم!! فمنصب الخلافة وكافة المناصب المتفرعة عنها أمتعة أو ممتلكات خاصة بتصرف بها الخليفة على الوجه الذي يريد!! ولكن ابن خلدون وأمثاله لا يعطون هذا الحق لرسول الله!! فالخلفاء أصروا على التصرف بمنصب الخلافة وكافة المناصب المتفرعة عنها، دفعا للفتنة، وحتى لا تترك الأمة من بعدهم هملا ولا راعي لها على حد تعبير السيدة عائشة (2) وتجنبا للتفريط وضياع الأمانة على حد تعبير عبد الله بن عمر بن الخطاب، وتلك أمور لحظها الخلفاء، وهم يقولون ضمنا بأن الرسول لم يلحظها!!!.

هذا على مستوى منصب الخلافة، أما على مستوى المناصب المتفرعة عن منصب الخلافة كالإمارات والولايات، وقيادات الجيش والأعمال، وكبار الوظائف فقد كانت مملوكة للخليفة أيضا يتصرف بها تصرف المالك بملكه، فيحرم منها عباد الله المخلصين كسعد بن عبادة وعمار بن ياسر وأبي ذر والمقداد والحباب بن المنذر وغيرهم يحرمها عليهم حرمة دائمة، ويعطيها لأعداء الله السابقين الذين لعنهم الله على لسان رسوله، وحذر منهم رسول الله كمعاوية والحكم بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن أبي سرح وأمثالهم والأعور السلمي الذي شهد حنينا مشركا وقد لعنه رسول الله، ومؤهله الوحيد أنه كان من أشد المبغضين للإمام علي، لقد استعان به عمر وجعله على مقدمة جيش (3) واستعان أيضا

____________

(1) مقدمة ابن خلدون ص 127.

(2) الإمامة والسياسة ج 1 ص 23، وأعلام النساء ج 3 ص 786.

(3) الإصابة لابن حجر ج 2 ص 541.


الصفحة 245
بيعلى بن منبه وولاه على بعض بلاد اليمن، ومؤهله أنه كان من الحاقدين على علي بن أبي طالب (1) واستعان ببشر بن أرطأة وإياس بن صبيح وهما من أصحاب مسيلمة النبي الكذاب ومع هذا فقد ولاه عمر القضاء على البصرة (2) واستعان عمر أيضا بطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي فأعجب به عمر وكتب إلى أمرائه أن يشاوروا طليحة (3) واستعان بمعاوية بن أبي سفيان وأمه آكلة الأكباد، وأبوه رأس الأحزاب، وقد قاد هو وأبوه وأخوته جبهة الشرك أثناء حربها لرسول الله، وألب هو وأبوه وأخوته العرب على رسول الله وجندهم ضده، وحاربوا الله ورسوله بكل وسائل الحرب، حتى أحيط بهم فاضطروا للاستسلام والتلفظ بكلمة الإسلام، ومع هذا ولى عمر أخاه يزيد على الشام ولما مات يزيد ورثه بالولاية أخوه معاوية وأطلق عمر يده في بلاد الشام يتصرف تصرف المالك بملكه حيث قال له: " لا آمرك ولا أنهاك " (4) وكان عمر يمدح معاوية ويوطد له ويقول عنه: " إنه فتى قريش وابن سيدها " (5) وكان يعلم أن معاوية يعد العدة للاستيلاء على منصب الخلافة ومع هذا تركه يكمل استعداده قال عمر لأهل الشورى: " إن اختلفتم دخل عليكم معاوية من الشام " (6) وكان يعلم أن معاوية يستعد لحرب داخلية ومع هذا تركه وشجعه بقوله: " يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق " فليس لدى المالك للخلافة، وللمناصب المتفرعة منها ما يمنع من أن يقدم المتأخرين فيسلمهم ممتلكاته، أو أن يأخر

____________

(1) الاستيعاب ج 3 ص 662 - 663.

(2) الاستيعاب ج 1 ص 120.

(3) البداية والنهاية لابن الأثير ج 7 ص 130.

(4) البداية والنهاية ج 8 ص 125، وتاريخ الطبري ج 6 ص 184.

(5) البداية والنهاية ج 8 ص 125، والاستيعاب ج 8 ص 397.

(6) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 535.

(7) الدلائل لابن سعد، وكنز العمال ج 12 ص 354.


الصفحة 246
المتقدمين فيحرمهم من هذه الممتلكات، فهذا حر بما يملك.

والخلاصة أن ذلك النفر قد حول منصب الخلافة إلى ملك خاص له وعبأ كافة المناصب المتفرعة عن منصب الخلافة بالعناصر المؤيدة له ولسياسته والكارهة لآل محمد وللقلة المؤمنة، ونتيجة ذلك صارت السلطة كلها ملكا شخصيا خالصا لهذا النفر وأعوانه، وسيفا مسلطا على أعدائهم!!.


الصفحة 247

الفصل الثاني
التناقض الصارخ بين واقع دولة الخلافة والشريعة الإلهية

على صعيد الإمامة أو الرئاسة العامة أو الخلافة: لقد اختار الله محمدا، فأعده وهيأه وأهله للرئاسة العامة وأسند إليه منصب الرئاسة العامة لأنه الأفضل والأعلم والأفهم والأقرب لله، وكل هذه مؤهلات ضرورية لتتكون القدوة المثالية، وليتمكن من قيادة الأمة وفض ما يشجر بين أفرادها وجماعاتها من مشكلات وفق أحكام القانون الإلهي السائد في دولته، لقد كان النبي معصوما عن الوقوع في الخطأ والزلل، لذلك فلا يخشى منه إساءة استعمال السلطة أو استغلال الصلاحيات الهائلة المخولة له كرئيس بموجب القانون الإلهي، لأن عصمته والتزامه بالشرعية الإلهية وفهمه اليقيني لها ضمانات حقيقية ضد الانحراف أو إساءة استعمال السلطة.

وكان من المفترض أن تنتقل الإمامة أو الرئاسة العامة أو خلافة النبي بعد وفاة النبي إلى ذلك الشخص الذي أعده الله لهذه المهمة ليتابع طريق النبوة ويتم ويكمل ما لم يتحقق من برامجها هذا هو التنظير الديني للرئاسة وهذا هو حكم الإسلام.

