الصفحة 242
فمنذ ذرأ الله ذرية آدم وهو سبحانه يزكي من يشاء، ويجعل سبحانه بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية امتحن الله تعالى بني إسرائيل امتحانات شتى. ومنها امتحانهم بهارون وبنيه. ولم يكن لموسى عليه السلام ولد من صلبه.

وشاء الله أن يجعل امتداده في أخيه هارون وبنيه من بعده. وكان هارون وبنوه ذروة سبط لاوي الذي منه موسى وهارون عليهما السلام. وبهم!

امتحن الله تعالى بقية الأسباط. وعلى امتداد المسيرة سفكت الدماء الزكية عندما جاء الهداة لبني إسرائيل بما لا تهوى أنفسهم.

وعندما بعث النبي (ص). امتحن الله أمته بامتحانات شتى بعد أن أقام عليهم الحجة، ومن هذه الامتحان بعترة النبي (ص)، وشاء الله أن يجعل امتداد النبي في ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب، ولما كانت منزلة علي من النبي (ص) بمنزلة هارون من موسى عدا النبوة، فإن الدعوة الخاتمة أقامت الحجة في أكثر من موضع على مكانة علي بن أبي طالب من الرسول (ص)، لتعليم القافلة دوائر التحذير فلا تقترب منها على امتداد المسيرة.

ومن الأحاديث التي تبين مكانة علي بن أبي طالب من الرسول (ص)، أن الله تعالى جعل النبي (ص) خير الناس نفسا، وجعل علي ابن أبي طالب كنفس النبي (ص)، قال النبي (ص) " إن الله خلق الخلق.

فجعلني في خيرهم فرقة. ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة.

ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة. ثم جعلهم بيوتا. فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا " (1)، وعن جابر بن عبد الله قال في قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم. فقل تعالوا ندع

____________

(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (الجامع 584 / 5) ورواه أحمد (الفتح الرباني 266 / 21).

الصفحة 243
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم. ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين) (1). قال: قدم على النبي (ص). العاقب والطيب.

فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة. فغدا رسول الله (ص) فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما. فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، فقال رسول الله (ص): والذي بعثني بالحق.

لو قالوا لا لأمطر عليهم الوادي نارا، قال جابر وفيهم نزل قوله تعالى:

(فقل تعالوا ندع أبناءنا... الآية) قال جابر: " أنفسنا وأنفسكم.. رسول الله (ص) وعلي بن أبي طالب " وأبناءنا " الحسن والحسين، " ونساءنا " فاطمة، قال ابن كثير: رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه أبو داوود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة (2).

وجعل النبي (ص) علي بن أبي طالب على ذروة العشيرة الأقربين. كما وضع موسى هارون على ذروة الأسباط، روي عن علي ابن أبي طالب أنه قال: " لما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (3) جمع النبي (ص) من أهل بيته فاجتمع ثلاثون. فأكلوا وشربوا. فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي، قال رجل: يا رسول الله أنت كنت بحرا من يقوم بهذا، ثم قال الآخر، فعرض النبي (ص) هذا على أهل بيته واحدا واحدا، فقال علي: أنا " (4)، وفي رواية: قال النبي (ص) " فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي، فلم يقم إليه أحد، قال علي: فقمت إليه وكنت من أصغر القوم. فقال: إجلس. ثم قال مرة

____________

(1) سورة آل عمران آية 61.

(2) تفسير ابن كثير 370 / 1.

(3) سورة الشعراء آية 214.

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 122 / 23) ورواه ابن جرير وصححه والطحاوي والضياء بسند صحيح (كنز العمال 129 / 13).

الصفحة 244
أخرى، كل ذلك أقوم إليه. فيقول لي: إجلس. حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي) (1)، وفي رواية: قال النبي (ص): إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا، فقال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي.

وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا " (2).

وجعل النبي (ص) علي بن أبي طالب على ذروة المهاجرين والأنصار، عن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جده. أن النبي (ص)، آخى بين الناس وترك عليا حتى بقي آخرهم لا يرى له أخا، فقال: يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني، قال: ولم تراني تركتك؟ تركتك لنفسي.

أنت أخي وأنا أخوك. فإن ذكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسول الله لا يدعيها بعد إلا كذاب (3)، وروي أن النبي (ص) قال لعلي " أنت أخي في الدنيا والآخرة " (4). قال ابن كثير: كان المشايخ يعجبهم هذا الحديث لكونه من رواية أهل الشام (5).

وجعل النبي (ص) بيت علي بن أبي طالب ذروة البيوت. فعن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد. فقال النبي يوما: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي. فتكلم في ذلك الناس. فقام رسول الله (ص)، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد. فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي، وقد قال فيه قائلكم،

____________

(1) رواه أحمد وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 175 / 13).

(2) رواه ابن إسحاق وابن جرير وابن بي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي (كنز العمال 133 / 13).

