الصفحة 101
فسلما عليه وجلسا عنده، وأرادا أن يختبراه بالسؤال، لينظر مكانه من العلم، فجاء بعض الموكلين به، فقال له: إن نوبتي قد فرغت، وأريد الانصراف من غد إن شاء الله تعالى، فإن كان لك حاجة تأمرني أن آتيك به غدا، إذا جئت، فقال:

ما لي حاجة انصرف، ثم قال لأبي يوسف ومحمد بن الحسن: إني لأعجب من هذا الرجل يسألني أن أكلفه حاجة يأتيني بها معه غدا، إذا جاء، وهو ميت في هذه الليلة، فأمسكا عن سؤاله وقاما، ولم يسألاه عن شئ، وقالا: أردنا أن نسأله عن الفرض والسنة، فأخذ يتكلم معنا في الغيب، والله لنرسلن خلف الرجل من يبيت على باب داره، وينظر ماذا يكون من أمره، فأرسلا شخصا من جهتهما جلس على باب ذلك الرجل، فلما كان أثناء الليل، وإذا بالصراخ والناعية، فقيل لهم: ما الخبر؟ فقالوا: مات صاحب البيت فجأة، فعاد إليهما الرسول وأخبرهما، فتعجبا من ذلك غاية العجب (1).

وروي أن الإمام الكاظم: أحيا بقرة ماتت لامرأة بمنى، وحولها صبيان، فلما نظرت المرأة إلى البقرة صاحت، وقالت: عيسى بن مريم، ورب الكعبة، فخالط الناس، وصار بينهم ومضى (2)

____________

<=

" برنبوية " من أعمال الري عام 189 هـ (805 م) نشأ بالكوفة، وجالس أبا حنيفة وهو في الرابعة عشرة، وأخذ عنه، وتأثر بمذهبه في الرأي، ومن شيوخه سفيان الثوري والأوزاعي ومالك بن أنس، ولاه الرشيد القضاء بالرقة عام 180 هـ (796 م) ثم عزله، ثم ولاه قضاء خراسان عام 189 هـ (805 م) ولكنه مات في نفس السنة، وأهم مصادر ترجمته (تاريخ بغداد 2 / 172 - 182، الوافي بالوفيات للصفدي 2 / 332 - 334، مرآة الجنان 1 / 422 - 424، الأعلام للزركلي 6 / 309، معجم المؤلفين لكحالة 9 / 207، لسان الميزان لابن حجر 5 / 121 - 122، الانتقاء لابن عبد البر ص 174، البداية والنهاية 10 / 202 - 203، وفيات الأعيان 4 / 184 - 185، شذرات الذهب 1 / 321 - 324 (بيروت 1979) تاريخ التراث العربي 3 / 54 - 78 (الرياض 1983).

(1) نور الأبصار ص 150 - 151.

(2) أصول الكافي ص 130.

الصفحة 102

9 - من كرم الإمام الكاظم:

كان الإمام موسى الكاظم أكبر أولاد الإمام جعفر الصادق قدرا، وأعظمهم محلا، وأبعدهم في الناس صيتا، ولم ير في زمانه أسخى منه، ولا أكرم نفسا، وكان يبلغه عن الرجل أنه ينال منه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار (1).

روي عن يحيى بن الحسن قال: إن رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم الإمام علي بن أبي طالب، إذا رأى موسى بن جعفر، ويؤذيه إذا لقيه، فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: لا: ثم مضى راكبا حتى قصده في مزرعة له، فتوطاها بحماره، فصاح: لا تدس زرعنا، فلم يصغ إليه، وأقبل حتى نزل عنده، وجعل يضاحكه.

ثم قال له: كم عزمت على زرعك هذا؟ قال: مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تربح، قال: لا أدري، قال: إنما سألتك كم ترجو؟، قال: مائة أخرى، قال: فأخرج ثلاثمائة، فوهبها له، فقام فقبل رأسه، فلما دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري، فسلم عليه، وجعل يقول: " الله أعلم حيث يجعل رسالته "، فوثب أصحابه عليه، وقالوا: ما هذا؟ فشاتمهم.

وكان بعد ذلك، كلما دخل موسى خرج يسلم عليه، ويقوم له، فقال موسى لمن قال ذلك القول: أيما كان خيرا، ما أردتم أو ما أردت؟ (2).

