ومنها: كراهته صلى الله عليه وآله للقتل والقتال وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا وليس في محو لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها لثبوتها بآياتها البينات ومعجزاتها النيرات.
مقارنات بين محمد صلى الله عليه وآله وبين ما اتبعه علي عليه السلام
ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ويقول القرآن في سورة الأنفال (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) (1) لذا ترون عليا عليه السلام ترك قتلهم وقتالهم مقتديا بالنبي صلى الله عليه وآله ومتبعا له في شرعه ومنهاجه فلم يقاتل دافعيه عن حقه لمقاصد
____________
(1) سورة الأنفال الآية: 61.
وجملة القول كانت رعايته عليه السلام لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقه.
وكان ضياع حقه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله، وما فعله عليه السلام هو الواجب عقلا وشرعا إذ أن مراعاة الأهم وهو احتفاظه بالأمة، وحياطته على الملة وتقديمه على المهم وهو احتفاظه بحقه (عند التعارض من الواجب الضروري في الدين الإسلامي وميله للسلم والموادعة كان هو الأفضل في الصواب.
المؤلف: سماحة السيد أدلتك مقنعة وقوية ولكن أين نذهب بقوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
السيد البدري: لماذا أنت متمسك بهذه الآية اتركني أنتهي من الأدلة وأرد عليك إن شاء الله تعالى إصبر إصبر يا أخي..
ألم تسمع بكتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام إذ قال في خطبته المشهورة بالشقشقية:
(أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب منها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا
ونقل ابن أبي الحديد أيضا في نهج البلاغة في 308 تحت عنوان خطبته عند مسيره للبصرة، قال وروى الكلبي أنه لما أراد علي عليه السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله: (إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن ويعكسه أقل خلف...).
ولعلي عليه السلام في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر، بعثه مع مالك الأشتر رحمه الله تعالى جاء فيه:
(أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى صلى الله عليه وآله تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله عن أهل بيته، ولا أنه نحوه عني من بعده صلى الله عليه وآله فما راعني إلا إنثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب وكما ينسطع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه).
فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها، ثم قالوا: هلم فبايع وإلا جاهدناك فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا، فقال قائلهم: يا بن أبي طالب، إنك على هذا الأمر لحريص، فقلت: أنتم أحرص مني وأبعد أني أحرص؟ أنا الذي طلبت ميراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله أولى به، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه! فبهتوا، والله لا يهدي القوم الظالمين.
ولا أطيل عليك بعد هذه الأدلة من كلمات الإمام وخطبه المشهورة التي تبين مظلوميته وسكوته عن حقه وقعوده.
المؤلف: هل الخطبة الشقشقية للإمام علي (رض) أم من إنشاء وأقوال الشريف الرضي الذي جمع نهج البلاغة وقد ثبت في التاريخ أنه لم يكن ناقما على خلافة الخلفاء الراشدين قبله بل كان راضيا منهم ومن آمن لهم سماحة السيد أعطني دليلا على أن نهج البلاغة من أقوال الإمام علي (رض) وكرم الله وجهه وإلا هذه الأقوال والخطب مردودة.
السيد البدري: الشارحون لنهج البلاغة من علمائكم يا أستاذ ابن أبي الحديد المعتزلي لم يكن شيعيا هذا أولا.
ثالثا: الشيخ محمد الخضري من أعلام السنة وله كتاب بعنوان محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية صفحة 27 وقد صرح أن الخطبة الشقشقية من بيان الإمام علي عليه السلام وهناك أكثر من أربعين عالما من الفريقين السني والشيعي قد صرحوا بأن الخطبة الشقشقية من كلام الإمام علي عليه السلام لأنها على نسق خطبه الأخرى في النهج.
وقد نقل لنا ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة الشقشقية من كلام الرضي (رحمه الله تعالى) فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور.
