الثانية: أن يكون اتباع سنتهم هو اتباع لسنة النبي (صلى الله عليه وآله)، بل دون أن تكون لهم سنة غير سنته (صلى الله عليه وآله)، بل هم تابعون له.
وفي هذا الحال تكون عبارة " وسنة الخلفاء " زائدة لا معنى لها، ويكون بالتالي قد أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) باتباع سنته وحدها، دون ذكر اتباع القرآن. وليس هذا معهودا من النبي (صلى الله عليه وآله) إذ أنه كان دائما يقدم القرآن سواء على السنة أو العترة، فضلا عن خلو الحديث من الإشارة إليه خلوا تاما.
ثم إنه لو قيل إن ذكر اتباع الخلفاء لحرصهم على اتباع سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، لا لأنهم ينفردون بسنة خاصة.
قلنا: فما هو السبب في تخصيص الاتباع بهم؟ هل كان سائر الصحابة مخالفين للنبي (صلى الله عليه وآله) في سنته أو بعضها؟ وأين حديث: " أصحابي كالنجوم... "؟ أليس هذا وحده كافيا لإبطال حديث الخلفاء؟
وفي الحقيقة أن هذا الحديث بهذه الدلالة التي فهمها منه أتباع الخلفاء الأربعة - باعتباره دليلا على اتباع سنتهم وحجية أقوالهم - لا يمكن أن يكون وسيلة للنجاة من الاختلاف كما أريد له، أو وسيلة لمعرفة الفرقة الناجية، وسلامة عند ظهور البدع والمحدثات. والباحث عن الفرقة الناجية في دلالة ومعاني هذا الحديث - طبقا لهذا التفسير - لا ينتهي ببحثه إلا إلى مفترق الطرق، ولا يزداد به إلا حيرة في الوصول إلى الفرقة الناجية هذه، وذلك للتناقض بين ما يفيده مفهوم الحديث كدليل يفهم منه الأمر باتباع الخلفاء الأربعة وبين المدلول عليه، وهو واقع حال الخلفاء الأربعة فيما بينهم.
فالحديث كان وعظا وعهدا ووصية من النبي (صلى الله عليه وآله) في آخر أيامه إلى أصحابه، حذرهم فيه مغبة الاختلاف ومحدثات الأمور، غير أننا سنرى أن الخلفاء أنفسهم لم ينجوا من هذا الاختلاف والوقوع في المحدثات، فخالف بعضهم بعضا، وكاد بعضهم أن يقتل بعضا. لقد اختلف الإمام علي مع أبي بكر وعمر في مسألة الخلافة، فادعى الإمام علي أن الخلافة حق له، وأن أبا بكر يعلم ذلك وأنه أخذ حقا ليس له، يقول الإمام علي:
فنشب الاختلاف بينهم في مسألة من أهم مسائل الدين، وهي الخلافة من بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
فإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أوصى لأحد، فلا ينبغي الاختلاف بينهم في الأمر، بيد أن الاختلاف بينهم قد وقع. وإن لم يكن قد أوصى لأحد، فلا يجوز بينهم الاختلاف أيضا، وهم الذين بهم سلامة الأمة من الفتن والاختلاف.
ولهذا فالحديث لا يصح. وهذه الحادثة لو لم تكن إلا هي فهي كافية في بيان بطلان هذا الحديث بهذا المعنى.
فعندما علم بنو هاشم بما حدث في السقيفة من أمر البيعة لأبي بكر اعتصموا، مع جمع من الأنصار والمهاجرين، في بيت علي (عليه السلام)، احتجاجا ورفضا لما حدث، فقال لهم عمر: " والذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها.
فقيل له: إن فيها فاطمة!
فقال: وإن ".
وجاء رسول أبي بكر إلى علي، فقال: يدعوك خليفة رسول الله.
فقال علي (عليه السلام): لسريع ما كذبتم على رسول الله.
فرجع إلى أبي بكر فأبلغه، فبكى أبو بكر طويلا، فقال عمر: لا تمهل هذا المتخلف عنك في البيعة!
فبعث رسوله إليه ثانية، فقال: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع.
فقال علي (عليه السلام): سبحان الله! لقد ادعى ما ليس له.
فرجع الرسول وأبلغ الخليفة، فبكى أبو بكر طويلا، فقام عمر ومشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة (عليها السلام)، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة!
فقال (عليه السلام): أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي.
فقيل له: لست متروكا حتى تبايع.
فقال: إن لم أفعل فم؟
قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك!
فقال (عليه السلام): إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله!
فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخا رسول الله فلا! وأبو بكر ساكت.
فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟!
فقال أبو بكر: لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه.
فلحق علي بقبر رسول الله يصيح وينادي: ابن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا أن يقتلون " (1).
اختلاف علي (عليه السلام) وعثمان (رضي الله عنه)
إن ما يبين عمق الاختلاف بين الخلفاء أيضا ما وقع بين علي (عليه السلام) وعثمان بن عفان، كما يروي البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما بين مكة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة [ حج التمتع ] وأن يجمع بينهما [ أي العمرة والحج ]، فلما رأى ذلك علي (عليه السلام) أهل بهما جميعا قائلا: لبيك عمرة وحج معا، فقال عثمان: تراني أنهى الناس عن شئ وتفعله أنت؟!
فقال علي (عليه السلام): لم أكن لأدع سنة رسول الله (ص) لقول أحد (2).