وروي أن الإمام الكاظم مر برجل، فرآه كئيبا، فسأله عن السبب؟ قال:

لحقتني الديون من أجل حقل زرعته بطيخا وقثاء وقرعا، فلما استوى الزرع، وقرب الخير، جاء الجراد فأتى عليه، ولم يبق منه شيئا، فذهب الزرع، وبقيت

____________

(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 236.

(2) أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 331 - 232.

الصفحة 103
الديون، فأعطاه الإمام ما كان يأمله من زرعه، فوفى ديونه، وبقيت معه فضلة، جعل الله فيها البركة (1).

10 - من آثار الإمام الكاظم:

للإمام موسى الكاظم آثار كثيرة، لعل من أهمها: 1 - دعاء الجوشن الصغير، وقد طبع في " لكنو " عام 1871 م 2 - أدعية الأيام السبعة وهي موجودة في كتاب " المجموع الرائق من أزهار الحدائق " لهبة الله بن أبي محمد الحسن الموسوي (حوالي 803 هـ / 1303 م) 3 - مسند (بتهذيب أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي - المتوفى - 354 هـ / 965) 4 - وصية إلى هشام بن الحكم (موجودة في كتاب " تحف العقول " لابن شعبة العاملي) 5 - إجابات على أسئلة أخيه علي " 6 - وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلي (2).

11 - أولاد الإمام الكاظم:

يقول " ابن عنبة " ولد موسى الكاظم عليه السلام ستين ولدا، سبعا وثلاثين بنتا، وثلاثة وعشرين ابنا، درج منهم خمسة لم يعقبوا بغير خلاف وهم:

عبد الرحمن وعقيل والقاسم ويحيى وداود (3)، على أن رواية اليعقوبي إنما تجعلهم 41 ولدا، ثمانية عشر ذكرا، وثلاث وعشرون بنتا (4) بينما يجعلهم ابن كثير أربعين فقط (5).

____________

(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 236 - 237.

(2) فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربى - المجلد الأول - الجزء الثالث ص 279 - 280 (الرياض 1983 - نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).

(3) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 226 - 227.

(4) تاريخ اليعقوبي 2 / 415.

(5) البداية والنهاية 10 / 183.

الصفحة 104

(3) الإمام علي الرضا

1 - نسب الإمام علي الرضا ومولده:

هو الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، وسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء بنت سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

هذا وقد ولد الإمام علي الرضا بالمدينة المنورة عام 143 هـ (760 م) أو عام 148 هـ (765 م) أو عام 153 هـ (770 م)، وتوفي عام 203 هـ (818 م)، وفي رواية المسعودي: وكان مولد الرضا بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، وكان الخليفة العباسي " المأمون " (198 - 218 هـ / 813 - 833 م) قد زوج ابنته " أم حبيبة " للإمام علي الرضا، وزوج الأخرى لولده الإمام محمد الجواد (3).

ويذهب " ابن خلكان " (608 - 681 هـ) إلى أن ولادة الإمام الرضا إنما كانت يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل:

بل ولد سابع شوال، وقيل ثامنه، وقيل سادسه، سنة إحدى وخمسين ومائة، وتوفي في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين، وقيل بل توفي خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين بمدينة " طوس "، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد، وكان سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه، وقيل: بل كان مسموما، فاعتل منه ومات، رحمه الله تعالى (4).

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 415.

(2) ابن كثير البداية والنهاية 10 / 183.

(3) المسعودي: مروج الذهب 2 / 418.

ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 270.

الصفحة 105
وأما أم الإمام علي الرضا فهي أم ولد، يقال لها " أم البنين " واسمها " أزوى " وقيل " خيزران ". وكنية الإمام الرضا: أبو الحسن، وألقابه: الرضا - وهو أشهرها - والصابر والزكي والولي.

وأما أولاده: فلقد روي عن المفيد والطبرسي وابن شهرآشوب، أنه لم يترك من الولد، سوى الإمام محمد الجواد.

2 - الإمام الرضا والإمامة:

يقول الإمام الرضا: " إن الإمام (1) زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفئ والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف ".

" والإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها العالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير، والسراج الظاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي ".

" الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول، ونسل المطهرة البتول، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه " (2).

____________

(1) يقول الإمام جعفر الصادق في الإمامة " الله عز وجل أعظم من أن يترك الأرض بغير عادل، إن زاد المسلمون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم، وهو حجة على عباده (أصول الكافي ص 84، 86).

(2) الكليني: أصول الكافي ص 96 - 97، عطية مصطفى مشرفة: نظم الحكم في مصر في عصر

=>


الصفحة 106
هذا وقد وصف الإمامة أيضا فقال: " إن الإمامة أحد قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانا، وأمنع جانبا، وأبعد غورا، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمام خص الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام - بعد النبوة والخلة - مرتبة ثالثة، شرفه بها، وأشاد بها ذكره، فقال تعالى: (إني جاعلك للناس إماما) (1)، فقال الخليل سرورا بها (ومن ذريتي) (3) قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (2)، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرم الله خليله بأن جعلها في ذريته، أهل الصفوة والطهارة، فقال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة، وكلا جعلنا من الصالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (4).

وظلت في ذريته يرثها بعض عن بعض، حتى ورثها الله تعالى النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وسلم)، فقال تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (5)، فكانت له خاصة، فقلدها عليا، عليه السلام، بأمر الله تعالى، على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان، لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) (6) فهي في ولد الإمام علي بن أبي طالب خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم) (7).

____________

<=

الفاطميين (358 - 567 هـ / 968 - 1171 م) - القاهرة 1948 ص 270.

(1) سورة البقرة: آية 124.

(2) سورة البقرة: آية 124.

(3) سورة البقرة: آية 124.

(4) سورة الأنبياء: آية 72.

(5) سورة آل عمران: آية 68.

(6) سورة الروم: آية 56.

(7) الكليني: الكافي 1 / 199.

الصفحة 107
ويقول الإمام الرضا في الإمامة أيضا: هي منزلة الأنبياء، وإرث الأصفياء، إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وميراث الحسن والحسين، عليهم السلام (1).

3 - الإمام الرضا والرشيد:

روى صاحب " أعيان الشيعة " أنه بعد حياة الإمام الكاظم، أرسل الرشيد أحد قواده إلى المدينة (وهو الجلودي)، وأمر أن يهجم على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن، إلا ثوبا واحدا، فامتثل الجلودي، حتى وصل إلى دار الإمام " علي الرضا " فجعل الإمام النساء كلهن في بيت واحد، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي: لا بد من دخول البيت، وسلب النساء، فتوسل إليه، وحلف له أنه يأتيه بكل ما عليهن من حلي وحلل، على أن يبقى الجلودي مكانه، ولم يزل يلاطفه حتى أقنعه، ودخل الإمام الرضا، وأخذ جميع ما على النساء، من ثياب ومصاغ، وجميع ما في الدار من أثاث، وسلمه إلى الجلودي، فحمله إلى الرشيد.

وعندما ملك المأمون غضب على هذا الجلودي، وأراد قتله، وكان الإمام الرضا حاضرا، فطلب من المأمون أن يعفو عنه، وأن يهبه له، فظن الجلودي أن الإمام الرضا يحرض المأمون على قتله، لما سبق من إساءته، فقال الجلودي للمأمون: أسألك بالله أن لا تقبل قوله في فقال المأمون: والله لا أقبل قوله فيك، اضربوا عنقه، فضربت (2).

____________

(1) الكليني: الكافي 1 / 200، نبيلة عبد المنعم داود: نشاة الشيعة الإمامية ص 374 - 275 (بغداد 1968).

(2) أعيان الشيعة 1 / 60، الشيعة والحاكمون ص 163 - 164.

الصفحة 108

4 - الإمام الرضا والمأمون:

كان الخليفة المأمون (198 - 218 هـ / 813 - 823 م) مولعا بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين، من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم، إلا اعتراف بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، حتى قيل أن أحد العلماء - وهو محمد بن عيسى اليقطيني - جمع من مسائل الإمام الرضا أمامه، وأجوبتها حوالي 18 ألف مسألة -.

هذا وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، ومنها:

أن المأمون سأل الإمام الرضا فقال: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون عن جدك (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: خلق الله آدم على صورته، فما رأيك؟.