أما على صعيد الواقع فالأمر قد اختلف جدا، فالمؤهل الوحيد لكل

الصفحة 248
اللذين خلفوا النبي بالرئاسة العامة هو التغلب والقهر، فأي شخص يغلب على الرئاسة العامة أو الخلافة يتقلدها، والمتغلب أو القاهر شخص عادي من جميع الوجوه، فلم يدع أحد من الخلفاء بدءا من الأول وانتهاء بآخر خلفاء بني عثمان بأنه الأعلم والأفضل والأتقى والأقرب لله ولرسوله، بل صرح أول الخلفاء قائلا: " فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم... " (1).

فالخليفة الأول صدق في ما قال، واعترف صراحة وضمنا بأن بين المخاطبين من هو أعلم وأفضل وأقرب لله ولرسوله منه، ومع هذا فقد تولى الخلافة رسميا لأنه الغالب، وعلى الأمة أن تقبل ذلك شاءت أم أبت، وأن تبايعه راضية أو كارهة لأنه غالب، ولنفترض أن جماعة من المسلمين قد رفضت بيعته، فليس بينه وبينها إلا السيف، فمن يغلب فهو الخليفة وهو القائم مقام الرسول (2) ولتبرير ذلك قالوا بجواز إمامة المفضول عند عارض يمنع من نصب الفاضل (3) وقال القاضي في المواقف: جوز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل... وقال الشريف الجرجاني: كما إذا فرض أن العسكر والرعية لا ينقادون للفاضل بل للمفضول (4).

فحسب قواعد القانون الإلهي فإن الإمام من بعد النبي هو علي بن أبي طالب، ومن المفترض أن تنقاد له الأمة لأن الله قد اختاره وأعلنه رسوله، ولكن تتحرك فئة معينة لا يعجبها هذا الاختيار فتدعي أن الناس لا ينقادون لهذا الذي اختاره الله ورسوله ثم تستقطب الناس حولها، ثم تنصب خليفة، وتجير الناس على بيعة هذه الخليفة ثم تدعي أن الفتنة قد انقطعت

____________

(1) الطبقات لابن سعد ج 2 ف 2 ص 78 طبعة ليدن.

(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 7 - 8 و 7 - 11، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 15.

(3) التمهيد للباقلاني تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ص 494، والسنة بعد الرسول للسيد علي الشهرستاني، تراثنا عدد 59 و 60 ص 118.

(4) شرح المواقف ج 3 ص 379، وانظر المرجعين السابقين.


الصفحة 249
بهذا الخليفة لذلك هو أولى من الفاضل مع أنه مفضول وهكذا تتعطل نصوص القانون الإلهي، وتسود القوانين التي يضعها الغالب!!

وهنا تقع المشكلات فالسلطة الفعلية والأمر والنهي بيد الخليفة الفعلي القائم مقام النبي والمفروض بالقوة والتغلب، وبهذه الحالة فإن هذا الخليفة الفعلي الواقعي لا يعرف الحكم الشرعي، ولا المقاصد الشرعية، ولا برامج النبوة، ولا معنى كل آية وليس محيطا بالبيان النبوي، وليس لديه علم يقيني لا بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل، لأنه أصلا غير معد ولا مؤهل لهذه الأمور!! ولكن بوصفه الحاكم الفعلي فإن عليه أن يدير أمور الدولة، فإذا رجع إلى الإمام الشرعي فإنه سيضطر للرجوع إليه دائما، وفي هذا حط من مقام الخليفة واعتراف ضمني وعلني بأن الإمام الشرعي هو المؤهل الوحيد!! ولكن الخليفة الجديد وأعوانه لن يعترفوا بذلك بل سيتجاهلون القوانين الإلهية التي لا يعرفونها ويسيرون شؤون الحكم بالرأي لا بالشرع، فهم وإن كانوا لا يعرفون الشرع إلا أنهم كأي واحد من البشر يعرفون الرأي مهما كان وزنه، لذلك يترك الخليفة وأعوانه الشرع الإلهي أو القوانين الإلهية، التي لا يحيطون بها، ولا يجيدون الحكم وفق أحكامها المفصلة ويجتهدون أو يعملون بالرأي، أو يخترعون أحكاما وضعية من آرائهم الشخصية!!

أما على مستوى الولايات والإمارات على الأقاليم والجيوش فقد رأينا أن الموازين والمقاييس التي اخترعها الخلفاء لاختيار الأمراء والولاة والعمال، فكانوا يصرفون أمور أقاليمهم وفق الآراء الشخصية، ولنأخذ على سبيل المثال عبد الله بن سرح الذي افترى على الله الكذب، والموسوم بأنه عدو لله ولرسوله لقد أمر الرسول بقتله حتى لو تعلق بأستار الكعبة، ويوم فتح مكة أمر الرسول بالبحث عنه وقتله، فلجأ ابن سرح إلى أخيه في الرضاعة عثمان بن عفان فغيبه عثمان وأخفاه عن العيون وفي يوم من الأيام بعد الفتح بفترة جاء به عثمان إلى رسول الله فاستأمنه، فصمت الرسول

الصفحة 250
طويلا قبل أن يعطيه الأمان ثم قال نعم. فلما انصرف عثمان قال الرسول لمن حوله " ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيقتله " فقال رجل من الحاضرين فهلا أومأت إلي يا رسول الله!! فقال الرسول: " إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة أعين " (1) وأصبح ابن أبي سرح طليقا، ومن المؤلفة قلوبهم، وبعد موت الرسول مباشرة أصبح ابن أبي سرح من أصفياء الخلفاء ومن أهل الحل والعقد وفي عهد عثمان أسندت إليه إمارة مصر وهي تاج الولايات الإسلامية، ومر حين من الدهر كان ابن أبي سرح هو الرجل الثالث في الدولة الإسلامية، مع أنه الأظلم بنص القرآن، ومع أنه الذي افترى على الله الكذب بنص القرآن، ومع أنه موسوم بأنه عدو لله ولرسوله.

فكيف بربك يطبق الإسلام من كان هذا وضعه، وكيف يعلم المصريين دين الله.