فيلاحظ في هذه الواقعة أن الاختلاف قد حدث بين الخليفتين المفترض اتباعهما،
____________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 12 - 13، الفتوح لابن أعثم 1: 13، أعلام النساء 4: 114 - 115، شرح ابن أبي الحديد 2: 56 و 6: 11.
(2) صحيح البخاري 3: 108 / 1412 - كتاب الحج، باب التمتع والإقران.
فهذا علي (عليه السلام) وهذا عثمان (رضي الله عنه) يختلفان في السنة النبوية، ولا يتبع أحدهما الآخر، والناس بالطبع منقسمون طبقا لذلك الاختلاف والانقسام. ولما خالف علي عثمان لم يعد عثمان ليتبعه في قوله، بل إن عثمان اعترض عليه قائلا: كيف تفعل شيئا تراني أنهى الناس عنه؟! غير أن عليا اتهمه بترك سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولن يتركها علي من أجله، إذ هو فرد كسائر الناس.
وليست هذه هي الواقعة الوحيدة التي يختلف فيها علي (عليه السلام) مع عثمان (رضي الله عنه) ويظهر فيها عثمان مخالفا لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) في نظر الإمام (عليه السلام)، فقد روى سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد قال: " اعتل عثمان بمنى فأتي علي، فقيل له: صل بالناس، فقال علي:
إن شئتم، ولكن أصلي بكم صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعني ركعتين.
فقالوا: لا، إلا صلاة أمير المؤمنين عثمان أربعا.. فأبى علي أن يصلي بهم " (1).
واضح من هذا أن عليا (عليه السلام) قد رفض أن يصلي بصلاة عثمان أربع ركعات، وهي سنة عثمان - وعثمان من الخلفاء الأربعة - والنبي (صلى الله عليه وآله) قال فيهم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء... "! فما بال علي يخالف عثمان لو كان الحديث قد صدر حقا عن النبي (صلى الله عليه وآله)؟!
إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر بالإحداث
من الواضح أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يأمر باتباع سنة الخلفاء الأربعة، بل أكثر من ذلك أنه كان يعتبر ما سيسنونه من سنة إنما هو إحداث في الدين ومخالفة له بعد موته، فكان النبي (صلى الله عليه وآله) يظهر التخوف من ذلك.
يروي الإمام مالك في " الموطأ ": أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم.
____________
(1) سنن البيهقي 3: 145، أحكام القرآن للجصاص 2: 310.
فقال رسول الله (ص): بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي!
فبكى أبو بكر، ثم قال: إننا لكائنون بعدك (1).
فها هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبر أبا بكر ومن معه بإحداثهم من بعده، وأبو بكر هذا هو الخليفة الأول من الحلفاء الأربعة، فكيف يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) الناس باتباع سنة أبي بكر ويخبره في نفس الوقت بالإحداث من بعده؟! فهل يتناقض الرسول يا ترى؟! أم إن قوله الحق؟
وفي الحقيقة إن هذا الخطاب الصادر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر لا بد من الوقوف عنده طويلا والتمعن في معانيه ومقاصده: " لا أدري ما تحدثون بعدي "، فيا للعجب:
أليس هو التغيير والتبديل، أم ليس هو مخالفة السنة النبوية؟!
ومن هم - يا ترى - هؤلاء الذين يشملهم هذا الخطاب الجمعي الذي يحمل نبأ الإحداث؟
ولو كان هذا الإخبار لا يشمل إلا أبا بكر وحده لكان كافيا في نقض حديث اتباع الخلفاء، غير أن عمر وأبا بكر كانا متصافقين متوافقين في كل خطوات حياتهما منذ أن جمعهما الإسلام، ويكفي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد آخى بينهما.
فهل يمكن أن يكون هذا الإنباء النبوي الشامل لأبي بكر في قوله: " لا أدري ما تحدثون بعدي " لا يشمل عمر، وهو الذي وافق أبا بكر في كل صغيرة وكبيرة، وهو الذي خلفه أبو بكر من بعده؟ فعمر من محدثات أبي بكر، كما كان أبو بكر من محدثات عمر يوم بايعه في السقيفة وشيد له أركان الخلافة بلا نص ولا حق. إذا لا نستطيع أن نصرف هذا الإخبار النبوي عن عمر بن الخطاب ليتقلب فيه أبو بكر وحده، على أن دائرة الإخبار النبوي تتسع لتشمل الكثير من الصحابة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو
____________
(1) الموطأ 1: 307، المغازي للواقدي 1: 310 - غزوة أحد.
محدثات أبي حفص
إن لابن الخطاب منهجا خاصا انفرد به بين الصحابة، وعمدة هذا المذهب العمري عدم التردد في التصرف كما يرى مع السنة النبوية، وإن أدى ذلك إلى تبديلها أو إلغائها وإحلال محلها ما يراه بديلا لها، سواء ذلك في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) أو بعد وفاته.
روى أحمد في مسنده: " أن أبا موسى الأشعري كان يفتي بالمتعة [ حج التمتع ]، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك! إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، حتى لقيه أبو موسى فسأله عن ذلك، فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قد فعله هو وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين في الأراك، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم " (2).
فعمر يعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد سن متعة الحج، ورغم ذلك لم ير بأسا في إلغائها، وليس ذلك إلا لأنه كره شيئا فيها. وبكل هذه البساطة تعطل قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (3)، وها هو الإحداث العمري.
