معروف، فقيل له: على أي دين؟ فقال: على الإسلام، فأسلم أبواه (1). وقد توفي معروف عام 200 هـ (815 م) وقيل: 204 هـ، وقبره في بغداد مشهور يزار، رحمه الله تعالى (2).
على أن أهمية معروف الكرخي إنما تأتي مما ينسب إليه من كونه مولى الإمام علي الرضا - وكان كما رأينا ولي عهد الخليفة المأمون - وأكثر أصحاب كتب التصوف على أن معروفا الكرخي، إنما كان متصلا بالإمام علي الرضا، وأنه أسلم على يديه (3) - بعد أن كان نصرانيا أو كان صابئا (4) - ورووا أنه سمع " ابن السماك " الواعظ المشهور في الكوفة، وكما يقول معروف نفسه " فوقع كلامه في قلبي، وأقبلت على الله وتركت جميع ما كنت عليه، إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا " (5).
وعلى أية حال، فإن الاتصال بالإمام - عند الشيعة - إنما يعني شيعية المتصل، ومن ثم فقد اهتم باحثو الشيعة بتحقيق العلاقة بين الإمام علي الرضا ومعروف الكرخي، وانتهوا إلى أنه غير مذكور في كتبهم، وإن لم يستبعدوا اتصاله به، وإن لم تقم لهم قرينة عليه.
على أن الأهم أن الإمام الرضا - بعد أن أصبح وليا لعهد الخلافة - لم يعد إماما للشيعة وحدهم، وإنما أصبح إماما للمسلمين جميعا، بما فيهم أهل السنة
____________
(1) ابن خلكان: وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزمان - تحقيق إحسان عباس 5 / 231 - 232 (بيروت 1977).
(2) وفيات الأعيان 5 / 233.
(3) طبقات الصوفية ص 85، تذكرة الأولياء 1 / 224، أبو القاسم القشيري: الرسالة القشيرية ص 12 (القاهرة 1284 هـ)، طبقات الشعراني 1 / 61، نفحات الأنس ص 39.
(4) نيكلسون: في التصوف الإسلامي ترجمة أبو العلا عفيفي ص 4 (القاهرة 1947).
(5) أبو القاسم القشيري: الرسالة القشيرية 12.
ولعل من الجدير بالإشارة هنا إلى أن بعض المصادر التي ذكرت صلة معروف بالإمام الرضا، إنما قد أشارت إلى أنه كان يحجبه بعد إسلامه (2) - أي أن الإمام الرضا قد اتخذه بعد إسلامه حاجبا له - وأن موت الإمام الرضا، وازدحام الشيعة على بابه إنما قد تسبب في كسر أضلع معروف فمات (3)، وهذا يعني ولاية معروف إنما نبعت من اعتناقه الإسلام - دين الله الخالد - الأمر الذي تحقق من قبل في صورة إسلام " سلمان الفارسي "، والذي ظل شطر عمره يبحث عن الدين الحق، حتى وجده في الإسلام (4). وقد أسلم معروف على يد الإمام الرضا، حفيد النبي (صلى الله عليه وسلم)، الذي أسلم سلمان على يديه من قبل، وبذا يبدو أننا أمام سلمان آخر، له في الزهد قدم صدق، وله في الولاية والمقام الروحي، ما جعله يفوز باحترام الناس وإعجابهم وإكبارهم (5).
هذا وقد رويت لمعروف الكرخي عدة كرامات، روى الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده عن خليل الصياد قال: غاب ابني محمد فجزعت أمه عليه جزعا
____________
(1) الشيبي: المرجع السابق ص 26.
(2) طبقات الصوفية ص 85.
(3) طبقات الصوفية ص 85، ثم قارن: تاريخ بغداد للخطيب 13 / 202، حلية الأولياء 8 / 632.
(4) أنظر عن سلمان (أسد الغابة 2 / 417 - 421، حلية الأولياء 1 / 185 - 208، طبقات ابن سعد 4 / 53 - 67، الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 56 - 62، الإصابة في تمييز الصحابة 2 / 62 - 63، وفيات الأعيان 3 / 252.