هذه الكوادر الفنية التي حلت عرى الإسلام كلها، وركزت المعالم الواقعية لعصر ما بعد النبوة، ومن خلال البرامج التربوية والتعليمية التي فرضتها على المسلمين قرابة قرن من الزمان، ومن خلال هذه المناهج خلطوا الأوراق خلطا عجيبا، فبدلوا وعدلوا، وباعدوا الهون بين الواقع المفروض وبين القانون الإلهي أو الشرعية الإلهية، ولم يبق من الإسلام إلا كتاب الله، وأهل بيت النبوة، لمواجهة برامج تربوية وتعليمية مدعومة من دولة عظمى، ومع اختلاط العرب بالأمم المغلوبة، وامتزاج الحضارات بدأت الأذهان بالتفتح، وبدأ الناس يتساءلون عن حجم الهوة بين الواقع والشرعية الإلهية، فلم ير الخلفاء بدا من منع كتابة ورواية أحاديث رسول الله حتى لا يقف الناس على الحقائق الشرعية وحجم التناقض الهائل بين الواقع المفروض وبين أحكام الشريعة الإلهية!!

____________

(1) ترجمة ابن أبي سرح في الاستيعاب ج 2 ص 378، والإصابة لابن حجر ج 2 ص 309، وأسد الغابة ج 3 ص 173.


الصفحة 251

الفصل الثالث
منع كتابة ورواية سنة الرسول

قبل أن يستولوا على منصب الخلافة

بعد أن تجاهلوا سنة رسول الله التي بينت من يخلف النبي، وبعد إن استولوا على منصب الخلافة بالقوة والتغلب، وأسندوا كافة المناصب المتفرعة عن الخلافة لأوليائهم، وبعد أن صاروا يتصرفون بهذه المناصب تصرف المالك بملكه، وبعد أن قضوا قضاء تاما على كل معارضة لحكمهم، ظهورا بمظهر الخلفاء الشرعيين لرسول الله ولأن سنة الرسول التي عالجت موضوع من يخلف النبي محكمة ومتماسكة، وتناقض مظهر الشرعية، ولأنها تذكر المسلمين بأن الخلفاء قد أخذوا ما ليس لهم، وجلسوا في مكان مخصص لغيرهم، وحرصا على الاستقرار، ووحدة المحكومين، ومنعا لوقوع الخلاف والاختلاف فقد قرر الخلفاء منع رواية وكتابة سنة الرسول لأنه إن بقي باب رواية وكتابة سنة الرسول مفتوحا فسيعرف المسلمون هذه السنة، وستختمر هذه السنة في نفوس المسلمين، وسيتساءلون يوما لماذا تجاهل الخلفاء سنة الرسول!! ولماذا لم يقبلوا بمن استخلفه الرسول!! وتلك بداية النهاية بالنسبة لهم لذلك قرروا منع كتابة ورواية سنة الرسول!! هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن هنالك فئة من

الصفحة 252
الناس كانت تعتقد أن سنة الرسول تتعارض مع مصالحها ومع ما تهوى أنسها.

أقدم صد ومنع لكتابة سنة الرسول وروايتها

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: " كنت أكتب كل شئ سمعته من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش!! وقالوا تكتب كل شئ سمعته من رسول الله ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا... " (1) وهذا أقدم صد عن سنة رسول الله، وأول محاولة لمنع كتابة سنن الرسول، ومن يحرض على منع كتابة سنة الرسول، يحرض أيضا على منع روايتها، الجهة التي حرضت عبد الله بن عمرو بن العاص على عدم كتابة سنة الرسول جهة معروفة، ولكن عبد الله بن عمرو يخشى الكشف عنها مما يدل على أنها جهة مرموقة أو حاكمة، لذلك كنى عنها بقوله: " فنهتني قريش " في سقيفة بني ساعدة كان أبو بكر وعمر وأبو بكر عبيدة يتكلمون باسم قريش كلها، فكانوا يعتبرون أنفسهم الناطقين الرسميين باسم عشيرة النبي قريش!!!

وعندما ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص هذه الواقعة كان الثلاثة يشكون أركان دولة الخلافة، فلم يكن من الملائم أن يسميهم بأسمائهم حتى لا يحمل قوله على محمل الطعن بهم، لذلك عبر عنهم بكلمة " فنهتني قريش " والأحداث التي تلت ذكر عبد الله بن عمرو لهذه الواقعة تؤكد أن النهي قد صدر من ذلك النفر وبالتحديد من أبي بكر وعمر!! وسبب تحريض عبد الله بن عمرو على عدم كتابة كل شئ يسمعه من رسول الله هو اعتقاد " قريش " أن الرسول بشر يتكلم في الغضب والرضا، فلا ينبغي أن يكتب من كلامه إلا ما صدر عنه وهو في حالة رضا، أما كلامه وهو في حالة الغضب

____________

(1) سنن أبي داود ج 2 ص 126، وسنن الدارمي ج 1 ص 125، ومسند أحمد ج 2 ص 162 و 207 و 216، والمستدرك للحاكم ج 1 ص 105 و 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 1 ص 85، وكتابنا المواجهة ص 254.


الصفحة 253
فيجب أن لا يكتب، ويبدو أن ذلك النفر قد بث هذه الشائعة على نطاق واسع بدليل حديث عمرو بن شعيب قال: " قلت: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ فقال الرسول نعم، قلت: في الغضب والرضا؟ قال الرسول: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا " (1) وقد أكد الرسول هذه الحقيقة لعبد الله بن عمرو بن العاص عندما ذكر له نهي قريش السابق عن كتابة كل ما سمعه من الرسول فقال عبد الله بن عمرو: فأومأ الرسول إلى فمه وقال: " أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق " (2) وبالرغم من هذه التأكيدات القاطعة من رسول الله إلا أن " قريشا " أو ذلك النفر من قريش بقي على عقيدته السابقة والتي مفادها: بأنه ليس كل ما يقوله الرسول صحيحا!! وليس كل ما يقوله جديرا بأن يكتب!!

الصد العلني عن سنة الرسول وتحريز المسلمين على عدم اتباعها حتى والرسول على قيد الحياة!!!

المعروف أن سنة الرسول تعني " قوله وفعله وتقريره " وأبرز الأمثلة على صد ذلك النفر للمسلمين عن سنة الرسول، وتحريض المسلمين على عدم اتباعها هو موقف ذلك النفر من جيش أسامة!! لقد عبأ الرسول ذلك الجيش بنفسه وعبأ ذلك النفر فيه، وعين أسامة قائدا لهذا الجيش وأعطاه الراية بنفسه وحث الرسول هذا الجيش على الخروج سريعا (3) وقال الرسول: " جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه " (4).

____________

(1) مسند أحمد ج 2 ص 207.