يقول البيهقي: " ما أعمر رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عائشة في زمن الحج إلا ليقطع بذلك أمر الشرك " (4)، ذلك لأن المشركين في الجاهلية " كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض " (5).. فانظر إلى سبب إدخال النبي (صلى الله عليه وآله) العمرة في الحج، إذ أنها سنة نبوية تخالف سنة جاهلية راجت بين المشركين، فكيف سهل على الفاروق - وهو الذي قيل إنه فرق بين الحق والباطل - إعادة الباطل وإحياؤه وإماتة الحق
____________
(1) صحيح البخاري 4: 187، صحيح مسلم 8: 57، مسند أحمد بن حنبل 3: 84 و 94.
(2) مسند أحمد 1: 50.
(3) الحشر: 7.
(4) سنن البيهقي 4: 245.
(5) صحيح مسلم: كتاب الحج - باب التمتع والعمرة، صحيح البخاري 3: 109 / 1413 - كتاب الحج.
ولقد أغلق النبي (صلى الله عليه وآله) باب الاجتهاد في إلغاء أو تغيير شئ في متعة الحج، فبعد أن أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) متعة الحج في حجة الوداع أمام ما يربو على مائة ألف مسلم، قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا التمتع أم للأبد؟ فشبك أصابعه الشريفة وقال: " دخلت العمرة في الحج، دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد " (1).
فهل يجوز بعد هذا لأبي حفص أو غيره أن يجتهد ويمنع متعة الحج؟! ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم قبل ذلك: " لا أدري ما تحدثون بعدي "، فإنها دلائل النبوة.
فها نحن قد شهدنا أن حديث الخلفاء يحذر المؤمنين من الاختلاف ويأمرهم باتباع الخلفاء الأربعة، لأن في ذلك نجاتهم من الشقاق والاختلاف وسلامة لهم من محدثات الأمور والبدع، ولكن رأينا أبا بكر ومن نحا نحوه قد أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله) بارتكاب الإحداث والتغيير، وشاهدنا الخلفاء أنفسهم وقعوا في مغبة الاختلاف فاختلفوا فيما بينهم، كما رأينا ما حدث من اختلاف بين أبي بكر وعمر من ناحية والإمام علي (عليه السلام) من ناحية أخرى في مسألة الخلافة، وشاهدنا مثالا للاختلاف بين الإمام علي (عليه السلام) وعثمان بن عفان في سنة النبي الأكرم، ورأينا كيف عمد عمر بن الخطاب إلى إلغاء سنة النبي (صلى الله عليه وآله) التي سنها إلى الأبد.
فهذا الاختلاف الذي نشأ بين الخلفاء أدى إلى نفس المخاوف التي من أجلها وعظ النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالحديث المذكور الذي فيه الأمر باتباع الأربعة، فلقد حدث الاختلاف ووقع الإحداث ووقع الناس فيه، فكيف يبين الرسول (صلى الله عليه وآله) سبيل النجاة والسلامة من الاختلاف والإحداث باتباع الخلفاء فيقعون هم أنفسهم فيما فرض أن نجاة الناس منه هؤلاء الخلفاء؟! فما دامت أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وحيا فالوحي لا يخطئ، مما يوضح أن هذا الحديث موضوع على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) ومقول عليه.
فالرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن يمنع المسلمين من الاختلاف ويحذرهم إياه ويأمرهم باتباع الخلفاء الأربعة للنجاة منه ويرى وقوع الاختلاف بين الخلفاء ولا يرى له خطرا. والحق
____________
(1) صحيح مسلم 1: 467.
فالحق إن اتبع لن يجد الاختلاف إلى اتباع ذلك الحق سبيلا، وكما أن الحق واحد، فالمجتمعون عليه وإن كثر عددهم فهم في الحقيقة واحد، فكيف يختلف الواحد؟! بل كيف يختلف الاثنان وهما على الحق! إذا فالواحد لا يختلف ليكون اثنين والاثنان لا يختلفان وهما قد توحدا على الحق بعد إدراكه. نعم ليس كل ما اجتمع عليه حقا لأن الكثيرين يمكن اجتماعهم على الباطل كما يمكن أن يختلفوا وهم على الباطل أيضا بأن يكون الاختلاف بين الطرفين: كل طرف يدعي باطلا يظنه الحق، وكما يمكن أيضا اختلافهم بأن يكون طرفا الخلاف أحدهما على الباطل والآخر على الحق.
فهذه صور ثلاث أدى إليها وجود الباطل في أحد الطرفين، إذا فالباطل إما أن يتفق عليه، أو يختلف فيه، أو يختلف الباطل مع الحق. وأما الحق فله صورة واحدة إذ أنه واحد، فلا بد من الاتفاق عليه والاتحاد فيه. وأية صورة بخلاف ذلك فهي متضمنة للباطل بأي شكل كان. ولهذا فأينما وجد الاختلاف فاعلم أن الباطل قد أطل برأسه من جهة أو من الجهتين بباطلين مختلفين في الموضوع والهدف، ولهذا حذر منه النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو تحذير تناول المعلول دون العلة، فالباطل علة الاختلاف.
إن الاختلاف الذي وقع بين الصحابة كافة أو بين الأربعة هو صورة واحدة من صور الاختلاف الثلاث، ولهذا لا يمكن أن يكون اتباعهم على السواء نجاة من الاختلاف.
ولمعرفة الحق لا بد من علامات ومعالم وإشارات وأدلة من سنخ الحق نفسه تشير وتدل عليه.
