وقال ابن خزيمة: لا أعرف أنه روى عن النبي (ص) حديثان بإسنادين صحيحين متضادين. فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما (2)..
وذهب البعض إلى جواز نسخ القرآن بالحديث (3)..
وليس هناك من يجزم من بين فقهاء الحديث أن جميع الروايات التي بين أيديهم إنما هي بلفظها الذي نطق به الرسول (ص) وإنما يقولون إن هذه الروايات رويت بالمعنى..
ولو كانوا قد قالوا بغير ذلك لساووا هذه الروايات بالقرآن وهذا أمر يوقع في دائرة الحرج الشرعي..
إلا أنهم مجمعون على أن البخاري هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى وهذا الكلام فيه نظر إذ من الممكن أن يؤدي إلى نفس النتيجة وهي مساواة القرآن بالأحاديث..
والحق أن مغالاة فقهاء الحديث في أمر الرواية والذي وصل بهم إلى الحكم بكفر منكر السنة أو المشكك فيها أو حتى كفر منكر الحديث المتواتر - وبعضهم وسع دائرة هذا الحكم ليشمل الآحاد - أن هذه المغالاة تضع السنة في مصاف القرآن..
وهم إذا ما عبدوا الأمة بهذا فإنما يكونوا قد أوقعوها في عبادة الرجال فإن قرن القرآن بالسنة يعد صورة من صور الشرك بين كلام الله وكلام البشر التي سوف تكون نتيجتها الحتمية هي طغيان كلام البشر على كلام الله وهو ما حدث..
ويمكن تحديد الفروق بين القرآن والسنة فيما يلي:
- إن القرآن كلامه معجز والسنة ليست كذلك..
____________
(1) الرسالة..
(2) الأجوبة الفاضلة للكندي..
(3) أنظر كتب أصول الفقه وعلوم القرآن والناسخ والمنسوخ..
- إن القرآن كلام الله يجوز التعبد به شرعا. بينما السنة لا يجوز التعبد بكلامها..
- إن من الممكن الكذب في السنة ونسبة القول إلى الرسول زيفا وبهتانا.
ولا يمكن ذلك بالنسبة للقرآن..
وجملة السنة موضع شك. والقرآن ليس كذلك..
الحديث موضع شك من حيث المتن ومن حيث السند. وإن كان الفقهاء قد أجازوا الشك في الرواية من ناحية السند فقط. فإن عدم إجازة الطعن في الرواية من حيث المتن فيه إلغاء للعقل وامتهان لدوره ونتيجته الحتمية هي القضاء على الرأي وحرية التلقي والتناول لأحكام الدين وتعبيد الأمة لأقوال الرجال. وهو ما تؤكده تلك الحقائق التي عرضناها بخصوص السند وكونه موضع شك..
إن الفقهاء أرادوا تعبيد الأمة للرجال حكاما وكهانا وإلزامهم بقبول الوضع السائد اعتمادا على الأحاديث وليس على نصوص القرآن..
وهذه الأحاديث قد أجازوا الخوض فيها من ناحية السند وحده. لأن الخوض فيها من هذه الناحية لن يؤدي إلى شئ لأنهم هم الذين اخترعوا قواعد البحث في أمر السند وعلم التعديل والجرح. فمن ثم فإن النتيجة في النهاية سوف تصب في دائرتهم. لأن الباحث لن يستطيع أن يقول هذا عدل وهذا غير عدل إلا وفق هذه القواعد..
من هنا فإن الفقهاء يتصدون وبشدة المحاولة الخروج عن هذه القواعد والتي تتمثل في محاولة البعض إنكار حديث الآحاد وعدم الاستدلال به في مجال العقائد. وذلك لأن السنة بكاملها تعتمد على حديث الآحاد. وهدمه يعني هدم السنة.
أما الحديث المتواتر فهو قليل فمن ثم لا يمكن الاعتماد عليه في بناء هذا الصرح الكبير الذي أقاموه تحت رعاية بني أمية وبني العباس..
وهذه الرواية التي هي محل إجماع تدل دلالة قاطعة على أن هناك كذب واختلاق وتزييف سوف يتم باسم الرسول (ص)..
وهناك رواية أخرى تقول: " يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعون " (2)..
ويروى عن ابن عباس قوله: إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه (3).
وعلى ضوء هذه الروايات وما سبق ذكره لا يمكن القول إن علم السند وحده كاف لتمييز الخبيث من الطيب. وإنما الأمر يحتاج إلى إدخال علم المتن إلى جواره حتى يمكن ضبط ذلك الكم الهائل من الروايات المنسوبة للرسول (ص) والتي شكلت شخصية الأمة وعقلها وصاغت دينا جديدا يتناقص مع القرآن..