(2) سنن أبي داود ج 2 ص 126، وسنن الدارمي ج 1 ص 125، ومسند أحمد ج 2 ص 162 و 207 و 216، والمستدرك للحاكم ج 1 ص 105 و 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 1 ص 85.

(3) المغازي للواقدي ج 3 ص 117، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 190.

(4) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 23 وج 1 ص 20 بهامش الفصل لابن حزم ج 1 ص 24.


الصفحة 254
لكن ذلك النفر وأولياءهم كانوا يرون أن تأمير الرسول لأسامة على هذا الجيش وفيه كبار المهاجرين والأنصار عمل غير مناسب، والأفضل أن يعين الرسول شخصا آخر مناسبا!! فاضطر الرسول أن ينهض من فراش المرض وهو معصوب ومحموم وأن يصعد المنبر وأن يدافع عن قراره بتأمير أسامة وأن يؤكد ذلك بقوله: "... وأيم الله إنه لخليق بالإمارة " (1) وبالرغم من كل هذا فقد أصروا على موقفهم بأن تأمير الرسول لأسامة عمل غير صائب ويتوجب على الرسول عزله واستبداله بشخص آخر!! ومن الطبيعي أن يصر الرسول على قراره فكان يقول: " جهزوا جيش أسامة، أرسلوا بعث أسامة "، وكرر ذلك مرات متعددة وهم متثاقلون (2).

لقد نجحوا في تثبيط الناس، ومارسوا ضغوطا شديدة على أسامة فطلب من الرسول أن يؤجل هذا الجيش، فقال له الرسول: " أخرج وسر على بركة الله "، وراجعه أسامة مرة ثانية طالبا منه أن يبقى فقال له الرسول: " سر علي النصر والعافية " فراجعه أسامة مرة ثالثة فقال له الرسول: " انفذ لما أمرتك به " (3).

وبعد أن توفي الرسول أصروا على رأيهم، وضغطوا على الخليفة الأول حتى ينزع أسامة لأن تأمير الرسول لأسامة ليس مناسبا ولا صحيحا!!

ويبدو أن الذي كان يقود هذا التيار هو عمر بن الخطاب بدليل قول أبي بكر وفعله: فأخذ بلحية عمر بن الخطاب وقال له: " ثكلتك أمك يا بن الخطاب وعدمتك استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه " (4) لقد أدرك الخليفة الأول

____________

(1) المغازي للواقدي ج 3 ص 119، والطبقات الكبرى ج 2 ص 190، وشرح النهج ج 1 ص 57، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207 و 234.

(2) كنز العمال ج 10 ص 573، ومنتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد ج 4 ص 182.

(3) المغازي للواقدي ج 3 ص 112، والطبقات الكبرى ج 3 ص 191، والسيرة الحلبية ج 3 ص 208 وص 235، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340، وشرح النهج ج 1 ص 160، وكنز العمال ج 10 ص 574.

(4) تاريخ الطبري ج 3 ص 226، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 335، والسيرة الحلبية ج 3 ص 209 =

الصفحة 255
أنه لم يعد هنالك ما يبرر الاعتراض على تأمير أسامة وليس هنالك خطر من خروج جيش أسامة، فقد تحققت الحكمة من تأخيرهم لهذا الجيش فعزل أسامة بهذا المرحلة لا يقدم ولا يؤخر، ثم إن أسامة نفسه قد بايعهم، فعزله سيثير امتعاضا عاما هم في غنى عنه، لذلك عارضهم الخليفة وصد زعيمهم عمر بن الخطاب صدا عنيفا!! فتأمير الرسول لأسامة، وكل ما تلفظ به الرسول في هذا الموضوع سنة واجبة الاتباع، ومع هذا لم يتبعوها وحرضوا الناس على عدم اتباعها لقناعتهم بأنها ليست صوابا أو ليست صحيحة أو لأنها لا تتفق مع ما تهوى أنفسهم، أو لأنها صدرت من الرسول وهو في حالة غضب!! أو لأنها من شؤون الدنيا، وذلك النفر أعلم من رسول الله بشؤون دنياهم!! وما يعنينا أن " قريشا " التي حرضت عبد الله بن عمرو بن العاص على عدم كتابة كل ما يقوله الرسول، أو ذلك النفر الذي يكنى عنه بقريش، قد صدوا الناس عن اتباع سنة الرسول، وثبطوهم عن العمل بها، ومنعوهم من إعمالها!! لأنهم يخشون سنة الرسول التي وضعت الأمور في نصابها الشرعي، وكشفت أطماعهم ومخططاتهم!! لذلك يريدون أن يخرجوا سنة الرسول من الخدمة أو يحيدونها ليتمكنوا من تنفيذ ما دبروا!!

____________

= و 236، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340.


الصفحة 256

وحالوا بين النبي وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية

أثنا مرض الرسول أراد أن يكتب وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة، وتلخيصه للموقف، كما يفعل قادة الأمم، وكما فعل أبو بكر وعمر في ما بعد وفوق هذا وذاك، فإن كتابة الوصية حق إنساني لكل إنسان فكيف يسيد الخلق، ومن المؤكد أن رسول الله قد ضرب موعدا لذلك، ودعا بعض الصفوة من أصحابه ليشهدوا كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة وتلخيصه للموقف.

ويبدو أن عمر بن الخطاب قد علم بذلك، فأطلع أركان حزبه على ما سمع، واتفق من أعوانه على أن يدخلوا حجرة الرسول في الوقت الذي حدده لكتابة وصيته وتوجيهاته النهائية، وأن يحولوا بين الرسول وبين ما أراد كتابته!! لأنهم قد توقعوا أن ما سيكتبه الرسول غير مناسب!!

حضر الذين اصطفاهم رسول الله ليكتب أمامهم وصيته وتوجيهاته النهائية، وجلسوا بين يدي رسول الله، وفجأة وبدون استئذان دخل عمر بن الخطاب ومعه أركان حزبه وعدد كبير من أعوانه الذين اتفق معهم على خطة تحول بين الرسول وبين ما أراد كتابته، وجلسوا فقال الرسول للذين دعاهم:

" إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " (1).

____________

(1) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 3 ص 9، وصحيح مسلم آخر =

الصفحة 257
وما إن أتم الرسول جملته حتى تصدى له عمر بن الخطاب وقال متجاهلا طلبه، ومتجاهلا وجود الرسول، وموجها كلامه للصفوة التي اختارها رسول الله لكتابة وصيته: " لا حاجة لنا بكتابه إن المرض قد اشتد برسول الله، إن النبي يهجر!! - أي لا يعي ما يقول - وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله " (1).

