ثم إن القرآن الكريم والسنة المطهرة بفروعها الثلاثة هما المنظومة الحقوقية النافذة أو القانون الساري المفعول في المجتمع الإسلامي، فهل سمعتم برئيس دولة أباح للناس أن يكتبوا ويتداولوا نصف القانون النافذ، وحرم عليهم أن يكتبوا أو يتداولوا النصف الآخر!!!
ثم إذا كان الرسول قد أمر خلفاءكم بأن لا يكتبوا سنة الرسول وأن يمنعوا روايتها، وأن عدم كتابة سنة الرسول وعدم روايتها طاعة لله ولرسوله، فلماذا خرجتم من طاعة الله ورسوله وقمتم بعد مائة عام بكتابة
أما بقية أعذاركم واعتذاراتكم عن أفعال الخلفاء بسنة رسول فإنها أقل من أن يرد عليها لأنها ساقطة بطبيعتها ولا تحتاج إلى إسقاط.
الباب السادس
استبدال سنة رسول الله بسنة الخلفاء!!
الفصل الأول
نشأت سنة الخلفاء
نتيجة إحراق الخلفاء لسنة رسول الله المكتوبة عند الأكثرية من المسلمين، ولأن الخلفاء قد أمروا المسلمين بأن لا يحدثوا شيئا عن رسول الله، ولأن الخلفاء قد حرفوا أمور الدولة حسب آرائهم الخاصة، أو اجتهاداتهم الشخصية، نشأت مجموعة من الأحكام والقواعد والسوابق الدستورية والقانونية الناتجة من آراء الخلفاء واجتهاداتهم الشخصية التي لا علاقة لها لا بكتاب الله ولا بسنة رسوله وقد عرفت هذه القواعد " بسنة الخلفاء " وأحيانا يعبرون عنها بسيرة الشيخين " أبي بكر وعمر " وقد علت سنة الخلفاء حتى ارتقت رسميا إلى مستوى سنة الرسول، بل وقدمت عمليا على سنة الرسول، لأن سنة الرسول كانت من الناحية العملية معطلة أو موقوفة النفاذ " فالمكتوب من سنة الرسول قد تم إحراقه، والخليفة الأول والثاني أمروا المسلمين بأن لا يحدثوا عن رسول الله شيئا كما وثقنا!! فالقانون النافذ عمليا هو سنة الخلفاء، وذكر سنة الرسول مع سنة الخلفاء ليس إلا من قبيل التجميل أو الدعاية فقط!! ولم يكن هذا التحول المثير مخفيا، أو ما يخجل منه الخلفاء أو يستغربه الناس، إنما كان قناعة رسمية راسخة في أذهان المسلمين قال البلاذري، " فأحلف عبد الرحمن بن عوف عثمان وأخذ عليه العهود والمواثيق... على أن يسير بسيرة الرسول وسيرة أبي بكر وعمر " وأقسم عثمان
قال اليعقوبي: " إن عبد الرحمن بن عوف قد خلا بعلي بن أبي طالب فقال: لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر " الخلافة " أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر!! فقال علي أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ثم خلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، فقال عثمان: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر... وأعاد القول على الاثنين مرة ثانية فأجابا بمثل جوابهما أول مرة، فصفق عبد الرحمن على يد عثمان كناية على اختياره للخلافة لأن عثمان قد التزم بأن يعمل بكتاب الله وسنة رسول الله وسيرة أبي بكر وعمر، أما علي فقد التزم فقط بالعمل بكتاب الله وسنة رسول ولم يلتزم بالعمل بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر لذلك صرفت عنه الخلافة!! " (3).
وعلى ذلك أجمع من بحثوا هذه المسألة!! فالتزام الخليفة الجديد بكتاب الله وسنة رسوله غير كاف، ولا بد أن يلتزم بسيرة أو سنة أبي بكر وعمر!! فإن تعهد الخليفة بأن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولم يتعهد بالعمل بسيرة أبي بكر وعمر وسنتهما فهو ليس مؤهلا لتولي منصب خلافة المسلمين!! إن هذا الوضع يشبه ما هو مطبق في أيامنا هذه، فالرئيس أو الملك الجديد يجب عليه قبل أن يتولى الرئاسة العاملة للمجتمع أن يقسم بأن
____________
(1) أنساب الأشراف للبلاذري ج 5 ص 19.
(2) أنساب الأشراف للبلاذري ج 5 ص 19.
