وعلى أي أساس سوف يتم هذا الاختيار؟
أما فيما يتعلق بموضوع الرواية فهو أمر مناف للعقل ويصطدم بعصمة النبي التي هي في الأساس مسألة معنوية لا مادية كما تحاول تأكيد ذلك الروايات..
إن مثل هذه الروايات تشبه إلى حد كبير تلك الروايات المنتشرة في التوراة والإنجيل حول الأنبياء والأحبار والرهبان ومن جهة أخرى فإن هذه الروايات تحاول تأكيد فكرة جهل الرسول وافتقاده الرصيد العلمي قبل البعثة وحتى بعدها..
وبدلا من أن يعمل الفقهاء عقولهم في هذه الروايات والنظر في أمر قبولها قاموا بإخضاع النص القرآني لهذه الروايات. بتفسير قوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) على ضوء هذه الروايات (1)..
- عمر والرسول:
إن قمة تجهيل الرسول (ص) وامتهانه تتجلى لنا في تلك الروايات التي يتداولها القوم والتي يطلقون عليها موافقات عمر أي موافقته للوحي..
يروى عن عبد الله بن عمر قال: قال أبيه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم. وفي الحجاب. وفي أساري بدر (2)..
وفي رواية أخرى: وافقت ربي في ثلاث. فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى. فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وآية الحجاب.
قلت: يا رسول الله: لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر.
فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي (ص) في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن. فنزلت هذه الآية (3)..
ويروى عن ابن عمر قال: لما توفى عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد
____________
(1) أنظر تفسير ابن كثير والآلوسي والخازن وغيرهم..
(2) مسلم. كتاب فضائل الصحابة..
(3) البخاري. كتاب الصلاة..
فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه. فقال رسول الله:
" إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين ". قال عمر: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله وأنزل الله عز وجل (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) (1)..
قال الفقهاء: قوله وافقت ربي. قال الطيبي ما أحسن هذه العبارة وما ألطفها حيث راعى الأدب الحسن ولم يقل وافقني ربي مع أن الآيات إنما أنزلت موافقة لرأيه واجتهاده. ولعله أشار بقوله هذا أن فعله حادث لا حق وقضاء ربه قديم سابق.
وقال ابن حجر العسقلاني: ليس في تخصيص الثلاث ما ينفي الزيادة لأنه حصلت له الموافقة في أشياء من مشهورها قصة أساري بدر وقصة الصلاة على المنافقين وأكثر ما وفقنا منها بالتعيين خمسة عشر. قال صاحب الرياض: منها تسع لفظيات وأربع معنويات واثنتان في التورية (2)..
ويقول: والمعني وافقني ربي فأنزل القرآن علي وفق ما رأيت. ولكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه (3)..
وقال السيوطي: قد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين. أي عشرين موافقه.
ونقل عن مجاهد قوله: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.
وعن ابن عمر قوله: ما قال الناس في شئ وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر. وفي تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تحريمها. وفي نزول قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من
____________
(1) مسلم كتاب الصحابة. والبخاري كتاب التفسير..
(2) مسلم. هامش باب فضل عمر..
(3) فتح الباري ح 8.
فقال عمر: إلا من حاسب نفسه. قال كعب: والذي نفسي بيده أنها لفي التوراة لتابعتها. فخر عمر ساجدا. ونقل أن بلالا كان يقول إذا أذن: أشهد أن لا إله إلا الله حي على الصلاة. فقال عمر: قل في أثرها: أشهد أن محمد رسول الله. فقال رسول الله (ص): قل كما قال عمر (1)..
ونقل الترمذي عن ابن عمر قوله: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه. وقال فيه عمر إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر (2)..
ونقل ابن حجر الهيثمي لعمر سبعة عشر موافقة للكتاب والسنة والتوراة (3)..
إن أدنى تفكر في هذه النصوص يقودنا إلى الحكم ببطلانها وضلال معتنقيها فإن تبني مثل هذه الروايات يحط من قدر الرسول ويشكك في دوره كما يشكك في الوحي ويدخله في دائرة البعث.
وإن تبني الفقهاء لمثل هذه الروايات يكشف لنا مدى حجم الجريمة الشنعاء التي ارتكبوها في حق الرسول (ص). وهو ما يتضح بجلاء عند مناقشة هذه الروايات وتبين نتائجها ومدلولاتها..
وأول ما تؤكده هذه الروايات هو مشاركة عمر للرسول في أمر الوحي وهذا ضلال بعيد. وهو كفر لا محالة. إذ أن الرسول هو المختار من قبل الله تعالى وهو الملهم والمسدد وفوق هذا هو مبلغ ومبين ولا يعلم الغيب ولا يتنبأ إلا وفق ما يوحى إليه. هذه هي صورة الرسول كما يرسمها القرآن. أما هذه الروايات فترسم لعمر صورة أخرى فوق صورة الرسول فهي تؤكد جهل الرسول وإهماله شؤون الدين وتنبه عمر لذلك ثم موافقة الوحي ونزوله مناصرا لرأي عمر.