الخطبة الشقشقية موجودة قبل ولادة الرضي
ما المقايسات التي أشار إليها ابن الخشاب وغيره إنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب منتشرة قبل أن يولد الشريف الرضي وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب - نقيب الطالبيين، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة، عن الشيخ عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، أعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
ثم قال ابن أبي الحديد: وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف
ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة - أحد متكلمي الإمامية - المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف) وكان أبو جعفر هذا من تلاميذ الشيخ أبي القاسم البلخي (رحمه الله) ومات في ذلك العصر قبل أن يولد الشريف الرضي.
ووجدتها أيضا بخط الوزير ابن فرات، كان قد كتبها قبل ميلاد الرضي بستين سنة.
وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة: إني وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبة، وهو متوفى قبل أن يولد الشريف الرضي.
اللقاء الرابع
كان اللقاء الرابع محددا من قبل السيد لتكملة الحوار والمناظرة في قضايا الخلاف ومعرفة الحقيقة حيث كنت ألح على السيد بالنقاش.
المؤلف: سماحة السيد أريد جوابا منكم لقوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (1) أليس الخلفاء ممن تحدثت الآن عنهم من الذين كانوا أشداء على الكفار وكانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فهذا توجيه الآية
____________
(1) سورة الفتح آية 26.
السيد البدري: أقول: أولا يا أستاذ إن الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وأبي الدرداء وسعد، وسعيد، وأبي موسى الأشعري، وأبي سفيان وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، ومالك بن نويرة وأبي معيط، ويزيد، والوليد بن عقبة، وعبد الله بن سلول وغيرهم ن الناس لأن هؤلاء كلهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله لا خصوص الخلفاء الثلاثة فقط الذين ذكرتهم يا أستاذ.
لأن الآية الكريمة جاءت على صيغة الاطلاق العمومي لكل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله (محمد رسول الله والذين معه) لم تحدد أو تخصص الآية فقط الخلفاء الثلاثة. وذلك فإن كل ما أوجب دخول الخلفاء: أبو بكر، وعمر، وعثمان (رض) في القرآن وثنائه، فهو يقتضي بوجوب دخول كل من ذكرنا في الآية لأن هؤلاء كلهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وكانوا جميعا من الذين معه وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله والنصرة للإسلام، ما لم يكن شئ منه للخلفاء أبي بكر، وعمر، وعثمان (رض)، فكيف يتسنى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء (رض) وحدهم؟ وبماذا يا ترى اختص الخلفاء الثلاثة (رض) بما خرج عنه أولئك والجميع بمستوى واحد، وفي ميزان واحد؟ وهل تجد لذلك يا أخي وجها إلا التخصيص بلا مخصص والترجيح بلا مرجح، الباطلين
فإن قلت لي إن الآية تريد كل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الزمان أو المكان أو بظاهر الإسلام فقد صرت إلى أمر كبير وهو مدح الكافرين والمنافقين الذين (معه) صلى الله عليه وآله في المكان وكانوا يتظاهرون له صلى الله عليه وآله بالإسلام ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن.
المؤلف: مقاطعا السيد: نحن لا نريد أن ننتقص الصحابة (رض) ولكن أقبل الدليل من القرآن أو من السنة.
السيد البدري: فهاك نماذج من مخالفات الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله من القرآن والسنة.
نماذج من مخالفات الصحابة للرسول صلى الله عليه وآله
منها: إنهم أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وآله صلح الحديبية وتكلموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (1).
منها: إنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أم المؤمنين عائشة لما تأخرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (2) حتى نزل فيهم قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) (3).
منها: إنهم تجرؤوا على النبي صلى الله عليه وآله وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي
____________
(1) صحيح البخاري، ج 2، ص 974، ح 2581 و 2582، باب الشروط في الجهاد.
(2) صحيح البخاري، ج 4: 1517، ح 3910، باب حديث الإفك.
(3) سورة النور: آية 11.