إن محاولة التفريق بين السند والمتن. وإباحة هذا وتحريم هذا إنما هي مؤامرة على دين الله صاغها الحكام من بعد الرسول وتبعهم الفقهاء فيها وقاموا بتقنينها وإضفاء المشروعية عليها..
وبالأمس واليوم كانت هناك عقول راشدة تنكر الحديث من متنه فيتصدى لها الفقهاء بدعوى صحة السند وإن رجاله رجال الصيح وأن وأن.. ولما كان هذا الكلام لا يرح العقل ولا يسكت المعارضة. كان قرار الفقهاء هو تكفير أمثال هؤلاء الرافضين وزندقتهم تحت دعوى التشيع أو التجهم أو القدرية.. فينهض الحكام ليعملوا السيوف في رقابهم (4)..
____________
(1) أنظر مقدمة مسلم..
(2) المرجع السابق..
(3) المرجع السابق..
(4) أنظر لنا كتاب الكلمة والسيف..
والبخاري هو أول من نقح كتب الأحاديث والمسانيد التي كانت منتشرة في عصره (العصر العباسي) واستخلص منها الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين (2)..
والبخاري ولد عام 194 هـ بمدينة بخاري وكان جده الثالث مجوسيا مات على دينه وله الكثير من الفتاوى الغريبة (3)..
أما مسلم فهو تلميذ البخاري وينتمي إلى نيسابور وهناك خلاف في ضبط تاريخ مولده ووفاته. ويرجح ابن خلكان أنه توفي سنة إحدى وسنين ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة فتكون ولادته في سنة ست ومائتين (4)..
بينما يشير الذهبي إلى أن مولده كان في سنة 204 هـ (5)..
وقد خالف مسلم البخاري في نهجه وجمعه للأحاديث فمن ثم قد حوى
____________
(1) أنظر الباعث الحثيث لابن كثير. ويقول ابن القيم الجوزية: إن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين. (مختصر الصواعق ح 2 / 373)..
(2) مقدمة فتح باري. وقال البخاري ما جمعته صحيح وما تركت من الصحيح أكثر..
(3) من هذه الفتاوى جواز قيام المرأة باستضافة الرجل عندها والقيام بخدمته. وجواز ترك الصلاة في حالة الضرورة. لا يجب الغسل في الجماع الذي لا إنزال فيه. يجوز دهن البدن بدهن الميتة. أحكام الرضاع تترتب على لبن الحيوان أيضا.. أنظر مقدمة البخاري ط مكة..
(4) وفيات الأعيان ح 4 / 280 ويقال إنه مات بسبب سلة تمر أكل منها فوق طاقته..
(5) تذكرة الحفاظ ح 2 / 59..
ومن بعد مسلم جاء ابن ماجة القزويني (ت 273 هـ) ودون سننه المعروفة بسنن ابن ماجة..
وجاء بعده أبو داود السجستاني (ت 275 هـ) ووضع كتابه سنن أبو داود..
ومن بعده جاء الترمذي (ت 279 هـ) وصنف كتابه جامع الترمذي..
وعاصره النسائي (ت 279 هـ) ودون سننه التي أطلق عليها سنن النسائي (2)..
وجاء الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) فاستدرك على البخاري ومسلم الكثير من الأحاديث الصحيحة بطرقهم ورجالهم والتي تجنبوا تدوينها في كتابيهما. والمتأمل في مستدرك الحاكم يكشف أن هناك الكثير من الروايات الهامة التي تغير الكثير من المواقف والأحكام والرؤى اهملت أو ضربت حتى لا تؤدي إلى حدوث بلبلة في أوساط المسلمين وتدفع بهم إلى الشك في الأطروحة السائدة والخروج من دائرة عبادة الرجال التي وضعهم فيها الفقهاء والحكام..
وعلى رأس هذه الروايات التي استدركها الحاكم الروايات المتعلقة بالإمام علي وآل البيت وسلوك بعض الصحابة ومواقفهم بعد وفاة النبي (ص).. وكذلك ما يتعلق ببعض الأحكام..
ومن هذه الروايات رواية تقول: " قيدوا العلم بالكتاب "..
ورواية: " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي "..
ورواية: " إذا بلغ بنو ابن العاص ثلاثين رجلا اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا وكتاب الله دغلا "..
ورواية: " إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان "..
____________
(1) أنظر مسلم كتاب الفضائل باب فضل الإمام علي وباب فضل آل البيت. وقارن بينه وبين البخاري..
(2) أنظر تراجم هؤلاء في وفيات الأعيان وتذكرة الحفاظ وكتب الرجال وكتب التاريخ..
ورواية: " قاتل عمار وسالبيه في النار "..
ورواية: " ملئ عمار إيمانا إلى بشاشة "..
ورواية: " من آذى عليا فقد آذاني "..
ورواية: " مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "..
