الصفحة 153

ويروى جاءت جدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها. فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شئ. وما علمت لك في سنة نبي الله (ص) شيئا. فارجعي حتى أسأل الناس. فشهد المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أنهما حضرا رسول الله فأعطاها السدس (1)..

ويروى أن رجلا جاء إلى النبي (ص) فقال إن ابن ابني مات فمالي من ميراثه؟ فقال: " السدس ". فلما أدبر دعاه فقال: " لك سدس آخر ". فلما أدبر دعاه فقال: " إن السدس الآخر طعمة ". قال قتادة: فلا يدرون مع أي شئ ورثه. أقل شئ ورث الجد السدس (2)..

وهذه الروايات تضيف إلى أحكام المواريث التي نص عليها القرآن حكما جديدا على لسان الرسول وهو ما يتضح من الرواية الأولى..

أما الرواية الثاية فهي تكشف لنا أن هذا الحكم قضى به أبو بكر على أساس شهادة اثنين نسباه إلى الرسول ولم يكن هو على علم به..

أما الرواية الثالثة فهي تكشف لنا أن الرسول حكم للجد بالسدس أيضا.

وهو ما لا يجوز شرعا لأن الذكر له مثل حض الأنثيين وفإما أن يكون السدس للجد وللجدة نصف السدس. وأما يكون الرسول قد أخطأ في الحكم. وأما أن يكون هذا الحكم هو من اختراع الرواة..

والاحتمال الثالث هو الأقرب. فلا يعقل أن يساوي الرسول بين الذكر والأنثى في الميراث. كما لا يعقل أيضا أن يتردد الرسول في الحكم عدة مرات يضيف فيها سدسا آخر للسائل..

يروى أن رجلا سأل النبي (ص): كيف أصنع في مالي..؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجب النبي بشئ حتى نزلت آية الميراث (3)..

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق..

(3) مسلم. كتاب الفرائض. والبخاري كتاب المرضى..


الصفحة 154

- في الزينة والسلوكيات:

يروى أن الرسول (ص) قال: " إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " (1)..

ويروى نهانا رسول الله (ص) عن سبع: نهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال آنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والاستبرق (2)..

ويروى أن النبي (ص) قال: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " (3)..

ويروى عن الرسول قوله: " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة (4)..

ويروى عن عمر: أن رسول الله نهى عن الحرير إلا هكذا وأشار بإصبعيه اللتين تليان الابهام (5)..

ويروى عن عمر أيضا أنه رأى حلة سبراء عند باب المسجد. فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا. فقال الرسول: " إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة ". ثم جاءت رسول الله منها حلل فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت. فقال الرسول: " إني لم أكسكها لتلبسها فكساها عمر أخا له بمكة مشركا (6)..

____________

(1) مسلم كتاب اللباس والزينة. والبخاري كتاب الأشربة.

(2) المرجعين السابقين..

(3) البخاري كتاب الأطعمة. ومسلم كتاب اللباس والزينة..

(4) مسلم والبخاري كتاب اللباس والزينة..

(5) المرجعين السابقين..

(6) البخاري كتاب الجمعة ومسلم كتاب اللباس والزينة..


الصفحة 155
ويروى: أهدي إلى النبي (ص) مزوج حرير فلبسه فصلى فيه. ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له. وقال: " لا ينبغي هذا للمتقين " (1)..

ويروى أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير.

من حكة كانت بهما (2)..

إن ما تهدف إليه هذه الروايات الوصول إلى الحكم بتحريم الحرير وأن الفقهاء قد قاموا على ضوء هذه الروايات بتقنين هذا التحريم. لكن السؤال هنا:

هل هذه الروايات تفيد التحريم وتقطع به..؟

والإجابة سوف تتضح لنا من خلال استعراض الروايات..

الرواية الأولى تنهى عن لبس الحرير والديباج والاستبرق والمياثر والقسي ولم تنه عن الحرير وحده. وهذا يعني أن التحريم شملهم إلا أن جميع الروايات تركز على تحريم الحرير وحده. فهل هذه الإضافة من الرواة أو أن هذه الأنواع من الملابس ليست حراما ولأجل ذلك أغفلتها الروايات الأخرى..؟

وفي كلتا الحالتين هذا أمر يثير الشك في مثل هذه الروايات..

وبالتدقيق في نصوص القرآن لا نجد أية إشارة إلى تحريم الحرير وهذا يعني أن أمر التحريم خاص بالروايات وحدها وهو بمثابة إضافة حكم جديد فوق أحكام القرآن..

وفي الرواية الثانية نكتشف أن التحريم خاص بالحياة الدنيا وأنه مباح في الآخرة..

والرواية الثالثة تؤكد أن من لبسه في الدنيا لن يلبسه في الآخرة ومثل هذا يشير إلى أن المسألة لا تأخذ وضع الحكم الشرعي الذي يؤدي بمخالفه إلى النار وإنما هي لا تخرج عن طور الكراهة لأسباب اجتماعية أو اقتصادية خاصة بمجتمع الرسول..

____________

(1) مسلم كتاب اللباس والزينة. والبخاري كتاب الصلاة..

(2) البخاري كتاب الجهاد. ومسلم كتاب اللباس والزينة. وانظر أبو داود وكتب السنن..


الصفحة 156
ويدل على ذلك الاستثناء الذي أشار إليه عمر في روايته بجواز لبس الملابس التي تحوي قدرا من الحرير..

ويدل على ذلك أيضا أن الحرير كان يباع في المدينة وعلى باب مسجد رسول الله أية كما تشير رواية عمر الثانية والتي عرض فيها عمر على الرسول أن يشتري حلة من حرير فقال إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة.