وما إن تم عمر هذه الجملة حتى قال أعوانه وبصوت واحد: " القول ما قاله عمر، إن رسول الله يهجر، ما له أهجر!! ما شأنه أهجر، استفهموه إنه يهجر " (2) متجاهلين بالكامل وجود الرسول وموجهين كلامهم لأولئك الذين استدعاهم الرسول.

صعقت الصفوة التي اختارها النبي من هول ما سمعت فقالت: " ألا تسمعون رسول الله يقول قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " (3).

فكرر عمر أقواله السابقة، وعلى الفور ضج أتباع عمر فرددوا اللازمة التي اتفقوا عليها قبل دخولهم إلى منزل النبي: " القول ما قاله عمر، إن الرسول يهجر... " (4) إلى آخر اللازمة!!. كان واضحا أن عمر وحزبه على استعداد لفعل أي شئ يحول بين الرسول وبين كتابة ما أراد!! فطلت النسوة من وراء الستر وقلن لعمر وحزبه: " ألا تسمعوا رسول الله يقول قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا "!! فصاح بهن عمر قائلا: " إنكن

____________

= كتاب الوصية ج 5 ص 75 وج 2 ص 16، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 94 و 95، ومسند أحمد ج 1 ص 355 وج 4 ص 356، وصحيح البخاري ج 4 ص 31، وتاريخ الطبري ج 2 ص 194، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320 وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 62، وسر العالمين، وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي.

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.


الصفحة 258
صويحبات يوسف " (1).

وارتفعت الأصوات وكثر اللغو واللغط فتدخل الرسول فقال:

" دعوهن فإنهن خير منكم " (2) " دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع " (3) لقد اكتفى الرسول بتأكيداته اللفظية السابقة، ورد على عمر وحزبه ردا يليق بجلال النبوة وطبيعة الظروف، ولم يعد هنالك ما يوجب بقاءهم لقد تحقق ما تمناه عمر وحزبه، إذ حالوا بين الرسول وبين كتابة ما أراد، وكسروا خاطر النبي الشريف، وقصموا ظهر الدين والأمة معا فلو أصر الرسول على الكتابة، لأصروا على الهجر، مع ما يفتحه هذا الادعاء الكاذب من مخاطر على الدين.

وفي ما بعد بين عمر بن الخطاب الغاية التي استهدفها هو وحزبه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد فقال: " حتى لا يجعل الأمر خطيا لعلي بن أبي طالب " (4) فيؤكد تأكيداته اللفظية بتأكيد خطي، وقد اعترف عمر بذلك لأنه كان يعتقد أن مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن لا يتولى الخلافة علي بن أبي طالب لحداثة سنة والدماء التي عليه (5) وأن اختيار الرسول للإمام علي كاختياره لأسامة عمل غير صحيح وغير مناسب!! فإنا لله وإنا إليه راجعون!!!

____________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 243 - 244.

(2) المصدر السابق.

(3) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 3 ص 9، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 وج 2 ص 16، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 94 و 95، ومسند أحمد ج 1 ص 355 وج 4 ص 356، وصحيح البخاري ج 4 ص 31، وتاريخ الطبري ج 2 ص 194، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320، وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 62، وسر العالمين، وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي.

(4) شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 7 ص 114 سطر 27 الطبعة الأولى بيروت وج 2 ص 79 سطر 3 تحقيق أبو الفضل مكتبة الحياة، وج 3 ص 167 طبعة دار الفكر.

(5) شرح النهج ج 2 ص 18، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 130، وكتابنا المواجهة ص 473.


الصفحة 259
الرسول في بيته لا في بيت عمر، ومن حق الإنسان أن يفعل في بيته ما يشاء!! ثم إن الرسول على الأقل مسلم ومن حق المسلم أن يكتب وصيته وبعد وفاة المريض الناس أحرار بإعمال هذه الوصية أو إهمالها!! ثم إن أبا بكر قد كتب وصيته، في وقت قد اشتد فيه المرض أكثر مما اشتد برسول الله، ولم يقول عمر الذي كان موجودا لا حاجة لنا بوصيتك حسبنا كتاب الله، ثم إن عمر نفسه قد اشتد به الوجع أكثر مما اشتد برسول الله، ومع هذا كتب وصيته وأصدر توجيهاته النهائية ونفذت كأنها كتاب إلهي، ولم يقل لا عمر ولا غيره: " حسبنا كتاب الله... " (1).

كيف يعتذرون عن هذه البائقة!! كيف يبررونها!!! في وقت يطول أو يقصر سيخرجون من كهوف التاريخ، وسيعيدون النظر بثقافة التاريخ التي أشربوها فتخيلوا الأبيض أسودا والأسود أبيضا ساعتها سيكتشفون كم ضيعوا في جنب الله تعالى!!

وما يعنينا في هذ ا المقام أن الرسول أراد أن يكتب شيئا من سنته أثناء مرضه، فاستمات عمر بن الخطاب وحزبه ليحولوا بين الرسول وبين كتابة ما أراد، لأنهم من حيث المبدأ ضد كتابة السنة، ومن يقف ضد كتابة السنة يقف ضد روايتها.

____________

(1) سلطنا الأضواء في البحوث السابقة على مرض أبي بكر وعمر وكتابتهما لوصيتيهما وتوجيهاتهم النهائية، وكيف نفذت كأنها وحي من الله تعالى، وتوفيرا لوقتك راجع في هذا الخصوص تاريخ الطبري ص 429، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37، وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 85، وكتابنا المواجهة ص 540 لترى كيف أتاحوا الفرصة لأبي بكر ليكتب وصيته وتوجيهاته النهائية وراجع تاريخ الطبري طبعة أوروبا ج 1 ص 2138 لترى موقف عمر المؤيد لوصيته وتوجيهات أبي بكر، وراجع الإمامة والسياسة ج 1 ص 15. وما فوق، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 364 وج 3 ص 347، وأنساب الأشراف ج 5 ص 18، وتاريخ الطبري ج 5 ص 23 لترى كيف كتب عمر وصيته وتوجيهاته النهائية وكيف نفذت مع أن فيها أوامر بقتل نفوس حرم الله قتلها.