وخلاصة هذا الأمر أن حديث اتباع سنة الخلفاء حديث محرف المعنى والدلالة، فهو إن كان يدل على اتباع الخلفاء فهو لا بد أن يدل بالتأكيد على وحدتهم واتساقهم، لا سيما في سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وكل ما يهم الناس.
ثم إنه هناك دلالة في الحديث تشير إلى اتباع الأربعة، فإن اسم الخلفاء الوارد في الحديث لا يعني بأي شكل كان أنهم الخلفاء الأربعة. وهل الخلفاء أربعة كما ذكر؟
واتباع أحد الأربعة بهذا الأمر إما لأنهم متبعون للنص فيكون اتباعهم ليس لسبب غير النص نفسه، وإما لأنهم غير متبعين للنص فلا يجوز اتباعهم فيما خالفوا به النص.
ولو كانت الحجة في قولهم بسبب اعتمادهم على النص فلا يختص هذا بهم، إذ كل من يعتمد في قوله على نص فقوله بهذه الصورة مقبول. أما بخلاف ذلك فلا، لأن الجميع يجب أن يخضعوا للنص، وعلى الجميع طاعة النبي (صلى الله عليه وآله). وحتى أولو الأمر ليس لهم العمل بما يخالف القرآن والسنة. وطاعة الرسول لا تعني مخالفته والعمل بخلاف ما يأمر به وينهى عنه، وهذا واضح بالبداهة، فالذي يجتهد في مسألة بين الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر الله فيها ويخلص من اجتهاده إلى ما يخالفها فقد خالف النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، ولا يقبل قوله، بل يجب أن يعاقب على هذا الخلاف. والاجتهاد ضد النص أو مع وجود النص مخالفة صريحة لله ورسوله.
ولو جاز الاجتهاد ضد النص فكيف تكون السنة مصدرا للتشريع؟ أليس ذلك عملا بخلافا لشرع، إذ لم يعتمد على مصدره؟
مخالفة الصحابة للخلفاء الأربعة
لقد علمنا أن الاختلاف أخذ بتلابيب الخلفاء أنفسهم، ولم يتبع بعضهم بعضا في كثير من المواطن، وهذا ما يتناقض مع الحديث الآمر باتباعهم للنجاة من الاختلاف. كما علمنا أن البدع قد صدرت من بعضهم، وهم - على أساس حديث الخلفاء - معول عليهم في نجاة الأمة من البدع والمحدثات.
غير أن الصحابة لم يترددوا في مخالفة الخلفاء في كثير من الأمور، فكيف يستقيم ذلك والأمر باتباعهم؟! والمخالفون لهم من أجلة الصحابة، لا مجال للطعن فيهم، أو اتهامهم بالنفاق. فإما أن يكون قد أعرضوا عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) الصادر باتباعهم، وإما أن يكون الحديث موضوعا عليه (صلى الله عليه وآله). ونقول نحن بالرأي الأخير، ليس لما رأيناه من مخالفة الصحابة للخلفاء فحسب، بل لأسباب سقناها وسنسوق بعضها فيما يأتي من فصول، إن شاء الله.
مخالفة سعد بن عبادة لأبي بكر وعمر
من الشخصيات البارزة في جيل الصحابة شخصية الصحابي الجليل سعد بن عبادة، فلقد كان من أشد المخالفين لأبي بكر وعمر في أمر الخلافة.
فلما تمت البيعة لأبي بكر بالصورة التي كانت، أرسلوا إلى سعد يطلبونه أن يبايع، فقال لهم: " لا والله، حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي " (1). فانظر إلى شدة سعد على الشيخين أبي بكر وعمر، فإنه لم يرفض بيعتهما فحسب، بل أقسم على قتالهما بأهله وعشيرته، فأي حديث نقبل؟! وأي حديث نصحح؟ فأمامنا حديث الاقتداء بالصحابة، وها هو سعد منهم، وهو نجم به تتحقق الهداية. وأمامنا حديث الخلفاء الأربعة والأمر باتباعهم، ورأينا سعدا يخالفهم ولا يقبل منهم إلا بعد أن يخضب سنانه بدمائهم ويضرب أعناقهم بسيفه.
وإنه لما قال عمر بن الخطاب: " اقتلوا سعدا، قتله الله " نهض قيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول له: " والله لو حصحصت منه شعرة ما رجعت وفيك واضحة " (2).
وأما الحباب بن المنذر فهو الآخر لم يكن يعرف لأبي بكر وعمر طاعة في يوم السقيفة قط، فلما رد الشيخان كلامه في أمر الخلافة صاح قائلا: " والله لا يرد علي أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد " (3).
لقد كان الحباب مستعدا لضرب من يخالفه منهما ويحطم أنفه بسيفه، كما كان مستعدا لتولي أمر الخلافة بنفسه، فضلا عن إبائه التسليم والبيعة لهما بالخلافة.
فلا سعد ولا قيس ولا الحباب ولا علي يعرفون حديث الخلفاء! ليس لأنهم خالفوه، بل لأنه حديث لم يكن له وجود في ذلك الوقت، بل ولد أخيرا في مهد الدولة
____________
(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير، حوادث سنة إحدى عشرة - ج 2.
(2) تاريخ الطبري، حوادث سنة إحدى عشرة - ج 2.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 16.