ونفس الأمر ينطبق على كتب السنن الأخرى التي اهملت واستبعدت مثل مسند أحمد ومسند ابن حبان وأبي يعلى والطبراني والبيهقي والدارمي وموطأ مالك وغيرهم. فهذه الكتب تحوي الكثير من النصوص النبوية التي تكشف تناقض الفقهاء وتعمدهم التركيز على البخاري ومسلم (1)..
قال الشافعي: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك (الموطأ) (2)..
وقال: إذ جائك الحديث عن مالك فشد يدك عليه (3)..
وما قيل في سنن أبي داود كان أكثر..
قال أبو سليمان الخطاب: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله (4)..
وقال إبراهيم بن إسحاق الحزبي: ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد..
وقال ابن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا ونسكا وورعا واتقانا..
____________
(1) المتأمل يكتشف أن التركيز على البخاري أكثر لكونه لا يحوي نصوصا تنصر عليا وأصحابه.. أنظر ميزان الاعتدال للذهبي وتهذيب التهذيب لابن حجر وتأمل هجومهما على أبي داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم..
(2) مقدمة إسعاف المبطأ في شرح الموطأ. وانظر مقدمة طبعات الموطأ..
(3) أنظر مقدمات الموطأ..
(4) مقدمة سنن أبو داود بتحقيق محيي الدين عبد الحميد.. وانظر معالم السنن للخطابي..
وقد مال له أهل العراق ومصر وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض. أما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن حجاج النيسابوري ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما (2)..
أما سنن النسائي فقد قالوا فيها: النسائي أحفظ من مسلم وأن سننه أقل السنن حديثا ضعيفا بعد البخاري ومسلم..
وقال الدارقطني: كل ما في سنن النسائي صحيح غير تساهل صريح..
وقالوا إن النسائي له شرط في الرجال أشد من شرط مسلم ولذلك كان بعض علماء المغاربة يفضله على البخاري (3)..
وقيل في الترمذي ما شابه ذلك (4)..
أما ابن ماجة القزويني فهو كما قالوا دون الكتب الخمسة في المرتبة ولذلك أخرجه كثير من جملة الصحاح الستة.. إلا أن المتأخرين عدوه ضمن الستة (5)..
- نهج التأويل:
يتخذ الفقهاء موقفا معاديا من قضية التأويل فيما يتعلق بالأحاديث النبوية الخاصة بصفات الله سبحانه..
____________
(1) المرجع السابق..
(2) معالم السنن..
(3) مقدمة سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي..
(4) أنظر مقدمة سنن الترمذي وكتب التراجم..
(5) مقدمة سنن ابن ماجة شرح السندي..
وقرر الفقهاء أن مثل هذه الأحاديث تؤخذ كما هي دون التأويل فالله تعالى له يد ورجل ويضحك ويغار ويهبط من السماء إلى الأرض ومكانه في السماء ويتكلم ويتعجب ويرى يوم القيامة وغير هذه الصفات التي أشارت إليها الأحاديث يؤمنون بها ويعتقدونها غير أنهم يلحقون هذا الاعتقاد بقولهم:
له يد ليست كيدنا..
وله رجل ليست كرجلنا..
وله عين ليست كعيننا..
ويتكلم ليس ككلامنا..
ويهبط إلى الأرض ليست كهبوطنا.. وهكذا..
ويتزعم هذا الاعتقاد من يسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة وهو الاتجاه الذي ساد بين المسلمين اليوم بتأثير المد النفطي الوهابي (1)..
أما قبل ذلك فكان هذا الاتجاه ينحصر في دائرة الحنابلة الذين قدر لهم بعض الانتشار في عصر المتوكل العباس بعده كبتوا ولم تقم لهم قائمة حتى ظهر ابن تيمية وحاول بعث أفكارهم إلا أنه ضرب وطوى التاريخ صفحته حتى ظهرت حركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية والتي تبنت الطرح الحنبلي وأحيت مذهب ابن تيمية وفرضته على المسلمين بسيف آل سعود لتصبح له دولة تمكنت ببركات النفط أن تنشر هذا الاعتقاد بين المسلمين في كل مكان (2)..
وقد وقف في مواجهة أهل السنة الكثير من فقهاء الخلف وفقهاء الاتجاهات الأخرى التي تحترم العقل وتعطى له مكانته. أولئك الذين رأوا في هذا الاعتقاد صورة من صور التجسيم الغير مباشر.
____________
(1) أنظر لنا كتاب: أهل السنة شعب الله المختار. وفكرة أهل السنة ظهرت في العصر العباسي على يد أحمد بن حنبل وتلاميذه لقبوا بأهل الحديث..
(2) أنظر المرجع السابق. وانظر فتن الحنابلة في الكامل في التاريخ لابن الأثير..