(3) راجع تاريخ اليعقوبي ج 1 ص 162.
فسنة أبي بكر وعمر هما القانون، وكتاب الله وسنة رسوله هما الدستور، ومن لا يلتزم بتطبيق القرآن والسنة وسنة أبي بكر وعمر فهو غير أهل لتولي منصب الخلافة!! فسنة أبي بكر وعمر قانون نافذ تماما ككتاب الله!! فمن يترك سنة أبي بكر وعمر تماما كمن يترك القوانين والأنظمة السارية المفعول في المجتمع!!! وأنت تلاحظ أن سنة أبي بكر وعمر هما القانون النافذ الوحيد عمليا، أما القرآن والسنة فهما واجهتان تجميليتان!! فسنة الرسول المكتوبة قد أحرقت، ودولة الخلافة منعت المسلمين من أن يحدثوا شيئا عن رسول الله، فالسنة عمليا غير موجودة وغير مطبقة، والقرآن عمليا غير مطبق، فأي نص في القرآن يتعارض مع سنة أبي بكر وعمر لا يطبق!!! خذ على سبيل المثال متعة النساء قال تعالى (فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة) (1) ومتعة الحج قال تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج) (2) خطب عمر بن الخطاب الناس يوما فقال وهو على منبر رسول الله ما يلي: " متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء " (3)، فأي نص في القرآن يتعارض
____________
(1) سورة النساء آية 24.
(2) سورة البقرة آية 196.
(3) راجع تفسير الرازي ج 2 ص 167 وج 3 ص 201 و 202 ط 1، وشرح النهج ج 12 ص 251 و 252 وج 2 ص 184، وتفسير القرطبي ج 2 ص 270 وج 2 ص 39، والمبسوط للسرخسي باب القرآن من كتاب الحج، والبيان والتبيين للجاحظ ج 2 ص 223، وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 342 و 345 وج 2 ص 184، وزاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 444، وسنن البيهقي ج 7 ص 206، والمغني لابن =
تأصيل وتجذير سنة الخليفتين
رأينا أنه على من يتولى الخلافة أن يلتزم صرامة بالعمل بسنة أبي بكر وعمر، ومن لا يلتزم بذلك فليس له أن يتولى الخلافة!! ولم يكن لفكرة الالتزام بسنة أبي بكر وعمر أي سند أو تأصيل شرعي، فلم يرد لا بالقرآن ولا بالسنة بأن الالتزام بسنة أبي بكر وعمر من شروط تولي الخلافة!!
فخلافة أبي بكر وعمر جاءت بعد كمال الدين وتمام النعمة، ولم تكن هنا لك ضرورة لتذكر سنة أبي بكر وعمر مع كتاب الله وسنة رسوله، لأن كتاب الله وسنة رسوله يغنيا عن ذكر سنة أبي بكر وعمر إلا إذا كانت سنة أبي بكر وعمر تتضمنان ما يختلف عن كتاب الله وسنة رسوله، أو في سنة الخليفتين قواعد ومبادئ وأصول ليست موجودة في كتاب الله أو سنة رسوله فبهذه الحالة يغدو ضروريا أن يلتزم الخليفة الجديد، بكتاب الله وسنة رسوله وسنة أو سيرة أبي بكر وعمر!!!
ولكن على أي أساس، وبأي سند صارت سيرة أو سنة أبي بكر وعمر تقرأ وتقرن وتنفذ على حد سواء مع كتاب الله وسنة رسوله؟!! هل لذلك سند في القرآن الكريم أو السنة المطهرة!!! في الحقيقة أنه لم يكن هنا لك في الأصل أي سند أو أساس لهذا الربط لا في القرآن ولا في سنة الرسول
____________
= قدامة ج 7 ص 527، والمحلي لابن حزم ج 7 ص 107، والنص الاجتهاد للعاملي ص 99.
وإنصافا للخليفتين فإنهما لم يأمرا أتباعهما بأن يقرنوا سنتيهما مع كتاب الله وسنة رسوله، فهما أعقل من ذلك!! كان اهتمام الخليفتين منصبا على أن يتولى الخلافة من بعدهما رجال يلتزمون بسياستهما المعارضة لرئاسة أهل بيت البنوة لحكمة آمن بها الخليفتان وهي " عدم تمكين آل محمد من أن يجمعوا مع النبوة الملك " بل يجب أن تكون النبوة لبني هاشم، والخلافة لبطون قريش تتداولها في ما بينها، وفي ما بعد لم ير الخلفاء بأسا لو خرجت الخلافة من قريش إلى الأنصار أو العرب أو
ولعل هذا ما عناه عمر بقوله " أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة ليلها كنهارها وصفق إحدى يديه على الأخرى وقال لا تضلوا بالناس يمينا وشمالا... " (1).
فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عمر قد قال هذا الكلام بعد أن كره الحياة، ورغب بالموت، لا يخالجنا أدنى الشك بأنه يقصد بالسنن والفرائض تلك القواعد التي وضعها " انظر إلى قوله " سنت، وفرضت، وتركتم " فهو لم يبين من هو الذي سن السنن ولا من فرض الفرائض ولا من ترك على الواضحة " إنما بنيت الأفعال للمجهول، فمن غير الوارد أن يقصد بالسنة سنة الرسول فموقفه منها معروف وهي مرفوعة عمليا من واقع الحياة، ولو قصد سنة الرسول لصرح بذلك، ولو قصد بالفرائض " التي فرضها الله ورسوله لصرح بذلك أيضا ولما بني الفعل على المجهول، ولو قصد بأن الرسول قد ترك الناس كما قال على الواضحة ليلها كنهارها لما بني للمجهول أيضا، ولما كان هنالك معنى لقوله " إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا "، فالسنن والفرائض والواضحة هي سنن عمر وفرائضه وواضحته التي ترك الناس عليها، لأن عمر لم يلتزم بسنن وفرائض وواضحة الرسول، فلم يقبل ترتيبا ترك الرسول المتعلقة بمن يخلفه، ولا سمح للرسول بكتابة وصيته وتوجيهاته النهائية وقد أحرق سنة الرسول المكتوبة ومنع وصاحبه المسلمين أن يحدثوا شيئا عن رسول الله، فمن غير الممكن أن
____________
(1) جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الأثير ج 1 ص 489 دار إحياء التراث العربي.
والخلاصة أن أتباع الخليفتين وأولياءهما هم الذين قرنوا سيرة أبي بكر وعمر أو سنتهما بكتاب الله وسنة رسوله!!
عمر بن الخطاب لم يكلف عبد الرحمن بن عوف بأن يأخذ ممن يرشحه للخلافة عهد الله بأن يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، لم يتحدث أي راو عن مثل هذا التكليف!! لقد كان الخليفة من بعد عمر معروفا للجميع بأنه عثمان حتى قبل أن يطعن عمر فقد كان يعرف بالرديف، وقد أسر عمر لسعيد بن العاص بأن الخليفة من بعده سيكون عثمان " (1) ولكن الشورى ديكور مثل قول عمر " حسبنا كتاب الله " والقصد الآخر هو تكثير الذين ينافسون عليا فيكون علي واحد من ستة، وقد يموت قبل أن يتولى الخلافة، وعلى المدى البعيد سيتنافس مع أولاد علي أولاد الخمسة وهكذا سيضمن عمر بأن أحدا من أهل بيت النبوة لن يترأس على الأمة أبدا.
وما يعنينا أن مسألة من يخلف عمر محسومة، فالعامة والخاصة يعرفون بأنه عثمان ولكن المطروح من يخلف عثمان!! أراد عبد الرحمن بن عوف أن يستغل موضوع الشورى لصالحه ولأنه يعلم أن
____________
(1) الطبقات لابن سعد ط أوروبا ج 5 ص 30 - 31.
فلو كان عثمان ميتا لوقع اختيار عمر وأبي بكر على عبد الرحمن، لأنه من الملتزمين بالكامل بسياسة الخليفتين، ومن المؤيدين لها. وعبد الرحمن أراد أن يؤكد هذه الحقيقة، وأن يصطنع له يدا عندما أبرز ولأول مرة " سيرة أبي بكر وعمر " وقرنهما جنبا إلى جنب مع كتاب الله وسنة رسوله!! ومن ذلك التاريخ " تروضت " أسماع المسلمين على سماع هذا المصطلح، ولم يروا غضاضة ولا جرحا إن أطلقوا على سيرة الخليفتين مصطلح " سنة أبي بكر وعمر " ولم يروا ما يمنع من ربط سنة الخليفتين مع كتاب الله وسنة رسوله!!