والاختلاف الذي حدث في يوم السقيفة يؤيد ما ذهبنا إليه، إذ لو كان للحديث وجود في ذلك الوقت بمعنى الخلفاء الأربعة - كما فسر - وأنه كان عهدا ووصية من النبي (صلى الله عليه وآله) لما حدث ما حدث من اختلاف وتنازع وخصام كادت أن تزهق فيه أرواح طاهرة، ولما احتاج أبو بكر وعمر إلى بذل الوسع وشق الأنفس في إقناع الأنصار بعدم أحقيتهم في الخلافة بأدلة غير هذا الحديث، إذ أنه كان يكفي في إثبات الحجة وإقامة الدليل على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولما اضطر عمر إلى تشكيل شورى سداسية لتختار خليفة للناس من بعده، كما حدث، إذ المفترض أن الحديث قد أوجب طاعة الأربعة، بعد أن فسروه بهم. ولكن هيهات، فالحديث موضوع باسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندا، فليتبوأ واضعه مقعده من النار.
خلاف بعض الصحابة للخليفة الرابع
وأما هذه فهي مسألة أخرى من الواضحات المسلمات، وقد أصابت من " حديث الخلفاء " مقتلا، ذلك لأن الإمام عليا هو رابع الخلفاء، وعلى هذا فسنته واتباعه - طبقا لهذا الحديث - حجة وجبت على الصحابة، وإلا كان المخالف رادا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومخالفا له بلا ريب.
فهذا معاوية وذاك طلحة والزبير وتلك عائشة أم المؤمنين، وتلك الفئة الباغية، فمن منهم لم يخالف الإمام عليا (عليه السلام) ولم يعلن عليه الحرب الضروس، عامدين لقتله وهو الخليفة الرابع؟!
وأما معاوية فقد حاربه ولعنه وأمر الولاة في دولته بلعنه وسبه على الملأ، واستمر لعن الإمام بعد معاوية كسنة راجت أكثر من خمسين عاما، يقول الطبري: " إن معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين وأمره عليها دعاه وقال له: لقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء
فقال له المغيرة: قد جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلو فتحمد أو تذم.
فقال: بل نحمد إن شاء الله " (1).
إقرأ قول معاوية: " لا تترك شتم علي وذمه "، فهل يبقى لحديث الخلفاء حجة على أحد بعد هذا القول؟! أرجو أن لا يخطئ القارئ ويظن أن معاوية أمر المغيرة بالترحم على عثمان والاستغفار له لأنه من الخلفاء الأربعة. كلا، بل هي القبلية والعصبية واللعبة السياسية. وهذا أقل ما يمكن أن يقدمه معاوية لعثمان، لأن معاوية مدين لعثمان، كما هو مدين لمن سبقوه فيما بلغه من مقام بين أهل الشام، حتى بلغ ما يصبو إليه. فقد تركوا له الشام يتصرف فيها كما يشاء مدة أربعين عاما انتهت بوفاته وخلافة ابنه يزيد الفاسق.
وأما طلحة والزبير فحدث عنهما ولا حرج، فقد خالفا الخليفة الرابع أسوأ ما تكون المخالفة وأشد، وذلك لأنه من الخلفاء الأربعة المأمور باتباعهم، ولأنهما سبقا الناس وتصدرا غيرهما في البيعة له، إذ كانا أول من بايع الإمام يوم هجم الناس عليه يبايعونه طوعا ورغبة منهم، ولأنهما حارباه بعد ذلك كله وألبا عليه الناس.
فاسمع كيف يتألم الإمام لما فعلا، يقول علي (عليه السلام): " اللهم إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبا الناس علي، فاحلل ما عقدا ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أملا وعملا.
ولقد استتبتهما قبل القتال، واستأنيت بهما أمام الوقاع، فغمطا النعمة وردا العافية " (2).
وقد كتب الإمام علي (عليه السلام) رسالة إليهما قبل القتال ينذرهما ويعظهما، قائلا: " فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما، فإن الآن أعظم أمركما العار، من قبل أن يتجمع العار والنار، والسلام " (3).
____________
(1) تاريخ الطبري، وتاريخ الكامل لابن الأثير: ذكر حوادث سنة 51 هـ.
(2) نهج البلاغة، شرح محمد عبده ص 306.
(3) نفس المصدر السابق ص 626.
مخالفة عائشة لعثمان وعلي رضي الله عنهم
إن موقف عائشة أم المؤمنين من الخليفة الثالث عثمان بن عفان من المواقف التي يستحيل إنكارها أو إخفاء ما يكتنفها من حقائق، إذ لا تخلو منها كتب السير والأخبار.
لقد خالفت عائشة عثمان أشد خلاف واتهمته أشد تهام، وأصدرت فتوى كفره وقتله، فقالت: " اقتلوا نعثلا، فقد كفر " (1).
يقول ابن أبي الحديد: " كل من صنف في السير الأخبار ذكر أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين عليها: هذا ثوب رسول الله، لم يبل وعثمان قد أبلى سنته. (قال) وقالوا: أول من سمى عثمان نعثلا عائشة، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا. (قال) وروى المدائني في كتاب " الجمل ": لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها، فلم تشك أن طلحة هو صاحب الأمر، فقالت: بعدا لنعثل وسحقا " (2).