الصفحة 260

الفصل الرابع
منعهم لكتابة ورواية سنة الرسول بعد استيلائهم على منصب الخلافة

في عهد أبي بكر الخليفة الأول

كانت " قريش " أو ذلك النفر من قريش ينهى سرا عن كتابة ورواية سنة الرسول، ويشكك بصحة وصواب جانب من سنة الرسول، وأثناء مرض الرسول، كشف ذلك النفر عن نفسه، فأخذ ينهى عن كتابة سنة الرسول ويحرض علنا على عدم اتباعها!! معبرا عن قناعته الخاصة من خلال قوته!!

وعندما استولى ذلك النفر على منصب الخلافة أعلن رسميا وعلى مستوى الدولة منع كتابة ورواية سنة الرسول!! ويبدو أن أول أمر أو مرسوم قد أصدره الخليفة الأول كان يتضمن قراره بمنع رواية وكتابة سنة الرسول.

قال الذهبي في ترجمة أبي بكر: إن الصديق - يعني أبا بكر - قد جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال:

" إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا

الصفحة 261
بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه " (1).

فالخليفة الأول يرى أن رواية سنة الرسول تسبب الخلاف بين أمة متفقة في عهده، فإذا حدث الخلاف في عهده، فإن الخلاف في العهود اللاحقة سيكون شديدا، وبصفته خليفة للمسلمين، ولأن سنة الرسول تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين، وحرصا من الخليفة على وحدتهم خلف قيادته وقطعا لدابر الخلاف والاختلاف فإنه يأمر المسلمين " أن لا يحدثوا شيئا عن رسول الله "!!

وإغلاقا لباب التساؤل عن طريقة معرفة الحكم الشرعي قال الخليفة الأول: " فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه " أي أن الأحكام الشرعية يمكن استخراجها من القرآن الكريم، ويمكن الاستغناء بالقرآن الكريم عن سنة الرسول!! فالقرآن الكريم هو البديل لإغلاق باب التحديث عن رسول الله!! وهذه النظرية متطابقة مع نظرية عمر بن الخطاب فعندما حال هو وحزبه بين رسول الله وبين كتابة ما أراد قال عمر أمام الرسول والحاضرين: " إن المرض قد اشتد برسول الله أو قال إن النبي يهجر وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله " فقناعة الاثنين كانت راسخة بأن القرآن وحده يكفي وليست هنالك حاجة لسنة الرسول!!!

والذي يفهم من مرسوم الخليفة الأول يفيد: منع المسلمين من رواية أي شئ على الإطلاق من سنة الرسول بدليل قول الخليفة " فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا " فهذا المنع شامل لكل شئ حسب الظاهر، ولكن في الحقيقة فإن الخليفة الأول لم يقصد هذا الإطلاق فهو الذي يقرر ما ينبغي تطبيقه أو ما لا ينبغي تطبيقه من سنة الرسول، فلا ضرر من رواية بعض سنة الرسول طالما أن بيديه مفاتيح إعمالها أو إهمالها.

____________

(1) تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 2 - 3، والأنوار الكاشفة ص 53، وتدوين السنة شريفة للسيد محمد رضا الحسيني الجلالي ص 423.


الصفحة 262
ومن المؤكد أن الخليفة قد قصد سنة الرسول المتعلقة بمن يخلفه أو بتعبير أدق المتعلقة باستخلاف الرسول للإمام علي بن أبي طالب، والمتعلقة بمكانة أهل بيت النبوة، لأن الخليفة كان في ذلك الوقت يصب جام غضبه على الإمام علي خاصة، وعلى أهل بيت النبوة عامة!!! وما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه أن الخليفة نفسه كان يحتج بأحاديث رسول الله أثنا مواجهته للإمام علي ولأهل بيت النبوة، فعندما حرمهم من تركة الرسول قال: " إنه سمع الرسول يقول: الأنبياء لا يورثون " (1).

وعندما حرمهم من سهم ذوي القربى ادعى بأنه سمع رسول الله يقول: " سهم ذوي القربى للقربى حال حياتي وليس لهم بعد مماتي " (2).

وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذين الحديثين، فإن الخليفة قد احتج بما نسبه للرسول، فلو كان منعه للحديث شاملا لما احتج بما سنبه للرسول!!!

لقد أراد الخليفة أن يمنع الأحاديث المتعلقة بمن يخلف النبي، والتي تؤكد بأن الرسول قد استخلف الإمام عليا وأحد عشر من ذريته ومن صلب علي والأحاديث التي أعطت المراتب السنية للإمام علي، وحددت مكانة أهل بيت النبوة.

فإذا بقي باب التحديث عن رسول الله فما الذي يمنع أنصار الشرعية الإلهية من أن يرووا مثلا قوله (ص): " من كنت وليه فهذا علي وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره، واخذل من خذله " وما الذي يمنعهم من أن يرووا حديث الثقلين، أو حديث السفينة، أن يذكروا المسلمين ببيعتهم للإمام علي في غدير خم، أو قول الرسول لعلي كذا وكذا!!!.

____________

صحيح الترمذي ج 1 ص 11 ح 60، وسنن الترمذي ج 7 ص 1009، والطبقات ج 5 ص 77.

(2) صحيح مسلم ج 3 ص 12، وصحيح البخاري ج 1 ص 81، وسنن أبي أبي داود ج 1 ص 212.


الصفحة 263
ولكن لو كشف الخليفة عن قصده هذا لعثر حيث أراد أن ينهض، لذلك رأى أن يكون المنع شاملا طالما أنه هو الذي يعمل أو يهمل ما شاء من سنة الرسول!!

وما يؤكد ما ذهبنا إليه، هو تعليل الخليفة للمنع خشية الاختلاف فعندما يروي الرواة حديث الثقلين مثلا، أو أحاديثا عن مراتب الإمام علي في الوقت الذي يرى فيه المسلمون الخليفة وأعوانه ينكلون بالإمام وأهل بيته، فإن المسلمين الذي انقادوا للخليفة الجديد سيتعاطفون مع الإمام علي وأهله بيته أو على الأقل فإن قسما منهم سيفعل ذلك، وقد ينمو هذا التعاطف ويتحول إلى ولاء عندئذ ينشق المجتمع إلى قسمين قسم يؤيد الدولة الفعلية، وآخر يؤيد الإمام عليا وينمو الخلاف والاختلاف بين الفريقين، ويشتد مع الأيام، وتفوت الحكمة من استيلائهم على منصب الخلافة، ويفوز الإمام علي وأهل بيت النبوة ويجمعوا النبوة والخلافة معا ويقع المحظور!!