منها: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ومعها من يضرب الدف ويستعمل ما حرمه الإسلام، فتركوا رسول الله قائما على المنبر وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب رغبة فيه وزهدا في استماع مواعظه وما يتلوا عليهم من آيات القرآن الكريم حتى أنزل الله تعالى فيهم (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) (2).
ومنها: إنهم قد تشاتموا مرة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وتضاربوا بالنعال بحضرته، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (3) وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذوا السلام واصطفوا للقتال - كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (4) مع علمهم بقول رسول الله (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) على ما حكاه البخاري في صحيحه (5)، وعلمهم بما أوجبه الله تعالى عليهم من التأدب بحضرته صلى الله عليه وآله وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر
____________
(1) صحيح البخاري، ج 5: 2184، ح 5460، باب لبس القميص.
(2) سورة الحجة الآية: 11.
(3) البخاري، 2: 958، ح 48، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(4) البخاري، 2: 107.
(5) صحيح البخاري، ح 48، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
وهناك مخالفات كثيرة وقعوا فيها مما يضيق المجال لذكرها الآن.
المؤلف: سماحة السيد لماذا لم تذكر فضيلة الخليفة أبي بكر (رض) عندما كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله في الغار (والذين معه) ألم يكن مع رسول الله في الغار لتحقيق معنى الآية... ولماذا تنكرون ذلك أنتم الشيعة؟
ألم يكن له شرف الهجرة مع الرسول صلى الله عليه وآله وهذه من أكبر الفضائل للخليفة الأول ألم تنزل عليه السكينة في الآية؟ لماذا تغفل هذه الأمور ولم تناقشها ألم يكن تعصبا ودفاعا عن الشيعة؟
السيد البدري: إن ما ذكره الطبري في تاريخه: إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبي صلى الله عليه وآله فجاء عند علي بن أبي طالب وسأله عن رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبي صلى الله عليه وآله فرآه في الطريق فأخذه النبي صلى الله عليه وآله معه.
فالنبي صلى الله عليه وآله إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد، لا كما تقول وقال بعض المحققين: إن أبا بكر بعدما التقى بالنبي صلى الله عليه وآله في الطريق اقتضت الحكمة النبوية أن يأخذه معه ولا يفارقه لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة، وكان المفروض أن يكون سرا، كما نوه به الشيخ أبو القاسم ابن الصباغ، وهو من كبار علمائكم.
قال في كتابه (النور والبرهان).
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر عليا فنام على فراشه،
____________
(1) صحيح البخاري، ح 48، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
السيد البدري: أسألك يا أستاذ أن تبين لي محل الشاهد من الآية الكريمة وتوضح الفضيلة التي سجلتها الآية لأبي بكر؟!
المؤلف: الآية تبدأ من قوله تعالى (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) (1).
محل الشاهد ظاهر والفضيلة أظهر وهي:
أولا: صحبة النبي صلى الله عليه وآله فإن الله تعالى يعبر عن الصديق صلى الله عليه وآله بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثانيا: جملة: (إن الله معنا).
ثالثا: نزول السكينة من عند الله سبحانه وتعالى على سيدنا أبي بكر (رض) ومجموعها تثبت أفضلية سيدنا الصديق وأحقيته بالخلافة.
وأنت صرحت أيها السيد لا أحد ينكر أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ومن شيوخ المسلمين وأنه زوج ابنته من النبي صلى الله عليه وآله.
السيد البدري: ولكن كل هذه الأمور لا تدل على أحقيته بالخلافة.
وكذلك كل ما ذكرت من شواهد ودلائل من الآية الكريمة لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر، بل لقائل أن يقول: إن صحبة الأخيار والأبرار لا
____________
(1) سورة التوبة الآية 40.
الصحبة ليست فضيلة
فإنا نقرأ في سورة يوسف الصديق عليه السلام أنه قال: (يا صا حبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (1).
