الصفحة 311

أما الرواية الثالثة فتكشف انحياز الرسول للمسلم ضد اليهودي في قضية سلوكية ترتبط بالأدب والأخلاق ولا صلة لها بأمر الاعتقاد. فهو لم يقتص لليهودي من المسلم وكل ما أظهرته الرواية هو أن الرسول زكى موسى (1)..

وهذه الروايات المتطرفة المتعلقة بأهل الكتاب إنما هي خاصة بمرحلة الرسول (ص) وما كان يقوم به اليهود من دور تآمري ضد الرسول والإسلام. أما اليوم فما هو ذنب الشعوب المستضعفة التي تدين بالمسيحية أو غيرها من الأديان؟

إن على المسلمين أن يدركوا أن نزعة العداء هذه يجب أن تتجه إلى الحكام لا إلى هذه الشعوب. فهذا العداء هو المقصود من النصوص القرآنية المتعلقة بأهل الكتاب التي تزدحم بها سورة التوبة وغيرها من سور القرآن..

أما نصوص الفقهاء التي تنادي بهدم الكنائس والبيع وغيرها من المعابد وإلزام أهل الكتاب بلباس خاص ومنعهم من إشهار شعائرهم إلى آخر تلك النصوص التي تكتظ بها كتب الفقه. فهذه النصوص جميعها لا تخرج عن كونها أقوال رجال نبعت من واقع لا صلة له بالإسلام وهو واقع تلك الدول الملكية المنحرفة وفي مقدمتها الدولة الأموية والدولة العباسية تلك الدول العنصرية التي كان هدفها هو جمع الأموال وكنز الذهب والفضة والنفائس عن طريق الجزية والخراج (2)..

ومثل هذه السياسة هي التي دفعت بعمر بن عبد العزير أن يصدر قرار بعدم الحيلولة دون دخول أهل الكتاب في الإسلام. وقد كان الحكام من قبله يحولون بينهم وبين ذلك مخافة أن يقل إيراد الدولة من الجزية والخراج - وقال قولته المشهورة: إن الله ابتعث محمد داعيا لا جابيا (3)..

إلا أنه بالتعمق في مواقف الرسول (ص) يتبين لنا أن تلك الصورة المتطرفة

____________

(1) أنظر شرح هذه الرواية في النووي كتاب الفضائل. وفتح الباري كتاب الخصومات.

(2) أنظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ومجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية. والمختصر للشافعي.

(3) أنظر سيرة عمر بن عبد العزيز في كتب التاريخ..


الصفحة 312
المنسوبة للرسول غير صحيحة إذ تصطدم بنصوص قرآنية صريحة كما تصطدم بمواقف واضحة للرسول من أهل الكتاب..

فالقرآن قد نص على جواز نكاح نساء أهل الكتاب. كما نص على جواز أكل ذبائحهم وهذا يعني الموافقة على قيام العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين وأهل الكتاب. والعلاقات تعني الاحتكاك الدائم والتواصل. فهل يمكن أن يتحقق ذلك في ظل المقاطعة التي تبشر بها الروايات...؟

يروى أن النبي (ص) مرت عليه جنازة يهودي فقام. فقيل له إنها جنازة يهودي؟ فقال: " أليست نفسا " (1)..

ويروى أنه دخل رهط من اليهود على النبي (ص) بحضور عائشة. فقالوا:

السام عليك يا محمد. فردت عائشة: عليكم السام واللعنة. فقال الرسول: " مهلا يا عائشة. فإن الله يخب الرفق في الأمر كله " (2)..

ويروى أن الرسول (ص) كلف الإمام علي لينام مكانه ليلة هجرته من مكة ويتولى رد الأمانات التي كانت بحوزة الرسول إلى أصحابها من المشركين (3)..

____________

(1) مسلم. كتاب الجنائز. باب القيام للجنازة.

(2) مسلم. كتاب السلام. باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.

(3) أنظر كتب السيرة..


الصفحة 313

الرسول والأنبياء



ما طال الرسول طال
بقية الرسل..



الصفحة 314

الصفحة 315
امتدت الروايات لتشمل الرسل والأنبياء (ع) الذين نالهم ما نال الرسول (ص) من طعن وتجريح وتشويه على ألسنة الرواة.

وهذا التعميم من قبل الرواة إنما يدعونا للشك في مصادر هذه الروايات التي توجد لها نظائر في الكتب القديمة مثل التوراة والإنجيل.