لذلك رأي الخليفة من الأنسب أن يكون إعلانه عن منع رواية أحاديث الرسول شاملا وهذا تقدير منطقي وعلماني تقتضيه مصلحة المحافظة على الملك أو الخلافة!!! بغض النظر عن انسجامها أو عدم انسجامها مع الشرعية الإلهية تأسيسا وممارسة!

ولك أن تتصور حجم تأثير هذا المرسوم على نظرة المسلمين لسنة رسول الله، فإذا كان صاحب الرسول في الغار وصهره، وخليفته يأمر الناس بأن لا يحدثوا أي شئ عن رسول الله بدعوى أن التحديث عن رسول الله يسبب الخلاف والاختلاف!! فكيف تكون نظرة حديثي العهد بالإسلام إلى سنة رسول الله!!! لقد تم فتح باب الاستهانة بسنة رسول الله رسميا وعلى مستوى الدولة، لذلك فإن أية مجهودات فردية لإغلاق هذا الباب أو لتغيير المسار الرسمي للدولة تبقى محدودة الأثر!!


الصفحة 264
قد يقول قائل إن الخليفة الأول، قد أمر المسلمين بأن لا يرووا شيئا عن رسول الله ولكنه لم يأمرهم بأن لا يكتبوا شيئا عن رسول الله، لكن مرسوم الخليفة من الوضوح بحيث أنه لا يحتمل مثل هذا التأويل، فالخليفة قد جزم بأن التحديث عن رسول الله يسبب الخلاف والاختلاف، وبالتالي فقد أمر المسلمين بأن لا يحدثوا أي شئ عن رسول الله، وسواء أخذ هذا التحديث صورة المشافهة أو صورة الكتابة فإنه ممنوع حسب نص هذا المرسوم، لأن الخليفة أراد أن يحتاط فيقطع دابر الخلاف بقطع مصدره أو منبعه القادم من سنة رسول الله، فإذا نهى الخليفة عن التحديث فهو ضمنا ينهى عن الكتابة، لأنها أدوم وأبلغ في التأثير والثبات والشيوع والانتشار.

الخليفة الأول يحرق سنة الرسول التي جمعها بنفسه

لم يكتف الخليفة بهذا المرسوم الذي منع بموجبه المسلمين من أن يحدثوا أي شئ من سنة رسول الله، بل تناول الأحاديث التي جمعها بنفسه، وسمعها بنفسه من رسول الله، فأحرقها!! قال الذهبي: " إن أبا بكر جمع أحاديث النبي (ص) في كتاب، فبلغ عددها خمسمائة حديث، ثم دعا بنار فأحرقها " (1) روى القاسم بن محمد أحد أئمة الزيدية عن الحاكم بسنده إلى عائشة قالت: " جمع أبي الحديث عن رسول الله، فكانت خمسمائة حديث فبات ليله يتقلب، فلما أصبح قال أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار فأحرقها " (2).

فالخليفة صاحب النبي 23 عاما، وصاهره، ولازمه، وشهد كل مواقعه كما يجمع المؤرخون على ذلك. وفوق هذا وذلك فهو يقرأ ويكتب، فهل

____________

(1) تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 5، وعلوم الحديث ص 39.

(2) الاعتصام بحبل الله المتين ج 1 ص 30، وتدوين السنة الشريفة ص 264، وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 5، وكنز العمال ج 1 ص 285.


الصفحة 265
نستكثر على من كانت هذه حالته أن يروي عن الرسول خمسمائة حديث من سنته!! لقد رواها بنفسه، وسمعها بنفسه، وكتبها بنفسه، بمعدل أقل من 22 حديثا كل عام، وأقل من حديثين كل شهر، وهذا يعني أنها كانت صحيحة وصادرة عن رسول الله قطعا، ومحفوظة وبعيدة عن التحريف لأنه قد استودعها عند ابنته ككنز خوفا عليها من الضياع، وبعد أن انتقل الرسول إلى جوار ربه وانقطع الوحي، وبعد أن استولى على منصب الخلافة، صار لا ينام الليل من وجود هذه الأحاديث!!! ووصفت لنا السيدة عائشة ابنة الخليفة حالته بقولها:

"... جمع أبي الحديث عن رسول الله (ص)، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرا قالت فضمني، فقلت أتتقلب لشكوى أو لشئ بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها!! فقلت لم أحرقها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فتكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك " انتهى النص (1).

السيدة عائشة تؤكد بأن أباها قد جمع الحديث عن رسول الله وتؤكد أن عدد الأحاديث كان خمسمائة حديث، وأن هذه الأحاديث، فلما أصبح طلب الأحادث التي سمعها من رسول الله بنفسه وكتبها بخط يده، ثم دعا بنار فأحرقها أمام السيدة عائشة، حتى الآن فإن وقائع الرواية متماسكة، ومتفقة مع توجهات الخليفة، ومنسجمة مع المرسوم الذي أصدره بعد توليه لمنصب الخلافة، ومع أمره للمسلمين " بأن لا يحدثوا شيئا عن رسول الله "، بل وتتناغم مع الواقع ومع نفسية الخليفة الرقيقة، فالتصرف قد حدث بعد توليه منصب الخلافة، وأثناه الفترة التي كان فيها غاضبا من الإمام علي ومن أهل بيت النبوة الذين رفضوا بيعته بدعوى أنهم

____________

(1) تذكرة الحفاظ ج 1 ص 5، وكنز العمال ج 10 ص 285، وتدوين القرآن ص 370.


