وعلى امتداد المسيرة ظهر ما كان في بطن الغيب، ظهر الذين يقرؤون القرآن لا يعدوا تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وظهر الذين قرؤا ثم نقروا ثم اختلفوا ثم ضرب بعضهم رقاب بعض، وظهر الذين قرؤا ثم اعتزلوا ثم خرجوا على جيرانهم بالسيوف ورموهم بالشرك. بينما كانوا هم إلى الشرك أقرب، وظهر الذين لا يقرؤن القرآن إلا في حفلات النفاق التي يشرف عليها اليهود والنصارى في كل مكان، وعلى أكتاف هؤلاء وهؤلاء. انطلق البعض في طريق التقدم إلى الخلف. وارتبط مصيرهم بمصير الذين سبقوهم، قال النبي (ص) " إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثرت قراؤهم " (3) وأخبر النبي (ص) بأن الذين يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين، وقال " لا يزالوا يخرجون، حتى يخرج آخرهم مع الدجال " (4)، وفي رواية " كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون مع بيضتهم الدجال " (5).
____________
(1) رواه أحمد والطبراني بسند صحيح (الزوائد 200 / 1).
(2) تحفة الأحوازي 413 / 7.
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 268 / 10) (الزوائد 189 / 1).
(4) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 299 / 6).
(5) رواه الطبراني. وإسناده، حسن (الزوائد 230 / 6).
ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف. يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (1)، وقال في الفتح الرباني: الحواريون هم خلصان الأنبياء وأصفيائهم. والخلصان هم الذين نقوا من كل عيب. وقيل: الخلصان هم الذين يصلحون للخلافة بعد الأنبياء (2).
لقد دافع الإسلام عن العلم، ولم يقاتل يوما من أجل الكرسي، وأمر الإسلام بالجهاد للإبقاء على الذروة التي تفيض بالعلم الإلهي ذروة كل العلوم وأشرف العلوم، لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يحملون النور المحمدي، ذلك النور الذي يعتبر برزخا بين الناس وبين النور الإلهي.
الذي تندك له الجبال.
رابعا - العترة بين التحذير والابتلاء:
إن الله تعالى يمتحن الناس بالناس. قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) (3) فدائرة الهدى على امتداد المسيرة البشرية، فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم، فيميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان، والمتبعون للأهواء من طلاب الحق الصابرين في طاعة
____________
(1) رواه مسلم وأحمد (الفتح الرباني 190 / 1) وابن عساكر (كنز العمال 73 / 6).
(2) الفتح الرباني 190 / 1.
(3) سورة الفرقان آية 20.
وأخبر النبي (ص) علي بن أبي طالب. بما سيجري له من بعده، وقال له " إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه (يعني لحيته) ستخضب من هذا (يعني رأسه) (5)، وروي أن النبي (ص) قال له:
ألا أحدثك بأشقى الناس، رجلين، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه (يعني رأسه) حتى تبتل منه هذه (يعني لحيته) (6).
وأخبر النبي (ص) الحسين بن علي بما سيجري له من بعده، وروى ابن كثير عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: أشهد لقد سمعت عائشة تقول: أنها سمعت رسول الله نهض يقول: يقتل الحسين بأرض
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 123 / 7).
(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 124 / 11).
(4) رواه الحاكم ونعيم بن حماد (كنز العمال 169 / 11).
(5) رواه أحمد والحاكم وصححه (المستدرك 142 / 3) والدارقطني والخطيب (كنز العمال 617 / 11) والبيهقي (البداية 218 / 6).
(6) قال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 136 / 9) و الحاكم والبيهقي بسند صحيح (المستدرك 141 / 3، البداية والنهاية 218 / 6، كنز العمال 136 / 13).
والخلاصة: إن الله يختبر الناس بالناس، وعلى هذا الاختبار يظهر أهل الريب من أهل الإيمان، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة)(5)، وقال سبحانه (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا. أليس الله أعلم بالشاكرين) (6)، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض. ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) (7)، والدعوة الخاتمة بينت الدرجات. وأمر تعالى بمودة قربى النبي (ص). قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (8) وبينت الدعوة أن الذين لا يصلون ما أمر الله به أن يوصل، والذين لم يأخذوا بما أمرهم تعالى به من طاعة وبما نهاهم به من نهي، فهؤلاء خاسرون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الذين
____________
(1) البداية والنهاية 177 / 8.