وعين ليست كعيننا ورجل ليست كرجلنا.. الخ.
والعقل البشري لا يتصور اليد أو العين أو الرجل إلا صورة واحدة وهي ما تجسم في مخيلته..؟
وكيف للعقل أن يتصور اليد والعين والرجل بصورة أخرى. إن ذلك خارج طاقته وما جبل عليه..
من هنا فعند ذكر اليد أو العين أو الرجل فسوف يتصورها العقل كما هي عند سماعه مثل هذه الأحاديث التي تصف الله سبحانه بمثل هذه الصفات..
ولما كان هؤلاء الفقهاء لا يملكون القدرة على الطعن في مثل هذه الأحاديث وإنكارها لاعتقادهم في صحتها بطرق الإسناد التي تعلموها. فلم يكن أمامهم سوى أن يقوموا بتأويلها وصرف ظاهرها عن معنى التجسيم..
فقالوا إن اليد تعني القدرة..
والعين تعني الإحاطة..
والسماء تعني العلو..
والهبوط هبوط الرحمة..
والتكلم يكون بواسطة.. وهكذا (1)..
وهذا ما عليه الشيعة والمعتزلة والجهمية. غير أن هؤلاء تحلوا بقدر أكبر من الشجاعة وقاموا برفض مثل هذه الأحاديث ونبذها..
والشئ الغريب والذي يفرض الكثير من التساؤلات أن فقهاء أهل السنة الذين تبنوا هذا الموقف المتشدد من أحاديث الصفات تبنوا عكس هذا الموقف تماما في مواجهة الأحاديث المتعلقة بالسياسة والحكام والرسول (ص) والتي سوف نعرض لها في هذا الكتاب..
____________
(1) أنظر مقالات الإسلاميين للأشعري. وشرح العقيدة الطحاوية والملل والنحل للشهرستاني والفصل في الملل والنحل لابن حزم والعقيدة الواسطية لابن تيمية وغيرها من كتب العقائد.. وانظر باب الرسول المجسم من هذا الكتاب..
قالوا: لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي (ص): " اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة " (2)..
وقال ابن كثير: وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه (3)..
وفي مواجهة قول الرسول (ص): " لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة.. أو لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " (4)..
قالوا: الاثنا عشر هم: الخلفاء الراشدون الأربعة ومعاوية وابنه يزيد وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز ثم أخذ الأمر في الانحلال (5)..
وفي مواجهة قول الرسول (ص) لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (6)..
قالوا: والمستدل بهذا الحديث على أن الخلافة له بعد الرسول الله زائغ عن نهج الصواب فإن الخلافة في الأهل لا تقتضي الخلافة في الأمة بعد مماته (7)..
وفي مواجهة قول الرسول (ص): " ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي.. أذكركم الله في أهل بيتي " (8)..
____________
(1) رواه مسلم. كتاب البر والصلة. وكان الرسول قد طلب معاوية فاعتذر بسبب الأكل.
(2) تذكرة الحفاظ ترجمة النسائي..
(3) البداية والنهاية ح 8 / 119.
(4) مسلم. كتاب الإمارة.
(5) شرح النووي على مسلم..
(6) البخاري ومسلم باب من فضائل علي..
(7) شرح مسلم للنووي..
(8) مسلم. باب من فضائل علي.. ويلاحظ أن التأويل يتركز حول الروايات الخاصة بالإمام علي وآل البيت..
وسوف نعرض لنماذج أخزى من هذه التأويلات ضمن بحوث الكتاب..
____________
(1) أنظر شرح النووي وشرح العقيدة الواسطية لابن تيمية. وفضل آل البيت للمقريزي.
الرسول
الدور والشخصية
وكيف يحددون دوره..؟
إن الإجابة إلى هذين السؤالين ترتبط ارتباطا جوهريا بموضوع البحث الذي نحن بصدده هنا..
وبالطبع لا بد وأن تكون شخصية الرسول ودوره في منظور الفقهاء تتلاءم مع ذلك الكم من الروايات التي يلصقونها به..
ولا بد أن تتوائم مع رواية طوافه على نسائه التسع في ليلة واحدة وبغسل واحد..
ولا بد وأن تتوائم مع مواقف عمر وتدخله في شأن الوحي..
ولا بد أن تتوائم مع إهماله جمع القرآن ووصية أمته قبل وفاته..
ولا بد أن تتوائم مع تبشيره بالظلم وإلزام أمته بقبوله والاستسلام له..
لقد وجد الفقهاء أنفسهم في موقف حرج بين أن يرفضوا هذه الروايات التي تصطدم بالقرآن والعقل وتهين الرسول وتستخف به وتشوه صورته. وبين أن يعطوا للرسول شخصيته ودوره كما حدد كتاب الله.
