ولهذا نرى أن حديث الثقلين ينسجم تماما مع آية التطهير، الأمر الذي يؤكد نزولها فيهم، ويظهر بكل وضوح مدى خطأ المستصغرين لشأنهم، والجاهلين بأمرهم، والتاركين الاقتداء بهم، والمائلين عنهم إلى غيرهم.
والرسول يقول: " واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين " (1)، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
دلالة " حديث السفينة " على عصمة العترة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح: من ركبها نجا " (2).. عن حنش بن المغيرة، عن أبي ذر.
يقول ابن حجر: " وجاء من طرق كثيرة يقوي بعضها بعضا [ قول النبي صلى الله عليه وآله ]:
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق " (3).
إن صراحة التعبير، ووضوح معاني الألفاظ في حديث السفينة.. إلى جانب أنه يقطع العذر على الناس في عدم الاقتداء بالعترة، وفي ترك اتباع أهل البيت النبوي، وإلى جانب أنه يقيم الحجة كاملة على من ركبته العصبية، وامتطته الأهواء النفسية والنزعات القبلية.. فهو يقسم الناس إلى فرقتين لا غير: فرقة ركبت على متن السفينة وسلكت سبيل المؤمنين، وفرقة أوت إلى الجبل ليعصمها من الطوفان فكانت من الغارقين، فصاروا لذلك حزب إبليس.
والعجب ممن يريد بيانا أصرح مما سمعنا في اتباع العترة والاقتداء بأبناء محمد نبي الله صلى الله عليه وآله! وأي تأويل يجوز به اتباع غيرهم من بني آدم؟! وهل عاقبة المتأولين بعد ذلك
____________
1 - أخرجه جماعة من أصحاب السنن مرفوعا إلى أبي ذر، وأورده النبهاني في الشرف المؤبد ص 31.
2 - كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة 1: 211.
3 - الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي: الباب الحادي عشر - ص 234، مستدرك الحاكم 3: 151 عن كتاب معرفة الصحابة: النهاية لابن الأثير: باب الزاي مع الخاء.
إن هذا الحديث أيضا يتعاضد بشدة مع آية التطهير وحديث الثقلين. وهذه الثلاثة متضافرة يؤيد بعضها بعضا، وهي متفقة في الهدف ومتسقة في المعنى.
إن آية التطهير قد أوضحت زكاء العترة الطاهرة عن كل ما يشين البشر من قبح، فأبانت عصمتهم صريحة واضحة، فجعلهم النبي صلى الله عليه وآله - مع كتاب الله تعالى - ثقلين متلازمين لا يختلفان ولا يفترقان. ولذلك صاروا - حتميا - مثل سفينة نوح، إذ وجه الشبه هو النجاة والسلامة.. على أن الأولى بها نجاة الناس من الغرق في الماء، والثانية بها النجاة من الغرق في الضلال، وشتان ما بين النجاتين!
إن من المسلمات التي أقرها هذا الحديث هي أن أهل البيت هم المعيار الذي يفرق به الحق عن الباطل، ويميز به الصالح من الطالح من الناس، ويتضح به الصواب من الخطأ.
وبالتأكيد يلزم أن يكون المعيار في منأى عن كل باطل وخطأ، لأن مخالطة الباطل له واشتماله على الخطأ يخرجه عن كونه معيارا لتشخيص الحق عن الباطل والصواب عن الخطأ، فالميزان الذي يستعمله التاجر في متجره للقياس والوزن لا يكون وزنه وقياسه صحيحا لو كان به عطب وخلل، وسيفقد بذلك معنى كونه " الميزان ". وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ".
فأهل البيت هم ميزان للحق والباطل: فما وافق ما هم عليه فهو حق، وما خالفه فهو باطل. وأي معنى بخلاف ذلك لا يترك لهم خصوصية دون الناس. ولا وصف يليق بهذه الخصوصية إلا العصمة.. كل ذلك لإحاطتهم بما في القرآن من علوم فرض على الناس العمل بها، بل لحياتهم القرآنية التي فيها روح النبوة وإخلاص العبودية لله عز وجل.
ولقد أوضح ابن حجر ذلك جيدا، فقال: " سمى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم القرآن وعترته [ الأهل والنسل والرهط والأدنون ] ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون. وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية.. " (1).
____________
1 - كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر: الباب الحادي عشر - ص 149.
وأما من حيث إن الثقل مصون ومحفوظ، فهو واضح في القرآن: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (1) وأما حفظ وصون العترة فهو واضح من حيث إنهم لا يفارقون القرآن، وبالتالي لهم خصوصية حفظه فتمثلت في عصمتهم ليتم الانطباق وعدم الافتراق والاختلاف بينهما.