(3) رواه أحمد وأبو يعلى (كنز العمال 140 / 13) (تحفة الأحوازي 222 / 10).

(4) رواه الترمذي والحاكم وصححه (كنز العمال 598 / 11).

(5) البداية والنهاية 336 / 7.

الصفحة 245
وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكن الله أمر بشئ فاتبعته " (1)، وفي رواية: قال (ص) " ما أخرجتكم من قبل نفسي، ولا أنا تركته، ولكن الله أخرجكم وتركه، وإنما أنا عبد مأمور، ما أمرت به فعلت، إن أتبع إلا ما يوحى إلي " (2).

وهذا الحديث رواه جمع من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، وأنس بن مالك، وبريدة الأسلمي، وعلي بن أبي طالب. وقال السيوطي: ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة بل المتواترة، أنه (ص) منع فتح باب شارع في المسجد ولم يأذن لأحد ولا لعمه العباس ولا لأبي بكر، إلا لعلي، وقال الحافظ الكتاني: وقد أورد ابن الجوزي في الموضوعات حديث سد الأبواب مختصرا على بعض طرقه، وفي هذا قال الحافظ ابن حجر: وقد أخطأ ابن الجوزي في ذلك خطأ شنيعا لرده الأحاديث الصحيحة (3).

وجعل النبي (ص) علي بن أبي طالب على ذروة الجنود. عن أبي هريرة قال. إن النبي (ص) قال يوم خيبر " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله " - وفي رواية عن مسلم: رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله - يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب. ما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتساورت لها رجاء أن أدعى لها. فدعا رسول الله (ص) علي بن أبي طالب. فأعطاه إياها.. وقال: إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول الله على

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 114 / 9) (الفتح الرباني 118 / 23) والحاكم والضياء بسند صحيح (كنز 598 / 11) (2) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 115 / 9) والطبراني (كنز العمال 600 / 11).

(3) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 195.

الصفحة 246
ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1).

ومن أحاديث الذروة أيضا ما روي عن جابر بن عبد الله قال: دعا رسول الله (ص) عليا يوم الطائف فانتجاه فقال الناس. لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله (ص): ما انتجيته ولكن الله انتجاه (2) وفي رواية: قال أبو بكر: يا رسول الله قد طالت مناجاتك عليا. فقال: ما أنا انتجيته ولكن الله انتجاه (3) قال في تحفة الأحوازي: أي أني بلغت عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه. فحينئذ انتجاه الله لا انتجيته. وقال الطيبي:

كان ذلك أسرار إلهية وأمور غيبية جعله من خزانها (4).

ومن أحاديث الذروة. ما روي عن جابر. قال. لما سأل أهل قباء النبي (ص). أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله (ص): ليقم بعضكم فيركب الناقة. فقام أبو بكر فركبها فلم تنبعث فرجع فقعد، فقام عمر فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد، فقام علي. فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به، فقال رسول الله (ص): يا علي ارخ زمامها. وابنوا على مدارها فإنها مأمورة (5).

وعلى ضوء ما ذكرنا من الأحاديث الصحيحة. تشرق منزلة

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 176 / 15) وأحمد (الفتح الرباني 132 / 23) والبخاري عن سلمة بن الأكوع (الصحيح 166 / 2) والحاكم عن جابر (المستدرك 38 / 3).

(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 639 / 5) وابن كثير (البداية والنهاية 357 / 7).

(3) رواه الطبراني عن جنوب بن ناجية (كنز العمال 139 / 13).

(4) تحفة الأحوازي 231 / 10.

(5) رواه الطبراني في الكبير (كنز العمال 139 / 13).

الصفحة 247
علي بن أبي طالب من رسول الله داخل أحياء قريش، فهو بين العشيرة الأقربين. أخو النبي ووصيه وخليفته، وهو بين المهاجرين والأنصار.

عبد الله وأخو رسول الله لا يدعيها بعد إلا كذاب، وبابه بين الأبواب.

هو الباب المفتوح. وعلم الجميع أن الله أخرجهم وتركه. وأن النبي في هذا مأمور. ما أمر به فعله إن يتبع إلا ما يوحى إليه، وفي ميادين القتال علم الخاص والعام. أن عليا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وعلموا أن الله انتجاه، ويوم بناء المسجد علموا أن الناقة مأمورة.

وعلموا أن الكتاب والعترة لا يفترقا حتى يردا علي الحوض. وأن العترة في صلب علي وفاطمة عليهما السلام. لقول النبي (ص) ".. علي أصلي.. " (1).

وبين إشراق منزلة علي من النبي (ص). وبين منزلة هارون من موسى عليهما السلام، يمتد ظلال الدعوة الإلهية، وتحت هذا الظلال تسير الأمة الخاتمة بمنهجها المهيمن على جميع المناهج، وقد حذرهم الله تعالى من السلوك في طريق الفراعنة. بعد أن جعل قياس النبي (ص) إلى موسى. وقياس الأمة إلى فرعون وقومه (2). وبعد أن حذرهم من أن يكونوا كالذين أذوا موسى (3). وبعد أن علموا أن الله يزكي من يشاء.