(2) رواه الحاكم وقال السيوطي سنده صحيح (الخصائص / السيوطي 213 / 2).
(3) رواه البغوي وابن السكن والبارودي وابن منده وابن عساكر وأبو نعيم (البداية والنهاية 199 / 8) (كنز العمال 126 / 12) (الخصائص الكبرى 213 / 2) (أسد الغابة 349 / 1) (الإصابة 68 / 1).
(4) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار (الزوائد 188 / 9) والماوردي في أعلام النبوة بسند صحيح ص 83.
(5) سورة الفرقان آية 20.
(6) سورة الأنعام آية 53.
(7) سورة الأنعام آية 165.
(8) سورة الشورى آية 23.
وبينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن عدم مودة الذين أمر الله بمودتهم، يفتح الطريق أمام مودة أعداء الفطرة وقد أمروا بعدم مودتهم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) (3). فالآية تنهي عن مودة المشركين والكفار وتنهي أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء. وتفتح الطريق أمام عبادة الأهواء والأوثان. قال تعالى حاكيا عن إبراهيم قوله لقومه (قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (4) قال المفسرون: وبخهم على سوء صنيعهم في عبادة الأوثان. وقال: إنما اتخذتم هذه ليجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعين الأتباع.
فالطريق يبدأ بأمر الله ونهيه، وعلى امتداد الطريق يمتحن الله الناس ببعض الناس، فمن سلك فيما أمر الله به نجا، ومن لم يؤخذ بوصايا الله ضل، والله تعالى أمر بصلة الأرحام، وذروة الأرحام عترة
____________
(1) سورة البقرة آية 27.
(2) سورة محمد آية 23.
(3) سورة الممتحنة آية 1.
(4) سورة العنكبوت آية 25.
وأن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أي طالب " (1)، وقال " أن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم " (2)، وقال " نحن خير من أبنائنا، وبنونا خير من أبنائهم، وأبناء بنينا خير من أبناء أبنائهم " (3)، وهكذا فكما أن للعلم درجات، فللأرحام درجات، وميزان هذه الدرجات هو التقوى والعلم بالله، فمن التف حول الذين أمر الله بمودتهم شرب من الماء، ومن أبى فتحت عليه مودة أخرى يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم، ويوم القيامة يعض على يديه، قال تعالى: (يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) (4).
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية. قامت طائفة الحق بالدفاع عن الفطرة، ولم يضرها من عاداها أو من خذلها، وفي عهد الإمام علي.
خرج عليه أصحاب الأهواء، فقاتلهم الإمام على تأويل القرآن، وعنه أنه قال " أمرني رسول الله (ص) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين " (5)، فالناكثين: أهل الجمل، والقاسطين: أهل الشام، والمارقين: الخوارج، وانطلقت مسيرة الإمام رضي الله عنه بأعلام الحمية، وروي أن النبي (ص) قال له " أنت أخي وأبو ولدي، تقاتل في سنتي وتبرئ ذمتي، من مات
____________
(1) رواه الطبراني عن جابر، والخطيب عن ابن عباس (كنز 600 / 11).
(2) رواه الحاكم وابن عساكر (كنز 98 / 12).
(3) رواه الطبراني (كنز 104 / 12).
(4) سورة الفرقان آية 27.
(5) رواه ابن عدي والطبراني وقال ابن كثير روي عن طرق عديدة (البداية والنهاية 334 / 7) (كنز العمال 292 / 11).
وتحت هذا الضوء انطلقت الأمة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون. لاستحقاق الثواب والعقاب يوم القيامة.
____________
(1) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رجاله ثقات (كنز العمال 159 / 13).
(2) رواه مسلم (كنز العمال 509 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 52 / 23).
ثانيا - [ أضواء على المسيرة ]
أولا - [ أضواء على الساحة بعد وفاة النبي (ص) ]
كان الساحة بعد وفاة النبي (ص) بها جميع الأنماط البشرية، بها المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وبها الذين في قلوبهم مرض أو زيغ، وهؤلاء لا يخلو منهم مجتمع على امتداد المسيرة البشرية.