وكل ذلك يبين بكل وضوح عصمتهم التي بها علو درجتهم على الناس.
ثم يقول ابن حجر: " ولذا حث صلى الله عليه [ وآله ] وسلم على الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت " (2).
ولازم هذا أن الحكمة ليست في غيرهم بالنحو الذي فيهم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "، إذ هم أهل البيت الذين خصوا بالعلوم والحكمة، ولهذا لا يجوز اتباع من خالفهم مهما كان عالما، حنفيا كان أو مالكيا، حنبليا كان أو شافعيا.
ثم يقول: " ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيده الخبر السابق: لا تعلموهم فهم أعلم منكم. وتميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " (3).
إن قوله: " وتميزوا بذلك عن بقية العلماء " فيه مقايسة لا تصح، فلا علم لهؤلاء العلماء إلا عن طريق العترة، فكل الناس متهافتون على موائد علمهم، فهم العلماء بالحقيقة وغيرهم علماء بالمجاز، ولا قياس بين الحقيقة والمجاز، فالحقيقة أصل والمجاز فرع.
____________
1 - الحجر: 9.
2 - الصواعق المحرقة: الباب الحادي عشر - ص 149.
3 - نفس المصدر السابق.
نعم، إنهم أمان من الغرق في مفاوز الاختلاف والفتن ومحدثات الأمور، ولو كانوا ممن يصيبهم شئ من تلك الأشياء لما كانوا أمانا لأهل الأرض.
أجل يا ابن حجر، لا يخلو الزمان منهم أبدا.. سواء في زمان أبي حنيفة، أو في زمان مالك والشافعي وابن حنبل. بل لا يخلو الزمان منهم فيما نحن فيه من زمان.. فكيف ولى الناس عنهم ويمموا صوب مذاهب أربعة؟! وكان فيهم الصادقون والكاظمون من أبناء الرسول وأحفاد البتول؟!!
على أن وجود المذاهب المتنوعة، والفرق المتعددة، وشدة الاختلاف بينها يدل بعينه على عدم اقتفاء آثار العترة، ويدل على الاكتفاء باتباع غيرها من الناس، ذلك لأن النتيجة الحتمية لاتباع العترة المحمدية في مسائل الدين وغيرها من نواحي الحياة هي الاتفاق على كلمة سواء والاعتصام بالحق الذي لا يتعدد، وعندها تنصرم حبائل الاختلاف وتزول دواعي الشتات بين المسلمين.
ولما كان الاختلاف في أمر من الأمور ينبئ عن عدم الاعتصام بحبل الله، فهو - إذا - من عند غير الله بلا ريب، لأن لازم قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (2)
أن التفرق والتشتت هو دليل على عدم الاعتصام بحبل الله، وعلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله ومخالفة أولي الأمر، وهم العترة كما وضح. بل لازم هذا القول هو الانحراف عن الثقلين.
وبهذا يمكن أن نفهم بكل ارتياح ووضوح ما هو حبل الله الذي أمر الناس بالاعتصام به.. فهل يختلف قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا) مع قوله صلى الله عليه وآله: " إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي "؟! فهم إذا حبل الله الذي تنقطع به أسباب الاختلاف، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وآله: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي
____________
1 - نفس الصدر السابق.
2 - آل عمران: 103.
وبهذا يتضح أن في اتباعهم النجاة، وفي خلافهم الغرق. وإنما هو البعد عن الدين والاختلاف فيه، وتنكب الطريق والانحراف عنهم إلى غيرهم، فمن خالفهم من الناس فلا ينضوي إلا في حزب إبليس.
ولهذا كانوا هم معيار النجاة والسلامة، لأنهم خبراء سبيل المؤمنين، لعصمتهم وطهارتهم عن كل ما يتسبب في الضلالة والإضلال.
والرسول صلى الله عليه وآله يبين ذلك بقوله، عن زياد بن مطرف: " من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد، فليتول عليا وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة " (1).
وهكذا.. فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأمر إلا باتباع القرآن والعترة دون غيرهم من الناس كيف لا وهم مصدر الفضيلة، ونفاة الرذيلة، وهم أساس الدين ونور المهتدين، وهداة المؤمنين، وهم الصلة بين الناس وربهم، إذ لا طريق إليه إلا عبر واديهم والأخذ بأطرافهم وأسبابهم، وبهم رواء الصادي يوم الظمأ الأكبر، إذ أنهم سقاة حوض الكوثر.
يقول جدهم محمد صلى الله عليه وآله: " يا أيها الناس، إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل " (2).
أجل، فكل ما خالف ما عليه أهل بيت: النبي صلى الله عليه وآله فهو باطل، وكل مذهب خالف ما هم عليه مجانب للحق ومفارق له.