____________
(1) تاريخ الخلفاء. ترجمة عمر. فصل موافقات عمر..
(2) فتح الباري ح 1.
(3) الصواعق المحقة في الرد على أهل البدع والزندقة. فصل خلافة عمر.
وثاني نتيجة تظهر لنا من خلال هذه الروايات هي تخبط الرواة وتناقضهم.
فتارة ينسبون لعمر ثلاث موافقات هي ما يتعلق بمقام إبراهيم وما يتعلق بالحجاب وما يتعلق بأساري بدر..
وتارة ينسبون إليه ما يتعلق بطلاق نسوة النبي بدلا مما يتعلق بأساري بدر.
وينسبون إليه قصة الصلاة على زعيم المنافقين وغير هذه الموافقات الأربعة هي محل خلاف بين المحدثين والفقهاء وإجماعهم هو على هذه الأربعة لكونها رويت في البخاري ومسلم أما بقية الموافقات فرويت في كتب السنن الأخرى التي أجاز القوم الخوض في رواياتها..
ولقد حكم السيوطي وابن حجر الهيثمي بضعف رواية موافقة عمر للآذان التي تنسب إليه إضافة محمد رسول الله في الآذان. ومع ذلك استدلا بها واعتمدا عليها في البرهنة على موافقاته (1)..
وإذا كان الفقهاء يشككون في مثل هذه الروايات التي تسند إلى عمر هذه الموافقات فكيف لهم أن يسندوا إليه موافقته للتوراة. هل يعني هذا أن التوراة مصدرا موثوقا عندهم..؟
أم أن الرواية من الإسرائيليات..؟
وما الذي يجعل عمر يخر ساجدا لله لما وجد قوله موافقا لنص التوراة؟
هل التوراة محل صدق لديه؟
أم لم تعد موافقاته للقرآن تكفيه..؟
والرواة لم يتحفونا برواية تثبت لنا سجود عمر لله حين نزل القرآن موافقا لرأيه. فقط أتحفونا بسجوده لموافقة التوراة له..
____________
(1) أنظر تاريخ الخلفاء والصواعق المحرقة..
وليتأمل القارئ قول عمر للرسول (ص): " لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر..؟
هل هذه لغة يخاطب بها الرسول؟
ألا يعني هذا الكلام مساسا ببيت النبي ونساءه..؟
لنترك الروايات تتحدث..
يروى عن عائشة قولها: إن أزواج النبي (ص) كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح. وكان عمر يقول لرسول الله: أحجب نساءك فلم يكن رسول الله يفعل. فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاءا وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا فقد عرفناك يا سودة. حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة: فأنزل الله الحجاب (1)..
وفي رواية أخرى: والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فرجعت سودة وأخبرت النبي بقول عمر (2)..
قال ابن حجر: والحاصل أن عمر وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له (ص) أحجب نساءك؟ وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب (3)..
وقال القسطلاني: فيه - أي في هذه الرواية - منقبة عظيمة ظاهرة لعمر. وفيه تنبيه أهل الفضل والكبار على مصالحهم ونصيحتهم وتكرار ذلك (4)..
ومن خلال هذه الرواية وأقوال الفقهاء حولها يتضح لنا مدى مهانة الرسول في نظر القوم. وبدا وكان عمر أهم من الرسول..
____________
(1) مسلم. كتاب الإسلام.
(2) المرجع السابق..
(3) فتح الباري ح 8.
(4) مسلم. كتاب السلام. باب إباحة الخروج للنساء..
والرواية من جانب آخر تحط من قدر الرسول وتصور مر كموجه له يذكر بإهماله نساءه وترك الحبل لهن على الغارب بينما الرسول لا يعبأ بنصحه وجاء الفقهاء بتأويلاتهم وتبريراتهم ليؤكدوا هذا السلوك المشين من قبل عمر ويؤكدوا مهانة الرسول وجهله وإهماله وتفوق عمر عليه الذي لاحظ نظرات الأجانب لنساء النبي ورصد حركاتهن من قبلهم فنفر قلبه من ذلك بينما الرسول لم يحرك ساكنا..
فهل بعد هذا كله يصح أن يقال إن هذا السلوك من قبل عمر يعد منقبة عظيمة له..؟
وأن يستنبط من هذا السلوك منهج لدعوة الكبار وأهل الفضل ونصحهم..؟
أما موافقة عمر لمسألة الصلاة على عبد الله بن أبي بن سلوك فهي تقودنا إلى نتائج أدهى وأمر وأهم ما نخرج به من هذه القصة هو زيادة اليقين ببطلان مثل تلك الروايات..
إن رواية صلاة الرسول (ص) على ابن سلول وموقف عمر تنطق بالوضع فهي تصرح بالنهي عن الصلاة على المنافقين على لسان عمر من قبل أن ينزل نص التحريم..