الصفحة 266
أحق بالخلافة منه وفي الوقت الذي حرمهم فيه من تركة الرسول ومن سهم ذوي القربى، وصادر المنح التي أعطاها لهم الرسول، وهم بإحراق بيت فاطمة على من فيه وهدد الإمام بالقتل إن لم يبايع، أو أمر بأن يؤتى به بأعنف العنف (1) فليس من المستبعد أن بعض الأحاديث التي كتبها الخليفة تتضمن بعض مراتب الإمام علي، أو مكانة أهل بيت النبوة، فلما استعرض الوقائع أو أحداث يومه أو أسبوعه، وتذكر أحاديث النبي، جفاه النوم وانتابه القلق، فصارت هذه الأحاديث كشبح يلاحقه ويحول بينه وبين النوم، لأن نفسية الرجل رقيقة ويندم علي الخطأ بدليل ندمه وعلى فراش الموت حيث قال: " أما إني لا آسى على شئ في الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن... فوددت أني لم أكشف عن بيت فاطمة وتركته ولو أغلق على حرب " (2) ووضع اليعقوبي الصورة بقوله: إن أبا بكر قال: " وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال ولو أغلق على حرب " (3) فمن المحتمل جدا أن يكون في الأحاديث التي كانت مكتوبة عند أبي بكر توصية بإرضاء السيدة فاطمة بالذات بدليل أنه بعد عملية الشروع بحرق بيتها، ذهب أبو بكر وعمر إلى منزلها ليعتذرا، فسألتهما: " نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي وغضبها من غضبي...

فأجابها الاثنان بصوت واحد اللهم نعم قد سمعناه!! " (3) فما الذي يمنع بأن يكون هذا الحديث هو أحد الخمسمأة!!! فعندما يتذكر أبو بكر هذا الحديث وأمثاله من المكتوبة عنده، ويتذكر ما فعله بأهل بيت النبوة، فإن هذا يجلب القلق، ويذهب النوم خاصة عن شخصية رقيقة كشخصية الخليفة الأول!!! ثم إن الشخص العادي إذا اقتنع بأنه قد ظلم في يومه إنسانا، فإنه

____________

(1) بالفصول السابقة وثقنا كل كلمة قلناها.

(2) أنساب الأشراف ج 1 ص 587.

(3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 115.

(4) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 7 وما فوق.


الصفحة 267
لا يقوى على النوم، ويصيبه الأرق، فكيف يحس الإنسان الرقيق إذا اقتنع بأنه قد ظلم أو آذى بنت رسول الله أو أحب الناس إليه، إن وجود هذه الأحاديث يذكره دائما بما فعل، إنها بمثابة شهود إدانة، والإنسان بفطرته يتخلص مما يدينه!!.

ثم إن الثابت بأن أبا بكر قد جمع خمسمأة حديث، بينما الموجود بأيدي المسلمين من حديثه لا يتجاوز 142 حديثا كما أحصاها ابن حزم والسيوطي (1) بمعنى أنه قد ضاع منها 358 حديثا!!! فإن صح ما ذهبنا إليه، فمن غير المعقول أن يروي الإنسان عن رسول الله ما يدينه!!!

أما عجز الحديث " آخره " الذي يتضمن السبب المعلن الذي دفع الخليفة الأول لحرق الأحاديث التي جمعها بنفسه، فالصناعة والتكلف واضح فيه، وأكبر الظن بأنه قد ألحق بالحديث إلحاقا فالنفس الذي صيغ فيه العجز مختلف تماما عن النفس الذي صيغ فيه بقية الحديث، ثم إن المؤرخين والمحدثين يجمعون بأن أبا بكر كان من أقرب الصحابة لرسول الله، وكان من الملازمين له، ولم تكن هنالك حواجز بين الرسول وبين أبي بكر فهو صهره وصاحبه، فما هو الداعي ليترك رسول الله وهو النبع النقي ويأتي إلى غيره ليروي له أحاديث رسول الله!!!، لأنه أقرب من الغير لرسول الله، وألصق به!! ثم إنه ليس كثيرا على قارئ وكاتب كأبي بكر أن يجمع 500 حديث خلال صحبة للرسول دامت 23 سنة، ودعمت الصحبة رابطة المصاهرة!!! إن عجز الحديث لا يتفق مع أوله وهو غير معقول ومن المؤكد أن القوم قد أضافوا عجز الحديث لأوله ليجعلوا من إحراق الخليفة الأول لسنة الرسول التي كتبها فضيلة من فضائله، وليبرروا عملية إحراقه للسنة النبوية المطهرة لأن إحراق السنة المطهرة لا يمكن الدفاع عنه إلا بمثل هذا المبرر.

____________

(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 66، وتدوين السنة للجلالي ص 277.


الصفحة 268
لكن المرسوم الذي أصدره الخليفة والذي أمر فيه المسلمين بأن لا يحدثوا عن رسول الله شيئا، جرف المبررات التي اختلقوها وأثبت بوضوح لا يقبل الشك بأن سياسة الخلفاء كانت قائمة على استبعاد سنة الرسول، والتمسك بالقرآن وحده، أو بفهمهم أو تأويلهم لهذا القرآن، لأن سنة الرسول كانت متعارضة مع الواقع الذي أوجدوه، وكانت ناقضة لذلك الواقع وحاكمة ببطلانه فاستبعدوا سنة الرسول كفرار فطري من أدلة الادانة والتجريم!!!.


الصفحة 269

الفصل الخامس
منع رواية وكتابة سنة الرسول في عهد عمر بن الخطاب

لقد كان لعمر بن الخطاب مفهومه الخاص به عن سنة الرسول بأنواعه الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية، وبقي عمر وفيا لهذا المفهوم، في صحة النبي وفي مرضه، وقبل أن يتولى عمر الخلافة، وبعد أن تولاها، والظاهر من أقوال عمر ومن تصرفاته، أنه كان لا يعتقد بأن كل ما يقوله الرسول أو يفعله صحيحا أو من عند الله!!! لقد أقنع نفسه بأن له الحق بإبداء مطالعاته على ما يقوله الرسول أو يفعله!! خاصة في الفترة التي سبقت وفاة الرسول!!، وقد وسع الرسول الأعظم الرجل بحلمه العظيم، لكونه من أصحابه، ولكونه من أصهاره، لأنه يعرف مفاتيح شخصيته، وطبيعة النفس الإنسانية، وقدر الرسول أن عمر بوقت يطول أو يقصر سيعود لوضعه الطبيعي، وسيستقر نفسيا!! ثم إن الرسول الأعظم ليس مخولا بأن يعاقب الناس على نواياهم، ما لم تخرج هذه النوايا إلى حيز الوجود الخارجي، وتأخذ شكل فعل كامل التكوين ومحظور، والرسول الأعظم كان لا يرى أن له الحق بمصادرة حريات الناس، خاصة حرية القول، بل كان هدف الرسول منصبا بالدرجة الأولى والأخيرة على توجيه هذه الحريات توجيها شرعيا، بحيث يتكون لدى الإنسان الإحساس الذاتي، بمسؤوليته