لقد أتفق المفسرون أن صاحبي يوسف الصديق عليه السلام هما ساقي الملك وطباخه وكانا كافرين ودخلا معه السجن ولبثا خمس سنين في صحبة النبي يوسف الصديق عليه السلام ولم يؤمنا بالله حتى أنهما خرجا من السجن كافرين، فهل صحبة هذين الكافرين لنبي الله يوسف عليه السلام تعد منقبة وفضيلة لهما؟!
ثانيا: ونقرأ في سورة الكهف: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) (2).
ذكر المفسرون: أن المؤمن - كان اسمه: يهودا - قال لصاحبه - واسمه:
براطوس - وكان كافرا، وقد نقل المفسرون - منهم - الفخر الرازي محاورات هذين الصاحبين، ولا مجال لنفيها سؤال: فهل تعد صحبة براطوس ليهودا، فضيلة أو شرفا يقدمه على أقرانه؟!
أو هل تكون دليلا على إيمان براطوس، مع تصريح الآية:
(أكفرت بالذي خلقك من تراب)؟!
____________
(1) سورة يوسف: الآية 39.
(2) سورة الكهف الآية 2.
وأما استدلالك على أفضلية أبي بكر، بالجملة المحكية عن النبي صلى الله عليه وآله: (إن الله معنا) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد لأن الله تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب، بل يكون مع غير المؤمنين أيضا لقوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا...) (1).
فبحكم هذه الآية الكريمة فإن الله عز وجل يكون مع المؤمن والكافر والمنافق.
المؤلف: عفوا سماحة السيد المقصود (إن الله معنا) أي أن الله مع الذين يعملون لطاعته وعبادته والألطاف والعناية أي تشملنا هذا هو المراد وإلا في الحقيقة والواقع الله سبحانه وتعالى مع الجميع ويعلم ما في قلوب الجميع وإلا هذا الاستدلال الذي أتيت به غير مقنع.
حقائق لا بد من توضيحها وكشفها
السيد البدري: أقول لك (لا مناقشة في الأمثال) لأن الأمثال تضرب ولا تقاس، أعطيك أمثلة على ذلك.
1 - إبليس - فإنه عبد الله تعالى عبادة قل نظيرها من الملائكة - وقد شملته الألطاف الإلهية والعناية الربانية ولكن لما تمرد عن أمر خالقه واتبع هواه واغتر
____________
(1) سورة المجادلة الآية 7.
(قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) (1).
2 - وبرصيصا.. في بني إسرائيل كان مجدا في عبادة الله سبحانه وتعالى حتى أصبح من المقربين، وكانت دعوته مستجابة، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة فترك عبادة رب العالمين وسجد لإبليس اللعين، وأمسى من الخاسرين فقال الله تعالى فيه:
(كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) (2).
فإذا صدر عمل حسن من إنسان، فلا يدل على أن ذلك الإنسان يكون حسنا إلى آخر عمره وأن عاقبة أمره تكون خيرا ولذا ورد في أدعية أهل البيت عليهم السلام:
(اللهم أجعل عواقب أمورنا خيرا).
2 - ومثله في البشر: بلعم بن باعورا، فإنه كما ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى:
(واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين) (3).
قالوا: إنه تقرب إلى الله تعالى بعبادته له إلى أن أعطاء الاسم الأعظم
____________
(1) سورة الحجر الآية 24 و 25.
(2) سورة الحشر الآية 16.
(3) سورة الأعراف الآية 175.
ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان، وأتبع الشيطان، وخالف الرحمن وسلك سبيل البغي والطغيان وصار في المخلدين في النيران. ومن أحب تفصيل قصته فليراجع تفسير الفخر الرازي: 4 / 462 فإنه يروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل.
المؤلف: إستأذنت بالخروج من الجلسة وما عدت أتحمل الحوار ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحق تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ووقفت ووصلت إلى الباب فركض سماحة السيد خلفي وقال ألم أقل لك إصبر إصبر يا أخي فقلت له من فضلك تغير محور النقاش سماحة السيد الجليل.