ويجعل بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها.

وعلى طريق المنزلة رويت أحاديث صحيحة. يرى فيها موقع الذروة الذي يستقيم مع موقع المنزلة. وسنذكر بعض هذه الأحاديث في موضعها.

____________

(1) رواه الطبراني والضياء بسند صحيح (602 / 13 كنز).

(2) سورة المزمل آية 15.

(3) سورة الأحزاب آية 69.

الصفحة 248

2 - [ أضواء على المنزلة العالية ]

قامت الدعوة الإلهية على امتداد المسيرة البشرية، بمخاطبة الإنسان الذي يسلك طريقها. وإرشاده إلى ما فيه سعادته، وحذرت من التقادر الذي يتلبس بالدين، لأن مهمة النفاق في ديار الذين آمنوا. لا تنفصل عن مهمة الشيطان الذي اعتمد في برنامجه القعود على الصراط المستقيم (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم) (1)، وتيار الصد عن سبيل الله اعتمد على المنافقين في حفر الحفر العديدة على امتداد مسيرة الذين آمنوا، ومن خلال هذا الحفر رفعت الأعلام العديدة.

التي تقوم برامجها بالتعتيم على الفطرة، والقافلة الإسرائيلية لم تسقط في مستنقع عبادة العجول نتيجة لغزوها من الخارج، وإنما سقطت أولا من الداخل. على أيدي الذين يجلسون تحت خيامها ويتلبسون بالدين.

والدعوة الإلهية الخاتمة. بينت أن المنافقين ينقون الناس بالإيمان الكاذبة والحلفان الآثمة. ليصدقوا فيما يقولون. فيغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم. ويقتدي بهم فيما يفعلون ويصدقهم فيما يقولون، فيحصل بهذا ضرر كبير، وبينت الدعوة أن منهم أصحاب أشكال حسنة والسنة ذو فصاحة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، ولهذا قال تعالى: (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) (2). وقال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا)(3).

ولقد وصفهم القرآن بأوصاف منها أنهم رجس، قال تعالى:

(إنهم رجس ومأواهم جهنم بما كانوا يكسبون) (4) فهم في دائرة الخبث

____________

(1) سورة الأعراف آية 16.

(2) سورة المنافقين آية 4.

(3) سورة النساء آية 145.

(4) سورة التوبة آية 95.

الصفحة 249
والتنجس نتيجة لما تحتويه بواطنهم واعتقاداتهم، والذين في قلوبهم مرض ويتلبسون بالدين الخاتم ورثوا قلوب وعقول الذين سبقوهم من بني إسرائيل، فإذا كان الذين كفروا من بني إسرائيل لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم. فإن المنافقين إذا سمعوا آية من كتاب الله زادتهم رجسا إلى رجسهم، قال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا. فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (1). قال المفسرون: " زادتهم رجسا إلى رجسهم " أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم. وهذا من جملة شقائهم. أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سئ المزاج لو غذى بما غذى به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.

ولأن تيار النفاق لا يزداد إلا رجسا، ولأنهم أصحاب السنة وإذا سمعهم السامع أصغى إلى قولهم لبلاغتهم، ولأن برنامج الصد عن سبيل الله إذا تلبس بالدين كان أشد خطرا على الدعوة، فإن الدعوة الخاتمة قامت بعزل هذا التيار عن ساحتها. وأقامت حجتها بطائفة الحق. وتحت سقف الامتحان والابتلاء تسير القافلة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.

وطائفة الحق من خصائصها أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبهذه الصفة كانوا مع كتاب الله ولن ينفصلا حتى يردا على حوض النبي (ص)، ومعنى أنهم مع كتاب الله أنهم أعلم الناس بكتاب الله، وهم أمان للأمة من الوقوع في دائرة التأويل الخاطئ لكتاب الله.

وخاصة الآيات المتشابهة، وذلك لأن تيار الذين في قلوبهم زيغ يتخذ من المتشابه حقلا له إبتغاء الفتنة، قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك

____________

(1) سورة التوبة آية 125.

الصفحة 250
الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وابتناء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) (1) قال المفسرون: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل " فيتبعون ما تشابه منه " أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة.

وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه. لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: (إبتغاء الفتنة) أي الاضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم القرآن. وهو حجة عليهم لا لهم، وقوله تعالى " وابتغاء تأويله " أي تحريفه على ما يريدون.