وهذا النص لا يشير إلى التحريم وإنما يشير إلى الكراهة..

ثم إن الرسول بعد ذلك جاءته حلل من حرير فقبلها - كما ذكرت الرواية وأهدى منها واحدة لعمر مما دفع بعمر إلى الاستفسار من الرسول عن سبب هذا التناقض في موقفه.

فهل كان من الممكن للرسول أن يسلك هذا السلوك لو كان الحرير حراما..؟

وتدخل بنا رواية لبس الرسول للحرير والصلاة به إلى مدار آخر أكثر صراحة في أن الحرير لا يدخل مجال التحريم ولو كان ذلك صحيحا لنبذه الرسول بداية وما لبسه. وما صلى فيه.. وهو بنزعه له بعد الصلاة وقوله: " لا ينبغي هذا للمتقين " يؤكد لنا أن المسألة لا تخرج عن طور الكراهة ولو تم تأويل الرواية بغير هذه الوجهة لكان فيها اتهام مباشر للرسول بارتكاب المحرم والاصرار عليه بلبسه الحرير ثم الصلاة فيه..

أما رواية إباحة الحرير لعبد الرحمن بن عوف والزبير لإصابتهما بالجرب فهي مردودة لعدة أوجه:

الأول: أن هناك روايات تنهى عن التداوي بالمحرمات. فإذا كان الحرير حراما فلا يجوز التداوي به..

الثاني: أن النبي يمكن أن يصف لهما دواءا آخر وهو يروي عنه الكثير من الروايات الطبية التي يدين بها القوم.

الثالث: أن ابن عوف والزبير من أثرياء الصحابة والحرير كما هو معروف مرتفع الثمن. فهل هذا يعني أنهما اختاراه بأنفسهما ووافقهما عليه الرسول لكونهما

الصفحة 157
يقدران على ثمنه؟ أم أن الرسول هو الذي اختاره لهما لكونهما يقدران على نفقته (1)..؟

إن مثل هذه الرواية إنما تثير الشك حول حكم النهي عن لبس الحرير وسواء هما اختاراه أو الرسول اختاره لهما فالنتيجة واحدة وهي أن مسألة الحرير لا تدخل دائرة التحريم..

يروى أنه شوهد رجلا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء.

فقال: كسانيها سول الله (ص) (2)..

ويروى: عشرون نفسا من أصحاب سول الله (ص) أو أكثر لبسوا الخز منهم أنس بن مالك والبراء بن عازب (3)..

ويروى أن رسول الله (ص) أرسل حلة استبرق إلى عمر فأرسلها إلى أخيه بمكة وأرسل معها بجبة ديباج وقال له تبيعها وتصيب بها حاجتك (4)..

ويروى أن جبة رسول الله (ص) كانت مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج (5)..

ويروى عن الرسول أنه نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر وعن تختم الذهب وعن القراءة في الركوع. قال الراوي: ولا أقول أنهاكم (6)..

وهذه الروايات إنما تصطدم بروايات النهي وتشير إلى تخبط الرواة في النقل وإن كان الفقهاء قد أولوها كعادتهم بما يفيد وجهتهم وهي التحريم فإن قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة التي يتبنوها تقول بأن من الأولى أن يحمل الأمر على الإباحة لا التحريم ما دام ليس هناك نص قطعي بالتحريم..

____________

(1) في رواية أبو داود أنهما كانا في السفر..

(2) أبو داود كتاب اللباس..

(3) المرجع السابق..

(4) المرجع السابق..

(5) المرجع السابق....

(6) المرجع السابق..


الصفحة 158
يقول الفقهاء: تحريم الحرير والديباج وذلك للنهي المذكور وهو نهي تحريم عند الكثير من المتقدمين وهو قول الأئمة الأربعة. وقال الشافعي إن النهي فيه كراهة تنزيه في قوله القديم. وقال القسطلاني: نهي النبي لبس الحرير نهى تحريم على الرجال وعلة التحريم أما الفخر والخيلاء أو كونه ثوب رفاهية وزينة يليق بالنساء لا الرجال أو التشبه بالمشركين. وقد حكى القاضي عياض أن الاجماع انعقد بعد ابن الزبير وموافقيه على تحريم الحرير على الرجال (1)..

وكان ابن ابن الزبير قد قال بمنع النساء من لبس الحرير على أساس ظاهر رواية النهي. وأن الخطاب موجه للذكر والأنثى..

يروى أن ابن زبير خطب يقول: ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة (2)..

وهذه الرواية التي تدل على سطحية ابن الزبير إنما هي تعيد نفس موقفه من رواية إباحة المتعة التي واجهه بها ابن عباس. ففيها دلالة على أنه لم يكن من أهل الفقه والدراية..

ولعل ابن الزبير استصعب أن الرجل يحرم من الحرير في الدنيا بينما تتمتع به المرأة في الدنيا والآخرة فأصدر فتواه هذا من باب المساواة في التكاليف بين الذكر والأنثى..

أو أن ابن الزبير تصور أن إباحة الحرير للمرأة في الدنيا سوف يؤدي إلى حرمانها منه في الآخرة..

إلا أن ما نخرج به من رواية ابن الزبير هذه أن الرواة يتخبطون في أمر التحريم ونتج عن هذا التخبط تخبط الفقهاء في تأويلاتهم لهذه الروايات وهو ما يبدو بوضوح في خلافاتهم حول قضية التحريم (3)..

____________

(1) مسلم. هامش كتاب اللباس والزينة..

(2) مسلم. كتاب اللباس والزينة..

(3) أنظر مسلم شرح النووي وفتح الباري شرح كتاب اللباس. وانظر كتب الفقه.