والملفت للنظر أن هذه الروايات جميعها رويت على لسان أبي هريرة الذي كان على صلة وثيقة بكعب الأحبار اليهودي الذي نسبه للإسلام الرواة.

والملفت أيضا أن الذين صنفوا كتب الروايات وضعوا هذه الروايات التي تحط من قدر الأنبياء تحت أبواب الفضائل..

وسوف نعرض هنا لنماذج من هذه الروايات التي تتعرض لنوح ولإبراهيم (ع) وموسى (ع) وسليمان (ع) وعيسى (ع) وحتى آدم (ع)..

- إبراهيم:

يروى عن الرسول (ص): " اختتن إبراهيم (ع) وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم " (1)..

ويروى عنه (ص): " لم يكذب إبراهيم (ع) إلا ثلاث كذبات. ثنتين منهن في ذات الله عز وجل. قوله - إني سقيم - وقوله: بل فعله كبيرهم هذا - وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى علي جبار من الجبابرة. فقيل له: إن ههنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه. فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي.

فأتى سارة. قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك. وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي. فلا تكذبيني. فأرسل إليها. فلما دخلت عليه ذهب

____________

(1) مسلم كتاب الفضائل. والبخاري كتاب الأنبياء. والقرم قرية من قرى الشام..


الصفحة 316
يتناولها بيده. فأخذ فقال: ادعى الله لي ولا أضرك. فدعت الله. فأطلق. ثم تناولها الثانية. فأخذ مثلها أو أشد. فقال ادعي الله لي ولا أضرك. فدعت.

فأطلق. فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما آتيتموني بشيطان.

فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده. مهيا. قالت: رد الله كيد الكافر (أو الفاجر) في نحره وأخدم هاجر ".

قال أبو هريرة - الراوي -: تلك أمكم يا ماء السماء (1).

ويروى عنه (ص): " نحن أحق بالشك من إبراهيم. إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى. قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " (2)..

ويبدو من الرواية الأولى أنها تصادم العقل والعرف إذ كيف يختتن رجل في مثل هذا السن فضلا عن كونه نبي مرسل..؟

إن هذه الرواية تمثل مهانة لإبراهيم (ع) وتصفه بالاهمال في أمر الاختتان فإذا كان الاختتان واجبا. فقد أهمل إبراهيم هذا الواجب حتى بلغ الثمانين..

وإذا كان أمرا عرفيا فما الذي يجعل إبراهيم يقدم عليه وهو في هذا السن؟

أما الرواية الثانية فهي فاضحة ولا يمكن أن تنسب إلى الرسول (ص). فليس من الأدب أن ينسب الكذب إلى إبراهيم على لسان الرسول.

إلا أن قول إبراهيم إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا. لا يعد من باب الكذب وإنما هو من باب الذكاء والكياسة. فالقول الأول قصد به التهرب من ممارسة عبادة الأصنام مع قومه. والثاني قصد به توريط قومه وتشكيكهم في الأصنام التي يعبدونها. فبعد أن قام بتحطيمها وأدانوه بذلك نسب الفعل إلى كبير الأصنام حتى يضعهم في حرج ما بين الاعتراف أن الأصنام لا تنفع ولا تضر وأنها لم تستطع أن تدفع الضر عن نفسها وما بين إدانة إبراهيم وهو يؤدي إلى نفس النتيجة وهي أن الأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تدفع الضر عن نفسها (3)..

____________

(1) المرجعين السابقين..

(2) المرجعين السابقين..

(3) أنظر سورة الصافات وسورة الأنبياء..


الصفحة 317
أما الثالثة التي هي كذبة ليست في ذات الله حسب تعبير الرواية فهي كذبة ضارة لا تنم عن عقل وخلق وهو ما لا يجوز في حق إبراهيم (ع). فإن ادعائه بأن سارة شقيقته يفسد الأمر لا يصلحه وكان من الأولى أن يعترف بكونها زوجته.