لأن تيار الذين في قلوبهم زيغ والذين في قلوبهم مرض يتلبس بالدين ويجلس في خيام القافلة، أقام الله الحجة بالكتاب وبالعترة التي لا يضرها من عاداها أو من خذلها أو من خالفها لأنها شعاع يهدي والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون، وتطهير أهل البيت والشهادة لهم بالعلم والعمل، والتحذير من مخالفتهم. وغير ذلك. وردت فيه أحاديث صحيحة، سنقدمها ونقابلها بما في منزلة هارون من موسى عليهما السلام.

أولا - " مقام التطهير ":

قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) قال ابن عباس: " يذهب عنكم الرجس " أي عمل

____________

(1) سورة آل عمران آية 7.

(2) سورة الأحزاب آية 33.

الصفحة 251
الشيطان وما ليس لله فيه رضا، وقال الأزهري: الرجس اسم لكل مستقذر من كل عمل، وقال ابن حجر: والمعنى. التطهير من الأرجاس والأدناس ونجاسة الآثام (1).

وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: " خرج النبي (ص) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2)، وروي عن عمر بن أبي سلمة أنه قال: لما نزلت هذه الآية (إنما يريد الله...) دعا رسول الله (ص) فاطمة وحسنا وحسينا، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء، ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة رضي الله عنها: وأنا معهم يا نبي الله. قال: أنت على مكانك وأنت على خير " (3)، وعن شداد بن عمار قال. دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه، فشتمته معهم، فلما قاموا.

قال لي شتمت هذا الرجل؟، قلت: قد شتموه فشتمته معهم، قال: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله (ص)؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه، فقالت: توجه إلى رسول الله (ص)، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله (ص) ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم. آخذا كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة رضي الله عنهما وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم كساءه، ثم تلى (ص) هذه الآية

____________

(1) أنظر: الفتح الرباني 238 / 18.

(2) رواه مسلم (الصحيح 194 / 15) والحاكم (المستدرك 147 / 3).

(3) رواه الترمذي (الجامع 351 / 5) وابن جرير والطبراني وابن مردويه (تحفة الأحوازي 97 / 9) وابن كثير في التفسير (485 / 3).

الصفحة 252
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحور (1)، وعن أبي الحمراء قال:

رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله (ص). رأيت رسول الله (ص) إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما. فقال:

" الصلاة الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (2)، وعن أنس بن مالك قال: أن رسول الله (ص) كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول " الصلاة يا أهل البيت. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (3).

وحديث الكساء وردت فيه روايات جمة تزيد على سبعين حديثا رواها: أم سلمة، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وسعد بن أبي وقاص، وواثلة، وأبي الحمراء، وابن عباس، وثوبان، وعبد الله بن جعفر، وعلي، والحسين بن علي.

والمتدبر في حديث الكساء يجد أن أحداثه وقعت في أكثر من مكان، وقعت في بيت أم سلمة وفي بيت عائشة وفي بيت فاطمة وأمام أكثر من واحد، ويجد أيضا أن النبي (ص) كان ينادي عند بيت فاطمة وقت صلاة الفجر لمدة ستة أشهر وفي رواية سبعة أشهر، وتكرار المشهد واستمرار النداء طيلة هذه المدة. يعطي أن النبي (ص) كان يقيم بهذا الحجة على كل من سمع ورأى وصلى في مسجده. بأن هؤلاء هم أهل البيت، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يثبت أمرا من الأمور في ذاكرة من حوله، يكرر هذا الأمر من ثلاثة إلى عشر مرات، ووضح

____________

(1) قال ابن كثير رواه الإمام أحمد وابن جرير (التفسير 483 / 3).

(2) قال ابن كثير رواه ابن جرير (التفسير 483 / 3).

(3) قال ابن كثير رواه الإمام أحمد (التفسير 483 / 3).

الصفحة 253
ذلك في روايات عديدة حملت تحذيرات مما يستقبل الناس من أحداث.

ينتج عنها ما ليس لله فيه رضا.

وإذا كانت دعاء الرسول لمن تحت الكساء وتلاوته (ص) لآية التطهير، يعطي للناس مفهوم إذهاب الرجس والتطهير لمن تحت الكساء عليهم السلام، فإن الدعوة الإلهية لبني إسرائيل أعطت لبني إسرائيل نفس المفهوم. ولكن بطريقة تستقيم مع الشريعة في هذا الوقت، جاء في العهد القديم " قال الرب لموسى: وتقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع. وتغسلهم بماء. وتلبس هارون الثياب المقدسة. وتمسحه وتقدسه ليكهن لي. وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة. وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي " (1).

ثانيا - " حكام العلم ":

إن العلم بالله هو ذروة كل العلوم وهو أشرف العلوم. لأن الله هو أشرف معلوم على الاطلاق، ولأن العلم بالله من أشق العلوم وأبعدها منالا، لطف الله بعباده وباح سبحانه بالعلم الشريف لأنبيائه ورسله ومن ارتضاه من عباده، ليسوقوا الناس إلى صراط الله العزيز الحميد، ويقيموا الحجة على كل سمع وكل بصر وكل فؤاد، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

روي عن الإمام علي أنه قال " إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به " ثم تلى قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (2)، وروي عن مكحول قال لما نزل على رسول الله (ص) قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) قال رسول

____________

(1) سفر الخروج 4 / 11 - 16.