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: " في كل خلف من أمتي من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله.. فانتظروا من توفدون " (3).
فهل يبقى بعد هذا عذر لمعتذر، أو مهرب لمتأول؟!! أبدا.. فقد قامت الحجة،
____________
1 - كنز العمال للمتقي الهندي 6: 155 / 2578.
2 - الصواعق المحرقة لابن حجر: الباب الحادي عشر ص 105.
3 - الصواعق المحرقة لابن حجر: الباب الحادي عشر ص 90.
خلاصة البحث
إن الله سبحانه وتعالى ما أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وآله إلا لتبليغ الناس أمر الله تعالى وبيانه لهم، للعمل به على الأساس الذي يريده الله تعالى منهم. وكل ما كان خلاف ذلك فهو باطل يخالف أمر الله.
ولهذا لزم تبليغ الوحي الإلهي كما أراده الله تعالى، من غير انحراف في منهج الوحي أو تبديل لشئ منه. وقد تكفل الله تبارك وتعالى بعصمة نبيه الكريم وإنزال وحيه عليه.
كل ذلك بنحو لا يتيح أي منفذ للخطأ والتغيير فيه حتى يصل إلى البشر عن طريق النبي الأكرم ما أنزل الله إليهم، لتنظيم شؤون حياتهم في كل مناحيها، ولتحقق الغاية المقصودة من الدين.
ولما كان محمد صلى الله عليه وآله ميتا لا محالة، ومنصرفا عن هذه الحياة الدنيا، ولا بد للرسالة أن تستمر في هداية الناس إلى التي هي أقوم، ولا يتحقق ذلك إلا على أساس الوحي كما أنزل وطبقا لمنهج النبي صلى الله عليه وآله المعصوم في التبليغ.. كان لا بد من شخص يقوم بأداء وظيفة النبي صلى الله عليه وآله في نقل مضامين الوحي وتبيان كلام الله تعالى كما أراده سبحانه إلى الناس، لهدايتهم به إلى نفس الغاية التي لا يتم بلوغها إلا عبر معصوم. وإلا فسينحرف المسير بالوقوع في الخطأ وأهواء النفوس وهمزات الشيطان، فلا يصل الناس إلى الغاية التي أرادها الله لهم على أساس الإرادة الشريعية.
إذا، فلا بد من عصمة خليفة النبي صلى الله عليه وآله، ولهذا فأولو الأمر معصومون. وقد أقر الرازي ذلك وأشار إليه، كما عرفت.
ولما كان ليس في مقدور الناس معرفة المعصوم من البشر، وكان لا بد من أخذ الوحي وأحكامه من المعصوم هذا.. كان لا بد أن يعينه الله لهم، إذ ليس في استطاعة الناس معرفته.
____________
1 - المدثر: 38.
من هم أهل البيت؟
وبعد هذا التوضيح لعصمة أهل البيت عليهم السلام، تجب علينا الإجابة عن السؤال التالي:
من هم أهل البيت الذين خصتهم آية التطهير بإذهاب الرجس عنهم بإرادة الله التكوينية.. فطهرت نفوسهم عن الذنوب والآثام، بانكشاف سوء هذه القبائح من تحت أنوار العلم اليقيني، فبدت مجسمة لهم عين اليقين، فعافتها نفوسهم الطاهرة، فأصبحوا بذلك هداة الناس وأمانا للأمة، فوجبت طاعتهم، وصاروا ولاة الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وآله؟!
أهم نساء النبي صلى الله عليه وآله خاصة دون أن يكون معهم رجل، أم هم نساؤه وعترته عليهم السلام، أم عترته الأدنون خاصة ممثلون في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام؟
لقد علمنا أن التطهير الذي حدث لأهل البيت بالإرادة التكوينية قد استوجب عصمتهم بتزكيتهم عن الرجس من الذنوب والمعاصي والأخطاء.
فهل كانت نساء النبي صلى الله عليه وآله على هذه العصمة وهذا التطهير من الأخطاء؟ الواقع أن الإثم أو الخطأ من واحدة منهن ينتقي على أثره القول بأنهن أهل البيت المطهرون عن الإثم والأخطاء، المعصومون عن المعاصي.
إن القرآن الكريم يؤكد وقوع أم المؤمنين عائشة وحفصة بنت عمر في إثم هددهما الله عز وجل على أثره وأمر هن بالتوبة عنه، فقال لهما: (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير. عسى ربه إن طلقكن أن يبدله
____________
1 - صحيح مسلم 8: 5 - كتاب الإمارة.
وقوله تعالى لهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (2).
فالله تعالى يأمرهما بالتوبة، ولا توبة إلا من ذنب، وذلك لإتيانهما ما لا يرضاه الله تعالى، وما يعد ميلا عن الحق.