قال الإمام: إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملا: " مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر:

قبح الله وجهك، ووجها يشبهك فقال النبي (صلى الله عليه وسلم)، للساب: لا تقل هذا، فإن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه، وعليه يكون شتمك لخصمك هذا، شتم لآدم عليه السلام.

ومنها: أنه سئل: أين كان الله؟ وكيف كان؟ وعلى أي شئ يعتمد؟.

فقال: إن الله تعالى كيف الكيف، فهو بلا كيف، وأين الأين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته.

ومعنى جواب الإمام: أن الله خلق الزمان، وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شئ، فلا يعتمد على شئ، غير ذاته بذاته.

ومنها: أنه سئل: عن معنى إرادة الله، فقال: هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشئ: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق لسان، ولا همة ولا تفكر، ولا يكف كذلك، ولا كما.


الصفحة 109
ومنها: أنه سئل عن معنى قول جده الإمام الصادق: " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين " رغم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، أما معنى " الأمر بين الأمرين ". فهو وجود السبيل إلى إتيان ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، أي أن الله سبحانه وتعالى، قدره على فعل الشر وتركه كما أقدره على الخير وتركه، وأمره بهذا، ونهاه عن ذاك.

ومنها: أنه سئل عن الإمامة، فقال: إن الله لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شئ، حيث قال عز من قال: " ما فرطنا في الكتاب من شئ) (1)، وأنزل في حجة الوداع، (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) (2).

والإمامة من إكمال الدين، وإتمام النعمة، وقد أقام لهم الإمام علي علما وإماما، ومن زعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر.

إن الإمامة لا يعرف قدرها، إلا الله، فهي أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانة من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم.

إن الإمامة خلافة الله والرسول، وزمام الدين ونظام المسلمين، والإمام يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد من خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل، فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا (3).

____________

(1) سورة الأنعام: آية 38.

(2) سورة المائدة: آية 3.

(3) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 240 - 242.

الصفحة 110
هذا وقد سئل الإمام الرضا عن العترة: أهم الآل أم غير الآل؟

فقال: هم الآل، فقالت العلماء: فهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أمتي آلي، وهؤلاء الأصحاب يقولون: آل محمد هم أمته.

فقال الإمام: أخبروني: فهل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا: نعم، قال:

فتحرم على الأمة، قالوا: لا. قال: هذا فرق بين الآل والأمة، أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين، دون سواهم، قالوا: ومن يا أبا الحسن، فقال: من قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) (1)، فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين، دون الفاسقين (2).

وفي مناظرة جرت في مجلس المأمون بين الإمام الرضا والعلماء، وقد بين فيها الرضا فضل آل البيت، فلقد سأل المأمون عن معنى قول الله تعالى:

(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (3).

فقالت العلماء: أراد الله بذلك الأمة كلها، فسأل المأمون الرضا عن ذلك.

فقال الإمام الرضا: أراد الله العترة الطاهرة، لأنه لو أراد الأمة، لكانت جميعها في الجنة، يقول الله: (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير) (4)، ثم جمعهم كلهم في الجنة،

____________

(1) سورة الحديد: آية 26.

(2) أنظر: الصدوق: عيون الأخبار 1 / 230، الطبري: بشارة المصطفى ص 282، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 272.

(3) سورة فاطر: آية 32.

(4) سورة فاطر: آية 32.

الصفحة 111
فقال تعالى: (جنات عدن يدخلونها) (1) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة، لا لغيرهم.

فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟.

فقال الإمام الرضا: الذين وصفهم الله في كتابه فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا) (2)، وهم الذين قال فيهم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (3).

وهناك كذلك آية المباهلة: قال الله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (4).

والذين اختارهم الله في هذه الآية، واصطفاهم للمباهلة، هم بالذات الذين اصطفاهم وعناهم في آية (ثم أورثنا الكتاب)، ولا يختلف اثنان في أن المراد بأنفسنا " على " وبأبنائنا " الحسن والحسين " ونسائنا " فاطمة " وهذه خاصة لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه مخلوق (5).

____________

(1) سورة النمل: آية 31 (2) سورة الأحزاب: آية 33.