وكان الذين في قلوبهم مرض يختزنون في ذاكرتهم ببعض ما أخبر به النبي (ص) فيما يستقبل الناس، ومنه تفسيره لقوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) (1) وقوله: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) (2) وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) (3)، وقول النبي القرشي " يا معشر قريش، ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان، فيضرب رقابكم على الدين " فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل، وقد كان ألقى نعله إلى علي بن أبي طالب يخصفها " (4).
____________
(1) سورة الحج آية 78.
(2) سورة الزخرف آية 41.
(3) سورة إبراهيم آية 28.
(4) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 138 / 2) وابن جرير والضياء بسند
آخر غزواته، وأسر النبي (ص) بأسمائهم إلى حذيفة، وكان حذيفة وعمار بن ياسر معه (ص) عند محاولة هذه المجموعة اغتياله، وروي أن حذيفة قال: يا رسول الله ألا تبعث إلى كل رجل منهم فتقتله، فقال: أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه "، وقال النبي (ص) لحذيفة " فإن هؤلاء فلانا وفلانا (حتى عدهم) منافقون لا تخبرن أحد " (7)، وعدم إفشاء النبي (ص) بأسمائهم يستنتج منه. أن هذه المجموعة لم تكن من رعاع القوم وإنما من أشد الناس فتكا، وقتلهم يؤدي إلى طرح ثقافة يتناقلها
____________
صحيح (كنز 173 / 13) والترمذي وصححه (الجامع 634 / 5).
(1) رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (كنز 480 / 2).
(2) رواه نعيم بن حماد والحاكم (كنز 169 / 11).
(3) رواه نعيم بن حماد وقال ابن كثير رواه البيهقي ورجاله ثقات (كنز العمال 274 / 11) (البداية 268 / 6).
(4) أنظر: مجمع الزوائد 112 / 1، المستدرك 481 / 4، البداية والنهاية 50 / 10، الإصابة 29 / 2.
(5) كنز العمال 82 / 8.
(6) مسلم (الصحيح 135 / 2).
(7) محاولة الاغتيال رواها الإمام أحمد والطبراني وابن سعد وغيرهم (أنظر الزوائد 110 / 11).
فالساحة بعد وفاة النبي (ص) كان بها جميع التيارات، وكان بها مجموعة حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويبدو من قراءة الأحداث أن الساحة كان بها مجموعة من أصحابه أخذت في اعتبارها أن ولاية علي بن أبي طالب قد تؤدي إلى أحداث اعتقدوا أنها يمكن أن تعصف بالدعوة، فاختاروا حلا وسطا ويبتعد به علي بن أبي طالب عن مركز الصدارة، وتظل به الدعوة قائمة، ويشهد بذلك قول أبي بكر رضي الله عنه لرافع بن أبي رافع حين عاتبه على توليه الخلافة " إن رسول الله (ص) قبض والناس حديثو عهد بكفر فخفت أن يرتدوا وأن يختلفوا فدخلت فيها وأنا كاره " (4) وفي رواية قال " تخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 125 / 7).
(2) رواه مسلم (الصحيح 124 / 7) وأحمد (الفتح الرباني 140 / 23).
(3) رواه البخاري ك لصلاة ب التعاون في بناء المساجد، ورواه أحمد (الفتح الرباني 331 / 22).
(4) رواه ابن خزيمة في صحيحه والبغوي وابن راهويه (كنز العمال 586 / 5).
ويشهد به قول عمر لابن عباس: يا ابن عباس ما منع قومكم منكم؟ قال: لا أدري، قال: لكني أدري يكرهون ولايتكم لهم. يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة (4)، وزاد في رواية: فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت (5).
وروي أن عمر بن الخطاب عندما اختلف بعض الأنصار مع بعض المهاجرين في سقيفة بني ساعدة، على من الذي يتولى الخلافة ومن يتولى الوزارة، أمر عمر بقتل مرشح الأنصار سعد بن عبادة، وذلك حينما اشتد الخلاف وتشابكوا بالأيدي، روى الطبري: قال ناس من أصحاب سعد: إتقوا سعد ألا تطؤه، فقال عمر: إقتلوه إقتلوه، ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك (6)، وروى البخاري: قال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله (7)،
____________
(1) رواه أحمد بسند صحيح (الفتح الرباني 61 / 23).
(2) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 60 / 1) والطبري (تاريخ الأمم والملوك 200 / 3).
(3) لسان العرب مادة فلت ص 3455.
(4) تاريخ الأمم والملوك 30 / 5.