الصفحة 159
وأهم ما تدل عليه رواية ابن الزبير هو أن الحرير كان مشاعا بين الناس في زمانه مما دفع به إلى منعه بالسلطان وهو نفس موقفه من زواج المتعة..

أما عن الذهب فيروى: نهى النبي (ص) عن خاتم الذهب (1)..

ويروى أن رسول الله رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرح وقال " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده " (2)..

وينقل عن الفقهاء قولهم: أجمع العلماء شرقا وغربا على تحريم اتخاذ الخاتم من الذهب للرجال دون النساء وأما اتخاذه من الفضة فمباح لهم وروى في سنن النسائي والترمذي أن النبي (ص) قال: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها " (3)..

وما ينطبق على الحرير ينطبق على الذهب من كونه لا يطابق القرآن ولم ينص على تحريمه. هذا من جهة. أما من جهة مناقشة الروايات فسوف يتبين لنا أن هذه الروايات حالها كحال سابقتها من الروايات المتناقضة التي تنهى تارة وتبيح تارة أخرى..

يروى أن رسول الله (ص) اصطنع خاتما من ذهب وكان يلبسه فيجعل فصه في باطن كفه. فصنع الناس. ثم إنه جلس على المنبر فنزعه. فقال: " إني كنت ألبس هذا الخاتم واجعل فصه من داخل ". فرمى به ثم قال: " والله لا ألبسه أبدا ".

فنبذ الناس خواتيمهم (4)..

ويروى أنه رأى في يد رسول الله (ص) خاتما من ورق - فضة - يوما واحدا.

ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها. فطرح رسول الله خاتمه. فطرح الناس خواتيمهم (5)..

____________

(1) مسلم كتاب اللباس والزينة. والبخاري كتاب اللباس..

(2) مسلم كتاب اللباس والزينة. باب في طرح خاتم الذهب..

(3) مسلم. هامش باب في طرح خاتم الذهب..

(4) البخاري كتاب الإيمان والنذور. وأبو داود كتاب الخاتم. ومسلم كتاب اللباس والزينة..

(5) مسلم والبخاري كتاب اللباس..


الصفحة 160
ويروى: كتب النبي كتابا أو أراد أن يكتب. فقيل له: إنهم لا يقرأون كتابا إلا مختوما. فاتخذ خاتما من فضة نقشه (محمد رسول الله) (1)..

ويروى) اتخذ رسول الله خاتما من ورق وكان في يده ثم كان بعده في يد أبي بكر. ثم كان بعد في يد عمر. ثم كان بعد في يد عثمان حتى وقع بعد في بئر أريس نقشه (محمد رسول الله) (2)..

وفي رواية: ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده (3)..

ويبدو من خلال الرواية الأولى أن الرسول كان يلبس الذهب ثم قرر فجأة نبذه. فهل كان لا يعلم بتحريمه..؟

وإذا كان يعلم فلماذا لبسه؟

إن هذه الرواية تدل بوضوح على عدم حرمة لبس الذهب وأن نبذ الرسول له لم يكن من باب الترحيم وإنما كان من باب الكراهة. ويدل على ذلك قسمه بألا يلبسه أبدا. وهو قسم خاص به وحده. أي أن القرار الذي اتخذه الرسول بشأن لبس الذهب كان قرارا خاصا به كنبي وليس خاصا بأمته..

ولو أخذنا هذه الرواية كدليل على التحريم لوجوب علينا أن نحرم الفضة أيضا إذ أن الرواية الثانية تحكي نفس القصة ولكن مع خاتم من فضة (الورق)..

والمعروف أن الرسول قد أباح لبس الفضة وهو ما عليه إجماع الرواة والفقهاء كما ذكرنا. إذن طرح الرسول خاتمه سواء ذهبا أو فضة مسألة لا صلة لها بالتحريم وإنما لها صلة بظرف ما واجهه الرسول واتخذ في مواجهته هذا القرار..

وما يدل على ذلك هو أن الروايات تشير إلى أن الرسول عاد إلى لبس خاتم الفضة وكان معه حتى توفي وورثه منه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان..

وقد يكون الرسول نبذ خاتم الذهب والفضة سويا وقام صناع الرواية باختراع

____________

(1) البخاري كتاب العلم. ومسلم كتاب اللباس والزينة.

(2) البخاري ومسلم كتاب اللباس وانظر ابن سعد ح 1.

(3) أبو داود وكتاب الخاتم..


الصفحة 161
رواية اتخاذ الرسول خاتم الفضة ليراسل به الحكام والملوك من أجل أن يضفوا المشروعية على حكم الخلفاء الثلاثة - أبو بكر عمر عثمان - بوارثتهم خاتم الرسول. ولعل ما يشير إلى ذلك هو تلك الجملة التي أضافها الراوي عن عثمان والتي تريد تبرير انحرافاته وتجاوزاته وإضفاء الشرعية على مواقفه بمحاولة إيهام المسلمين أن ما حدث له كان بسبب فقده خاتم الرسول..

إلا أن حقائق التاريخ تؤكد لنا أن ما حدث في زمن عثمان كان ثورة كاملة المقومات في وجه طاغية تجاوزت انحرافاته حدود الدين والعدل. كما تؤكد لنا أيضا أن فكرة الترتيب الرباعي. أي جعل أبو بكر في مقدمة الخلفاء يليه عمر ويليه عثمان ثم علي. فكرة مختلقة ومن صنع السياسة وليس لها أي سند من الروايات التي يتعبد بها القوم (1)..

يقول الفقهاء: قوله إن رسول الله اصطنع خاتما من ذهب لا شك أن ذلك قبل أن يعلم (ص) حرمته ثم لما علم أن لبسه حرام نزعه ونبذه وحلف أن لا يلبسه أبدا. وقال الزرقاني: طرحه لتحريم لبس الذهب حينئذ على الرجال أو لكراهة مشاركتهم له أو لما رأى من زهوهم بلبسه وجعل فصه في باطن كفه لأنه أبعد من الاعجاب والزهو (2)..