(3) أنظر عن حديث الثقلين (صحيح مسلم 15 / 179، مسند الإمام أحمد 3 / 17، 4 / 466، 371، 5 / 181، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1 / 171 - 172، 2 / 572، 585، 603، 786، كنز العمال 1 / 45، 47، 48، 96، 97، 6 / 390، 7 / 103، سنن البيهقي 2 / 148، 7 / 30، مجمع الزوائد للبيهقي 5 / 195، 9 / 163 - 164، المستدرك للحاكم 3 / 17، 109، 148، سنن الدارمي 2 / 431، مشكل الآثار للطحاوي 4 / 368، صحيح الترمذي 2 / 308، أسد الغابة لابن الأثير 2 / 13، 3 / 147، حلية الأولياء لأبي نعيم 1 / 355، 9 / 64، ابن تيمية: رسالة فضل أهل البيت وحقوقهم 75، 9086، 117).

(4) سورة آل عمران: آية 61.

(5) أنظر أدلة أخرى (محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 258 - 261).

الصفحة 112
ومن المعروف أن آية التطهير، وحديث الثقلين، من أهم الأدلة - عند الشيعة الإمامية خاصة - في حصر الإمامة في سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - وأولاده من بعده، وبهذا احتج الإمام الرضا على الخليفة المأمون، وأكد أن الوراثة فيهم، لا في غيرهم.

وسأل المأمون الإمام الرضا فقال. يا أبا الحسن، إني فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك، محمولا على الهوى والعصبية؟.

فقال الإمام الرضا: لو أن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم)، من وراء أكمة من هذه الأكمات، فخطب إليك ابنتك، أكنت تزوجه إياها؟.

فقال المأمون: سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال الرضا: أفتراه يحل له أن يخطب إلي؟.

قال: فسكت المأمون، ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، رحما (1).

وسأل المأمون الإمام الرضا يوما، فقال: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب؟.

فقال الإمام الرضا: ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه، وفرض طاعته على بنيه فأمر له المأمون بألف درهم (2).

5 - المأمون وولاية العهد للإمام الرضا:

اختلفت الآراء بالنسبة لموقف المأمون بالنسبة للعلويين، فمن قائل: إنه كان شديد الميل إليهم - طبعا لا تكلفا - يقول السيوطي: وفي سنة إحدى

____________

(1) المفيد: الفصول المختارة من العيون والمحابس 1 / 15 - 16، نبيلة عبد المنعم داود: المرجع السابق ص 273 - 274.

(2) ابن خلكان: وفيات الأعيان 3 / 271.

الصفحة 113
ومائتين خلع المأمون أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده، " علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق "، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه " الرضا "، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد، ولبس الخضرة (1).

هذا وكان الخليفة المأمون يحرص على حضور جنائز رؤساء العلويين، مثل " يحيى بن الحسين بن زيد " الذي صلى عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، على حين أرسل أخاه " صالحا " لينوب عنه في جنازة أحد العباسيين الأقرباء، وقد مات بعد " يحيى " بقليل، فلما عزى صالح أم المتوفى - وهي زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، ابنة عم الخليفة المنصور - وكانت لها عند العباسيين هيبة ومنزلة عظيمة، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، ظهر غضبها، وقالت لحفيدها: تقدم فصل على أبيك، وتمثلت بقول الشاعر:

سبكناه ونحسبه لجينا * فأبدى الكير عن خبث الحديد

ثم قالت لصالح: قل له يا ابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد " لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته ".

وحين مات " محمد بن جعفر " - وكان قد أرسل إلى خراسان بعد خروجه على المأمون - دخل المأمون بين عمودي السرير، فحمله حتى وضعه في لحده، وقال: هذه رحم مجوفة منذ مائتي سنة، وقضى دينه، وكان عليه نحو ثلاثين ألف دينار.

ويرى بعض الباحثين أن المأمون - كما سنرى - إنما كان يفضل الإمام

____________

(1) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 307 (القاهرة 1964).