(2) رواه اللالكائي (كنز العمال 379 / 1).

الصفحة 254
الله (ص) " سألت ربي أن يجعلها أذن علي " فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله (ص) شيئا قط فنسيته (1)، وعن ابن مرة الأسلمي قال. قال رسول الله (ص) لعلي " إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق لك أن تعي " فنزلت هذه الآية (وتعبها أذن واعية) (2) وعن أبي الطفيل قال. قال علي: سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل " (3)، وعن سليمان الأحمس قال. قال علي: إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا (4).

وفي قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه. ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به. ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده. فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن كثر الناس لا يؤمنون. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) (5).

روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: قال رسول الله (ص) " أفمن كان على بينة من ربه. أنا. ويتلوه شاهد منه. علي " (6). وعن علي أنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزلت فيه طائفة من القرآن. فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) رسول الله (ص) على بينة من ربه. وأنا شاهد

____________

(1) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (تفسير ابن كثير 413 / 4) ورواه الضياء بسند صحيح وابن مردويه وأبو نعيم (كنز العمال 177 / 13.

(2) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (تفسير ابن كثير 413 / 4).

(3) رواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 338 / 2).

(4) رواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 338 / 2).

(5) سورة هود آية 17، 18.

(6) رواه ابن مردويه بإسنادين (كنز العمال 439 / 2.

الصفحة 255
منه (1)، وقال صاحب الميزان: والظاهر. أن المراد بهذا الشاهد بعض من أيقن بحقية القرآن وكان على بصيرة إلهية من أمره. فآمن به عن بصيرة وشهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى. كما يشهد بالتوحيد والرسالة. فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش وريب التفرد، فإن الإنسان إذا أذعن بأمر وتفرد فيه. ربما أوحش التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به. أما إذا قال به غيره من الناس وأيد نظره في ذلك. زالت عنه الوحشة وقوى قلبه وارتبط جأشه.

وقد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) (2). وعلى هذا فقوله (يتلوه) من التلو لا من التلاوة.

والضمير فيه راجع إلى " من " أو إلى " بينة " باعتبار أنه نور أو دليل.

ومآل الوجهين واحد. فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه. والضمير في قوله " منه " راجع إلى " من " دون قوله " ربه " وعدم رجوعه إلى البينة ظاهر. ومحصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من أمر. ولحق به من هو من نفسه. فشهد على صحة أمره واستقامته.

وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في الروايات أن المراد بالشاهد.

علي بن أبي طالب، إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية. وقوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) راجع. إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير " يتلوه " والجملة حال بعد حال، أي أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله، والحال أن معه شاهد

____________

(1) رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم وأبو نعيم (كنز العمال 439 / 2).

سورة الأحقاف آية 10.

الصفحة 256
منه يشهد بذلك عن بصيرة، والحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما ورحمة. فليس ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل ونظير، بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى، وقد ذكر الله تعالى كتاب موسى بالإمام والرحمة في موضع آخر. وهو قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) (1).

وإذا كان صدر الآية وهو قوله تعالى: (ويتلوه شاهد منه) قد ورد في تفسيره أن المراد بالشاهد علي بن أبي طالب. فإن قوله تعالى:

(ومن قبله كتاب موسى إماما) يرى في ظلاله منزلة هارون من موسى عليه السلام. لأن موسى سأل ربه جل وعلا أن يؤيده بهارون ليشهد له شهادة الموقن البصير على أن الذي جاء به هو من عند الله. وهو قوله تعالى حاكيا عن موسى قوله (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي رداءا يصدقني أني أخاف أن يكذبون) (2) قال ابن كثير: سأل ربه أن يرسل معه هارون وزيرا ومعينا ومقويا لأمره. يصدقه فيما يقول ويخبر به عن الله تعالى. لأن خبر الاثنين أنجح في النفوس من خبر الواحد " (3). ويمكن القول أن الآية الكريمة يرى في ظلالها المنزلتين.

منزلة علي بن أبي طالب وهو من الرسول (ص). ومنزلة هارون وهو من موسى عليهما السلام.

ومن الآيات التي تلقى بظلالها على منزلة علي من رسول الله.

قوله تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (4) روي عن علي أنه قال:

____________

(1) سورة الأحقاف آية 12.

(2) سورة القصص آية 34.

(3) تفسير ابن كثير 388 / 3.

(4) سورة الرعد 7.

الصفحة 257
رسول الله (ص) المنذر. وأنا الهادي (1) وفي لفظ: والهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه، وروي لما نزلت الآية. وضع رسول الله (ص) يده على صدر علي وقال: أنا المنذر. وأومأ بيده إلى منكب علي وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي " (2). وروي عن الجنيد أنه قال: الهادي هو علي بن أبي طالب (3).