فمن أين علم عمر بأمر النهي..؟
هل كان عمر يعلم الغيب. أم هو على اتصال بالوحي (1)..؟
وهذه النتيجة في ذاتها كافية لضرب الرواية بل روايات موافقات عمر. بل عمر ذاته. فالدخول في تفاصيلها ينسفه نسفا. إذ أن جذبه الرسول من ثوبه هذه وحدها طامة كبرى. ومجادلته الرسول أشد نكالا.. هذا بخصوص عمر..
____________
(1) قال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الالهام. أنظر فتح الباري ح 8 / 269..
فهل هناك جريمة ترتكب في حق الرسول أكثر من هذه؟
وإذا كان القرآن ينص على قوله تعالى: (.. ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)..
فهل يحق للرسول أن يخالف القرآن؟
والإجابة لا بالطبع. لكن القوم عكسوا الآية. فبدلا من أن يؤكدوا أنها نزلت لتحذر الرسول من الصلاة على المنافقين وتنهاه عن ذلك. قالوا إنها نزلت موافقة لرأي عمر ضد الرسول المصر على الصلاة ومخالفة النص..
إن الفقهاء يريدون التأكيد على أن الرسول (ص) خالف القرآن وتجاوز حدود النص وأن النابه عمر تصدى له. وأن الوحي ناصر عمر ضد الرسول. فأي ضلال بعد هذا..
وكان أجدر بالفقهاء أن يقولوا إن النص القرآني نزل قبل أن يقوم الرسول بأي خطوة عملية تجاه المتوفى ابن سلول وذلك من باب الدفاع عن الرسول.
لكنها عبادة الرجال..
وقد نقل ابن حجر العسقلاني كلام للباقلاني والجويني برفض رواية صلاة الرسول على ابن سلول وموقف عمر (1)..
وينسب الرواة إلى الرسول (ص) الكثير من الأمور المشينة في مجالات الحياة المختلفة والتي لا تتركز حول قضية الجهل وحدها وإنما تشمل قضايا أخرى محصلتها النهائية الحط من قدر الرسول والتشكيك في شخصه وقدراته..
ومن هذه الروايات:
عن عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي (ص) فقالت يا رسول الله
____________
(1) المرجع السابق..
فتبسم الرسول وقال: " قد علمت أنه رجل كبير " (1)..
وعنها قالت: كان رسول الله (ص) مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله وسوى ثيابه..
فتحدث فلما خرج قالت عائشة. دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله. ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله. ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك. فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة (2)..
ويروى أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى الرسول (ص) فقال: يا محمد.
إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع. وسائر الخلائق لي إصبع. فيقول: أنا الملك.
فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر (3)..
ويروى: سئل رسول الله (ص) عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرا؟ فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " (4)..
ويروى أن الرسول (ص) لقي زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن ينزل عليه الوحي فقدم رسول الله سفرة فيها لحم. فأبى أن يأكل. ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه (5)..
ويروى: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما فخرج إلينا رسول الله (ص)
____________
(1) مسلم. كتاب الرضاع. باب رضاعة الكبير..
(2) مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب فضائل عثمان..
(3) مسلم كتاب صفات المنافقين. والبخاري كتاب التفسير..
(4) مسلم كتاب القدر..
(5) البخاري كتاب الذبائح..
ويروى عن عائشة قالت: دخل على رسول الله (ص) رجلان فكلماه بشئ لا أدري ما هو؟ فأغضباه. فلعنهما وسبهما (2)..
ويروى عن الرسول قوله: " إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين سببته أو شتمته أن يكون ذلك له زكاة وخير " (3)..
وفي رواية أخرى: " أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته " (4)..
ويروى عن عائشة: أن النبي (ص) مر بقوم يلقحون. فقال: " لو لم تفعلوا لصلح " فخرج شيصا. فمر بهم. فقال: ما لنخلكم. قالوا: قلت كذا وكذا. قال:
أنتم أعلم بأمر دنياكم (5)..
وفي رواية أخرى: مر رسول الله (ص) بقوم على رؤوس النخل. فقال: " ما يصنع هؤلاء "؟ فقالوا يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله:
" ما أظن يعني ذلك شيئا ". فأخبر بذلك فتركوه. فنفضت (أي فسدت) فأخبر الرسول بذلك. فقال: " إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل " (6)..
وفي رواية: " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوه به وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر " (7)..
ويروى عن عائشة قالت: لا دنا رسول الله (ص) في مرضه. فأشار أن لا
____________
(1) مسلم كتاب الصلاة. والبخاري كتاب الغسل.
(2) مسلم كتاب البر والصلة..
(3) مسلم كتاب البر والصلة والآداب. والبخاري كتاب الدعوات..
(4) المرجعين السابقين..
(5) مسلم. كتاب الفضائل..
(6) المرجع السابق..
(7) المرجع السابق..