قال ابن عباس لعمر بن الخطاب: "... يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على النبي؟
فقال: تلك حفصة وعائشة " (3).
وقالت عائشة: " خاصمت النبي [ صلى الله عليه وآله ] فقلت: يا رسول الله، أقصد (أي أعدل)، فلطم أبو بكر خدي وقال: تقولين لرسول الله أقصد؟! وجعل الدم يسيل من أنفي " (4).
وقالت للنبي صلى الله عليه وآله: " أنت الذي تزعم أنك نبي؟!! " (5).
إذا، فصدور هذه الأخطاء من عائشة وحفصة يخرج نساء النبي صلى الله عليه وآله عن مفهوم أهل البيت، اللهم إلا أن يطلق عليهن هذا التعبير على سبيل المجاز، وهو خارج أيضا، لأن الله تعالى ما أراد بأهل البيت في الآية إلا المعنى الحقيقي لهم.
على أن الأحاديث وردت تؤكد أن أهل البيت هم عترة النبي صلى الله عليه وآله دون نسائه.
يقول الثعالبي: " والرجس اسم يقع على الإثم والعذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. قالت أم سلمة: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال: هؤلاء أهل بيتي، وقرأ الآية، وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
قالت أم سلمة: فقلت: وأنا يا رسول الله؟
فقال: أنت من أزواج النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، وأنت على خير "
____________
1 - التحريم: 4 - 5.
2 - التحريم: 4.
3 - البخاري ومسلم، عند تفسير الآية.. أنظر التفاسير.
4 - إحياء القلوب للإمام الغزالي: آداب النكاح، وكتاب مكاشفة القلوب: الباب 94.
5 - نفس المصدر السابق.
وقول النبي صلى الله عليه وآله لزوجته أن سلمة عندما طلبت الدخول في الكساء والانضمام إلى العترة: " أنت من أزواج النبي " يؤكد خروج نساء النبي صلى الله عليه وآله عن مفهوم أهل البيت.
ثم إن مسلما قد روى بإسناده إلى عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله: أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم " خرج ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) " (2).
وروى أيضا في حديث طويل: " لما نزلت آية المباهلة دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي " (3).
ويقول الكنجي الشافعي: " وهذا دليل على أن أهل البيت هم الذين ناداهم بقوله:
" أهل البيت "، وأدخلهم رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في المرط " (4).
وعلى هذا، فأهل البيت هم علي والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام، إذ هم الذين أدخلهم رسول الله صلى الله عليه وآله في المرط المرجل، كما عرفت.
وروى الطبري عند تفسيره الآية، عن قتادة: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، فهم أهل بيت طهرهم الله تطهيرا من السوء، وخصهم برحمة منه.
ويقول: عني بأهل البيت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم. ذكر من قال ذلك:
" عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: نزلت هذه الآية في خمسة: في، وفي علي (رضي الله عنه)، وحسن (رضي الله عنه) وحسين (رضي الله عنه)، وفاطمة (رضي الله عنها)، (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
____________
1 - تفسير الثعالبي: سورة الأحزاب / ج 3.
2 - صحيح مسلم 3 / 1883.
3 - صحيح مسلم 4 / 1871.
4 - كفاية الطالب لمحمد بن يوسف الكنجي 22: 5 - 7 سورة الأحزاب.
قالت عائشة.. وذكر حديث المرط المرجل من الشعر الأسود، مرويا عنها، وقد مر عليك ذكره.
وعن أنس: إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة، فيقول: " الصلاة أهل البيت.. (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ".
وعن أم سلمة، قالت: كان النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عندي، وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم حريرة، فأكلوا وناموا، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ".
[ عن ] أبي الحميراء، قال رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال: الصلاة، الصلاة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وروى يونس بن إسحاق مثله.
عن أبي عمار، قال: إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه.. فلما قاموا قال: إجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه: إني عند رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إذ جاءه علي وفاطمة وحسن وحسين، فألقى عليهم كساء له ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
قلت: يا رسول الله، وأنا؟
قال: وأنت. فوالله إنها لأوثق عملي عندي.
ثم ذكر حديث أم سلمة الذي فيه تجليلهم عليهم السلام بالكساء الخيبري، وقوله صلى الله عليه وآله: هؤلاء أهل بيتي.
[ عن ] أم سلمة، قالت: جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعته بين يديه فقال: " أين ابن
فقالت: في البيت.
فقال: ادعيهم.
فجائت إلى علي، فقالت: أجب النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أنت وابناك.
قالت أم سلمة: فلما رآهم مقبلين، مد يده إلى كساء كان على المنامة، فمده وبسطه وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه فقال: هؤلاء أهل البيت، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ".