السيد البدري: أنا إنتهيت من هذه القصص ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس (ولا مناقشة في الأمثال) ولكن يا أخي إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات بل يكفي تشابههما من جهة واحدة وهي التي تركز عليها موضوع الحوار.
وإني أشهد الله يا أخي! بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهدا لكلامي وأبين المطلب والمراد والمقصود.
المؤلف: إذا كنت سماحة السيد قد بينت لي في قوله تعالى (إن الله معنا)
ألا وهو قوله تعالى (فأنزل الله سكينته عليه) فإن الضمير في (عليه) يرجع لأبي بكر الصديق وهذا شرف من الله ومقام عظيم قد كرمه به فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة؟
السيد البدري: الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وليس لأبي بكر بقرينة الجملة التالية في الآية (وأيده بجنود لم تروها).
وقد صرح جميع المفسرين: أن المؤيد بجنود الله سبحانه هو النبي صلى الله عليه وآله.
المؤلف: ونحن نقول: أن المؤيد بالجنود النبي لا شك بذلك ولكن أبا بكر كان مؤيدا مع النبي صلى الله عليه وآله لمصاحبته في الغار.
السيد البدري: إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربية، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية، بينما الضمائر كلها جاءت مفردة، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول: إن الألطاف والعنايات الإلهية كالنصرة والسكينة شملت أبا بكر دون رسول الله صلى الله عليه وآله.. فينحصر القول بأنها شملت رسول الله دون صاحبه!!
المؤلف: سماحة السيد إن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس بحاجة إلى السكينة، لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه، ولكن سيدنا أبي بكر (رض) كان بحاجة ماسة إلى السكينة فأنزلها الله عليه.
السيد البدري: يا أخي لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام.
ويقول الله تعالى في آية أخرى:
(فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى) (2).
وذلك في فتح مكة المكرمة.
لاحظ أيها الأستاذ الكريم أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي صلى الله عليه وآله ويذكر بعده المؤمنين.
فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهية، لكان الله عز وجل قد ذكره بعد ذكر النبي صلى الله عليه وآله أو قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليهما).
هذا وقد صرح كثير من كبار علمائكم: بأن ضمير (عليه) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله لا إلى أبي بكر، راجع كتاب: (نقض العثمانية) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي وهو أستاذ ابن أبي الحديد وقد كتب ذلك الكتاب القيم في رد وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ.
وأزيدك أدلة أخرى أيها الأستاذ المحاور.
إننا نجد في الآية الكريمة جملة تناقض قولك!
____________
(1) سورة التوبة الآية 26.
(2) سورة الفتح: آية 26.
(إذ يقول لصاحبه لا تحزن).
فالنبي هنا ينهى صاحبه عن الحزن.
فالسؤال الذي أوجهه إليك أيها المحاور:
هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية؟!
المؤلف: طبعا حزن سيدنا أبي بكر (رض) كان طاعة لله فكيف يكون معصية معاذ الله؟
السيد البدري: ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول الله عن هذه الطاعة؟ وقال له لا تحزن، و (لا) هنا للنهي والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه، بل تكون في ذمه وقدحه! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهية لأنهما تختصان بالنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين، وهم أولياء الله الذين لا يخشون أحدا إلا الله سبحانه ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى:
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
ولما وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من آذان صلاة المغرب وأجلت الجلسة بسبب تعب الطرفين لأن هناك تكملة لبحوث أخرى.
اللقاء الخامس
المؤلف: بعد أن ذكرت وبينت سماحة السيد موضوع آية (محمد رسول الله والذين معه) وآية الغار لدي أدلة جديدة ونصوص صريحة أثبت من خلالها أحقية سيدنا أبي بكر (رض) بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. وهي:
أولا: مروا أبا بكر فليصل بالمسلمين، (حديث رواه البخاري).
ثانيا: (لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر) (حديث رواه البخاري).
ثالثا: عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت:
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: (إدعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا) ثم قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) (حديث رواه البخاري).