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 297، وتاريخ ابن الأثير ج 3 ص 37، والعقد الفريد ج 3 ص 76، ومعالم المدرستين ج 1 ص 141.
ثم وضعوا سندا وأساسا شرعيا لسنة أبي بكر وعمر وعثمان!!
في الأساس لم يكن لمصطلح سيرة أبي بكر وعمر، أو سنتهما أساس ولا سند من الشرع أو من العقل، وسندهما الوحيد هو التأييد الشعبي الجارف للخليفتين، وعز على أولياء الخليفتين ذلك فأرادوا لسنة الخليفتين سندا من القرآن أو من سنة الرسول ليضمنوا لسنة الخليفتين الدوام والاستمرار فيدوم العز لوليهما، ويدوم الذل لعدوهما!! وتلغى سنة الرسول المعارضة لسنتهما!!! وبعد جهد وضعوا النص التالي أو استخدموه لصالحهم أن رسول الله قد قال: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ... " (1).
وهذا يستدعي وجود خلفاء راشدين مهديين، فاعتبر أبا بكر أولهم، واعتبروا عمر ثانيهم، واعتبروا عثمان هو الثالث، وهكذا صاروا ثلاثة، أما علي فلم يكن معهم أصلا، بل ولم يتم الاعتراف بشرعية خلافته، وكانت الأكثرية الساحقة من المسلمين تلعنه بالعشي والأبكار، وتتقرب إلى الله بشتمه ولعنه وبغضه هو وأهل بيته وفي ما بعد " تلطف علماء دولة الخلافة فأدخلوه بقائمة " الخلفاء الراشدين المهديين!! فبموجب هذا الحديث فإن سنة رسول الله في أحسن الظروف ما هي إلا سنة من خمس سنن، فالقرآن وسنة الرسول وسنن الأربعة بالتتابع هي القانون النافذ في المجتمع وأي نص وارد في هذه السنن الخمسة فهو واجب التطبيق، فإذا أخذ بعين الاعتبار بأن سنة الرسول المكتوبة قد أحرقت بالفعل، ولم يبق منها إلا ما هو مخبأ عند أهل بيت النبوة، وأن الخلفاء قد أمروا المسلمين بأن لا يحدثوا عن رسول الله شيئا أدركنا بأن السنن المطبقة فعليا في المجتمع هي سنن الخلفاء
____________
(1) جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الأثير ج 1 ص 189، وسنن الدارمي المقدمة باب اتباع السنة ج 1 ص 44 و 45.
لقد أكد الرسول أنه قد بين القرآن كله، ولم يدع خيرا إلا ورغبهم فيه، ولا شرا إلا ونفرهم منه وأكد بأنه قد ترك الناس على الواضحة أو المحجة البيضاء!! أفلا تغني سنة الرسول عن سنة الخلفاء!! وما هو الناقص في سنة الرسول حتى يكملوه من سنة الخلفاء!!! فإذا قولوا بأن سنة الرسول ناقصة وغير كافية فقد كفروا وإن اعترفوا بكمال الدين وتمام النعمة الإلهية، فقد أقروا على أنفسهم بأن سنة الخلفاء غير لازمة ولا معنى لوجودها!!! إلا إذا اعتقدوا أن في كتاب الله وسنة رسوله، أمورا غير مناسبة!! وقدروا أن سنة الخلفاء تتضمن حلولا أنسب!! وذلك هو الكفر بعينه!! وإصرارهم على أن للخلفاء سنة بالرغم من وجود كتاب الله وسنة رسوله يؤكد تأكيدا قاطعا على اشتمال سنة الخلفاء لأحكام ليست موجودة لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، كما يؤكد على أن سنة الخلفاء قد عمل فيها بأمور معينة، وأهملت الأحكام التي عالجت هذه الأمور والواردة في كتاب الله وسنة رسوله وعلى سبيل المثال.
فإن الرسول كان يقسم المال بين الناس بالسوية، لا يفضل في ذلك مهاجريا على أنصاري، ولا عربيا على عجمي، ولا مولى على صريح لأن
وهكذا وجد في المجتمع سنتان، سنة عمر المعمول بها والقائمة على التمييز بين الناس في العطاء، وسنة الرسول التي أهملت والقائمة على التسوية بالعطاء، فمن المحال عقلا تطبيق سنة الرسول وسنة عمر في المجتمع نفسه، وبالضرورة يجب أن تلغي إحداهما الأخرى، فإما أن يعمل بسنة الرسول وتهمل سنة عمر، وإما أن يعمل بسنة عمر وتهمل سنة الرسول!!! لقد اختار عمر الحل الأخير فأهمل سنة رسول الله، وأعمل بسنته!! ونتيجة هذه السنة الجديدة أشعل عمر دون أن يدري نار الصراع بين ربيعة ومضر وبين الأوس والخزرج وبين العرب والعجم، وبين الصريح
____________
(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 106 - 107، وشرح النهج ج 8 ص 111.