وهذا القول ليس إلا محاولة للي عنق النص وانتزاع الحرمة منه ولو كان ذلك على حساب الرسول. فالفقهاء بقولهم هذا قد طعنوا في الرسول واتهموه بالجهل وعدم معرفة الحلال والحرام. وحسب قولهم هذا يكون الرسول قد شرب الخمر وأكل الربا وفعل سائر المحرمات قبل أن يعلم حرمتها..

ومثل هذا القول إنما هو ناتج من رؤيتهم لشخص الرسول (ص) كما صورت الروايات تلك الرؤية المنقوصة التي تصور الرسول بالانفصام. فمن ثم يمكن حمل مثل هذه السلوكيات - ممارسته الحرام قبل علمه به - على الجانب البشري من شخصيته أي الجانب غير المعصوم..

____________

(1) أنظر لنا كتاب السيف والسياسة. وانظر الفتنة الكبرى لطه حسين. وانظر كتب التاريخ.

(2) مسلم. هامش باب في طرح خاتم الذهب.


الصفحة 162
وكلا الزرقاني يشير إلى كونه يتردد في الحكم بالتحريم. فهو يتأرجح بين الحكم بالحرمة والحكم بالكراهة ثم هو في النهاية حمل الرسول مسؤولية الحكم بالحرمة نتيجة لرؤيته زهو الناس وافتخارهم بلبسه..

ثم أين هذا كله من قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات للرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) (1)..

وهذه الآية المكية تدحض قول الفقهاء وادعاءاتهم أن الرسول لم يكن يعلم بحكم حرمة الذهب. بل ما تؤكده الآية هو الإباحة ومن زمان مكة والرسول كان يتحرك وفق دائرة الإباحة. فمن ثم يمكن الحكم على ضوء هذا النص القرآني أن مثل هذه الروايات قد دست على الرسول أو حرفت بما يفيد التحريم..

إن تحكيم القرآن على دوام سوف يؤدي إلى فضح الرواة وإراحة العقول من متاهات الفقهاء..

ولقد تجاوز الرواة الحدود في نسبة التحريم للرسول حتى في السلوكيات والعادات الأعراف التي يكون نسبة التحريم إليها مصادما للفطرة والعقل فهم قد نسبوا إلى الرسول تحريم إطالة الثوب والتزعفر..

ونسبوا إليه تحريم حلق اللحية..

ونسبوا إليه تحريم الأضرحة وزيارتها..

ونسبوا إليه تحرم الصورة والتماثيل..

ونسبوا إليه تحريم الموسيقى والغناء..

ثم بارك الفقهاء هذا التحريم وجعلوا له أبوابا في كتبهم والزموا الأمة به..

يروى أن الرسول (ص) قال: " لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء " (2)..

____________

(1) الأعراف آية رقم 32..

(2) مسلم والبخاري كتاب اللباس.


الصفحة 163
ويروى: بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته. إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة (1)..

ويروى ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار (2)..

ويروى: نهى رسول الله (ص) أن يتزعفر الرجل (3)..

قال الفقهاء: الخيلاء بالمد والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر كلها بمعنى واحد وهو حرام. ومعنى لا ينظر أي لا يرحمه ولا ينظر إليه نظر رحمة.

وقوله (ص) خيلاء إشارة إلى علة التحريم فيستفاد منه إن لم يكن الاسبال - أي إطالة الثوب - من الخيلاء لم يكن حراما لكنه مكروه لوجوه منها السرف ومنها عدم الأمن من التنجس. وقال النووي: أجمع العلماء على جواز الاسبال للنساء وقد صح عن النبي الإذن لهن (4)..

ويبدو من هذه الروايات أن الوعيد الذي تبشر به فوق الحالة المجرمة بكثير فإطالة الثوب ليس جريمة يستحق فاعلها هذا التهديد. وإذا كانت هذه المسألة بهذه الخطورة فلم لم تذكر في القرآن..

وإذا كان الفقهاء قد ربطوا الوعيد المذكور في الروايات بالمتعمد المستحل.

فإن هذا يعني أن هناك استثناء. والتحريم لا يكون فيه استثناء. فدل ذلك على أن الأمر لا صلة له بالتحريم. ومسألة المستحل هي مرهونة بالنوايا. وكيف لنا أن نعرف أن ذاك الذي يرتدي ثوبا طويلا يرتديه من باب الكبر والخيلاء..؟

وفيما يتعلق بالنهي عن التزعفر قال الفقهاء: الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أباحوا التزعفر وهو مذهب الأحناف والشافعية والمالكية. وقد روي أن ابن عمر كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والمصبوغ بالزعفران وفي شرحه للزرقاني عملا بما رواه ابن عمر قال: كان النبي (ص) يصبغ بالورس والزعفران

____________

(1) المرجعين السابقين..

(2) أبو داود كتاب اللباس..

(3) مسلم والبخاري كتاب اللباس.

(4) مسلم. هامش باب تحريم جر الثوب خيلاء..


الصفحة 164
ثيابه حتى عمامته. ولا يعارضه حديث الصحيحين نهى النبي أن يتزعفر الرجل وفي أن النهي للونه أو لرائحة تردد لأنه للكراهة وفعله البيان الجواز والنهي محمول على تزعفر الجسد لا الثوب أو على المحرم يحج أو عمرة لأنه من الطيب وقد نهى المحرم عنه (1)..