فهذه هي الحميراء التي عندها نصف الدين - كما يقول أهل السنة - تفتي بكفر عثمان وقتله، لتبديله وإبلائه سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم تعر حديث الخلفاء اهتماما، فهل خالفت السنة هي الأخرى؟ أم لم يكن للحديث وجود، فلم تكن قد سمعت به من زوجها صاحب السنن (صلى الله عليه وآله)؟
وعلى كل، فإن عملنا بقول عائشة فقد دحض حديث الخلفاء، لتكفيرها عثمان إذ أنه منهم. وإن عملنا بحديث الخلفاء فقد دحض حديث الاقتداء بالصحابة، لبطلان قولها حينئذ، إذ أنها منهم. وهذا هو التناقض الفاضح، والاختلاف الكبير بين الحديثين، الأمر الذي يشير إلى أنهما من عند غير الله، وهو الباطل لا غير.
وأما موقفها من علي (عليه السلام) فيحكي نفسه ويبديها للملأ من أعلى سنام الجمل، ومن داخل الهودج الذي استقر على ظهر " عسكر ". وهذا كله مجتمعا يتظافر ليؤكد أن عائشة
____________
(1) تاريخ الطبري 3: 476.
(2) كتاب النص والاجتهاد لشرف الدين الموسوي ص 293 - المورد 83، نقلا عن شرح النهج لابن أبي الحديد.
فماذا ترى نقول في حديث قد خالفه كل الصحابة بقضهم وقضيضهم، ولم يعمل به واحد منهم؟! فالذي لم يخالف أبا بكر فقد خالف عمر، والذي لم يخالف عمر فقد خالف وسب وخاصم عليا (عليه السلام)، والذي لم يخالف عليا فقد خالف أبا بكر وعمر معا، فأي موقف يمكن أن نجد فيه ما يكون مصداقا لهذا الحديث، لنشاهده في الواقع بين الناس؟! ولكن هيهات، هيهات المصداق.
____________
(1) صحيح البخاري 1: 170، صحيح مسلم 1: 312، سيرة ابن هشام 4: 292.
الفصل الثاني: حديث الاقتداء بأبي بكر وعمر
من هي الزهراء؟
ماذا كان بينها وبين أبي بكر وعمر؟
عمر وصلاة النبي (صلى الله عليه وآله) على ابن أبي المنافق.
ضرب عمر لمبعوث رسول الله (صلى الله عليه وآله).
عمر ورزية يوم الخميس.
تزييف الاعتذار من نواح أخر.
الباب الأول
الاقتداء بأبي بكر وعمر
من المعلوم أن الأساس الذي تدور عليه الحجية - سواء كانت حجية نص أو حجية شخص - هي العصمة، فحجية القرآن لعصمته، فهو (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (1). وحجية النبي (صلى الله عليه وآله) لعصمته (صلى الله عليه وآله)، لكونه (لا ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (2). وحجية أولي الأمر لعصمتهم التي بسببها وجبت على الناس طاعتهم، وذلك لقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (3).
وأما ما كان غير ذلك من كلام أو أشخاص فلا حجية فيه، فإذا وضح ذلك.. فما الحجية في قول أو فعل وسيرة أبي بكر وعمر؟. فمن يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) باتباع سنته وقوله وفعله لا بد أن يكون معصوما، ولا يمكن لشخص معصوم أن يرتكب أخطاء مما يرتكبه الناس. ومن يقع فيما يقع الناس فيه من أخطاء لا يتميز عنهم بشئ، وبالتالي لا يرى الناس لزوما للخضوع له والعمل بأمره ونهيه، ولا ترتاح النفوس لاتباعه، بل يصبح عرضة لانتقادهم واعتراضاتهم، فالذي يقع في الخطأ لا يستطيع أن يمنع الناس عن
____________
(1) فصلت: 42.
(2) النجم: 3 و 4.
(3) النساء: 59.
وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " اقتدوا بالذين من بعدي، أبو بكر وعمر "! فإما أن تكون لهما العصمة، ولهذا أمر الرسول باتباعهما. وإما أن لا تكون لهما العصمة.
فإن كانت لهما عصمة من الله تعالى فلا بد من إثبات ذلك، والحال أنه لم يقل أحد بهذا، ولا يؤيد الواقع عصمتهما.
وإن لم تكن لهما عصمة من الله فلأي سبب أمر الرسول بالاقتداء بهما؟! والله تعالى لم يأمر باتباع وطاعة الرسول إلا لعصمته، ودون العصمة لا طاعة أبدا، فكيف يأمر الرسول باتباع وطاعة غير المعصوم؟! لقد راعى الله عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) ولذا أوجب طاعته، فكيف لا يراعي ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فيأمر بطاعة غير المعصوم؟! إن هذا محال.
وقد يقول قائل: ما أمر النبي بطاعة واتباع هذين إلا لحرصهما على متابعته والعمل بسنته. ولكن.. لماذا كان الأمر باتباعهما هما على الخصوص؟ 1 ألم يكن عثمان حريصا على متابعة النبي (صلى الله عليه وآله) والعمل بسنته؟! وهل كان الإمام علي لا يملك ذلك الحرص؟! غير أننا سنشهد مواقف لهما لا نرى فيها ذلك الحرص على اتباع النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم ماذا تقول في مخالفة كثير من الصحابة للشيخين في أمر الخلافة، وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) وكل بني هاشم، ولا سيما فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟! ولن ننسى موقف سعد حيالهما، فكيف نوفق بين أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالاقتداء بهما ومخالفة الهاشميين والأنصار لهما في أمر الخلافة؟!
أو لم يسمع أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الحديث الآمر باتباعهما؟! أم لم يكن للأنصار خبر به؟! وكيف لا يكون لهم خبر به وهو أمر وعهد ووصية منه (صلى الله عليه وآله)؟! على أن فقدان العصمة وحده يبطل هذا الحديث.