(5) المصدر السابق 31 / 5.
(6) المصدر السابق 210 / 3.
(7) البخاري (الصحيح 291 / 2).
ثانيا - [ أضواء على حركة الاجتهاد والرأي ]
على امتداد عهد البعثة كان النبي (ص) يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وكان بالساحة من سمع من رسول الله (ص) شيئا ولم يحفظه على وجهه، ويرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه، وكان بالساحة من سمع من رسول الله (ص) شيئا يأمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم. أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه، وكان بالساحة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، لم يكذبوا على الله ولا على رسوله، حفظوا ما سمعوا على وجهه، فلم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه، حفظوا الناسخ فعملوا به، وحفظوا المنسوخ فجنبوا عنه، عرفوا الخاص والعام، والمحكم والمتشابه، فوضعوا كل شئ موضعه، وقد كان يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهين، فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى به الله سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله (ص)، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله في من كان يسأله يستفهمه، حتى إن كانوا يحبون أن يجيئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه الصلاة
____________
(1) تاريخ الأمم 210 / 3.
ونظر لاتساع الهوة في رواية الحديث بعد إبعاد أهل البيت عن مكانهم في الذروة، اختلف الناس في الفتوى، حتى قال الإمام علي " ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم ترد القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله تعالى يقول (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (2). وفيه تبيان كل شئ. وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا. وإنه لا اختلاف فيه.
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (3). إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق. لا تفنى عجائبه. ولا تنقضي غرائبه. ولا تكشف الظلمات إلا به " (4).
ويشهد بعدم معرفة جميع الصحابة بما روي عن رسول الله (ص)، واختلافهم في الفتوى، ما رواه البخاري عن أبي هريرة أنه قال " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم
____________
(1) أنظر شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ص 591 / 3.
(2) سورة الأنعام آية 38.
(3) سورة النساء آية 82.
(4) شرح النهج / ابن أبي الحديد 233 / 1.
ويشهد بأنهم لم يكونوا على علم بجميع ما روي عن رسول الله، ما روي في حديث صحيح، عن سالم بن عبد الله عن أبيه " أن أبا بكر وعمر وناس، جلسوا بعد وفاة النبي (ص)، فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك. ووثبوا إليه شيعا حتى أتوه في داره، فأخبرهم بحديث رسول الله... " (5).
ويشهد باختلافهم في الفتوى، أن عمر بن الخطاب لم يكن يعلم حكم دية الأصابع. فكان يقضي بتفاوت ديتها على حسب اختلاف
____________
(1) البخاري (الصحيح 214 / 1).
(2) البخاري ك الإعتصام (الصحيح 269 / 4).
(3) البخاري ك الإستئذان (الصحيح 88 / 4).
(4) البخاري ك الإعتصام (269 / 4).
(5) قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد صحيح والحاكم وصححه وقال صحيح على شرط مسلم (الترغيب والترهيب 184 / 3).
وبالجملة: اجتهد الصحابة تحت سقف الامتحان والابتلاء، وكان الاجتهاد قابلا للخطأ وللصواب، فعن موسى بن إبراهيم قال " إن أبا بكر حين استخلف، قعد في بيته حزينا، فدخل عليه عمر بن الخطاب، فأقبل أبو بكر عليه يلومه. وقال: أنت كلفتني هذا الأمر. وشكا إليه الحكم بين الناس، فقال عمر: أو ما علمت أن رسول الله (ص). قال " إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا واحدا،. فكأنه سهل على أبي بكر " (4).
ثالثا - [ المقدمات العمرية والنتائج الأموية ]
أولا - (الأمر برواية الحديث)
أمرت الدعوة الإلهية الخاتمة بتدوين ما بين الناس حفظا للحقوق، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)، إلى قوله تعالى: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) (5)، قال الخطيب البغدادي: أدب الله تعالى عباده. بقيد ما بينهم من معاملات في بداية التعامل حفظا للدين وإشفاقا من دخول الريب فيه، فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظا له، كان العلم الذي
____________
(1) أخرجه الشافعي في الأم بسند حسن. والنسائي.
(2) رواه البخاري ك الديات (الصحيح 193 / 4).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 198 / 15) والترمذي (الجامع 419 / 4).
(4) رواه البيهقي وابن راهويه وخثيمة (كنز العمال 630 / 5).