ويظهر من هذا الكلام أن الفقهاء وقع في حرج بين روايات النهى عن التزعفر وبين روايات إباحته. وإن كان الجمهور قد مال إلى الإباحة فإن هذا يعني بطلان رواية البخاري ومسلم. وهذا موقف غير معتاد من الفقهاء. فهم عادة ما ينكرون الروايات خارج دائرة ما يسمونهما بالصحيحين ويميلون إلى ترجيح روايتهما على كتب السنن الأخرى مثل أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم.

من هنا فإن هذا الموقف من متقدمي الفقهاء قد أوقع متأخريهم في حرج فأرادوا أن يوفقوا بين رواية الإباحة ورواية النهي بأن قالوا ليس هناك تعارض بين رواية البخاري ومسلم التي تقوم بالنهي وبين رواية الإباحة التي رواها ابن عمر.

وعملوا على تحميل النهي على لون الزعفران أو رائحته وكون المقصود بالنهي تزعفر الجسد. لا ثوب وأنه خاص بالمحرم كوسيلة للخروج من هذا التناقض..

إلا أن ما يعنينا من هذا كله أن الرواة صوروا الرسول بمظهر المتناقض وجاء الفقهاء فزادوا الطين بلة وإن كانوا مالوا إلى الإباحة لكونها الأصل فهم لم يجيبونا ما هو الموقف من رواية البخاري ومسلم التي تقول بالنهي..؟

مثل هذا الموقف يفتح باب الشك في روايات ما يسمونه بصحيح البخاري وصحيح مسلم. ومن جهة أخرى يفتح باب الشك فيما يسمى بالإجماع الذي هو السند الوحيد في الحكم بصحة هذين الكتابين..

وحول اللحية يروى أن الرسول (ص) قال: " أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى " (2)..

____________

(1) مسلم. هامش باب النهي عن التزعفر للرجال. كتاب اللباس والزينة.. وحديث ابن عمر رواه أبو داود. كتاب الترجل..

(2) البخاري كتاب اللباس. باب إعفاء اللحية. ومسلم كتاب الطهارة..


الصفحة 165
وروي: " خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب " (1)..

ومن هذين النصين وغيرهما قال الفقهاء بوجوب إطلاق اللحية وتحريم حلقها واختلفوا في مقدارها وطولها. وأخذ البعض بمقياس ابن عمر وهو حد القبضة باليد أي أن طول اللحية لا يجب أن يتجاوز قبضة اليد حسب مذهب ابن عمر. واختلفوا في شعر الوجه هل هو من اللحية أم لا؟ فأدخل بعضهم شعر الوجه في دائرة اللحية. وقال آخرون بعدم شمول اللحية له. إلا أن ما يستوقفنا هنا هو: كيف استنبط الفقهاء من روايات اللحية حكم تحريم حلقها؟

والجواب أن الفقهاء اعتبروا قول الرسول: وفروا اللحى. واعفوا اللحى أمر والأمر واجب امتثاله ومخالفته تعني الوقوع في الحرمة. وبالتالي دخلت اللحية دائرة التشريع وحمل الرسول أمر تبليغ حكمها للأمة..

وإذا كان الرسول قد بلغ الأمة أمر اللحية عن طريق الوحي فأين هي الإشارات القرآنية التي تدعم هذا الأمر. وما دامت لا توجد نصوص قرآنية تدعم أمر اللحية فإن هذا يعني أن أمرها من اختلاق الرسول وإضافاته. وإذا كان الفقهاء قد باركوا هذا الأمر فإن هذا يعني أيضا أنهم قد أدخلوا الرسول دائرة التشريع. فإن أقروا بغير ذلك. فمعنى هذا أن مسألة اللحية لا صلة لها بحدود الشرع وهي لا تخرج عن كونها عادة وليست عبادة..

إن عادة إطلاق اللحى كانت شائعة في الجاهلية عند العرب وكل ما فعله الرسول هو أنه أقر هذه العادة. إلا أن الرواة اخترعوا لها الروايات لشغل الأمة بالشكليات وإبعادها عن الاهتمام بجوهر الدين حتى يفسحوا الطريق أمام الحكام ثم جاء الفقهاء فاشتقوا لها الأحكام وضخموها لأن مثل تلك الأمور كانت شغلهم الشاغل في ظل واقع عزل فيه الإسلام عن دوره وجوهره..

وفيما يتعلق بالأضرحة وزيارتها يروى أن رسول الله (ص) قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (2)..

____________

(1) مسلم كتاب الطهارة. والبخاري كتاب اللباس.. وانظر النسائي كتاب الزينة..

(2) مسلم كتاب المساجد..


الصفحة 166
وفي رواية: " لولا ذاك لأبرز قبره " (1)..

وفي رواية: " فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن هذا " (2)..

ويروى عن النصارى قوله: " أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا. فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " (3)..

ويروى عن علي قوله: أمرني رسول الله (ص) ألا أدع وثنا إلا كسرته ولا قبرا مشرفا إلا سويته (4)..

ويروى عن النبي (ص) قوله: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " (5)..

يقول الفقهاء حول صور الكنائس وقبورها: إن تصوير أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذاكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشياطن أن أسلافهم كانو يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي (ص) عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك (6)..

ويبدو من هذه الروايات ومن أقوال الفقهاء أن النهي والوعيد المرتبط ببناء القبور في المساجد يرتبط بعلة عبادة هذه القبور كما حدث في بني إسرائيل وفي قوم عيسى. إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل وقع هذا في تاريخ المسلمين؟ وهل كانت في زمن الرسول (ص) حالات مشابهة لحالة اليهود والنصارى..؟

إن النهي الوارد في هذه الرويات يتركز في اتخاذ القبور مساجد وليس في القبور ذاتها. ومعنى مساجد لغة أي مكان للسجود لذات القبور. أما السجود لله

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق..