حوار في النصوص التي أثبت المحاور من خلالها أحقية الخليفة أبي بكر بالخلافة
السيد البدري: أقول: لو سلمت لك جدلا أن النبي صلى الله عليه وآله أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي توفي فيه صلى الله عليه وآله ولكن ماذا تقول لو قال قائل ممن لا يقول بقولك: ألم يقل جمهور الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه هجر رسول الله صلى الله عليه وآله على ما أخرجه البخاري في صحيحه (1)
____________
(1) صحيح البخاري: 7 / 9، 5 / 137، 2، 132، 4، 65 - 66 - 2، صحيح مسلم: 2 / 16، 5 / 75، 11 / 94 - 95 - بشرح النووي، مسند أحمد: 1 - 955.
فقالوا: هجر رسول الله صلى الله عليه وآله! قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
المؤلف: عفوا سماحة السيد أراك خرجت عن موضوع الدليل والنص الذي طرحته.
السيد البدري: يا أستاذ تعلم الصبر والنفس الطويل في الحوار ولا تكن سريعا، مهلا سأورد لك بعض المخالفات لأنتقل إلى تحليل هذا النص الذي أنت تحتج به وتعتبره دليلا مقنعا.
سؤال موجه لك:
ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي صلى الله عليه وآله إن النبي قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله والرواية الأولى قال عن الرسول (إنه هجر أي بمعنى يهذي) (1).
المؤلف: سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق يقول لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله إنه هجر؟ من أين لك هذا الحديث؟ ومن أين أتيت به أيها السيد؟ كلام غريب (معاذ الله من ذلك).
السيد البدري: لا تغضب يا أخي هدئ من روعك واصبر.
____________
(1) سر العالمين وكشف ما في الدارين: ص 21، أبو حامد الغزالي.
السيد البدري: ما رأيك في صحيح البخاري يا أستاذ.
المؤلف: صحيح البخاري أصدق صحيح عندنا بعد القرآن.
السيد البدري: راجع صحيح البخاري في أواخر ص 118 الجزء الثاني في باب (هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم).
وحتى أربط كل هذا الاستدلال لك بقول: عن ابن عباس قال: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر: (إن النبي صلى الله عليه وآله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا فهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(قوموا) قال عبد الله فكان ابن عباس يقول:
(الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) (1) وهذا مشهور برزية يوم الخميس.
____________
(1) صحيح البخاري: الجزء الثاني: باب (هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم)، ص 118.
الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر
أبو بكر في مرض النبي صلى الله عليه وآله
السيد البدري: أقول إن الصحيح المتواتر بين الفريقين السني والشيعي معا أن النبي صلى الله عليه وآله أخر الخليفة أبا بكر من تلك الصلاة وصرفه عن إمامة المسلمين لأنه خرج بعد سماعه بتقدم أبي بكر يتهادى بين علي والعباس مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض، الأمر الذي لا يتحرك معه العاقل إلا في حال الاضطرار، لتدارك ما يخاف بفوته حدوث أعظم فتنة فعزل النبي صلى الله عليه وآله أبي بكر عما كان تولاه من تلك الصلاة كما نطقت به صحاحكم ويدلك على تقدمه للصلاة لم يكن بأمر من النبي صلى الله عليه وآله في شئ وإنما كان الأمر صادرا من ابنته السيدة عائشة ولم تكن تلك الصلاة إلا صلاة الصبح لا غيرها.
ويرشدك ويدلك على ذلك يا أخي ما أخرجه الحافظ الكبير الإمام مسلم في صحيحه (1).
وأنقل لك هذه الرواية عن عائشة أم المؤمنين (رض): (قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت: فقلت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أليف، وإنه متى يقم مقامك لم يسمع الناس فلو أمرت عمر! فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس! قالت: فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر رجل أليف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر!
____________
(1) صحيح مسلم: ج 1 باب (استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) كتاب الصلاة.