وكيف لنبي أن يترك شقيقته لطاغية يعبث بها بينما هو يلجأ إلى الصلاة..؟

مثل هذا السلوك لا يبدر عن عامة الناس فكيف الحال بنبي مرسل..؟

والرواية لم تخبرنا هل كان إبراهيم يتوقع معجزة إلهية تنقذ سارة وهل أنبأ بهذا. أم أن القدرة الإلهية تدخلت في الوقت المناسب لتوقف الملك الطاغية عند حده؟

إن الرواية تهدف من أولها إلى آخرها إلى إلقاء الضوء على هاجر أم إسماعيل. ولكن أليس من الأفضل أن تبرز هاجر في حياء إبراهيم بسبيل آخر غير هذا السبيل الذي فيه امتهان لإبراهيم..؟

ولقد أغفل الفقهاء كعادتهم جوهر الرواية وانغمسوا في متاهات لغوية حول نصب ورفع كلمات وجمل الرواية في الوقت الذي ركزوا فيه على جملة تلك أمكم يا بني ماء السماء التي قالها أبو هريرة واختلفوا هل المقصود بقوله: العرب من ولد إسماعيل الذين اعتمدوا في حياتهم على الأمطار يرعون على أساسها دوابهم. أم أراد بها ماء زمزم الذي تفجر لهاجر وعاشت عليه هي وولدها وذريته (1)..

قال ابن حبان: كل من كان من ولد إسماعيل يقال له ماء السماء. لأن إسماعيل ولد هاجر وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء (2)..

وتعد هذه من نوادر الفقهاء إذ اعتكفوا على قول أبي هريرة يمحصونه ويكشفون مراده وأهملوا إبراهيم وأهله. وكأنهم بهذا قد وضعوا أبو هريرة في مصاف حكماء الصحابة الذين لا يجب أن تهمل كلماتهم. وهو موقف طبيعي من أناس اعتبروه وارث علم الرسول والناطق بلسانه..

____________

(1) أنظر هامش مسلم. كتاب الفضائل. وهامش اللؤلؤ والمرجان ح‍ 3 / 116. كتاب الفضائل. وانظر فتح الباري شرح كتاب الأنبياء..

(2) أنظر صحيح ابن حبان..


الصفحة 318
وقد أتحفنا القوم برواية وفرت علينا الكثير من الجهد وألزمتهم الحجة في إثبات وقوع الكذب من إبراهيم.

يروى أن الناس يوم القيامة تهرع إلى الأنبياء طلبا للشفاعة وعندما يأتون إلى إبراهيم يقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى إلى ما نحن فيه. فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. وإني كنت قد كذبت ثلاث كذبات.

نفسي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري (1)..

وبهذه الرواية يكون القوم قد أكدوا وقوع الكذب من إبراهيم وهو ما أدى إلى غضب الله عليه. فهل الأنبياء يكذبون. وهل الله الذي اختارهم يغضب عليهم..؟

والإجابة بالطبع لا عند أصحاب العقول..

ونعم عند الرواة والفقهاء. أو أهل السنة والجماعة..

- موسى أيضا:

يروى عن النبي قوله: " كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة. ينظر بعضهم إلى بعض. وكان موسى يغتسل وحده. فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آذر. فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر. ففر الحجر بثوبه. فخرج موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر. حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى. فقالوا:

والله ما بموسى من بأس. وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا ".

قال أبو هريرة - الراوي -: والله. إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة. ضربا بالحجر (2)..

وفي رواية: فانطلق الحجر يسعى واتبعه بعصاه يضربه ثوبي حجر حتى

____________

(1) البخاري كتاب التفسير. سورة بني إسرائيل.

(2) البخاري كتاب الغسل. ومسلم كتاب الفضائل.


الصفحة 319
وقف على ملأ من بني إسرائيل ونزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) (1)..

قال الفقهاء: قوله إلا أنه آدر. أي عظيم الخصيتين. والأنبياء منزهون عن النقص في الخلق والخلق سالمون من المعايب ولا يلتفت إلى ما نسب بعض المؤرخين إلى بعضهم من العاهات فإن الله سبحانه رفعهم عن كل ما هو عيب يغض العيون وينفر القلوب ونزول يا أيها الذين آمنوا... الآية الظاهر أن قضية الحجر هذه إنما كانت بعد النبوة لقوله فضربه بعصاه ولأن لقياه لبني إسرائيل إنما كان بعد البنوة (2)..

وقال النووي: وفي هذا الحديث فوائد منها أن فيه معجزتين ظاهرتين لموسى (ع) إحداهما مشى الحجر بثوبه إلى ملأ بني إسرائيل والثانية حصول الندب في الحجر (3)..

والذي نخرج به من هذه الرواية اللامعقولة أن القوم قد ذهبت عقولهم وسعوا إلى إذهاب عقولنا أيضا بعملهم على تبرير مثل هذه الرواية بدلا من رفضها والطعن فيها. فمهما بالغوا في هذا التبرير فإن العقل والفطرة تأبى قبول مثل هذا الكلام في حق نبي مكرم هو موسى (ع)..