(5) سورة البقرة آية 282.
والنبي (ص) أمر بكتابة العلم وقال " قيدوا العلم بالكتاب " (3) وعن رافع قال " خرج علينا رسول الله (ص) فقال: تحدثوا. وليتبوأ من كذب علي مقعده من النار، قلت: يا رسول الله إنا لنسمع منك أشياء فنكتبها؟
قال: إكتبوا ولا حرج " (4)، وعن أبي هريرة قال: ليس أحد من أصحاب النبي (ص) أكثر مني حديثا عن رسول الله إلا ابن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب " (5).
وروي أن النبي (ص) قال " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (6)، وكان يقول " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه " (7)، وقال " تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم " (8).
____________
(1) تقييد العلم / الخطيب البغدادي ص 34.
(2) سورة الصافات آية 157.
(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 152 / 1) وابن عبد البر (جامع العلم 86 / 11).
(4) رواه الطبراني (الزوائد 151 / 1) والخطيب وسمويه (كنز العمال 232 / 10).
(5) رواه الترمذي وصححه (الجامع 40 / 5).
(6) رواه أحمد (الفتح الرباني 191 / 1) والحاكم (المستدرك 109 / 1).
(7) رواه أحمد (كنز العمال 220 / 10) والترمذي وابن حبان في صحيحه (كنز 221 / 10).
(8) رواه أحمد وأبو داوود والحاكم (كنز 223 / 10).
الكتابة (2)، وروي عنه أنه قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (ص) أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله (ص)، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله (ص)، فقال: أكتب والذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق - وأشار إلى فيه (3)، وما حدث مع عبد الله، حدث مع ابن شعيب، فعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال " قلت يا رسول الله - أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قلت: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا (4).
وبينما كان النبي (ص) يحث على الرواية والكتابة على امتداد عهد البعثة، كان يخبر بالغيب عن ربه بأنه يوشك أن يكذبه أحدهم، وأن الرواية سيتم تعطيلها إلى أن يشاء الله، فعن معد يكرب قال " قال رسول الله (ص)، يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته.
يحدث بحديث من حديثي فيقول. بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه
____________
(1) رواه أبو داوود حديث رقم 4243.
(2) رواه الطبراني (الزوائد 152 / 1).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 173 / 1) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 106 / 1) وأبو داوود (حديث رقم 3646) والدرامي في سننه 125 / 1.
(4) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 85 / 1) والخطيب (تقييد العلم ص 74).
(إجتهادات الصحابة في رواية الحديث وتدوينه):
إجتهد أبو بكر رضي الله عنه في رواية الحديث وتدوينه، روى الحافظ عماد الدين بن كثير عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله (ص)، فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيرا، فغمتني، فقلت: تتقلب بشكوى أو بشئ بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئت لها، فدعا بنار فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك. فيكون فيها أحاديث عن رجل إئتمنه ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقلدت ذلك " (3)، وذكر الذهبي في تذكرته. عن أبي بكر أنه قال " إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا، بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه " (4).
____________
(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 191 / 1) والحاكم وصححه (المستدرك 109 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 38 / 5).
(2) رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة والحاكم وصححه (كنز 174 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 37 / 5).
(3) رواه ابن كثير (كنز العمال 285، 286 / 10).
(4) تذكرة الحفاظ 2، 3 / 1.
وعن سعد بن إبراهيم عن أبيه. أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء، ما هذا الحديث عن رسول الله (ص)، وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب (5)، وعن السائب بن يزيد قال:
سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله (ص). أو لألحقنك بأرض دوس (6)، وعن الزهري عن أبي سلمة قال:
سمعت أبو هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول. قال رسول الله (ص).
حتى قبض عمر بن الخطاب (7).
____________
(1) رواه ابن عبد البر (كنز 292 / 10) وابن سعد (كنز 293 / 10) والخطيب (تقييد العلم ص 49).
(2) رواه ابن عبد البر (كنز 292 / 10).
(3) رواه خيثمة وابن عبد البر (كنز 292 / 10) والخطيب (تقييد العلم 53).
(4) رواه الخطيب (تقييد العلم 52).
(5) رواه ابن عبد البر (كنز العمال 292 / 10) وابن سعد (كنز 293 / 0 1) والخطيب (العلم 49).
(6) رواه ابن عساكر (291 / 10).