وبالجملة: روي في حديث صحيح أن النبي (ص) قال لفاطمة رضي الله عنها " إني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما " (4). وروي عن ابن عباس أنه قال " أقضانا علي " (5) وعن ابن مسعود أنه قال " كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي " (6).

بعد وضوح منزلة علي بن أبي طالب من رسول الله (ص) على امتداد عهد البعثة، بدأ النبي (ص) يمهد الساحة لإعلان ولاية علي بن أبي طالب، ومن ذلك قوله لعلي " أنت ولي في كل مؤمن بعدي " (7) وقوله لبريدة الأسلمي عندما جاءه يشكو عليا " فإنه مني وأنا منه. وهو وليكم

____________

(1) رواه ابن أبي حاتم (كنز العمال 441 / 2).

(2) الفتح الرباني 185 / 18.

(3) الفتح الرباني 185 / 18، تفسير ابن كثير 501 / 2.

(4) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 101 / 9) (الفتح الرباني 133 / 23) وابن جرير وصححه عن علي (كنز العمال 114 / 13) والخطيب عن بريدة) (كنز العمال 135 / 13) والطبراني عن معقل بن يسار (كنز العمال 605 / 11).

(5) رواه البغوي في شرح السنة. والبخاري في التفسير وأبو نعيم (كشف الخفاء 184 / 1).

(6) رواه الحاكم وصححه (كشف الخفاء 184 / 1).

(7) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج وهو ثقة وفيه لين (الفتح الرباني 116 / 23) وقال ابن كثير رواه أبو داوود الطيالسي (البداية 346 / 7) وصححه الألباني (الصحيحة 263 / 5).

الصفحة 258
بعدي. وإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي " (1)، وراوي هذا الحديث هو ابن بريدة قال في الفتح الرباني: أقسم ابن بريدة أنه تلقى هذا الحديث من والده بريدة مباشرة ليس بينه وبينه واسطة، وهو يفيد أن والده تلقاه من النبي (ص) مباشرة بغير واسطة، يشير بذلك إلى علو السند (2).

وعندما جاء العام العاشر الهجري. خرج النبي (ص) إلى حجة الوداع. روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: رأيت رسول الله (ص) في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (3)، وروي عن يحيى بن آدم. وكان قد شهد حجة الوداع، أن رسول الله (ص) قال: علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي " (4).

وبعد أن أدى رسول الله (ص) المناسك، وعند عودته إلى المدينة، وقف في غدير خم، وهو مكان يقع على الطريق بين مكة والمدينة. على بعد ثلاثة أميال من الجحفة، وروي عن زيد بن أرقم أنه قال: لما رجع رسول الله (ص) من حجة الوداع، فنزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، ثم قام فقال: كأني قد دعيت فأجيب، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن

____________

(1) رواه أحمد وقال في الفتح رواه الترمذي باختصار والبزار باختصار وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (الفتح الرباني 214 / 21).

(2) الفتح الرباني 214 / 21.

(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).

(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23) والترمذي وقال حديث حسن (الجامع 636 / 5) وصححه الألباني (الصحيحة 632 / 5).

الصفحة 259
يتفرقا حتى يردا على الحوض، ثم قال: إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " قيل لزيد بن أرقم: أأنت سمعته من رسول الله (ص)؟

فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينه وسمعه بأذنه (1).

وعن عائشة بنت سعد قالت: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله (ص) وأخذ بيد علي فخطب ثم قال: أيها الناس إني وليكم. قالوا:

صدقت، فرفع يد علي فقال: هذا وليي والمؤدي عني وإن الله مولى من والاه ومعادي من عاداه " (2).

وعندما نوزع علي بن أبي طالب أيام خلافته، ذكر الناس بهذا الحديث، فعن أبي الطفيل قال: جمع علي الناس في الرحبة ثم قال:

أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله (ص) يقول يوم غدير خم ما قال لما قام، فقام إليه ثلاثون من الناس، قال أبو نعيم: فقام إليه ناس كثير، فشهدوا حين أخذ النبي (ص) بيده فقال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: بلى يا رسول الله (ص)، قال: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (3)، وزاد في رواية: وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله " (4).

____________

(1) رواه ابن جرير من زيد بن أرقم وعن أبي سعيد الخدري (كنز العمال 104 / 13) والنسائي (البداية 209 / 5).

(2) قال ابن كثير: رواه ابن جرير وقال الذهبي هذا حديث حسن. وقال وجدت ذلك في نسخة مكتوبة عن ابن جرير (البداية 213 / 5).

(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة (الزوائد 104 / 9).

(4) رواه البزار وابن جرير وقال الهيثمي رجاله ثقات (كنز العمال 158 / 13) وصححه الألباني (الصحيحة 343 / 5).