قال عامر بن سعد: قال سعد: قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم حين نزل عليه الوحي، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة، وأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: " رب، هؤلاء أهلي وأهل بيتي ".
إن الروايات في كون علي وفاطمة والحسن والحسين هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) يضيق بنا المقام عن إحصائها، وهي مما لا ينكرها إلا مخالف للطبع والفطرة، ناقض للدين وأصوله، مكابر في قوله وكلامه. والحق ما قاله الثعالبي في ذلك.. " والجمهور على هذا "، وقد مر ذكره عليك.
وأما ما روي من أهل البيت هم نساء النبي صلى الله عليه وآله خاصة ليس معهم رجل، ففيه:
أولا: إنه غير مسند.
ثانيا: إنه مقدوح المتن لمخالفته فصاحة القرآن وقواعد اللغة العربية، لأنه لو كان أهل البيت المذكورون في الآية هم نساء النبي صلى الله عليه وآله خاصة ليس معهن رجل - كما روي - لكان من الواجب أن لا يأتي الخطاب في الآية مذكرا على التغليب. ولما كن نساء ليس معهن رجل كان يجب أن يقال: إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركن تطهيرا، وعندئذ فلا كلام فيما ذهب المخالفون. ولكن الحال ليس كذلك، فالخطاب في الآية للمذكر على التغليب. على أن الأحاديث التي مرت عليك تقطع قول كل خطيب في هذا الأمر.
وهذه هي العصمة، ذلك لأن التطهير الذي تم لهم هو تطهير معنوي بلا ريب. فلو كان تطهيرا عن طريق الإرادة التشريعية، فهو مما لا يختص بأحد من الناس. ولما كان قد اختص بأهل البيت النبوي فهو تطهير من نوع خاص لهم لا يفسر إلا بمعنى العصمة، لعدم صدور الذنب والمعصية عنهم، إذا أنها قذارات وخبائث النفس.
وبعد كل تلك الأحاديث الواردة في بيان أهل البيت النبوي لا يستطيع أحد أن يخرج واحدا من أهل العباءة باعتباره غير معدود في أهل البيت، كما لا يستطيع أن يضيف إليهم شخصا خارجا عنهم، سواء كان هذا الشخص من نسائه صلى الله عليه وآله أو الشيخين أو سائر الصحابة.. لأن قول النبي صلى الله عليه وآله بعد إجلاس الحسن والحسين وعلي وفاطمة على الكساء ولفه حولهم: " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " نفهم منه أنه لو كان هناك أحد من أهل البيت بالمعني الحقيقي لدعاه النبي صلى الله عليه وآله وأجلسه إلى جانبهم واشتمله معهم بالكساء.
ألا ترى أنه في بعض الروايات، لما جاءت فاطمة انتظر النبي صلى الله عليه وآله حتى جاء الحسن، ثم انتظر حتى جاء الحسين، وهكذا حتى جاء علي عليه السلام، ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك ربه قائلا: " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "، فنزلت الآية حين اجتمعوا جميعا على البساط.
ألا يدل ذلك على أنه ليس هناك أحد غيرهم يشمله وصف أهل البيت النبوي؟!
إن إعلان النبي صلى الله عليه وآله أن هؤلاء هم أهل البيت هو إعلان لأمر الوحي وتبليغ لأمر الله، فلو أعلن النبي صلى الله عليه وآله وبلغ هذا الأمر قبل أن يكتمل تعدادهم وحضورهم أفلا يكون هذا التبليغ للوحي ناقصا مبتورا؟! بلى، لأن الناس يفهمون الوحي طبقا لتبليغه.
إذا، لم يكن تعداد أهل البيت ناقصا حتى يضاف إليهم من هو منهم ولم يكن موجودا، بل اكتمل العدد وانحصر الأمر في أهل الكساء وحدهم.
وإذا خرجت أم سلمة دون أن تنال هذا الوصف فخروجها يعني خروج كل نساء النبي صلى الله عليه وآله. على أن عائشة لما روت هذا الحديث ذكرت إدخال النبي صلى الله عليه وآله لأهل بيته دون أن تدعي دخولها معهم، فلو كان قد دخلت معهم في الكساء لما تركت ذكر ذلك، بل لتباهت به، لأنه شرف ومفخرة يتمناها كل شخص.
غير أن مسلما روى ما يوضح عدم شمول معنى أهل البيت لنساء النبي صلى الله عليه وآله.. فبعد أن روى حديث الثقلين، ذكر أن يزيد بن حبان ومن معه سألوا زيدا عن قول النبي صلى الله عليه وآله:
" أذكركم الله في أهل بيتي "، قال يزيد بن حبان: فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟
قال: " لا وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده " (1).