(3) المرجع السابق. وانظر البخاري كتاب الجنائز وكتاب الصلاة..

(4) مسند أحمد.

(5) المرجع السابق.

(6) مسلم. هامش باب النهي عن بناء المساجد على القبور. كتاب المساجد..


الصفحة 167
سبحانه في القبر أو حوله أو أمامه فليس فيه ضير. هذا على أساس تسليمنا بصحة هذه الروايات وسلامة مضمونها. فهناك شكوك كثيرة تحيط ببواعثها وأهدافها..

والذين يقدسون الكعبة مثلا ويجعلون من أحجارها شيئا فوق العادة. أو من كسوتها دواء أو بركة أو ما شابه ذلك. ويحلمون لو اقتطعوا قطعة من الحجر الأسود أو من أحجارها أو من كسوتها ليتداووا أو يتبركوا بها إذا ما اعتبرنا هذا خلالا في الاعتقاد أو اعوجاجا في الفكر. فهل العيب في الكعبة أم في سلوك المسلمين. كذلك إذا بدرت بعض السلوكيات من المسلمين حول قبور الأولياء والصالحين اعتبرت شركا في منظور البعض فهل العيب في هذه القبور أم في المسلمين..؟

يروى أن النبي (ص) مر على قبر منبوذ فأمهم وصفوا عليه (1)..

ويروى أن رجلا أو امرأة سوداء كانت تقيم بمسجد الرسول (ص) ماتت ولم يعلم النبي. فلما علم بوفاتها ودلوه على قبرها أتى القبر فصلى عليها (2)..

وما تشير إليه هاتين الروايتين هو أن القبور يجوز الصلاة فيها وعليها وهو ما يناقض الروايات السابقة والتي استنبط منها الفقهاء أحكاما بعدم جواز الصلاة في القبور أو في المساجد التي بها قبور..

قال الفقهاء: لما وسع مسجد الرسول (ص) جعلت الحجرة الشريفة - أي الحجرة التي تضم قبر النبي - مثلثة الشكل محدودة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر المقدس مع استقبال القبلة (3)..

وإذا صح هذا الكلام فما معنى صلاة النبي على القبر الذي أشارت إليه الروايتان السابقتان..؟

وسوف نعرض هنا لعدد من الشواهد والوقائع التي تثير الشك في مثل هذه الروايات المنسوبة للرسول حول الأضرحة واتخاذ المساجد على القبور..

____________

(1) مسلم. كتاب الجنائز. باب الصلاة على القبر. والبخاري كتاب الجنائز..

(2) مسلم والبخاري كتاب الجنائز..

(3) مسلم. باب النهي عن بناء المساجد على القبور..


الصفحة 168
أولا: إن الوقائع التاريخية تؤكد أن اليهود الذين كتبت عليهم الذلة والمسكنة بأمر الله سبحانه عاشوا مشردين في الأرض. فمن ثم ليس من الثابت أنهم أقاموا مساجد أو معابد على قبور أنبيائهم الذين قتلوا بعضهم وحازوا على غضب أكثرهم. والمكان الوحيد المعروف تاريخيا الذي اتخذه اليهود موضعا للعبادة هو بيت المقدس. وكان لسليمان (ع) هيكلا - أي بلاط - ولم يكن له معبدا. وقد كان مشهورا في زمن الرسول (ص) قبر إبراهيم في الخليل وقبر موسى إلا أننا لم نسمع أن الرسول أشار إلى هذين القبرين بشئ يدل على أن اليهود اتخذوهما أوثانا..

ثانيا: أن المسلمين منذ قرون طويلة في جزيرة العرب وخارجها يتخذون من مقام إبراهيم مصلى كما نصت الآية في سورة البقرة. ومقام إبراهيم هو رمز حجري.

ثالثا: أن السيدة هاجر وولدها نبي الله إسماعيل (ع) دفنا في الكعبة ويطوف من حولهم ملايين المسلمين كل عام بل ويتمسحون بجدار قبرهما المسمى حجر إسماعيل (1)..

رابعا: أن القرآن نص على بناء المساجد على القبور حين تم اكتشاف أهل الكهف.. (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) [ الكهف: 21 ]..

خامسا: أن القبور والقباب ظلت مقامة بالبقيع في المدينة وفي سائر أنحاء الجزيرة العربية حتى ظهرت الحركة الوهابية الحنبلية فهدمت هذه القبور والقباب باعتبارها في منظورهم رمزا من رموز الشرك بالله (2)..

سادسا: أنه يلاحظ تاريخيا وفرق المسلمين لم يتصدوا لبناء المساجد فوق قبور الأولياء والصالحين ولم يعترضوا سبيلها باستثناء فرقة الحنابلة التي تسمت فيما بعد بأهل السنة. تلك الفرقة التي فرخت ابن تيمية والذي دخل في صدام مع فقهاء عصره بسبب القبور وانتهى الأمر بحبسه حتى مات في الحبس.. وقامت الحركة الوهابية في العصر الحديث بإحياء أفكاره المتشددة بشأن

____________

(1) أنظر تاريخ نبي الله إسماعيل في سيرة ابن هاشم وكتب التاريخ..

(2) أنظر لنا كتاب فقهاء النفط. وكتاب مدافع الفقهاء. وكتاب ابن باز فقيه آل سعود..


الصفحة 169
القبور وفرضتها على المسلمين في جزيرة العرب بقوة السيف وفي خارج الجزيرة بتأثير النفط (1)..