(7) رواه ابن كثير (البداية والنهاية 107 / 8).
وعندما جاء عهد الإمام علي بن أبي طالب، لم يكن السواد الأعظم من الأمة يعرفون عنه إلا القليل، وذلك لأن عهده جاء بعد وفاة النبي في بربع قرن تقريبا، عتم فيها عدم الرواية على منزلته ومناقبه، وفي عهد علي بن أبي طالب بدأ الصحابة يروون الأحاديث عن رسول الله (ص)، وكان علي يقول " خرج علينا رسول الله (ص) فقال: اللهم إرحم خلفائي، اللهم إرحم خلفائي، اللهم إرحم خلفائي، قالوا: يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلمونها للناس " (3)، وعن الحسن بن علي قال " قال رسول الله (ص)، رحمة الله على خلفائي، قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله يا رسول الله؟ قال:
الذين يحيون سنتي ويعلمونها للناس " (4)، وعن سعيد بن المسيب قال " ما كان أحد من الناس يقول سلوني، غير علي بن أبي طالب "، وكان علي يحض الناس على السؤال ويقول " ألا رجل يسأل فينتفع. وينتفع
____________
(1) رواه ابن سعد (الطبقات 336 / 2) وابن عساكر (كنز 295 / 10).
(2) رواه ابن عساكر (كنز 291 / 10).
(3) رواه الطبراني والرامهرمزي والخطيب والديلمي وابن النجار والدينوري والقشيري ونصر (كنز العمال 294 / 10).
(4) رواه ابن عساكر وأبو نصر السجزي (كنز 229 / 10).
(5) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 137 / 1).
وبالجملة: بينت الدعوة الإلهية الخاتمة، أن الحديث عن النبي الخاتم (ص)، لا غنى للمسيرة عنه، لأنه مكمل للتشريع ومبين لمجملات القرآن، ومخصص لعموماته ومطلقاته، كما أن الحديث تكفل بكثير من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية، وأخبر فيه النبي (ص) بالغيب عن ربه جل وعلا، فبين للناس ما يستقبلهم من أحداث ليأخذوا بأسباب النجاة من مضلات الفتن، وبعد رحيل النبي الخاتم (ص) أجتهد بعض الصحابة في أمر الرواية والتدوين، ولقد تواترت الأخبار في منع عمر بن الخطاب الصحابة وهم الثقات العدول، وردعهم عن رواية العلم وتدوينه، وفي هذا يقول ابن كثير: هذا معروف عن عمر (4)، ثم سار على سنة عمر خلفاء وملوك بني أمية، ولم ترو الأحاديث الجامعة للعلم والمبينة للناس ما يستقبلهم من أحداث، إلا في عهد الإمام علي بن أبي طالب (5).
(من آثار عدم الرواية والتدوين):
كانت أهم آثار عدم الرواية، ظهور القص في المساجد، ومن خلال القص دخلت الأحاديث الإسرائيلية، ورفع القص من شأنه أفراد وقبائل ذمهم الله على لسان رسوله، وفي نفس الوقت عتم القص على
____________
(1) المصدر السابق 137 / 1.
(2) رواه الخطيب (كنز العمال 304 / 10).
(3) رواه عبد الله بن أحمد والخطيب (كنز 304 / 10).
(4) البداية والنهاية 107 / 8.
(5) أنظر / معالم الفتن / سعيد أيوب ط دار الكرام بيروت.
1 - أضواء على القص:
قال رسول الله (ص) " إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا " (1). وقال " سيكون بعدي قصاص لا ينظر الله إليهم " (2)، وأول من أمر بالقص، عمر بن الخطاب، روى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد قال: " إنه لم يكن يقص على عهد رسول الله (ص) ولا أبي بكر. كان أول من قص تميم الداري. إستأذن عمر أن يقص على الناس قائما فأذن له " (3).
واستلم بني أمية أعلام القص بعد ذلك، روي أن عبد الملك بن مروان قال: إنا جمعنا الناس على أمرين. رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر " (4)، ولبس القص الزي الديني في عهد بني أمية، وذلك أن النبي (ص) كان يبدأ بالصلاة في العيدين ثم يخطب بعد ذلك، ففعل بني أمية العكس. وبدؤوا بالخطبة لينشروا بذلك مذهبهم السياسي بين الناس، روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري.