إن ستر العورة من سنن الفطرة التي دعا بها الأنبياء فكيف يغفل عنها موسى..؟

ونحن لن ندخل قصة الحجر في ميزان الرفض والقبول العقلي وإنما يعنينا هو أمر موسى كيف يجري وراء الحجر وهو عريان..؟

وإذا كان صحيحا ما يشيع بنو إسرائيل أن بموسى عيب خلقي لا يريد أن يطلع الناس عليه وهو ما يبرر اغتساله وحده. أفلا توجد سوى هذه الطريقة المعيبة لإبطال هذه الإشاعة إن أخطر ما تبرزه هذه الرواية هو أن تحرك الحجر بملابس

____________

(1) مسلم كتاب الفضائل.

(2) مسلم. هامش باب من فضائل موسى..

(3) شرح النووي. كتاب الفضائل..


الصفحة 320
موسى وجرى موسى وراءه قد تم بأمر الله وإرادته كي ينزل نص تبرئته ويقطع دابر الإشاعات. وهذا قمة السفه والضلال. إذ فيه مساس بذات الله سبحانه وحكمته.

ولو كان هذا التصور صحيحا فلماذا اعترض موسى على أمر الله وأوسع الحجر ضربا..؟

لقد اعتبر الفقهاء إضافة أبو هريرة على الرواية كنص الرواية وامتداد لها كما فعلوا مع رواية إبراهيم السابقة وعكفوا على تفسيرها. واعتبرها النووي جزء من الرواية وهو ما يظهر من اعتماد إضافته كمعجزة ثانية لموسى.

ويروى عن الرسول (ص) قوله: " جاء ملك الموت إلى موسى (ع) فقال له: أجب ربك. فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها. فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني. فرد الله إليه عينه وقال ارجع إلى عبدي فقل الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة. قال - أي موسى - ثم مه.

قال الملك: ثم تموت " (1)..

قال الفقهاء: قوله أرسل ملك الموت إلى موسى في هذا الحديث مناقشات لبعض الملاحدة وأجوبة عديدة وتوجيهات حسنة للعلماء ومن جملة تلك ما ذكر القسطلاني: أرسل ملك الموت إلى موسى في صورة آدمي اختبارا وابتلاءا كابتلاء الخليل بالأمر بذبح ولده فلما جاءه ظنه آدميا حقيقة تسور عليه منزلة بغير إذنه ليوقع به مكروها. فلما تصور ذلك (ع) صكه أي لطمه على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاء فيها دون الصورة الملكية ففقأها (2)..

وهذه الرواية لا تقل سخافة عن سابقتها وإن كانت أدهى وأمر إذ تصور نبي الله موسى متحديا لقضاء الله معتديا على رسوله ملك الموت ومحدثا به عاهة. ولا يخفى أن الاعتداء على الله هو اعتداء على الله سبحانه. وهو ما نبرأ منه

____________

(1) مسلم كتاب الفضائل. والبخاري كتاب الجنائز.

(2) مسلم. هامش باب من فضائل موسى..


الصفحة 321
موسى الرسول المختار ويدفعنا بالتالي إلى الحكم ببطلان مثل هذه الروايات التي تهين الأنبياء وتحط من قدرهم وتشوه صورتهم.

وعلى فرض التسليم بصحة هذه الرواية فإن هذا يعني المساس بذات الله سبحانه كما هو حال الرواية السابقة. إذ أن الرواية تصور تراجع الله سبحانه عن أمره لملك الموت بقبض موسى بعد ما عاد إليه مصابا وإتاحة الفرصة لموسى ليعيش سنوات أخرى ما دام متعلقا بالحياة الدنيا بعدد الشعرات التي يحتويها كفه من جسد الثور.

ومثل هذا التصور لا يليق بالله سبحانه وهو على هذه الصورة يعد تدليلا لموسى المعتدي والرافض لأمر الله..

ومن جانب آخر يمكن الحكم برفض هذه الرواية عقلا لكون ملك الموت ذو قوة خارقة لا طاقة للبشر بها ولا يقدر أحد على منعه من قبض روحه. فكيف استطاع موسى أن يمنعه..؟

وإذا كان الأمر كما يصور الفقهاء من أن ملك الموت جاء إلى موسى في صورة بشر وتمكن من صده والاعتداء عليه ظنا منه أنه لص فإن هذا يعطي الفرصة للآخرين ليعتدوا عليه ويمنعونه من تنفيذ حكم الله. لأن عقيدة القوم تنص على أن ملك الموت كان يأتي إلى بني إسرائيل في صورة آدمي حتى اعتدى عليه موسى فاختفى بعدها..