وبهذا ينحسم الأمر والجدل في هذه المسألة، ويتضح خروج نساء النبي صلى الله عليه وآله عن معنى أهل البيت النبوي.
ثم إن عائشة وحفصة على هذا الأساس لا يشملهما معنى أهل البيت بلا ريب، فخروجهما عن هذا المعنى إشارة ودليل على خروج أبويهما أبي بكر وعمر لا محالة.
ومما يؤكد ذلك عدم إنكارهما على علي عليه السلام عندما قال مخاطبا إياهما والمهاجرين: " فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به - يعني النبي صلى الله عليه وآله - لأنا أهل البيت ". وهذا يعني بلا شك إخراج الشيخين وكل المهاجرين من دائرة الانتساب إلى أهل
____________
1 - صحيح مسلم 15: 179 - 180 / كتاب فضائل الصحابة - بل فضائل علي بن أبي طالب.
على أن العصمة التي أثبتناها لأهل البيت في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) والتلازم بين أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله والقرآن بالمعني الذي أوضحه حديث الثقلين، لا يدع مجالا لإعطاء هذا الوصف النبوي لأحد غير أهل الكساء، لأن هذا الوصف ملازم لوصف العصمة، كما وضح.
ولهذا كان الاتصاف بالعلم والتقوى، ولهذا كان الشرف، ولهذا كان التمسك بهم والأخذ منهم، ولهذا كانت النجاة من الضلالة بهم.
يقول التفتازاني - بعد ذكره حديث الثقلين -: (نعم لاتصافهم بالعلم والتقوى، وشرف النسب، ألا يرى أنه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قرنهم بكتاب الله، وكون التمسك بهم منقذا من الضلالة؟! ولا معنى للتمسك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا من العترة " (1). أي لا معنى للتمسك بالعترة إلا بالأخذ منهم والسير على نهجهم دون اللجوء إلى غيرهم.
على أن قول النبي صلى الله عليه وآله عندما نزلت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا): " نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي (رضي الله عنه) وحسن (رضي الله عنه) وحسين (رضي الله عنه) وفاطمة (رضي الله عنها) (2) يحسم الجدل.
فذكره صلى الله عليه وآله عدد الذين نزلت فيهم الآية فيهم الآية، وإيراد أسمائهم جميعا لهو أقوى دليل على أن نزول الآية في معنى أهل البيت قد انحصر بهم وكفى.
____________
1 - كتاب شرح المقاصد للتفتازاني 5: 302 - 303.
2 - هذا من الأحاديث التي أوردها الطبري في تفسيره عند تفسير الآية 22: 5.
الفصل الخامس: الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله علي عليه السلام
خلافة علي عليه السلام في آية الولاية
إن نزول آية الولاية في علي عليه السلام من الحقائق التي لا يكون إنكارها إلا مكابرة. و بدلالة هذه الآية على خلافته عليه السلام تنكشف حقيقة الأمر، وتثبت خلافة الإمام بما لا يدع مجالا للشك أو الظن.
وقدح القادحين في دلالة الآية على خلافة الإمام إنما هو مشي ضد تيار الحقيقة، وتصلب في قبالة أوامر الله تعالى، وهذا مما لا يستمع إليه ولا يهتم به.
يقول تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (1).
إن الولاية التي أسندها الله تعالى إلى نفسه ورسوله والذين آمنوا إنما هي ولاية عامة في دلالتها على ما تحمله الكلمة من المعاني التي يمكن أن تتناسب مع المقام الإلهي، لأن بعض معاني " الولي " لا يصح أن يسند إلى الله تعالى ورسوله، ولهذا يجب صرفها عن هذه المعاني.
فمن معاني الولي: الصديق، والتابع، والجار، والصهر، والنصير، والمتصرف في الأمر... ومعاني أخر لا تستقيم والمقام الإلهي.
فأما دلالتها على معنى الصديق، والتابع، والجار، والصهر فلا يصح أن تنسب إلى الله تعالى، فالله تعالى ليس صديق أو تابع أو جار (بالمعنى الحقيقي) وهو سبحانه ليس صهر أحد من الناس، فلا يبقى إلا معنى المتصرف والنصير والمحب.
____________
1 - المائدة: 55 و 56.
ولما كان معنى الولاية في الآية مشتركا بين من نسب إليهم، فيلزم أن توضع جميع المعاني المشتركة في الاعتبار عند نسبتها إلى من دلت عليهم دون أي استثناء. ولهذا يجب اختيار المعاني التي يمكن نسبتها إلى الجميع دون اختلاف أو تفاوت، فمثلا لا يمكن أن نفسر الولاية بمعنى (الصهر)، لأن نسبة ذلك المعنى إلى الله تعالى لا تجوز، فتختلف نسبتها إلى الجميع بهذا المعنى، لجواز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وإلى الذين آمنوا.