الصفحة 260
وقال في الفتح الرباني. قال السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة: حديث من كنت مولاه، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم، والإمام أحمد عن علي وأبو أيوب الأنصاري، والبزار عن عمرو ذي مر. وأبي هريرة. وطلحة. وعمار وابن عباس. وبريدة، والطبراني عن ابن عمر. ومالك بن الحويرث. وحبشي بن جنادة.

وجرير. وسعد بن أبي وقاص. وأبي سعيد الخدري، وأبو نعيم عن جندع الأنصاري، وقد خصص له الهيثمي سبع صفحات (1).

وقال الحافظ الكتاني: حديث من كنت مولاه في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي (ص) ثلاثون صحابيا، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته، وصرح المناوي بتواتره، وقال ابن حجر: حديث من كنت مولاه أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق. وقد استوعبها ابن عقدة في مؤلف مفرد، وأكثر أسانيدها صحيح أو حسن (2).

وقال ابن كثير: حديث من كنت مولاه رواه الإمام أحمد عن زيد بن أرقم. وقد رواه عن زيد بن أرقم جماعة، ورواه معروف بن جرموز عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد، ورواه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد. ورواه عن عدي بن ثابت بن البراء.

وعن أبي إسحاق عن البراء. ورواه عن سعد وطلحة بن عبد الله وجابر بن عبد الله. وله طرق عنه (3).

وقال الألباني: حديث من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، حديث صحيح جاء من طرق جماعة من

____________

(1) النتح الرباني 128 / 23).

(2) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 195.

(3) البداية والنهاية 350 / 5.

الصفحة 261
الصحابة، خرجت أحاديث سبعة منهم، ولبعضهم أكثر من طريق واحد، وقد خرجتها كلها وتكلمت على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1).

ولما كنا قد قابلنا بعض الأحداث التي جرت في عهد البعثة الخاتمة. بمثيلاتها على عهد أنبياء بني إسرائيل. ونحن نرصد منزلة هارون من موسى. فإننا نجد في مقام التطهير والعلم " وكلم الرب هارون قائلا: خمر ومسكر لا تشرب أنت وبنوك معك.. فرضا دهريا في أجيالكم. وللتمييز بين المقدس والمحلل. وبين النجس والطاهر.

ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بيد موسى " (2).

ولقد علمنا أن النبي (ص) بعد أن أدى المناسك. أعلن ولاية علي بن أبي طالب. وفي مقابل هذا الحدث، نجد العهد القديم يذكر أنه في اليوم الثامن من الشهر الذي تؤدي فيه المناسك، أمر موسى هارون أن يأخذ له عجلا ليذبحه في اليوم الذي يفيض الله برحمته على العباد، وفعل هارون ما أمر به موسى. " ثم رفع هارون يده نحو الشعب وباركهم.. ودخل موسى وهارون خيمة الاجتماع ثم خرجا وباركا الشعب " (3).

إن الدعوة الإلهية للناس دعوة واحدة. والتوحيد هو عماد هذه الدعوة. والإخلاص في العبادة يجعل شجرة التوحيد داخل النفس الإنسانية شجرة مورقة، لهذا كان الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية، ولكي يتحقق الإخلاص. فلا بد من حفظ الصلة بالله عز وجل، والمدخل إلى حفظ الصلة بالله. هو

____________

(1) كتاب السنة / ابن أبي عاصم. تحقيق نصر الدين الألباني ص 566 / 2.

(2) اللاويين 10 / 8 - 11.

(3) المصدر السابق 9 / 22 - 24.

الصفحة 262
حفظ الصلة بالرسول، لأن النور المحمدي هو البرزخ الذي بين الناس وبين النور الإلهي الذي تندك له الجبال، وحفظ الصلة بالرسول له قواعد وله علامات وقديما قالت العرب:.

إذ لم يكن صدر المجالس سيدا * فلا خير فيمن صدرته المجالس

3 - [ الترغيب والترهيب ]

إن حفظ الصلة بالرسول (ص) حثت عليه الدعوة الخاتمة في أكثر من آية، منه قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (1)، والمعنى: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب والتي ترفع أعلام الإخلاص والإسلام. وتسير بأتباعها نحو صراط الله المستقيم فإن اتبعتموني في سبيلي أحبكم الله. ومنه قوله تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) (2). والآية تشير إلى سبيل رسول الله (ص)، وفيها يأمره تعالى أن يخبر الناس أن هذه سبيله. أي طريقته ومسلكه وسنته، وأن هذا السبيل هو الذي يصل بمن يسلكه إلى سعادة الدارين، لأن النبي يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه النبي (ص)، ومنه قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) (3). في هذه الآية جعل الله تعالى أجر رسالة النبي المودة في القربى، فأي قربى؟

إن مودة الأقرباء على الاطلاق ليست مما يندب إليه في الإسلام قال

____________

(1) سورة آل عمران آية 31.