وبعد تسع سنين من إهماله لسنة رسول الله وإعماله لسنته، وبعد أن شاهد بعض الآثار المدمرة لتطبيق سنته وإهمال سنة الرسول صرح عمر قائلا " إن عشت هذه السنة ساويت بين الناس فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربيا على عجمي وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر " (1)!!
وهذا يعني أن عمر عندما ألغى سنة الرسول القائمة على التسوية بالعطاء كان يعلم علم اليقين بأنه يلغي سنة لرسول الله، وأن صاحبه أبا بكر قد اتبعها ومع هذا ألغاها مع سبق الإصرار، ووضع بدلا منها سنة جديدة مناقضة تماما لسنة الرسول، وبعد أن طبق عمر سنته الجديدة وأهمل سنة الرسول طوال تسع سنوات فكر بإعادة الأمور إلى سابق عهدها، قائلا: " إن عشت هذه السنة ساويت بين الناس... وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر " (2) ومات عمر والناس على سنته وبقيت سنة الله مهملة، وسنة عمر هي النافذة، وصار الخلفاء يتحكمون بالناس عن طريق التلاعب بتوزيع العطاء!!
ونسوق مثلا آخر في المجال الاقتصادي وهو سهم ذوي القربى، فسنة الرسول قد استقرت طوال عهده المبارك بإعطاء خمس الخمس لذوي القربى وهم بنو هاشم الذكر منهم والأنثى وبنو المطلب (3) بالإضافة إلى يتيم
____________
(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 7، وشرح النهج ج 1 ص 111، وتاريخ الطبري ج 5 ص 22 وكتابنا المواجهة ص 266 و 267.
(2) راجع تاريخ الطبري ص 22 سيرة عمر باب حملة الدرة.
(3) سنن أبي داود ج 2 ص 50، وتفسير الطبري ج 1 ص 50، ومسند أحمد ج 4 ص 81، والمغازي للواقدي غزوة خيبر.
عندما تولى أبو بكر الخلافة حرمهم من هذا السهم بحجة أن هذا السهم كان لهم حال حياة النبي فقط، وليس لهم بعد مماته (2)، وعندما تولى عمر الخلافة، حرمهم من هذا السهم أيضا ولكن بحجة أن قريشا كلها قرابة " أو ذوي قربى (3) للنبي وفي ما بعد بررت هذه الأعمال بأنها اجتهاد (4).
أنت تلاحظ أن الخليفتين لم يعملا بسنة الرسول القائمة على إعطاء 1 / 5 الخمس لذوي القربى، ووضعا سنة جديدة لها نتائج مختلفة عن نتائج سنة الرسول، وأن سنة الرسول المتعلقة بهذا الموضوع قد أهملت بينما أعملت سنة أبي بكر وعمر!!! وهذا معنى إصرارهم على ربط سنة أبي بكر وعمر مع كتاب الله وسنة رسوله، فكتاب الله وسنة رسوله لا يغنيان عن سنة أبي بكر وعمر، فلو فصلوا سنة أبي بكر وعمر واكتفوا بكتاب الله وسنة رسوله لوجب وزن أعمال الخليفتين بميزان القرآن والسنة، وليس من المستبعد إدانتها وفقا لهذا الميزان الشرعي، وإن أدينا فقد أدين من ساعدهما، وهكذا تقع الكارثة فلا ينبغي حسب قناعة أولياء الخلفاء أن يسأل الإنسان عن أي شئ، لأن كل شئ قد فعلوه لحكمة، فهما هاديان مهديان!!
____________
(1) صحيح مسلم ج 3 ص 12، وصحيح البخاري ج 1 ص 181، وصحيح مسلم ج 3 ص 117، وسنن أبي داود ج 1 ص 212، وسنن الدارمي ج 1 ص 383، وكتابنا المواجهة ص 268.