وعلى هذا الأساس يكون المعنى المناسب لقوله تعالى: (إنما وليكم) هو أن المتصرف في أمركم، والناصر لكم، والمحب هو الله ورسوله والذين آمنوا.
إن النصرة والمحبة من الله لرسوله والمؤمنين أمر واضح، والنصرة والمحبة من الرسول للمؤمنين أمر لا يخفى. ونصرة ومحبة المؤمنين بعضهم لبعض أمر أوضحه القرآن وبينته السنة في كثير من المواطن: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (1)، " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ". فهذه معان يشترك فيها المؤمنون كافة، ولا تنحصر في أفراد بعينهم ولا تختص بقوم دون قوم. ولكنا رأينا انحصار الآية واختصاصها بعبارة (إنما) المذكورة في ابتداء الآية.. ونحن علمنا أن النصرة والمحبة أمر عام وواجب بين المؤمنين بعضهم لبعض دون انحصار واختصاص.
إذا، نسبة إلى انحصار الآية لقوله (إنما) - وهي للحصر كما هو معروف ومضبوط في اللغة - يخرج معنى النصير والمحب من معنى الولي، لعمومهما بين المؤمنين، ويبقى معنى " المتصرف " وحده.
وهذا المعنى يليق بالله تعالى، فهو المتصرف في شؤون الناس. وهو يليق بالنبي صلى الله عليه وآله، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في إدارة أمورهم. كما إنه يليق بالذين آمنوا.
ومعنى الذين آمنوا هنا ليس شاملا لكل المؤمنين، لانحصارية معنى المتصرف فيمن لهم
____________
1 - التوبة: 71.
ثم إن الخطاب في قوله عليهم السلام (إنما وليكم) يمنع شمول حق التصرف للجميع، فالولي المتصرف هذا بسبب الخطاب يلزم أن يكون خارجا عن المخاطبين، لأنه لا يجوز أن يكون الفرد الواحد وليا ومولى أو مخاطبا به ومخاطبا في وقت واحد. ولا يجوز أن يكون الفرد الواحد وليا ومولى أو مخاطبا به ومخاطبا في وقت واحد، إذ أن هذا يستوجب الاتحاد بين المخاطب به والمخاطب، أو بين الولي والموالي، وهذا محال.
فلو قال المعلم للتلاميذ: إنما رئيسكم الذين طالعوا دروسهم، فلا يمكن أن يكون كل المطالعين رؤساء، لأن الخطاب يحكم بوجود طرفين، رئيس ومرؤوس وهم سائر التلاميذ.. فالخطاب دائما يستلزم التفكيك بين الرئيس والمرؤوس، وقوله تعالى: (إنما وليكم) كذلك، فبسبب الخطاب يلزم التفكيك بين الولي والمخاطب به والموالي وهم المخاطبون، وهذا أمر بديهي وواضح.
ولهذا لا يمكن أن يكون المعني بقوله: (إنما وليكم) هم كافة المؤمنين، للاستحالة في اتحاد طرفي الخطاب (مخاطب به ومخاطب).
على أن الصفات التي ذكرها الله تعالى في الآية واصفا بها (الذين آمنوا) تبين عدم شمول الأمر للجميع، فبقوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة) يخرج الذين لا يقيمونها من المؤمنين، أو أولئك الذين لا يقيمونها على الوجه المطلوب، لأن الله تعالى لم يقصد إلا المعنى الأكمل في إقامة الصلاة، وليس صلاة كل المؤمنين كذلك.
وبقوله: (ويؤتون الزكاة (1) وهم راكعون) يخرج أولا الذين لا يؤتون الصدقات بتاتا تكاسلا وإهمالا، أو جهلا بقدرها، ويخرج ثانيا الذين يؤدونها ولكن ليس في حال الركوع، بل يخرج من يؤديها في ركوعه بعد نزول الآية، لاختصاص الآية بالموقف الأول.
لأن الموقف الأول سبب في نزول الآية، وأما الموقف الثاني فقد كانت الآية سببا في حدوثه.
____________
1 - الزكاة في الآية بمعني الصدقة.
وأما قوله: (الذين آمنوا) فلا يدل على كافة المؤمنين، وذلك بالبيان الآتي:
أولا: للحصر الذي في الآية الواضح من لفظة (إنما).
ثانيا: لطبيعة الخطاب الذي في قوله: (إنما وليكم) إذ لا بد من طرفي الخطاب.