ويروى عن عائشة قولها: سمع النبي (ص) قارئا يقرأ من الليل في المسجد. فقال: " يرحمه الله. لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا " (2)..
وفي رواية: " لقد أذكرني آية كنت أنسيتها " (3)..
ويروى: أتى النبي (ص) سباطة قوم خلف حائط فبال قائما (4)..
ويروى عن عائشة قالت: سحر رسول الله (ص) حتى أنه يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما فعله (5)..
وفي رواية أخرى: سحر رسول الله (ص) حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن (6)..
ويروى: أن الرسول كان ينقل الحجارة للكعبة وعليه إزاره. فقال له العباسي: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة. فحله فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه. فما رئي عريانا بعد ذلك اليوم (7)..
ويروى عن الرسول (ص) قوله: " إنما أنا بشر. وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فاقضي له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها " (8)..
ويروى أن يهودية أتت النبي (ص) بشاة مسمومة فأكل منها. فجئ بها.
____________
(1) البخاري كتاب الطب وكتاب الديات وكتاب النبي إلى كسرى ومسلم كتاب السلام..
(2) مسلم كتاب صلاة المسافرين. باب فضل القرآن..
(3) المرجع السابق..
(4) مسلم والبخاري كتاب الوضوء..
(5) البخاري كتاب بدء الخلق. ومسلم كتاب الطب..
(6) المرجعين السابقين..
(7) مسلم كتاب الطهارة باب الاعتناء بحفظ العورة..
(8) مسلم كتاب الأقضية. والبخاري كتاب المظالم..
ويروى عن عمر قوله: قال الرسول (ص) " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " (2)..
هذه هي نصوص الروايات التي ينسبها الرواة إلى الرسول (ص) وهي على ما يبدو من ظاهرها يدور معظمها في محيط تجهيل الرسول..
وسوف نعرض أولا لأقوال الفقهاء حول هذه الروايات ثم نبدي ملاحظاتنا بعدها.
قال القاضي بالنسبة لرضاعة الكبير: قوله (ص) " ارضعيه ". لعلها حلبته ثم شربه من غير أنه يمس ثديها ولا انتقت بشرتاهما (3)..
وقال النووي: وهذا الذي قاله القاضي حسن (4)..
والذي نقوله نحن أن هذه الرواية هراء وتبرير الفقهاء لها أكثر من هراء. إذ أن العلوم شرعا أن حرمة الرضاع إنما تنبني على سني الرضاعة وهما حولين كاملين أي السنة الأولى والثانية من عمر المولود بعد ذلك لا عبرة برضاعة من أي ثدي لأن اللبن لن يكون له دور في تكوينه. فهل كان الرسول يجهل هذه الحقيقة.
أم كان يمزح مع السائلة.. ومثل هذه الأمور محل للمزاح؟
إن الإجابة علي هذه التساؤلات هي أن هذه الرواية لا تخرج عن كونها لهو مصطنع على لسان أصحاب الأهواء والأغراض من الحكام وغيرهم ونسبوها إلى الرسول ويكفي القول إن أم سلمة وسائر أزواج النبي (ص) رفضن أن يدخل عليهن أحد بتلك الرضاعة عدا عائشة..
____________
(1) البخاري كتاب الهبة. ومسلم كتاب السلام..
(2) مسلم والبخاري كتاب الجنائز..
(3) مسلم. هامش باب رضاعة الكبير..
(4) المرجع السابق..
ومثل هذا الموقف من قبل نساء النبي إنما يعكس عدم الرضا عن هذا الأمر وعدم قناعتهن به. وهو يشير من جهة أخرى إلى الشك في الرواية. إذ لو كانت صحيحة ثابتة عن الرسول ما اعترض عليها نسوته..
أما الرواية الثانية الخاصة بعثمان فقد قال الفقهاء فيها: قولها - أي عائشة - كاشفا عن فخذيه أو ساقيه. قال النووي هذا مما يحتج به المالكية وغيرهم ممن ليست الفخذ عورة. ولا حجة فيه لأنه مشكوك (أي شك الراوي) في المكشوف هل هو الساقان أم الفخذان فلا يلزم منه الجزم بجواز كشف الفخذ..
ويجوز أن يكون المراد بكشف الفخذ كشفه عما عليه من القميص لا من المتزر وهو الظاهر من أحواله (ص). والحديث فيه فضيلة ظاهرة لعثمان وجلالته عند الملائكة (2)..
هذا هو ما يعني الفقهاء من مثل هذه الروايات أن يسارعوا لاستنباط الأحكام الفقهية منها ثم يحتج بعضهم البعض على الآخر بما استنبطه منها..
ولا يعنيهم أن هذه الرواية تعري الرسول وتنافي الذوق والأعراف والتقاليد وإنما يعنيهم أن يشتقوا منها فضيلة لعثمان..