(2) شرح النهج ج 4 ص 81 نقلا عن الجوهري، وتاريخ الإسلام للذهبي ج 1 ص 347، وكنز العمال ج 5 ص 367.
(3) تفسير الطبري ج 10 ص 5، والأموال لأبي عبيد ص 233.
(4) شرح التجريد للقوشجي ص 408.
ثم إنه لم يقل أي واحد من الخلفاء الثلاثة عن نفسه بأنه هادي ومهدي وراشد، ولا ادعى أي واحد منهم بأن الرسول قد قال له مثل هذا القول، وهذا تأكيد قاطع بأن أولياءهم هم الذين اخترعوا هذه الفضائل في ما بعد!!
ثم إنه من المستحيل عقلا وشرعا أن يعطي الرسول لسنته وسنة الخلفاء القيمة نفسها، فالرسول مدعوم إليها بالوحي، ومعصوم عن الوقوع في الزلل، والخلفاء مجتمعون ومنفردون لم يدعوا بأنه كان يوحى إليهم، أو أنهم كانوا من المعصومين!!
ثم إنه من المستحيل فنيا أن يكون في المجتمع الواحد أكثر من جهة تشريعية وإلا وقع التناقض في الأحكام التي تطرح للتطبيق!!
ثم إن الرسول لم يحدد من هم الخلفاء الراشدون - تاريخيا -، وتعرضت قائمة الخلافة الراشدة للتبديل والتعديل، فكانوا في البداية اثنين هما أبو بكر وعمر ونتيجة حكم بني أمية وتأثيرهم أضيف لهما عثمان، وبعد التسوية، قام بعض علماء دولة الخلفاء بإدخال الإمام علي مع هذه القائمة، الإمام نفسه الذي كانوا " يلعنونه بالأمس " وأكبر الظن بأنهم قد أدخلوا الإمام بهذه القائمة لغايات تجميلها وإلباسها ثوب الشرعية، والحصول على تأييد أهل بيت النبوة لهذه القائمة ويقينا بأن هذا الحديث مختلق، وقد وضعته الطواقم التي أنشأها معاوية بن أبي سفيان لافتعال الفضائل لا حبا بالخلفاء، ولكن طمعا بتمييع النصوص الشرعية الواردة في الإمام علي خاصة وأهل بيت النبوة عامة،
فالحديث واحد من تلك المرويات المفتعلة، وقد اتفق مع هوى أولياء دولة الخلافة، فطاروا به كل مطار.
فيبقى السند الوحيد لسنة أبي بكر وعمر، أو سنة الخلفاء هو التأييد الشرعي الجارف لهما، ولا سند لهذه السنة لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ولا من العقل!!! لأن كتاب الله وسنة رسوله يغنيان عن سنة أبي بكر وعمر وسائر الخلفاء كما حللنا وأثبتنا ذلك.
ويدعي البعض أن هنالك سندا شرعيا آخر لسنة أبي بكر وعمر أو سنة الخلفاء وهو الإجماع!!! بمعنى أن الخلفاء سنوا سننهم على مسمع ومرأى من الصحابة الكرام، فلو كانت سنن الخلفاء غير مناسبة لاعترض عنها الصحابة الكرام، فسكوت الصحابة عنها هو بمثابة إجماع على شرعيتها!!
ولكن هذا الكلام غير صحيح واقعيا وشرعيا، أما من الناحية الواقعية فقد كان القول الفصل للخليفة وعماله وأعوانه، فقد أشار الصحابة جميعا على عمر بكتابة سنة الرسول وتدوينها، ولكن عمر ترك إجماع الصحابة وعمل برأيه الخاص!! فأحرق سنة الرسول المكتوبة والتي أشار عليه الصحابة جميعا بجمعها وتدوينها!! ثم إن الإجماع لم يتحقق ولو في يوم من الأيام،
____________
(1) شرح النهج ج 3 ص 595 - 596 تحقيق حسن تميم.
____________
(1) كنز العمال ج 13 ص 345 نقلا عن ابن عساكر.
(2) صحيح البخاري ج 1 ص 34.
(3) البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 107.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 501، والحاكم باختصار ج 2 ص 329 وج 3 ص 303.
(5) المسترشد لابن جرير الطبري ومعالم التفسير ج 1 ص 57.
ولهزمت الأقلية المؤمنة هزيمة ساحقة بهذه الانتخابات، فالإجماع والكثرة والقلة لها موازين شرعية تحكمها ويجهلها القوم.