يروى عن أبي هريرة أيضا: أن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه (1).

ويبدو من هذه الرواية أن أبا هريرة أراد أن يتدارك بها روايته السابقة ويقطع دابر الشك فيها.

- وآخرون:

يروى عن الرسول قوله: " قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة

____________

(1) أنظر مسند أحمد ح‍ 2 / ومستدرك الصحيحين ح‍ 2.


الصفحة 322
أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله. فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل.

والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين " (1)..

ويروى عنه (ص) قال: " قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله " (2)..

قال الفقهاء: قوله لأطوفن أي لأجامعن واللام جواب القسم كأنه قال مثلا و الله لأطوفن. ورواية سبعين امرأة وتسعين امرأة لا تعارضهما ورواية ستين لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير. وتوهم التعارض إنما هو من جهة مفهوم العدد وهو غير معمول به عند كثير من الأصوليين. وليس المراد أنه غفل من التفويض إلى الله بقلبه فإن اعتقاد التفويض مستمر له لكنه نسي أن يقصد الاستثناء الذي يرفع حكم اليمين (3)..

وقالوا حول الرواية الثانية: قوله (ص) أن نملة قرصت. هذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي كان فيه جواز قتل النمل وجواز الاحراق بالنار ولم يعتب عليه في أهل القتل والاحراق بل في الزيادة على نملة واحدة. وأما شرعنا فلا يجوز الاحراق بالنار للحيوان (4)..

إن قضية الطواف على النساء التي تنسبها الرواية لسليمان (ع) غير مقبولة عقلا وشأنها شأن روايات الطواف المنسوبة للرسول (ص) وما قيل هناك يقال هنا.

بل إن الرفض هنا له ما يبرره بصورة أكبر. فقد نسب للرسول هناك تسعة نسوة.

بينما نسب لسليمان هنا مائة. وفي رواية ستين. وأخرى سبعين. وأخرى تسعين.

وهو عدد يستحيل عقلا الطواف عليه في ليلة واحدة. كما يستحيل عقلا نسبته لنبي فإن أقل ما ينتج عن رعاية هذا العدد هو إهمال شؤون الدعوة وحتى الوحي والتفرغ لهن. لن يجدي شيئا إذ أن هذا العدد من المستحيل أن يهيمن عليه رجل واحد.

____________

(1) مسلم كتاب الأيمان. والبخاري كتاب الجهاد وكتاب النكاح.

(2) البخاري كتاب فضل الجهاد والسير. ومسلم كتاب قتل الحيات.

(3) مسلم هامش باب الاستثناء كتاب الأيمان.

(4) مسلم هامش باب النهي عن قتل النمل. كتاب الحيات..


الصفحة 323
ولأن الأنبياء ليس لهم شغل سوى الدين والوحي فمن غير الجائز عقلا نسبة النسيان أو الاهمال لهم في مسألة تتعلق بجوهر دورهم ومهمتهم كما تصور الرواية أن سليمان أهمل نصيحة الملك أو نساها. فهو لا يجوز أن يذكر بذلك من الأصل..

وتبرير الفقهاء لما نسب لسليمان ما زاد الطين إلا بلة إذ أن اختلاف الروايات في عدد نسوة سليمان دليل قاطع على ضعف الرواية وبطلانها (1)..

أما رواية النمل فهي من المطاعن التي ألحقها الرواة بالأنبياء وهي امتداد للروايات الأخرى التي قام بتأليفها أبو هريرة. والفقهاء يقرون بأن ذلك النبي ما كان يجب عليه أن يعاقب قرية النمل بأكملها وإنما كان يجب أن يعاقب النملة التي قرصته وحدها. فمن ثم فهو سلوك غير مبرر من نبي وانتقام لا يدل على نفس سوية. ومثل هذا الخلق لا يجوز أن ينسب لنبي مختار فهو يشكك في سلوكه ومواقفه ويصفها بالعداونية وعدم الأهلية للقيام بأعباء الرسالة (2)..

وختاما لهذا الباب نضع أمام القارئ رواية من روايات أبي هريرة شملت آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ثم رسولنا (ص). وهي رواية لا تختلف عن الروايات السابقة في شأن الأنبياء غير أن ما يميزها هو شمولها لهذا العدد من الأنبياء ضمن قضية واحدة هي قضية الشفاعة التي تصور الرواية فرار هؤلاء الأنبياء منها وإعلانهم صراحة عدم أهليتهم لقيام بها كاشفين عن أخطائهم التي أوجبت غضب الله عليهم مما حط من مكانتهم وقلل من شأنهم أمام الله بما يوجب عدم استحقاقهم للقيام بالشفاعة لأقوامهم الذين لم يجدوا نبيا مؤهلا للقيام بها سوى محمد (ص) فاندفعوا نحوه فقبل المهمة على الفور..