إن أقل ما يمكن أن تشير إليه هذه الرواية هو علو عثمان على أبي بكر وعمر الذي لم يبدي لهما الرسول أي احترام عند دخولهما عليه وأبدى الاحترام كله لعثمان وهو ما لفت نظر عائشة. وهذا العلو الذي جاء على حساب النبي (ص) جاء علي حساب أبي بكر وعمر أيضا. وهو ما يقع القوم في تناقض إذ أن عقيدة الفقهاء تنص على تقديم أبي بكر وعمر على عثمان..
____________
(1) مسلم. باب رضاعة الكبير..
(2) مسلم. هامش كتاب الفضائل. باب من فضائل عثمان..
وقوله إن الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة إلى قوله ثم يهزهن. هذا من أحاديث الصفات وفيها مذهبان التأويل والامساك عنه مع الإيمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد. فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل (1)..
لقد نسي الفقهاء هدف الرواية بل نسوا أن الحبر هو القائل والرسول هو المتلقي والمؤكد لقول الحبر. هذا إذا أخذنا الأمر على المحمل الحسن. وبالطبع مقل هذا التصور لا يجوز في حق النبي (ص) فالرواية على ما هو واضح من نصها تؤكد فكرة التجسيم وهو ما نبرا الرسول منه. وكان يجب على الفقهاء أن يشككوا في هذه الرواية لكونها جاءت على لسان أحد أحبار اليهود ولم تأتي على لسان الرسول. وإن تصديقها يعني تصديق التوراة التي يتكلم هذا الحبر بلسانها..
وهل يقبل أن يتحول الرسول المبعوث إلى متلقي من أحبار اليهود وفي مسألة تتعلق بصفات الله تعالى؟
أليس هذا الموقف يعني تشكيكا في شخصه وفي رسالته..؟
والرواية الرابعة التي تتحدث عن أطفال المشركين وعدم جزم الرسول (ص) بالحكم في مستقبلهم الجنة أم النار؟ بقوله " الله أعلم بما كانوا يعملون ".
يقول فيها الفقهاء: وحقيقة لفظه الله أعلم بما كانوا يعلمون لو بلغوا أو لم يبلغوا إذا التكليف لا يكون إلا في البلوغ (2)..
وقول الفقهاء هذا فيه تضليل وغفلة إذ أن الرواية تتحدث عن أطفال المشركين الذين يموتون صغارا قبل البلوغ لا الذين هم على قيد الحياة. وهم الذين لم يقطع فيهم الرسول بحكم حسب نص الرواية.
____________
(1) مسلم. هامش كتاب صفة القيامة والجنة والنار..
(2) مسلم. هامش كتاب القدر..
إما أن نحكم بجهله وهذا لا يصح في حقه (ص)..
وإما أن نحكم ببطلان الرواية. وهو ما يجب اختياره بلا شك إذ أنه لا يعقل أن يصدر مثل هذا الحكم من الرسول الذي يتابعه الوحي..
أما رواية أكل الرسول (ص) مما ذبح على النصب فهي من سفه القوم وضلال عقولهم إذ يربطونها بمرحلة ما قبل البعثة أي مرحلة ما قبل العصمة. وإذا صح هذا التصور فعلى أي أساس اختير الرسول لتبليغ الرسالة وهناك من هو أكفأ وأعلم منه بالتوحيد والشرك وهو زيد بن عمرو بن نفيل..؟
لقد أباح القوم لأنفسهم الخوض في شخص الرسول على أساس أنهم يخوضون في جانبه غير المعصوم. وعلى هذا الأساس قبلوا مثل هذه الروايات وباركوها وهم لا يشعرون أن هذا التقسيم غير المبرر لشخص الرسول يلحق أكبر الضرر به وبالرسالة التي جاء بها..
والقوم يروون الرواية بصيغة أخرى تجمع بين الرسول (ص) وبين أبي سفيان على مائدة واحدة تحوي ما ذبح على النصب ومر عليهما زيد بن عمرو فدعواه إلى الغداء فقال يا ابن أخي إني لا آكل مما ذبح على النصب. قال الراوي وهو أبو هريرة: فما رئي الرسول من يومه ذاك يأكل مما ذبح على النصب حتى بعث (1)..
كيف تستقيم مثل هذه الروايات مع كون أن الرسول لم يسجد لصنم وكان يتعبد في غار حراء قبل بعثته..؟
هل مثل هذا الموقف يدل على علم..؟
والرواية السادسة التي تتحدث عن الرسول وقد دخل الصلاة وهو جنب فهي من شر البلية وزيادة الطين بلة. وهو أمر ليس بالغريب على قوم ينسبون لرسولهم نسيان القرآن الذي جاء به..
____________
(1) البخاري كتاب الذبائح. ومسند أحمد ج 1 / 189..
هذا على فرض التسليم بصحتها. أما وأنها رواية لا تصح عقلا ولا شرعا.
فالرسول نهارا مشغول بالدعوة وأمور المسلمين وليلا هو يتهجد. فمتى وقع هذا الحدث؟
هذا كلام أصحاب العقول..