والخلاصة أن دعوى الإجماع على صحة سنة الخلفاء غير واردة وغير صحيحة، ولا تشكل سندا شرعيا لهذه السنة!!
سنة الخلفاء أهم عند أوليائهم من سنة الرسول
بعد أن منعوا كتابة ورواية سنة الرسول، وأحلوا محلها سنة الخلفاء، صارت سنة الخلفاء عند أوليائهم أولى بالتطبيق من سنة الرسول، ولكن تحت جبة إسلامية، أو شعار إسلامي!!
روى ابن جبير عن ابن عباس قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة!!!
فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟ قال: يقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة "!!
وفي حديث آخر قال ابن عباس: إني أحدثكم عن النبي وتجيئوني بأبي بكر وعمر.
فقال عروة: هما والله كانا أعلم بسنة رسول الله وأشيع لها منك!!
قال الخطيب البغدادي في جواب عروة قلت قد كان أبو بكر وعمر على ما وصفهما عروة إلا أنه لا ينبغي أن يقلد أحد في ترك ما ثبتت به سنة الرسول (2) حتى عبد الله بن عمر بن الخطاب كان مندهشا من أولياء الخليفتين، فقد كان عبد الله يفتي بالذي أنزل الله عز وجل من الرخصة بالتمتع، وبما سن رسول الله فيه، فيقول بعض الناس لابن عمر: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟
فيقول لهم عبد الله: ويلكم ألا تتقون الله؟! إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير؟! فلم تحرمون ذلك وقد أحله الله، وعمل به رسول الله؟!
أفرسول الله أحق أن تتبعوا سنته أم سنته عمر؟! (3) قال الشافعي: لقد ضل من ترك قول رسول الله لقول من بعده (4).
وقال ابن حزم: من جاءه خبر عن رسول الله يقر أنه صحيح، وأن الحجة تقوم بمثله أو قد صحح ذلك الخبر في مكان آخر، ثم ترك مثله في
____________
(1) مسند أحمد ط شاكر ج 5 ص 48 ح 3121 وطبعة مصر ج 1 ص 337، والفقيه والمتفقه ج 1 ص 145، والسنة قبل التدوين ص 88، وتدوين السنة الشريفة ص 282.
(2) الفقيه والمتفقه ج 1 ص 145، وتدوين السنة الشريفة ص 282.
(3) مسند أحمد ج 8 ص 77 ح 5700 ط شاكر وإسناده صحيح ونقله ابن كثير في تاريخه ج 5 ص 141.
وتدوين السنة ص 283، والسنة قبل التدوين ص 90.
(4) الفقيه والمتفقه ج 1 ص 49.
____________
(1) الأحكام لابن حزم ج 1 ص 98.
الفصل الثاني
الاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة هو الذي أوجد سنة الخلفاء!
في الفصول السابقة عالجنا بالتفصيل مصطلح سيرة الخليفتين أبي بكر وعمر، أو سنتيهما، التي عرفت في ما بعد بسنة الخلفاء الراشدين، وأثبتنا فساد إصرار القوم على قرن سنة الخلفاء بكتاب الله وسنة رسوله، لأن كتاب الله وسنة رسوله غنيان عن سنة الخلفاء وكاملان بدون سنة الخلفاء، ومن غير الجائز ولا من اللائق أن تساق وأن تقرن سنة الخلفاء بكتاب الله وسنة رسوله، لأنه لا مجال للمقارنة أو المساواة بين كتاب الله وسنة رسوله وبين سنة الخلفاء، لأن الخلفاء وإن طاروا ليسوا أكثر من تابعين، وكتاب الله وسنة رسوله متبوعون، فأي منطق هذا الذي يساوي بين التابع والمتبوع ويضعهما في درجة واحدة!! لكن إصرار القوم على قرن سنة الخلفاء بكتاب الله وسنة رسوله يؤكد تأكيدا قاطعا على أن سنة الخلفاء تختلف عن كتاب الله وسنة رسوله، وتتضمن أحكاما ليست واردة لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ومع هذا يصر القوم على اتباعها مع أنها معارضة لكتاب الله وسنة رسوله!!
سنة الخلفاء صارت عمليا بديلة لكتاب الله وسنة رسوله!!