سابعا: أنهم يروون عن الرسول (ص) قوله: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ". وذلك حتى يقطعون الطريق على المسلمين الذين يزورون مقامات الأولياء والصالحين في البلاد المختلفة والثابت أن الرسول (ص) شد الرحال من المدينة وزار قبر أمه وبكى عند قبرها. ولم يأمر بهدم هذا القبر (2)..

ويبدو من رواية النهي عن شد الرحال أنها تنهى عن السفر مطلقا إلا لهذه المساجد الثلاثة. ومثل هذا الاستنتاج يثير الشك في الرواية..

وحول الصور والتماثيل وردت العديد من الروايات التي يشيب لها الولدان..

يروى أن الرسول (ص) قال: " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون " (3)..

ويروى عن الرسول (ص) قوله: " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة. يقال لهم أحيوا ما خلقتم " (4)..

ويروى قول الرسول (ص): " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل " (5)..

يقول الفقهاء: قوله أشد الناس عذابا هذا محمول على من فعل الصورة لتعبد أو على من قصد به مضاهاة خلق الله واعتقد ذلك فهو كافر يزيد عذابه بزيادة

____________

(1) أنظر تاريخ الحركة الوهابية وانظر المراجع السابقة..

(2) الرواية الأولى لمسلم كتاب الحج. والبخاري كتاب الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

والرواية الثانية رواها النسائي وأبو داود وابن ماجة كتاب الجنائز..

(3) مسلم والبخاري كتاب اللباس..

(4) المرجعين السابقين..

(5) البخاري كتاب بدء الخلق. ومسلم كتاب اللباس والزينة. وانظر أبو داود وكتب السنن.


الصفحة 170
قبح كفره ومن لم يقصد ذلك فهو صاحب كبيرة. لكن الأولى أن يحمل على التهديد لأن قوله (ص) عند الله تلويح إلى أنه يستحق أن يكون كذا لكنه محل العفو.. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الروايات وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى. وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام. ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبو حنيفة وغيرهم (1)..

والذي يظهر من هذه الروايات وتأويلات الفقهاء لها أن المسألة تنحصر في دائرة محددة وهي أن المصورين يضاهون خلق الله ولأجل ذلك اشتد النكير عليهم والوعيد بهم. ولكن مثل هذا الكلام هل يقبل عقلا.؟

هل هذا الرسام الذي يصمم صورة طائر أو حيوان أو إنسان على قطعة قماش أو وسادة أو لباس يعتبر متحديا لله وتدخل في أخص خصائصه وهي الخلق..؟

وبالطبع مثل هذا التصور فيه سذاجة بالغة واستخفاف كبير بالعقل وبالرسول الذي يروي مثل هذه الروايات..؟

إن العقل يقول إن الرسول (ص) لا يمكن أن يروي مثل هذه الروايات وأن هذه السذاجة والسطحية هي من صنع الرواة.

وإذا ما سلمنا أن هذا هو حال التصوير في زمن الرسول (ص) وأن هناك صلة وثيقة بينه وبين العبادات الشركية السائدة آنذاك. فهل هذا هو حال التصوير والصور اليوم..؟

____________

(1) مسلم هامش باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة. كتاب اللباس والزينة.


الصفحة 171
إن الصور اليوم أصبحت ركيزة أساسية في المدينة المعاصرة. فهي دخلت في صناعة (السينما) وأدوات كشف الجريمة ونشرات الأخبار ووسائل الاتصال المختلفة ونشر العلوم.. الخ.

والاستغناء عن ذلك كله فيه مفسدة عظيمة ليس فقط للناس وللمدينة ولكن للإسلام ذاته الذي سوف يعجز عن مواكبة العصر وينزوي في ركن مظلم من أركانه..

وإذا كان فقهاء الماضي قد وقفوا هذا الموقف المتشدد من الصور وحرموها تحريما مطلقا وهي صور جامدة فكيف الحال بها اليوم وقد تحركت ونطقت وصنعت الأعاجيب أليس ذلك هو الأولى بالتحريم لأن الصور بهذه الحالة تكون قد اقتربت أكثر من عملية الخلق ومضاهاة صنع الله..؟

وبالطبع لو قدر لفقهاء ذلك الزمان أن يروي ما وصل إليه حال الصور اليوم لرفعوا راية التكفير وأعلنوا الجهاد ضد المصورين..

إلا أننا أمام مثل هذه الروايات مخيرون بين ثلاثة خيارات:

إما أن نرفضها كلية لعدم موافقتها للقرآن والعقل..

وإما أن نقرها وبالتالي يتهم الإسلام بالتخلف والرجعية..

وإما أن نحملها على مدلول آخر غير ما توحي به ظاهرها..

والخيار الثاني اختارته التيارات الإسلامية المتشددة ورأسها التيار الوهابي الحنبلي..

والخيار الثالث تبناه الفقهاء العصر فأباحوا الصور الفوتوغرافية واختلفوا في الصور اليدوية (الرسم) فبعضهم أباحها وبعضهم حرمها في كل ذي روح أي رسم الحيوانات والطيور والإنسان وخلافه. كما اختلفوا أيضا في التماثيل بين الحظر والإباحة..

ونحن نختار الخيار الأول باعتبار أن هذه الروايات لا تخرج عن كونها رد فعل لظروف زمنية وواقع لا صلة لنا به..


الصفحة 172
وفيما يتعلق بالغناء والموسيقى يروون أن الرسول (ص) قال: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف " (1)..

ويفسرون قوله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث..) على لسان بعض الصحابة مثل ابن مسعود وابن عمر أن لهو الحديث هو الغناء (2)..

ويقول الفقهاء إن مذهب مالك ينهى عن الغناء ويعتبره من فعل الفساق.

وينقل عن مالك قوله: إذا اشتريت جارية ووجدتها مغنية كان لك ردها بالعيب.