أما الفقهاء فيقولون: ومما يستفاد من هذا الحديث جواز النسيان على الأنبياء (ص) في أمر العبادة والتشريع (1)..
وإذا كان الأنبياء ينسون أمر العبادة والتشريع فماذا يتذكرون إذن؟
ويتمادى القوم في مهانة الرسول والطعن في شخصه الكريم بنسبة السب والشتم والجلد إليه (ص) وهو أمر يتنافى مع خلقه العظيم ويصوره كملك طاغ يستبد بالرعية ويجور عليها. غير أن الفارق بين الرسول وبين الملك هو أن الرسول يتراجع ويطلب الصف داعيا الله أن يكون هذا التعدي على العباد من قبله زكاة وخيرا للمتعدي عليه عند الله سبحانه..
يقول الفقهاء: هذه الروايات كلها مبينة ما كان عليه (ص) من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم. وإنما يكون دعاؤه - أي الرسول - عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلما وإلا فقد دعا (ص) على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة (2)..
لقد اعتبر الفقهاء السب واللعن والجلد مصلحة وعناية بالأمة وكفارة ورحمة
____________
(1) عمدة القاري شرح البخاري ح 5 / 156..
(2) مسلم. هامش باب من لعنه النبي أو سبه أو دعا عليه. كتاب البر والصلة..
مثل هذا السؤال لا يوجه إلى قوم يعتبرون مثل هذه الروايات سندا في تبرير مواقف الحكام وظلمهم للرعية.. وقد جعلوا من دعوة الرسول إلى معاوية منقبة له وبركة حين قال فيه: " لا أشبع الله له بطنا "..
لنترك روايات القوم تدينهم وتثبت تناقضهم..
يروى عن الرسول (ص) قوله: " إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة " (1)..
ويروى عنه (ص): " لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا " (2)..
ويروى عنه (ص) " لا يكون اللعانون شفاء ولا شهداء يوم القيامة " (3)..
ويروى عنه (ص): " من يحرم الرفق يحرم الخير " (4)..
ويروى عنه (ص): " النهي عن لعن الدواب " (5)..
ويروى: " لم يكن النبي (ص) فاحشا ولا متفحشا " (6)..
ومثل هذه الروايات إنما تنسف الروايات السابقة. ومن جهة أخرى هي تنسجم مع نصوص القرآن وخلق الرسول..
وعن روايات النخل يقول الفقهاء: قوله (ص) " إنما أنا بشر " هذا كله اعتذار لمن ضعف عقله خوف أن يزله الشيطان فيكذب النبي. وإلا فلم يقع منه ما يحتاج إلى عذر غاية ما جرى أنها مصلحة دنيوية لقوم خاصين من يعرفها لمن يباشرها.
وقال القاضي: " قوله (ص) " وإذا أمرتكم بشئ من رأي " يعني برأيه في أمر
____________
(1) مسلم. كتاب البر والصلة..
(2) المرجع السابق..
(3) المرجع السابق..
(4) المرجع السابق..
(5) المرجع السابق..
(6) البخاري كتاب الأدب..
ومثل هذا التبرير من قبل الفقهاء أحرج الرسول زيادة على الحرج الذي وضعته في الرواية. فهو تبرير يقوم على أساس الجانب غير المعصوم من شخصية الرسول حسبما يعتقدون فمن ثم فإن مقل هذا الموقف من الرسول لا حرج فيه من وجهة نظرهم للرسول أو للرسالة..
إلا أن بالتأمل في روايات تأبير النخل يتبين أن الأمر يختلف عن ذلك تماما وأن تبريرات الفقهاء لا تخرج عن كونها محاولة لتسطيح الأمر والتمويه على حقيقته ففي ظل فكرة بشرية الرسول (ص) تم تمرير الكثير من المواقف والممارسات التي تتعلق بالنساء وبالصحابة وبالاجتهاد على أنها مواقف وممارسات مقبولة لكونها تتعلق ببشرية الرسول لا بنبوته. وقد فات الفقهاء أن هذا التقسيم لشخص الرسول من شأنه أن ينعكس على الأحكام والرسالة بشكل عام لا على شخص الرسول فقط..
وفيما يتعلق بروايات تأبير النخل فإن الشك يحيط بها لما يلي:
أولا: أنها تشير إلى جهل الرسول بمسألة تلقيح النخل وهذا أمر غير مقبول عقلا. لأن الرسول من بيئة عربية تعيش على التمر واللبن ولا يعقل أن يكون فيها من لا يفقه في أمر النخل..
ثانيا: إننا إذا ما سلمنا بصحة الرواية ففضلا عن كونها تتهم الرسول بالجهل في أمر دنيوي بين. فهي تتهمه أيضا بالتطفل والتدخل فيما لا يعنيه وهو ما لا يجوز في حق نبي..