لقد بين الله في كتابه، والرسول في سنته كافة الأحكام المتعلقة بمن يخلف رسول الله بعد موته كما فعلنا ذلك سابقا، لقد اختار الله تعالى الإمام علي بن أبي طالب ليكون أولى من يخلف النبي بعد موته، وطوال عهد الرسالة الزاهر والرسول يؤكد هذا الاختيار بكل وسائل التأكيد ويبينه بكل طرق البيان، وعندما حج الرسول حجة الوداع، أوحى الله إليه أنه بعد عودته إلى المدينة سيمرض وسيموت في مرضه لذلك أمره الله تعالى بأن ينصب الإمام عليا رسميا خليفة من بعده، وأن يأخذ له البيعة من المسلمين حال حياته، فصدع الرسول بأمر ربه، وفي غدير خم نصب رسول الله الإمام عليا ليكون أول إمام بعده وفاة الرسول، ثم طلب من المسلمين أن يطيعوا ربهم ورسولهم فيبايعوا الإمام، واستجاب المسلمون لأمر الله ورسوله، فبايعوا الإمام عليا، وقدموا له التهاني، وكان على رأس المبايعين والمهنئين الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان، بالإضافة إلى من سماهم عمر في ما بعد بأصحاب الشورى حيث بايعوه وقدموا له التهاني، ورضوا به وعرف المسلمون إمامهم بعد النبي كما وثقنا ذلك بالتفصيل، وكان الرسول الأعظم قد أعلن مرارا وتكرارا بأن الإمام عليا هو أول من يخلفه بعد موته، وبعد موت الإمام الحسين وهكذا تنتقل الخلافة إلى الإمام الحسن، وبعد موت الحسن تنتقل إلى الإمام الحسين وهكذا حتى يكتمل عددهم اثني عشر كلهم من ذرية النبي ومن صلب علي، يتولى كل واحد منهم الإمامة بعهد ممن سبقه، واعتبر المسلمون ذلك ترتيبا إلهيا يحقق مصلحة العباد، ويسند منصب الإمامة إلى الأعلم والأفضل والأقرب لله ولرسوله، ويقطع دابر التنافس على الرئاسة العامة، ويحقق الاستقرار، وبعد أن تم تنصيب الإمام علي في غدير خم نزلت آية الإكمال (اليوم أكملت لكم دينكم...) وعاد الرسول ومن
وظهر في ما بعد أن هذا الترتيب الإلهي الذي أعلنه رسول الله لم يرق لأبي بكر وعمر وعثمان ولا لطائفة من المهاجرين،...:
1 - لأنهم اعتقدوا أن الإمام عليا لا يصلح للخلافة لحداثة سنه والدماء التي عليه فهو ما زال فتى وليس من المناسب أن يتأمر على شيوخ المهاجرين والأنصار، وخلال الحرب التي جرت بين الكفر والإيمان نكل الإمام علي ببطون قريش، وفجعها بأبنائها فليس من المناسب أن يتولى الإمامة من كانت هذه أفعاله، والأفضل أن يتولى الخلافة أحد المهاجرين الذين لم تتلوث أيديهم بقطرة دم واحدة من دماء الكافرين فمثلا أبو بكر وعمر وعثمان سجلهم نظيف فلم يفتلوا أو يجرحوا أو يأسروا أي مشرك قط ثم إنهم أصهار الرسول، وأصحابه ومن المهاجرين، فما الذي يمنع من أن يتولى الخلافة أحدهم، وما الذي يمنع من تعاقبهم على الخلافة كل بعهد ممن سبقه!!
2 - وقد رأى الثلاثة ومن معهم من المهاجرين أنه ليس من المناسب أن يكون النبي من بني هاشم، وأن يكون الخلفاء من بني هاشم أيضا.
3 - إن الخلفاء الثلاثة يريدون مصلحة الأمة والإسلام، والترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول لا تخدم لا مصلحة الأمة ولا مصلحة الإسلام، وهي ترتيبات غير مناسبة وغير صحيحة، لذلك قدروا أن من واجبهم الديني أن يضعوا ترتيبات أخرى مناسبة وصحيحة تخدم الأمة وتخدم الإسلام!!!!
4 - لذلك صمموا أن يغتنموا فرصة مرض النبي، وأن يثيروا
المسلمين ضد الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول أو ضد سنة الرسول التي
أعلنت هذا الترتيب الإلهي المتعلق بمن يخلف النبي بعد موته، وأن
يشجعوا المسلمين على وضع سنة جديدة للخلافة تختلف تماما عن سنة