وكان أن اختار الفقهاء الروايات وقبولها. وهذا يعني أنهم لا بد وأن يصيغوا شخصية جديدة للرسول تتوائم مع هذه الروايات. ودورا جديدا ينسجم معها..
وهم لم يكن أمامهم بديل سوى هذا..
فهم إن رفضوا الروايات سقط صرحهم وضاعت دنياهم وحلت عليهم لعنة الحكام..
ومن هنا ظهرت فكرة ربط كتاب الله بالسنة. فالسنة وحدها لن تستطيع الصمود والبقاء وتأدية دورها في خدمة الحكام والفقهاء وتخدير المسلمين ما لم
ومع ظهور هذه الفكرة ظهرت الفتاوي الارهابية التي تهدد كل من تسول له نفسه محاولة التشكيك في السنة وإضعاف الثقة بها..
حتى أن بعض الفقهاء قال: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقد لها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه وقد روى البخاري عن الزهري قوله: من الله الرسالة. ومن الرسول التبليغ وعلينا التسليم (1)..
ومن لم يسلم لنصوص الكتاب والسنة واعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات وادعى أنه يقدم العقل على النقل لم يكن سليم العقيدة (2)..
وقسم الطحاوي التوحيد إلى قسمين لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما:
توحيد المرسل. وتوحيد متابعة الرسول (3)..
ويقول ومن لم يسلم للرسول (ص) نقض توحيده. فإنه يقول برأيه وهواه بغير هدى من الله فينقض توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول (4)..
ويقول ابن تيمية: كلما ظهر الإسلام والإيمان وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى (5)..
ويقول: لا ريب أن عمدة كل زنديق ومناطق إبطال أحاديث رسول الله.
____________
(1) أنظر شرح العقيدة الطحاوية ط القاهرة..
وهذه الرواية لا يصح الاستدلال بها هنا فهي ضد ربط الكتاب بالسنة لأنه لا خلاف أن الرسالة من الله والبلاغ من الرسول. والزهري الراوي هو الذي كلف من قبل عبد الملك بن مروان بنشر الروايات في الأمصار وكان ينفق عليه. ويظهر أن الزهري يقصد بالبلاغ هنا السنة لا القرآن..
(2) المرجع السابق..
(3) المرجع السابق..
(4) المرجع السابق..
(5) نقد المنطق..
إن فقهاء أهل السنة لا يتورعون عن ربط الكتاب بالسنة والدمج بينهما. حتى أنهم اعتبروا طعن في كتاب الله..
وما داموا يتكلمون بلغة الوحيين..
ولغة التوحيدين..
ولغة الكتابين..
فأي مخرج يمكن أن يكون لأولئك الذين يتسلحون بالعقل في مواجهة الروايات؟ وهل هناك مسلم يرفض ما جاء به الرسول (ص)؟
والإجابة بالطبع لا. ولكن الفقهاء أوهموا المسلمين أن من يرفض الأحاديث يرفض ما جاء به الرسول. أي يرفض كتاب الله..
وهذه حيلة لا تنطلي على أصحاب العقول الذين جرمهم الفقهاء وحذروا المسلمين منهم باعتبارهم من أهل البدع..
إن كل من يستخدم ويميل إلى المنطق والفلسفة وعلم الكلام هو مبتدع في نظر الفقهاء.
وقد قال بعضهم: العلم بالكلام هو الجهل بالكلام هو العلم (2)..
إن مثل هذه التصورات التي يطرحها الفقهاء عن الرسول وأحاديثه فضلا عن كونها مخالفة لنصوص القرآن هي صورة من صور تاليه الرسول ومن يعتقد فيها فقد وقع في عبادة الرجال..
وما دام المسلم لا يرفض الرسول وما جاء به فكيف يضل ويكفر..؟
____________
(1) المرجع السابق.
(2) أنظر شرح الطحاوية..
يعني دفاعا عن الدين وعن الرسول..
والفقهاء بموقفهم هذا إنما يكررون نفس موقفهم من المؤولة الذين تصدوا لأحاديث الصفات وحملوها على المجاز. فهذا الموقف لم يعجبهم واعتبروه نفيا لصفات الله. وأعلنوا حربا شعواء على الفقهاء والإتجاهات الإسلامية التي تتبنى نهج التأويل وتهدف إلى تنزيه الله سبحانه عن مشابهة البشر. وهم هنا يتخذون نفس الموقف من أصحاب العقول الذين يدافعون عن الرسول (ص) وينفون عنه ما يشينه أو يشوه صورته..
ليس هناك حرج على فقهاء يؤمنون أن الله سبحانه يظلم العباد وله يد وعين ورجل ويضحك ويغار ويهبط ويجلس على العرش..
ليس عليهم حرج أن ينسبون إلى الرسول مشاركة الله في الألوهية ومجامعة النساء في المحيض والجهل بأحكام الدين والجبن والتطفل والولع بالنساء وخلافه..