ثالثا: إن مثل هذا الموقف من النبي - على فرض التسليم بالرواية - من شأنه أن يفتح باب الشك في شخصه ودعوته. وهذا ما دفع بالفقهاء إلى ربط هذا
____________
(1) مسلم. هامش كتاب الفضائل. باب وجوب امتثال ما قاله شرعا..
رابعا: إن هذا الموقف من الرسول يصطدم بقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وما دمنا نقف في صف النص القرآني فإن هذا يدعونا للحكم ببطلان الرواية..
وحول رواية عائشة لددنا رسول الله قال الفقهاء: اللدود هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض ويسقاه أو يدخل هناك بإصبع أو غيره ويحنك به. وقوله: لا يبقى أحد منكم إلا لد. أي تأديبا لئلا يعودوا وتأديب الذين لم يباشروا ذلك لكونهم لم ينهوا الذين فعلوا بعد نهيه (ص) أن يلدوه..
وقال آخرون: النفي هنا بمعنى النهي إنما أمر النبي (ص) أن يلد من في البيت عقوبة لهم لأنهم لدوه بغير إذنه بل بعد نهيه عن ذلك بالإشارة وفيه دلالة على أن إشارة العاجز كتصريحه وعلى أن المتعدي يفعل به ما هو من جنس الفعل الذي تعدى به إلا أن يكون فعلا محرما (1)..
وكما عودنا الفقهاء دائما أنهم لا يأتون بجديد فجميع أقوالهم تدور في محيط التأويل والتبرير المنافي للعقل والمصادم للنص وليس له من هدف سوى تبرير الوضع السائد وإبقاء الأمة في دائرة عبادة الرجال..
ورواية عائشة هذه تتحدث عن فترة مرض الرسول الذي توفي فيه ذلك المرض الذي نتج عن المحاولة اليهودية لقتله بالسم كما ذكرت الروايات..
ومتابعة روايات مرض الرسول يكشف لنا أنه تعذب كثيرا (ص) قبل موته حتى ضاق بنفسه وبمن حوله. وهو هنا في هذه الرواية كره المرض والدواء وأشار برفضه ولما أعطوه الدواء رغما عنه غب وقرر الانتقام من الجميع بسقيهم من نفس الكاس الذي تجرعه.. فهل هذا كلام يجوز في حق الرسول؟
وهل من خلق الرسول (ص) الانتقام وممن من أهل بيته؟
____________
(1) مسلم. هامش باب كراهية التداوي باللدود كتاب السلام..
إن العقل يأبى أن يعذب الله رسوله هذا العذاب قبل موته بينما الكفار يموتون موتة هادئة ناعمة. وإذا كان الرسول هذا حاله قبل قبضه. فكيف يكون حال أفراد أمته حين يأتيهم الموت..؟
ولما كنا لم نسمع عن أحد من الصحابة تعذب عذاب الرسول قبل موته فدل هذا على أن الروايات مرض الرسول وتعذيبه لا أصل لها والهدف منها هو ضرب شخص الرسول وامتهانه وتصويره وكأنه يعذب بذنوبه وجرائمه مما يبرر للحكام من بعده استغلال مثل هذه الصورة لتبرير جرائمهم وانحرافاتهم (1)..
وتأتي بعد ذلك رواية نسيان الرسول (ص) للقرآن لتضرب القوم في مقتل إذ أنهم طالما يبررون مثل هذه الأفعال ويحملونها على بشرية الرسول. فعلى أي جانب يحمل نسيان الرسول للقرآن على جانبه البشري أم جانبه النبوي؟
فإذا حملوه على الجانب البشري فيكون بهذا القرآن من أمور الدنيا التي يجتهد فيها الرسول ويخطئ ويصيب حسب اعتقادهم أن الرسول مجتهد.. وتلك مصيبته.. وإذا حملوه على جانبه النبوي المعصوم فقد وقعوا في تناقض إذ كيف للمعصوم أن ينسي القرآن. وهنا تكون المصيبة أعظم..
وإذا كان الرسول ينسى القرآن الذي أنزل إليه وأمر بتبليغه وتبيينه للناس فأي شئ يمكنه تذكره بعد..؟
والعجيب أن القوم يتداولون من الروايات ما يناقض نسبة النسيان للرسول..
____________
(1) يروي القوم الكثير من الروايات عن مرض الرسول (ص) وموته منها:
قالت عائشة: إن النبي (ص) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت اقرأ عليه وامسح عنه بيده..
وتروي عائشة عن الرسول قوله في مرضه: " اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى "..
وتروي قول الرسول: " أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ".. (مسلم كتاب السلام).
ولم تخبرنا الروايات أن الله استجاب لدعاء رسوله. بل تركه يتعذب حتى مات..
وفي رواية أخرى: " استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها " (2)..
ويروى عنه: " إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المتعلقة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقتها ذهبت " (3)..
ولقد حسم القرآن المسألة بقوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى) فلم يعد هناك مجال لنسبة النسيان للرسول في القرآن لكون الرسول والقرآن في رعاية الله وحفظه وهو مضمون العصمة..