وما تبرز هذه الرواية هو الحط من قدر الأنبياء ورفع مقام نبينا عليهم حيث تبرز أن كل نبي له سيئة أوجبت الله عليه عدا رسولنا.

كما تبرز هذه الرواية أيضا أن الأنبياء والرسل تخلوا عن أقوامهم ونادوا بالنجاة لأنفسهم. وبهذا يكونوا قد تساووا مع أقوامهم..

____________

(1) أنظر هذه الروايات في باب الاستثناء.

(2) ذكر الترمذي وابن حجر والقسطلاني أن هذا النبي هو موسى. أنظر فتح الباري وإرشاد الساري.


الصفحة 324
يروى أبو هريرة: أتى رسول الله (ص) بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: " أنا سيد الناس يوم القيامة. وهل تدرون بما ذلك؟

يجمع الناس الأولين و الآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفدهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطبقون ولا يحتملون. فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم. ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم. فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم. فيأتون آدم (ع) فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه. ألا ترى إلى ما قد بلغنا. فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته.

نفسي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون:

يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا. اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه. فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله. ولن يغضب بعده مثله وأنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي. نفسي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض. اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه. فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات.

نفسي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى موسى. فيأتون إلى موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه. فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها. نفسي.

نفسي. نفسي.. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه. فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله. ولن يغضب بعده مثله. ولم يذكر ذنبا. نفسي.

نفسي. نفسي.. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى محمد (ص) فيأتون محمد فيقولون يا محمد. أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما

الصفحة 325
تأخر. اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه. فأنطلق فآتي تحت العرش.

فأقع ساجدا لربي عز وجل. ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي. ثم يقال يا محمد ارفع رأسك. سل تعطه واشفع تشفع.

فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب. أمتي يا رب. فيقال: يا محمد. أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة. وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى " (1).

إن هذه الرواية تشير إلى أن الأنبياء الخمسة وهم أولو العزم من الرسل أي أصحاب الرسالات الكبرى في التاريخ البشري يشكون في أنفسهم وخلقهم فينسبون لأنفسهم ذنوبا أنزلت عليهم غضب الله وبالتالي أصبحوا لا يضمنون النجاة من النار ولأجل ذلك تخلوا عن أقوامهم. وهذا يعني التشكيك فيهم.

وهذه أولى النتائج التي تدعونا إلى الشك في الرواية.

النتيجة الثانية هي أن الرواية ذكرت لكل نبي ما أوجب غضب الله عليه عدا عيسى فقد لحقه هذا الغضب دون أن تحدد الرواية ذنبه. فهل عجز أبو هريرة عن اختراع ذنب لعيسى؟

النتيجة الثالثة أن أقوام الرسل أجمعين بعد أن تخلى منهم رسلهم هرعوا نحو محمد (ص). لكن محمد عندما رفع رأسه ليشفع لأمته فقط. وذلك واضح من خلال قوله: " أمتي يا رب ".. فهل غفل أبو هريرة عن سد هذه الثغرة في الرواية. أم أن أمة محمد هي التي هرعت نحو آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى..؟

وفي كلتا الحالتين فإن الأمم السابقة لم يتحدد مصيرها من خلال الرواية كما لم يتحدد مصير الأنبياء الخمسة..

وهل يستقيم مثل هذا التصور عن الأنبياء مع تلك الرواية التي جاءت على

____________

(1) البخاري كتاب التفسير. سورة بني إسرائيل..


الصفحة 326
لسان أبي هريرة وابن عمر وعائشة وأنس وغيرهم عن الصحابة المبشرين بالجنة تلك الروايات التي تكتظ بها كتب السنن..

هل من الممكن أن نقبل روايات تشكك في الأنبياء في الوقت الذي نقبل فيه روايات تنزه الصحابة وتضفي عليهم العدالة وتبشرهم بالجنة وتريهم منازلهم فيها وهي جاءت عن طريق نفس الرواة..؟

لقد شوهت الروايات الرسول وسائر الرسل ورفعت من قدر الصحابة وهذا وحده دليل كاف على بطلانها وكونها مخترعة..