ولو كانت السنة بهذه المكانة فلم لم يدونها الرسول وتركها تتبعثر هنا وهناك أكثر من قرن من الزمان (1)..؟
ومثل هذا السؤال يرد عليه ببساطة: إن الرسول مات وترك القرآن مبعثرا في صدور الرجال ولم يأمر بتدوينه. فكذلك السنة (2)..
وهذه الإجابة ليست غريبة على قوم يساوون السنة بالقرآن وينسبون للرسول ما ينسبون..
____________
(1) هناك من يقول إن السنة دخلت طور الجمع على الزهري الذي يقول: كنا نكره كتابه العلم - السنة - حتى أكرهنا على ذلك..
وهناك من يقول إن بداية التدوية على يد عمر بن عبد العزيز. وهناك من يقول إن التدوين بدأ في العصر العباسي وهو الأرجح - على يد مالك بن أنس تلميذ الزهري الذي قام بتأليف الموطأ بتوجيه من أبي جعفر المنصور..
(2) أنظر فصل الرسول المهمل من هذا الكتاب..
يروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (ص) (فنهتني قريش) (1)..
قالوا: تكتب كل شئ سمعته عن رسول الله. ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا..؟
فأمسكت عن الكتابة. فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال:
" أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق " (2)..
وهذه الرواية تكشف لنا عدة دلالات هامة:
أولا: أن هناك جبهة كانت تتولى الكتابة عن الرسول..
ثانيا: أن هناك جبهة كانت ضد كتابة كلام الرسول..
ثالثا: أن هناك أمر من الرسول بكتابة كلامه.
رابعا: أن هذه الجبهة تنظر إلى الرسول على أنه صاحب أحوال وذو شخصية متقلبة.
ويروي البخاري أنه لما حضر النبي (ص) - أي في مرض الموت - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب. قال (ص): " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ". قال عمر: إن النبي - يهجر - وقد غلبه الوجع وعندكم كتاب الله فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا وانقسموا إلى حزبين. حزب مع عمر.
وحزب يطالب بكتابة الوصية (3)..
____________
(1) يقصد بقريش هنا المهاجرين أمثال عمر وطلحة. أبي بكر وسعد وعثمان وكانوا ينكلون جبهة مستقلة في المدينة. ومنع ابن عمرو هنا كان يهدف إلى عدم نشر روايات تمس شخصيات محددة وتفضحها..
(2) رواه الدرامي وأبو داود وأحمد والحاكم..
(3) كتاب العلم..
ويروى عن أبي هريرة قوله: ما من أصحاب النبي (ص) أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب (2)..
ومن المعروف أن هناك مجموعة على عهد النبي (ص) كانت تكتب الوحي وعلى رأس هذه المجموعة الإمام علي وابن مسعود وأبي بن كعب (3)..
وما دام الأمر كذلك فكيف يدعي أن الرسول (ص) مات وترك القرآن غير مكتوب متفرقا في صدور الرجال كما قال عمر (4)..
وكيف يدعي أن سنة الرسول لم تكن مدونة في عصره..؟
إن الإجابة على هذا السؤال سوف تتبين لنا إذا استعرضنا حال حديث الرسول في عهد الخلفاء الثلاثة: أبو بكر وعمر وعثمان..
تشير الروايات إلى أن الخلفاء الثلاثة عملوا على منع كتابة الحديث في عهدهم..
يروي ابن سعد: أن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فأتوه بها فأمر بإحراقها (5)..
ويروي الذهبي أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة النبي (ص) فقال: إنكم
____________
(1) أنظر تفاصيل الخلاف حول وصية الرسول في كتابنا السيف والسياسة..
(2) البخاري كتاب العلم..
(3) أنظر كتب تاريخ القرآن..
(4) أنظر فصل الرسول المهمل..
(5) طبقات ابن سعد ح 5 / 140..
وحبس عمر بعض الصحابة الذين كانوا يروون حديث الرسول (2)..
أما عثمان فقال: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر (3)..
ويروى أن عثمان حجر على أبي ذر وابن مسعود وعمر وغيرهم من الصحابة وآذاهم واضطهدهم بسبب نشر حديث الرسول ورفض الانصياع لأمره بعدم التحدث إلى الناس (4)..
ومن هذه الروايات وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره هنا يتبين لنا أن الأحاديث كانت مدونة على عهد الرسول (ص) وكانت متداولة بين الصحابة..
ويتبين لنا أيضا أن هذه الأحاديث كانت تشكل حرجا لعدد من الصحابة خاصة تلك التي تتعلق بسلوك ومواقف المنافقين. وأنه بمجرد أن توفي الرسول عملت جبهة المهاجرين بزعامة عمر على منع نشر الحديث وتداوله وقد كانت لها محاولات في ذلك أثناء حياة الرسول..