وفيما يتعلق ببول الرسول (ص) قائما فقد حشد القوم عشرات التبريرات لهذا السلوك الذي يتنافى مع أدب النبوة. فالبعض استمد منه حكما بجواز البول وافقا والبعض الآخر برره بوجع أصاب الرسول وحال دون جلوسه. والبعض قال: إنه لم يجد مكانا للجلوس. وآخرون باركوا هذا السلوك واعتبروه أحصن للفرج. وأي ما تكون هذه التبريرات فإنها تؤكد جميعها أن القول كارهون لهذا السلوك ويحاولون التماس العذر للرسول فيه (4)..
ويكفي لدحض هذه الرواية قول عائشة: من حدثك أن رسول الله (ص) بال قائما فلا تصدقه (5)..
وتبدو لنا قمة الاستخفاف بالعقل ومصادمة النصوص القرآنية في رواية سحر النبي (ص) وسيطرة السحر على سلوكه وعقله..
يقول الفقهاء: قولها - أي عائشة - سحر رسول الله (ص). فذهب أهل السنة
____________
(1) مسلم. كتاب صلاة المسافرين. باب فضائل القرآن..
(2) المرجع السابق..
(3) المرجع السابق..
(4) أنظر فتح الباري ح 1 / 263. والنووي شرح مسلم ح 3 / 165.. والسيوطي شرح النسائي ح 1 / 20. وإرشاد الساري ح 1 / 293 وح 4 / 265.. (5) سنن ابن ماجة ح 1 / 112
وليتأمل القارئ كيف جاري الفقهاء الرواية دون أن يعملوا عقولهم فيها وأولوها على أنها ترتبط بالجانب غير المعصوم من شخص النبي (ص) حسبما يعتقدون وهم لن يتحرروا من هذا الاعتقاد الباطل الذي لبس عليهم دينهم طالما ظلوا يدورون في فلك الرجال. تائهون بين الروايات المختلقة غارقون في كم من المتناقضات التي توجب النفرة منهم. وهم هنا يؤكدون أن السحر تسلط على جسده الشريف وليس على عقله وقلبه فكيف يكون هذا؟
أليس العقل والقلب جزء من الجسد..؟
وإذا كان السحر قد جعل الرسول يتخيل فعل الشئ ولا يفعله ألا يعني هذا أنه سيطر على العقل والقلب..؟
وما دام السحرة قد استطاعوا أن يسحروا الرسول إلى هذه الدرجة أفلا يستطيعون أن ينطقوا على لسانه ما يريدون لإثارة البلبلة والتشكيك في الوحي؟
ثم كيف يترك الرسول نهبا للسحر والسحرة وهو يدعو ويتحرك في ظل العناية الإلهية وتوجيه الوحي؟
هل غابة عنه العناية الإلهية وفقد عصمته فانتهز السحرة الفرصة وسحروه..؟
إننا في مواجهة هذه الرواية المنكرة يكفينا القول إن القوم هم المسحورون.. الذين غفلوا عن قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) (2)..
وما يمكن قوله حول حادثة تعري الرسول (ص) قبل البعثة وأثناء إعادة بناء
____________
(1) مسلم. هامش باب السحر. كتاب السلام..
(2) سورة المائدة آية رقم 67.. وانظر رأي الشيخ محمد عبده في تفسير المنار جزء عم..
ومثل هذه الرواية إنما تصم الرسول بالجهل والسفاهة حيث لم يعتني بلباسه ودخل في عمل شاق دون أن يحتاط لنفسه فكانت النتيجة إن سقط عنه لباسه وكشفت عورته..
ومن عجائب القوم أنهم يروون رواية أخرى على لسان الرسول (ص) تناقض هذه الرواية..
تقول الرواية: قال المسور بن مخرمة أقبلت بحجر أحمله ثقيل وعلي إزار خفيف فانحل إزاري ومعي الحجر لم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه.
فقال رسول الله: " إرجع إلى ربك فخذه وتمشوا عراة " (1)..
وعن رواية الخصومة والقضاء يقول الفقهاء: ومعناه أنه خطاب للمقتضي له أنه أعلم من نفسه هل هو محق أو مبطل. فإن كان محقا فليأخذ وإن كان مبطلا فليترك. وفيه من الفوائد إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطل حرام عليه. وفيه أن من احتال الأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم. وفيه أن المجتهد قد يخطئ فيرد به على من زعم أن كل مجتهد مصيب. وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر (2)..
ومثل هذا الكلام إنما ينطبق على القضاة والحكام لا على الرسول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. فهؤلاء القضاة والحكام هم الذين يمكن أن يخدعوا
____________
(1) مسلم. كتاب الطهارة. باب الاعتناء بحفظ العورة. وهو نفس الباب الذي يحوي الرواية السابقة..
(2) فتح الباري ح 13 / 148. كتاب الأحكام..