يقول الإمام الغزالي في ذلك: " فإنه من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟! وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟! وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف
نعم، يجب ألا يختلف المعصومان أبدا، لأن المعصوم بعيد عن الباطل وواقف على الحق. والحق - كما هو معروف - واحد لا يختلف، فما يدركه المعصوم من الحق في المسألة الواحدة هو نفس الحق الذي يدركه المعصوم الآخر منها، ولعدم اختلاف الحق لا يختلف المعصومان، فهل كان لأبي بكر أو عمر تلك العصمة؟
على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر أبا بكر بالإحداث - كما مر عليك - فقال له: " لا أدري ما تحدثون بعدي "، فالنبي كان يعلم أن أبا بكر ومن معه سيحدثون أمرا في الدين، فهل من المعقول أن يأمر بعد ذلك بالاقتداء به على الوجه الذي رأيت؟!
ولأبي بكر موقف مشهور مع بضعة النبي (صلى الله عليه وآله) وبنته البتول، أدى موقفه ذاك إلى إغضابها وإسخاطها!
وأما عمر فله مواقف مع النبي (صلى الله عليه وآله) عدة، وستمر عليك مواقف الشيخين هذه إن شاء الله عاجلا.
فالحديث هو من صنائع بني أمية، وهو من تلك الأحاديث التي وضعت في مقابل ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من اتباع العترة الطاهرة.
ذكر المدائني: " كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته... " (1)، فسد الباب أمام فضائل أهل البيت، وانفتح لفضائل غيرهم بلا ريب وإن لم توجد. وهذا الحديث من تلك.
من هي الزهراء؟
الزهراء هي فاطمة البتول، بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وهي زوجة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهي أم الحسن والحسين (عليهما السلام).
فأبوها هو سيد الأنبياء على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
وأمها أول من آمن على البسيطة بنبي الله الكريم، وكانت أحب نسائه إليه بلا مراء.
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 15 - 161 - نقلا عن المدائني.
وأما ابناها فهما سيدا شباب أهل الجنة، كما هو مشهور (2).
وأما هي (عليها السلام) فهي، يروي البخاري: " حدثنا موسى بن عوانة، عن فراس، عن عامر، عن مسروق قال: حدثني عائشة أم المؤمنين، قالت: كنا أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) عنده جميعا لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي، لا والله ما تخرم مشيتها مشية النبي (ص). فلما رآها رحب، وقال: مرحبا يا بنتي. ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارها الثانية، إذ هي تضحك.
فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين؟!
فلما قام رسول الله سألتها: عم سارك؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره.
فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق، لما أخبرتني.
قالت: أما الآن فنعم.. فأخبرتني.
قالت: أما ما سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني به العام مرتين، ولا أرى إلا الأجل قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإن نعم السلف أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية.. قال: يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو نساء هذه الأمة؟ " (3).
ولقد ذكر ابن حجر هذا الحديث، وفيه: " ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء
____________
(1) أنظر مسند أحمد بن حنبل 4: 281، المستدرك على الصحيحين 3: 130، 137، 142، خصائص النسائي 3، الإصابة لابن حجر ج 7 / القسم 1 ص 167.
(2) أنظر المستدرك على الصحيحين 3: 167، الإصابة لابن حجر ج 1 / القسم 1 ص 266، كنز العمال 6: 220 - 221، 7:
107، 111.
(3) صحيح البخاري 4: 64 - كتاب الاستئذان، صحيح مسلم: فضائل الزهراء - ج 2، مسند أحمد بن حنبل 6: 282.
فهذه هي الزهراء، سواء كانت سيدة نساء العالمين، أو سيدة نساء المؤمنين، أو نساء هذه الأمة، إذ أن ذلك من مسلمات الأمور وبديهياتها.
وبالتأكيد لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) مبالغا في وصف الزهراء بهذا الوصف وإعطائها هذه السيادة، ولم يكن وضعه إياها في هذا المكان السامق من قبيل المحاباة لبنته، لماذا؟
ذلك لأنه هو النبي الصادق، وهو الرسول العدل، بل لأنه لا ينطق عن هوى النفس ولا بغير الوحي، إنما نطقه وحي يوحى من الله تعالى، فهو إذا براء من التلفظ تبعا لما تهوى نفسه وتشتهي. بل إن هذه السيادة وتلك الرفعة الفاطمية لم تكن نالتها بسبب خارج عن إيمانها ويقينها وتقواها، أي ليس لأنها بنت النبي (صلى الله عليه وآله) فنالت هذه السيادة دون أن يكون لها صفة تؤهلها ذاتا لذلك المقام الرفيع، فهي إذا إن لم تكن لها تلك الأهلية الإيمانية لا يمكن أن تحظى بهذه الصفة وتنال مقاما لم يتوفر إلا لأربعة نساء (2) في الوجود، فتتربع عليه على هذا الأساس من الكمال والفائق.
ويقول تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) (3).. فانظر كيف اشترط الله الإيمان السابق حتى يكون علة لإلحاقهم بآبائهم وإعطائهم ما لهم من الثواب دون نقصان. فالإيمان السابق إذا هو تلك الأهلية التي يجب أن تتصف بها الذرية. وهكذا الزهراء، نالت هذا المقام بذلك الإيمان، والرسول (صلى الله عليه وآله) ما هو إلا كاشف عن هذا المقام الفاطمي.