(2) سورة يوسف آية 108.

(3) سورة الشورى آية 23.

الصفحة 263
تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) (1)، والذي يندب إليه الإسلام هو الحب في الله، وبما أن لكل شئ ذروة، فإن الحب في الله ذروته حب النبي (ص)، ولهذا قيل أن المراد بالمودة في القربى. هو مودة قرابة النبي (ص)، وهم عترته من أهل بيته، ومن يتأمل في الروايات المتواترة عن النبي (ص). كحديث الثقلين وغيره، يجد أن النبي (ص) دفع الناس في اتجاه أهل البيت لفهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه، وهذا لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم وجعلها أجرا للرسالة. إنما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إلى أهل البيت. على إعتبار أن لهم المرجعية العلمية.

وروي عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولداها (2)، وعن أبي الديلم قال: لما جيئ بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال:

أما قرأت " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى "؟ قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم (3).

ومما يثبت أن المقصود بذي القربى: علي وفاطمة وولداها.

____________

(1) سورة المجادلة آية 22.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه جماعة ضعفاء وقد وثقوا (الزوائد 168 / 9) وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(3) أخرجه ابن جرير. والبغوي (تفسير البغوي 364 / 7) والمقريزي (فضائل أهل البيت ص 72).

الصفحة 264
تحذير النبي (ص) من الاقتراب منهم بأذى. لأن من يؤذيهم يكون في الحقيقة قد آذى رسول الله (ص)، ويقع تحت عقوبة لا يدفعها دافع، قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (1) ومن المعلوم أنه لا يوجد مخلوق يمكن أن يتقدم بأذى لله تعالى، ولكن الآية تتوعد كل من آذى النبي بشئ، لأن من آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله.

وتحذيرات النبي (ص) من الاقتراب بأي أذى لعترته، وردت في أحاديث كثيرة، منه ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي، فأقبل رسول الله (ص) غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: ما لكم وما لي من آذى عليا فقد آذاني " (2)، ومنه ما روي عن عمرو بن شاس الأسلمي. قال. خرجت مع علي إلى اليمن. فجفاني في سفري ذلك. حتى وجدت في نفسي عليه. فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد. حتى بلغ رسول الله (ص). فلما رآني أبدى عينيه (أي حدد إلي النظر) حتى إذا جلست قال: يا عمرو والله لقد آذيتني.

قلت أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله. قال: بلى من آذى عليا فقد آذاني (3) ومنه ما روي عن المسور بن مخرمة قال. قال النبي (ص):

____________

(1) سورة الأحزاب آية 57.

(2) أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات (الزوائد 129 / 9) (الفتح الرباني 120 / 23) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 122 / 3) ورواه البزار (كشف الأستار 200 / 3) ورواه ابن حبان في صحيحه (الزوائد 129 / 9) ورواه ابن أبي شيبة وابن سعد والبخاري في تاريخه والطبراني (كنز العمال 142 / 131) وابن كثير (البداية 347 / 7).

(3) رواه أبو يعلى وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 129 / 9) وابن كثير (البداية 347 / 7).

الصفحة 265
إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها (1).

وبالجملة إن الدعوة الإلهية الخاتمة بينت أن الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية. وبينت إن حفظ الصلة بالرسول هو صراط حفظ الصلة بالله. فمن آذى الرسول فقد آذى الله ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله.

ولأن المنافقين في كل عصر يعملون من أجل تدمير الدعوة من داخلها، فإن الدعوة الإلهية الخاتمة فتحت بين حركة النفاق وبين حركة الإيمان، لتصحيح الساحة بعد هذا الفتح من طرفين، لكل طرف أعلامه ومذاقه، لتسير القافلة وهي على بينة من أمرها، لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، وهذا الفتح يرى بوضوح إذا تدبر الباحث في الأحاديث المروية عن رسول الله (ص)، ومنها ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " والذي خلق الحبة وبرأ النسمة. إنه لعهد النبي (ص) إلي. أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " (2)، وما روي عن أبي ذر أنه قال. قال رسول الله (ص) لعلي: يا علي من فارقني فارق الله. ومن فارقك يا علي فارقني " (3)، وما روي عن عبيد الله بن عباس قال: نظر النبي (ص) إلى علي فقال: يا علي أنت سيد في الدنيا. سيد في الآخرة. حبيبك حبيبي. وحبيبي حبيب الله. وعدوك عدوي. وعدوي عدو الله. الويل لمن أبغضك بعدي " (4).

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 3 / 16) والبخاري بلفظ: فمن أغضبها أغضبني (الصحيح 2 / 302).

(2) رواه مسلم (الصحيح 64 / 2) والترمذي (الجامع 643 / 5) وأحمد (الفتح الرباني 122 / 23).

(3) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (كشف الأستار 3 / 201) (الزوائد 135 / 9) والحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).

(4) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة وإذا =