الصفحة 114
علي بن أبي طالب على غيره من الخلفاء الراشدين، ويرى أنه أحق بالخلافة منهم، ويرجعون هذا الاعتقاد إلى تأثير البيئة التي تربى فيها المأمون، فإنه كان في أول أمره في حجر " جعفر البرمكي " ثم انتقل إلى " الفضل بن سهل "، وكلاهما يضمر التشيع، فاختمرت عنده هذه الفكرة - على غير ما كان عليه آباؤه - ولهذا كان المأمون يعامل الطالبيين معاملة تناسب اعتقاده في فضل أبيهم، وظل على عقيدته هذه إلى آخر حياته (1).

ويستدل هذا الفريق على صحة رأيه بما رواه الطبري في تاريخه، والذهبي في دول الإسلام، والسيوطي في تاريخ الخلفاء من أنه في سنة إحدى عشرة ومائتين أمر بأن ينادي: " برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير، وأن أفضل الخلق - بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) - علي بن أبي طالب " (2).

ويروي المسعودي: أنه في سنة اثنتي عشرة ومائتين نادى منادي المأمون:

" برئت الذمة من أحد الناس ذكر معاوية بخير، أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتكلم في شئ من التلاوة أنها مخلوقة، وغير ذلك، وتنازع الناس في السبب الذي من أجله أمر بالنداء في أمر معاوية، فقيل في ذلك أقاويل، منها أن بعض سماره حدث بحديث عن مطرق بن المغيرة بن شعبة الثقفي.

وقد ذكر هذا الخبر " الزبير بن بكار " (172 هـ / 788 م - 256 هـ / 870 م) في كتاب " الموفقيات " قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرق بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية، فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة

____________

(1) محمد مصطفى هدارة: المأمون - الخليفة العالم - القاهرة 1966 ص 70 - 71 (أعلام العرب رقم 95).

(2) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 308، تاريخ الطبري 10 / 243.

الصفحة 115
فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتما، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشئ حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتما منذ الليلة.

قال: يا بني إني جئت من عند أخبث الناس، قلت له: وما ذاك؟ قال:

قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه.

فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو " تيم " فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو " عدي "، فاجتهد وشمر عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، ثم ملك أخونا عثمان، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وأن أخا هاشم (وفي رواية ابن أبي كبشة) يصرخ به في كل يوم خمس مرات: " أشهد أن محمدا رسول الله "، فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أم لك، والله إلا دفنا دفنا (1).

وأن المأمون لما سمع هذا الخبر، بعثه ذلك على أن أمر بالنداء على حسب ما وضعنا، وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر، فأعظم الناس ذلك وأكبروه، واضطربت العامة منه، فأشير عليه بترك ذلك، فأعرض عما كان هم به (2).

هذا فضلا عن وصية المأمون (198 - 218 هـ / 813 - 833 م) لأخيه المعتصم (218 - 227 هـ / 833 - 842 م) والتي يقول فيها " وهؤلاء بنو

____________

(1) المسعودي: مروج الذهب 2 / 429 - 430 (بيروت 1982)، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5 / 129 - 130 (بيروت 1965) (وانظر مخالفة معاوية للسنة في أمور عدة شرح نهج البلاغة 2 / 130 - 131).

(2) المسعودي 2 / 430.

الصفحة 116
عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم وتجاوز عن سيئتهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " (1).

وفي الكامل: قال: " يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي - صلوات الله عليه - فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل من محسنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى " (2).

ويمكن أن نفسر في ضوء هذا الاعتقاد، ما قاله المأمون للسيدة زينب بنت سليمان بن علي، التي كان العباسيون يعظمونها - كما أشرنا آنفا - حين سألته عما دعاه من نقل الخلافة من بيته إلى بيت الإمام علي بن أبي طالب، قال: يا عمة، إني رأيت عليا حين ولي الخلافة أحسن إلى بني العباس، وما رأيت أحدا من أهل بيتي، حين أفضى الأمر إليهم، كافؤوه على فعله في ولده، فأحببت أن أكافئه على إحسانه (3).

وأسند الصولي: أن بعض آل بيته (أي بيت المأمون) قال: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب، والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت، لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحدا من بني هاشم شيئا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدا منهم حتى ولاه

____________

(1) محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 71 - 72.

(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 6 / 431، وانظر تاريخ الطبري 10 / 295.

(3) محمد مصطفى هدارة: المأمون ص 72.