وكان أبو حنيفة يكره الغناء مع إباحته للنبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة والمدينة. وقال الشافعي: الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.. وبذلك أفتى أحمد بن حنبل (3)..

ونقل القرطبي عن بعضهم قوله: لا تقبل شهادة المغني والرقاص. قلت - أي القرطبي -: وإذ ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز (4)..

وينقل عنهم اتفاق أهل العلم على المنع من إجارة الغناء والنوح وإبطال المغنية والنائحة كره الشعبي والنخعي ومالك (5)..

وينقل عنهم عدم جواز قطع يد السارق لآلات اللهو لكونه متفق على تحريم اتخاذها (6)..

وقد حشدت كتب السنن الكثير من الروايات المنسوبة للرسول (ص) والتي تنهى عن الغناء. إلا أن هذه الروايات جميعها لا ترقى إلى مستوى الصحة بشهادة فقهاء الحديث أو حسب قول واحد من المعاصرين: وأما ما ورد فيه - أي في

____________

(1) البخاري باب ما جاء في من يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه.

(2) الآية في سورة لقمان رقم 6. أنظر تفسير الطبري والقرطبي والدر المنثور..

(3) أنظر القرطبي ح‍ / 14. وانظر كتب الفقه.

(4) المرجع السابق..

(5) أنظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية ح‍ 30 / 215..

(6) أنظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى..


الصفحة 173
الغناء والموسيقى من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث عن طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه (1)..

إلا أنه رغم هذه الروايات وهذا الموقف المتشدد تجاه الغناء والموسيقى من قبل أصحاب المذاهب الأربعة. فإن هناك من الفقهاء من شذ عن هذا الموقف وأفتى بإباحة الغناء والموسيقى وعلى رأس هؤلاء الغزالي وابن حزم..

ويعود هذا الموقف من قبل الغزالي وابن حزم وغيرهما إلى وجود عدد من الروايات التي تشير إلى إباحة الغناء والموسيقى..

ومن هذه الروايات رواية عائشة: أن أبا بكر دخل عليها والنبي عندها يوم فطر أو يوم أضحى - أي في عيد الفطر أو عيد أضحى - وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث. فقال أبو بكر: مزمار الشيطان؟ مرتين. فقال النبي (ص): " دعهما يا أبا بكر. إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم " (2)..

ويروى عن عائشة أيضا قالت: رأيت النبي (ص) يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد. فزجرهم عمر. فقال النبي: " دعهم ". آمنا بني أرفدة. وأنا جارية. فاقدروا قدر جارية الحديثة السن. حريصة على اللهو (3)..

ويروى: جاء النبي (ص) فدخل حين بنى على - أي حين تزوجت الراوية - فجلس على فراش فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويضربن من قتل آبائي يوم بدر. إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال (ص): " دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين " (4)..

____________

(1) الحلال والحرام ليوسف القرضاوي..

(2) البخاري. كتاب مناقب الأنصار. باب مقدمة النبي وأصحابه المدينة.. وانظر كتاب العيدين..

(3) المرجع السابق. كتاب المناقب باب قصة الحبشة. وانظر كتاب العيدين وكتاب الصلاة..

(4) المرجع السابق. كتاب النكاح. باب ضرب الدف والوليمة.. وانظر كتاب الفضائل..


الصفحة 174
ويروى عن عائشة قالت: إنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار. فقال النبي (ص) " يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو " (1)..

ويروى أن عائشة أنكحت ذات قرابة لها من الأنصار. فجاء الرسول (ص) فقال: " أهديتم الفتاة "؟ قالوا: نعم. قال: " أرسلتم معهما من يغني "؟ قالت: لا.

فقال الرسول: " إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معهما من يقول: أتيناكم.

أتيناكم. فحيانا وحياكم " (2)..

وهذه الروايات تقودنا إلى ما أشرنا إليه سابقا من مسألة التناقض في الروايات المنسوبة للرسول. وأن هذا التناقض يقود إلى الشك فيها ويضع المسلم في موقف الحيرة كما هو حال الفقهاء الذين تضاربت اجتهاداتهم نتيجة لتضارب هذه الرويات. وإن كان أكثر الفقهاء قد أقاموا بإزالة هذا التناقض عن طريق التأويل والتبرير وادعاء النسخ وغير ذلك..

وكان فقهاء التحريم بموقفهم هذا يريدون تحريم الغناء لذاته وهذا موقف ضد الفطرة والعقل. إذ أن الغناء أمر مواكب لمسيرة الإنسان في كل زمان ومكان كل يغني بطريقته وبما يلائم عصره وظروفه ومتطلباته..

وقد كان الغناء عادة موجودة عند العرب وعندما جاء الإسلام أقرها وقام بتهذيبها وفق معطيات جديدة.

ويروى أن الصحابة كانوا يتغنون بالقرآن (3)..

وكان الغناء منتشرا في المدينة بين الرجال والنساء في عهد الرسول..

وإذا كانت هناك بعض المنكرات التي ارتبطت بالغناء والموسيقى في عصر ما بعد الرسول (ص) فإن هذا لا يدعو إلى تحريم الغناء وإنما يدعو إلى تصفية هذه المنكرات وإعادة الصورة النقية الخالية من الشوائب له..

____________

(1) المرجع السابق كتاب النكاح. باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها..

(2) أنظر ابن ماجة باب إعلان النكاح والغناء والدف..

(3) يروى ابن ماجة باب في حسن الصوت بالقرآن قول الرسول (ص) عن القرآن: " تغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا ".. وانظر البخاري كتاب فضل القرآن. باب من لم يتغن بالقرآن. وانظر فتح الباري ح‍ 9..