والإيمان - كما هو معلوم - بين زيادة ونقصان، ولما علم نيل الزهراء لهذا المقام الإيماني علم أن إيمانها ويقينها وتقواها مما بلغ شأوا وجعلها في المقام المحمدي غير ممنون. ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما رواه إمام الحنابلة: " عن عبد الرحمن الأزرق، عن علي (عليه السلام)، قال: دخل علي رسول الله (ص) وأنا نائم على المنامة، فاستسقى الحسن أو الحسين.
____________
(1) الإصابة لابن حجر: ترجمة الزهراء (عليها السلام).
(2) كتاب الإستيعاب: ترجمة خديجة (عليها السلام).
(3) الطور: 21.
فالزهراء (عليها السلام) باستيفائها الشرط المذكور في الآية - وهو الإيمان - صارت مع أبيها (صلى الله عليه وآله) في مقام واحد يوم القيامة. وبعد هذا لا يصح أن يلتبس على أحد أمره في مقام السيادة الفاطمي الإيماني فيمر عليه دون انتباه، أو دون وقفة في مقام الانبهار والإجلال لشموخه، منزها إياها عن كل ما يعكر صفو ذلك المقام أو ما يناقضه من ارتكاب الخطأ أو الآثام، ذلك لأن الذي يكون مع النبي المعصوم في مقام واحد يوم القيامة يلزم أن يكون معصوما، وإلا لزم مشاركة غير المعصوم للمعصوم في مقامه وثوابه، وهذا محال. فأقل خطأ يتنزل به المقام عن مقام المعصوم، لمراعاة العدالة الإلهية.
إذا فمقام الزهراء جامع لكل الصفات الحسان، لأنه لا يستقيم أن تنال هذا الشموخ وثمة شائبة من الجهل بسنة أبيها أو الجهل بما أنزل عليه من القرآن. أو لا يمكن أن تكون قد ألحقت بهذا المقام السامي المشترط فيه الإيمان المساوق له ويكون قد جرى يوما كذب على لسانها أو جانبت الحق يوما واقتحمت دائرة الباطل، ذلك لأن هذا المقام الإيماني مبدد لكل شين ولكل فعل يخالف هذا المقام، وهو مذهب لكل وصمة تعارضه.
إن الجهل يوقع الإنسان في القبح لعدم العلم به، أو يوقع الإنسان في التقصير في أمر العبادات وأداء التكاليف. وفي الواقع إن المقام الفاطمي هو مقام تزكية وتطهير إلهي لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، فهذا القرآن يصدح بذلك في قوله تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2). والرجس هو القبح أو كل ما يكون علة له. وقد تم تطهيرهم عنه بمشيئة وإرادة الله التكوينية. ومن أقل لوازمه مراقبة الله والخشية منه، فضلا عن علم اليقين الذي يكشف عن قبائح الأخطاء فيورث النفس نفرة منها وتنائيا، وها هي
____________
(1) مسند أحمد 1: 101.
(2) الأحزاب: 33.
إذا فالزهراء ليست جاهلة بالدين بل عالمة بأموره تماما لا يغيب عنها شئ من مسائله، بل من غير المعقول أن تكون على غير ذلك بالنظر إلى أنها الطاهرة المطهرة إلهيا الزكية الصفية من كل ما يشين البرية، وبالنظر إلى استحالة أن يتركها أبوها عليه وعليها أفضل الصلاة والتسليم جاهلة ولو بمسألة من أمور الدين، وهي له القريبة والحبيبة والبضعة التي يغضبه ما يغضبها.
على أن النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام الذي جاء معلما للبشرية والذي بعث متمما لمكارم الأخلاق أربأ به أن يترك بضعته في حوالك الجهل ويخرج الآخرين من ظلماته إلى أنوار العلم، وهل جهلها وحديث الثقلين؟!
وهل يأمر النبي (صلى الله على وآله) الناس بالبر وينسى نفسه! أم أنه لم يؤمر بأن ينذر عشيرته الأقربين؟! وهل هذا الإنذار محدود زمنيا ببدء الرسالة؟
أم كانت الزهراء مشاقة للنبي (صلى الله عليه وآله) ولم تكن ترى اقتفاء أثره والاقتداء به؟!
لقد تنزهت الزهراء عن كل ما يشين، ولا سيما الكذب وادعاء الباطل، وأخذ ما ليس لها بحق، بل لا يمكن أن تغضب غضبا طفوليا لا أساس له، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما قال من جانب الوحي: " فاطمة بضعة مني، يغضبني ما يغضبها " (1) لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يحمل الناس ذلك ظلما أو تكليفا لهم فوق طاقتهم. وليس هناك سوى ذلك لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد جعل غضب الزهراء علة لغضبه الذي هو علة لغضب الله تعالى وهو يعلم أن للزهراء غضبا، أو يمكن أن تغضب غضبا ليس في محله أو تطالب بحق ليس لها فتغضب لذلك.
فلو كانت الزهراء تغضب على الناس دون وجه حق، ويغضب النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك، فهذا لا يعني إلا شرخا في عدله وانصداعا في رأفته ورحمته بالناس التي شهد بها القرآن! ولا يعني إلا محاباة لبنته دون سائر الناس، تلك المحاباة المتنافية مع قوله: " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها ".
وهذا دليل على مضي عدله واستقامته (صلى الله عليه وآله). على أن الزهراء بعيدة عن عار السرقة،
____________
(1) كتاب الشرف المؤبد للنبهاني: أحوال الزهراء - نقلا عن البخاري.