ثالثا: لخصوصية التصرف، فهو ليس لكل فرد، بل هو لمن له الحق في ذلك، لأنه لو ثبت التصرف لكل فرد مؤمن، ففي أمر من يكون التصرف؟ ولو كان كل مؤمن متصرفا، فمن هو المتصرف في أمره منهم؟ ومن هو الراعي؟ ومن هم الراعية؟ إذ لا بد من هذه التفرقة بين هذين الطرفين في القضية.
فقوله: (والذين آمنوا) جمع، ولكن بسبب الحصر وثبوت معنى التصرف والخطاب يمنع أن تكون دلالته على الجمع، لا سيما وأن وصف الذين آمنوا بإيتائهم الزكاة وهم في حال الركوع يحصر المعنى في فرد واحد، وهو الذي آتى الزكاة وهو على تلك الحال، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام..، كما أكدت ذلك الروايات.
ولله تبارك وتعالى حكمة في ذكر لفظ الجمع للدلالة على فرد واحد، وهي التعظيم والإكبار. أو قل إنه لفظ جمع دل على جمع على نمط القضية الحقيقية، وهي القضية التي تشمل مصاديقها في الحال والمستقبل، فلفظ (الذين آمنوا) يشمل أولي الأمر وأصحاب الولاية والتصرف، وهم جماعة. فأين الغرابة في أن يأتي الوصف بالجمع؟!
على أن في القرآن أمثلة متوافرة فيها دلالة الجمع على الفرد كقوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)، فلفظ الناس جمع دل على فرد، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي بإجماع أهل التفاسير والأخبار.
إذا، فالمعني ب (الذين آمنوا) هو علي بن أبي طالب عليه السلام، لنزول الآية فيه عندما تصدق بخاتمه في حال ركوعه، وهو بالمسجد يصلي.
وفي الذخائر: " ومنها قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) نزلت فيه " (2)، ويعني نزلت في علي عليه السلام.
قال أبو ذر: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين، وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا، يقول: علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئا، وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره إليه - وكان يتختم بها - فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، فتضرع النبي صلى الله عليه وآله إلى الله عز وجل يدعوه، فقال: اللهم إن أخي موسى سألك، قال:
(رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدة من لساني. يفقهوا قولي. واجعل لي وزيرا من أهلي. هارون أخي. اشدد به أزري. وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيرا. ونذكرك كثيرا.
إنك كنت بنا بصيرا) (3) فأوحيت إليه: (قد أوتيت سؤلك يا موسى). (4) اللهم إني عبدك ونبيك فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا، اشدد به ظهري.
قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله الكلمة حتى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية:
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) ".
أجل، فالآية قد نزلت في علي عليه السلام، وأوضحت ولايته وخلافته على الناس من بعد نبي الله الأكرم، إذ هو المتصرف في شؤون وأمور الناس، وهو أولى بهم من أنفسهم. وهذا أمر أوضح من أن يحتاج إلى توضيح، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: " أولستم تعلمون، أو لستم
____________
1 - تفسير الكشاف للزمخشري 1: 649.
2 - ذخائر العقبى ص 88.
3 - طه: 25 - 35.
4 - طه: 36.
فعبارة: " أولى بكل مؤمن من نفسه " تبين معنى التصرف في إدارة الشؤون، والرئاسة والقيادة.
ثم قال: " فمن كنت مولاه " أي فمن كنت أولى به من نفسه " فعلي مولاه " أي أولى به من نفسه، لأن الرسول صلى الله عليه وآله قاس ولاية علي عليه السلام على الناس بولايته صلى الله عليه وآله على الناس، فأوضح النبي صلى الله عليه وآله بهذا القياس تساوي الولايتين من حيث المعنى الذي في ولاية النبي صلى الله عليه وآله، ولهذا لا يمكن أن يفسر معنى (وليكم) إلا بالمتصرف في أموركم، وبالقائد والرئيس والمسؤول عنهم.
علي عليه السلام ولي كل مؤمن بعد النبي صلى الله عليه وآله
وهناك أحاديث لها طرق عديدة، تؤيد نزول هذه الآية في علي بن أبي طالب دون غيره من المؤمنين، وهي الأحاديث التي فيها بيان ولايته على المسلمين من بعد النبي صلى الله عليه وآله، ومنها قوله عليه السلام:
عن عمر بن حصين قال: " جهز رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم جيشا استعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه.
وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: إذا بعثنا - أي أمرنا بالرجوع - رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أخبرناه ما صنع (وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر يبدأون برسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم)، فقام أحد الأربعة فقال:
يا رسول الله، ألم تر أن علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا؟! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم. ثم قام الثاني وقال مثل ذلك. ثم الثالث فقال مقالته، ثم الرابع فقال مثل ما قالوا..
فأقبل النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، والغضب يبصر في وجهه، فقال:
____________