وهناك حقيقة هامة أكدتها الروايات الخاصة بأبي بكر وعمر وهي أن كلاهما أصر على نبذ الأحاديث وحث على التمسك بكتاب الله وحده.
ويبدو هذا بوضوح من خلال قول أبو بكر: بيننا وبينكم كتاب الله..
وقول عمر: حسبنا كتاب الله..
____________
(1) تذكرة الحفاظ ترجمة أبي بكر..
(2) المرجع السابق. ترجمة عمر. ومن الذين حبسهم عمر بن مسعود وأبا الدرداء..
(3) منتخب كنز العمال. هامش مسند أحمد ح 4 / 64..
(4) أنظر ترجمة عثمان في كتب التاريخ. وانظر سنن الدارمي وطبقات ابن سعد.. وانظر نماذج أخرى من هذه الروايات في تذكرة الحفاظ للذهبي وكتب التراجم.
وهل هذا الموقف من جهتهما يعد بدعة وضلالة..؟
ونحن نجيب بالنيابة عنهم بقولنا: إن أبا بكر وعمر لم يمنعا الحديث كلية وإنما منع الأحاديث التي تشكل خطرا على نهجهما. ويدل على ذلك قول عثمان لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر وعمر..
ويدل عليه أيضا ذلك الحصار الذي فرض على أنصار علي من الصحابة وعلى الأنصار فهؤلاء جميعا كانوا ضد النهج القبلي الذي فرضه الخلفاء الثلاثة (1).
أما في عصر معاوية فقد اختلف الوضع. فقد وجد معاوية نفسه في مواجهة الإمام علي بقدره ومكانته العالية وعلمه المتميز. فكان لا بد له من وسيلة شرعية يتحصن بها في مواجهته تحقق له التوازن في الصراع الذي دار معه.. فكان أن جمع حوله المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وأبو هريرة وغيرهم وأطلق لهم العنان ليرووا باسم الرسول ما يدعم خطه ويقوي صرحه ويسد العجز في الميزان الشرعي الذي أوقعه في حرج أمام الإمام علي..
لقد فتح معاوية الأبواب على مصارعها لرواية الأحاديث الذي تدعمه وتحط من قدر الإمام علي وتشكك في شخصه ونهجه (2)..
ونتج عن هذا أن فتحت الأبواب على مصارعها أيضا لأعداء الإسلام كي يرووا باسم الرسول ويشوهوا صورة الإسلام..
____________
(1) أنظر لنا السيف والسياسة..
(2) أنظر لنا السيف والسياسة. وانظر أمر معاوية بسبب علي على المنابر وأمره بمنع التحدث في فضائل علي ومكانته. وأمره بنشر الروايات التي تذمه وتشوه صورته ثم اختراعه الروايات التي ترفع من قدره وتحسن من صورته هو. أنظر كتب التاريخ. وفتح الباري ح / 7 كتاب فضائل الصحابة. باب ذكر معاوية.. وانظر تطهير الجنان واللسان عن خطورة التفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان لابن حجر الهيثمي في ذيل الصواعق المحرقة ط القاهرة والنظر العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي..
من هنا كثرت الإسرائيليات وتغلغلت في كتب الأحاديث عن طريق الصحابة الذين عدلهم أهل السنة وحرموا تجريحهم..
وفي وسط هذا المناخ المتناقض والذي يتمثل فيما يلي:
- أحاديث أخذت من لسان النبي (ص) مباشرة انتشرت في حياته وضربت بعد مماته..
- أحاديث تمكن من إنقاذها والاحتفاظ بها قطاع من الصحابة على رأسهم الإمام علي..
- أحاديث اخترعت في عصر الخلفاء الثلاثة..
- أحاديث اخترعت في عصر معاوية..
- أحاديث أخذت من كعب الأحبار وغيره من العناصر اليهودية والمسيحية التي اخترقت صفوف المسلمين..
هذا الكم المتناقض من الأحاديث هو الذي وصل إلى المسلمين في العصر العباسي ونم عزبلته وانتقاء الأحاديث التي تدعم خط الخلفاء والملوك ومن أقوى الأدلة التي يستند عليها الفقهاء في ربط الكتاب بالسنة وربط السند بالكتاب قوله تعالى:
(وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا.) [ الحشر: 7 ]..
(ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) [ النساء: 80 ]..
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا من أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) [ النساء: 65 ]..
(ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا) [ الأحزاب: 37 ]..
إن مثل هذه النصوص وغيرها إن كانت تؤكد شراكة الرسول لله سبحانه في أمر الحكم والأمر والنهي - وهو ما يريد تأكيده الفقهاء - فهذا هو الكفر بعينه. إذ
____________
(1) أنظر نماذج من هذه الروايات في الفصول القادمة من الكتاب..