____________
(1) رواه الطبراني ورجاله موثقون وفيه الأجلح الكندي والأكثر على توثيقه (الزوائد 189 / 1).
(2) رواه ابن فضالة في أماليه (كنز العمال 282 / 10).
(3) رواه أحمد والطبراني (الزوائد 190 / 1) والعسكري عن بشر بن عاصم (كنز 281 / 10) والمروزي عن أبي نضرة (كنز 281 / 10).
(4) رواه أحمد والبزار وقال ابن حجر إسناده جيد (الفتح الرباني 194 / 1).
فإذا صلى صلاته وسلم. قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم. فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس. أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها (1).
أما التغيير ففي ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري " أن مروان خطب قبل الصلاة. فقال له أبو سعيد: غيرتم والله. قال مروان: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقال: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، قال مروان: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة " وقد اختلف في أول من سن هذه السنة، قال في تحفة الأحوازي: اختلف في أول من غير ذلك، فرواية الإمام مسلم صريحة في أن مروان أول من بدأ الخطبة قبل الصلاة، وقيل. سبقه إلى ذلك عثمان بن عفان، روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، وروى أن مروان فعل ذلك تبعا لمعاوية، ومعاوية عندما قدم المدينة قدم الخطبة (2)..
وكان الإمام علي يتصدى للقصاصين وينهاهم عن القص، فعن أبي البحتري قال: دخل علي بن أبي طالب المسجد، فإذا رجل يخوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس. ولكنه يقول أنا فلان بن فلان. اعرفوني، فأرسل إليه فقال:
أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا، فقال: أخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه (3).
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 20 / 3).
(2) تحفة الأحوازي 74 / 3.
(3) رواه العسكري والمرزوي (كنز العمال 281 / 10) وانظر: كنز العمال 282 / 10.
ووضع القصاصون أحاديث تحمل بصمة أهل الكتاب، والصق بالتفسير روايات وقصص لا يتصورها عقل ولا يجوز أن يفسر بها كتاب الله، ووضعوا في هذه الأحاديث. أن الله يشغل حيزا من المكان، ويضحك وينتقل من مكان إلى آخر، وأنه يتألف من أعضاء، وهو عبارة عن هيكل مادي، وعين ويد وأصابع وساق وقدم.
وبالجملة: كان القص وراء تغييب العقل ووطئه بالأقدام، وتحت سقفه إختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال، وعلى موائده لا تظهر القراءة النقدية المتفحصة التقيمية إلا بعد عناء شديد، وكان القص وراء إهمال الواجبات والتسامح في المحرمات والتهاون بالسنن والمستحبات، وكان البذرة الأولى لظهور المبادئ والمنظمات الباطلة التي وضعت القوانين على طبق أهوائهم وآرائهم، وعلى هذه المبادئ انقسمت الأمة إلى قوافل. وكل قافلة تتولى حزبا وتحبه. لأنها
____________
(1) المجروحين / ابن حبان ص، 88 / 1.
2 - الخفوت والظهور:
وكان من آثار عدم الرواية. التعتيم على أهل البيت، وذلك لأن الأمر بحرق الكتب. أطاح بالعديد من الأحاديث التي تبين منزلة أهل البيت ومناقبهم، ويشهد ذلك ما رواه الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن.
صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت النبي (ص)، فاستأذنا على عبد الله، فدخلنا عليه فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها. فإن فيها أحاديث حسانا، فجعل يميثها في الماء، ويقول (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن. ولا تشغلوها بما سواه (1).
ويشهد بذلك أن عليا عندما تولى الخلافة لم يكن السواد الأعظم يعلم عن منزلته ومناقبه شيئا، حتى أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع النبي (ص) يقول " من كنت مولاه فعلي مولاه " أن يقوم. وكان قد جمعهم في الرحبة. ولم يعرف العوام مناقبه إلا من خلال ما رواه الصحابة بعد ذلك وكان العديد من الصحابة يتحدثون في مجالسهم الخاصة عن مناقبه، ولكن هذا الحديث لم يكن يخرج إلى الساحات العامة، وفي مقابل هذا التعتيم، كان لعدم الرواية الأثر الكبير في ظهور الذين حذر منهم النبي (ص) وهو يخبر بالغيب عن ربه، ويشهد بذلك ما روي عن حذيفة أنه قال: " والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك
____________