وهذا ما قاتله اليهود في عزيز والنصارى في عيسى..
وإذا ما أنكر الفقهاء هذا الادعاء - وهم سوف ينكرونه بالطبع - فإن هذا يعني أن ربط القرآن حكم الله بحكم الرسول وطاعته بطاعته له مدلول آخر وهو أن الرسول هو الذي ينطق بكلام الله عن طريق الوحي وقد عصم لهذا الغرض فمن ثم هو المصدر الوحيد في الأرض الذي ينطق بكلام الله ويقوم بتبيينه. وهو وفق هذا التصور حكمه هو حكم الله. وطاعته هي طاعة الله لكونه لا يتكلم ولا يحكم ولا يبين إلا وفق ما يرشده الوحي الإلهي. وهذا هو معنى قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [ النجم ]. وما ينطقه الرسول (ص) ينقسم إلى قسمين:
الأول هو القرآن..
الثاني هو البيان..
وشتان بين القرآن والبيان..
هذا كلام الله..
وهذا كلام الرسول..
نعم إن كلام الرسول منضبط بالوحي ولكن هل هذا يعني أن نساويه بالقرآن؟
والجواب بالطبع لا..
والفقهاء أنفسهم يقرون أن القرآن جاء بطريق التواتر القطعي..
أما السنة فجاءت بطرق أخرى ظنية..
فإذا كان الأمر كذلك. فكيف ربطوا السنة بالكتاب وكفروا منكرها أو رافض بعضها أو المشكك فيها..؟
لقد حسم القرآن بقوله تعالى:
44 ].
إن دور الرسول هو التبيين..
ودور الرسول هو البلاغ..
يقول تعالى: (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) [ النحل: 82 ].
ويقول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك..) [ المائدة: 67 ]..
ويقول: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به..) [ إبراهيم: 52 ]..
ليس من حق الرسول الإضافة..
وليس من حقه التشريع..
وليس من حقه الاختلاق..
وليس من حقه الاجتهاد..
وليس من حقه اللهو..
وليس من حقه أن يتسامح في أمر الوحي..
ولا يملك ذلك من الصل. فإنما هو معصوم ومحكوم وفق دائرة التبيين والتبليغ. إلا أن هذه الدائرة التي حدده الله سبحانه لم تعجب الحكام والكهان وأعداء الإسلام لكونها توصد الأبواب في وجوههم وتحول بينهم بين أن يحرفوا هذا الدين ويشوهوه ويخضعوه لأهوائهم ومصالحهم. فمن ثم كانت الحاجة ماسة إلى اختراع كم هائل من الروايات التي تخرج الرسول من هذه الدائرة لتضعه في دوائر أخرى تتيح لهم استثمار الدين لصالحهم.
ويتحصن الفقهاء في وجوب لزوم السنة برواية منسوبة للرسول تقول: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " (1)..
وهذه الرواية إنما يعضد بها الفقهاء موقفهم من النصوص القرآنية التي
____________
(1) أبو داود. كتاب السنة.. وانظر سنن ابن ماجة ح 1. باب تعظيم حديث رسل الله والتغليظ على من عارضه..
إن معنى قول الرسول أوتيت القرآن ومثله معه لا يحتمل إلا شيئا واحدا وهو أن السنة مثل القرآن. وهذا كلام لا يجوز في حق رسول قال فيه سبحانه: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد منه حاجزين) [ الحاقة: 44 - 47 ]..
وإذا كان معنى مثله معه هو البيان فهذا يرد الرواية من أصلها إذ ليس هناك تطابق بين التعبيرين..
والمسألة لا تحتمل وجها واحدا هو:
إما أن يكون الرسول قد قال مثل هذا الكلام..
وإما أن لا يكون قد قاله..
الأرجح أنه لم يقله. لأنه يتناقض مع دوره ورسالته..
ويعضد هذا ما ينسبه القوم إلى الرسول (ص) من أنه نهى عن كتابة الأحاديث وقال: " من كتب عني شيئا فليمحه "..
وقد كان شعار عمر وهو يطارد الأحاديث: الخوف من أن تختلط بالقرآن..
فإذا اعتمدنا روايات النهي عن كتابة الأحاديث..
وكلا الموقفين يقربهما الفقهاء..
فإن هذا يعنى رفض هذه الرواية واعتبارها مختلقة..
وإذا اعتمدنا رفض الموقفين فإن هذا يعني التشكيك في السنة وتناقضها وهو موقف يتجنبه الفقهاء.
وليس أمام الفقهاء من مخرج سوى أن يقروا أن السنة لا تخرج عن كونها
جهد بشري وتراث علمي يحوي الغث والسمين والنافع والضار والحق والباطل