(5) الشيبي: المرجع السابق ص 27 - 28.
وعن محمد بن إسحاق قال سمعت محمد بن عمرو بن مكرم الثقة، يقول: حدثني أبو محمد الضرير - وكان جارا لمردويه الصائغ - قال: أرسل مردويه فأتيته فقال: إن ابني قد غاب عنا منذ أيام، وقد ضيقوا على النساء لما يبكين، فأخذ بنا إلى معروف، قال: فغدوت أنا وهو إلى معروف فسلم عليه - وهو في المسجد - فقال معروف: ما الذي جاء بك يا أبا بكر؟ قال: إن ابني قد غاب عنا منذ أيام، وقد ضيقوا على النساء لما يبكين، قال: معروف: يا عالما بكل شئ، ويا من لا يخفى عليه شئ، ويا من علمه محيط بكل شئ، أوضح لنا أمر هذا الغلام، ثلاث مرار، قال: ثم انصرفنا من عنده، قال: فلما أن أصبحت قبل صلاة الفجر، إذ رسول مردويه قد جاء يدعوني، فقلت: إيش الخبر؟ فقال: قد جاء الغلام، فجئت فإذا الغلام قاعد بين يدي مردويه، فقال لي: اسمع العجب، قال الغلام: كنت أمشي بالكوفة فأتاني نفسان فأخذا بيدي فأخرجاني من الكوفة، وقالا: امض إلى بيتكم، فلم أقعد، ولم آكل ولم أشرب، ومررت ببئر تسع - أو قال تسعي - ثم رأيتهما، فلم يتحركا حتى أتيتكم، فأطعموني، فإني ما أكلت شيئا حتى جئتكم (2).
____________
(1) حلية الأولياء 8 / 362.
(2) حلية الأولياء 8 / 263، وأما أهم مصادر ترجمة معروف فهي كالتالي (طبقات الصوفية للسلمي ص 83 - 90، حلية الأولياء 8 / 360 - 368، تاريخ بغداد 13 / 199 - 208، طبقات الحنابلة 1 / 381 - 389، وفيات الأعيان 5 / 231 - 332، اليافعي: مرآة الجنان 1 / 460 - 463، الزركلي الأعلام 8 / 185، شذرات الذهب 1 / 360).
9 - من مرويات الإمام الرضا:
روى صاحب كتاب " تاريخ نيسابور ": أن الإمام علي الرضا لما دخل نيسابور، وشق شوارعها، وعليه مظلة، لا يرى من ورائها، تعرض له الحافظان " أبو زرعة الرازي " و " محمد بن أسلم الطوسي " ومعهما من طلبة العلم والحديث ما لا يحصى، فتضرعا إليه أن يريهم وجهه، ويروي لهم حديثا عن آبائه.
فاستوقف الإمام البغلة، وأمر غلمانه بكشف المظلة، وأقر عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة فكانت له ذؤابتان معلقتان على عاتقه، والناس بين صارخ وباك، ومتمرغ في التراب، ومقبل لحافر بغلته، فصاحت العلماء: يا معشر الناس أنصتوا، فأنصتوا، واستملى منه الحافظان - أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي -.
فقال الإمام الرضا: حدثني أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، قال: حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وآله، قال: حدثني جبريل، قال: سمعت رب العزة يقول: " لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني، آمن من عذابي "، ثم أرخى الستر وسار، فعد أهل المحابر والدوى الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفا.
وفي رواية أخرى: أن الحديث المروي " الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان " ولعلهما واقعتان، قال الإمام أحمد بن حنبل: لو قرأت هذه الإسناد على مجنون، لبرئ من جنته (1).
____________
(1) أحمد بن حجر الهيثمي المكي: الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص 310 (دار الكتب العلمية - بيروت 1983.
حدثني جبريل عليه السلام، قال: حدثني رب العزة سبحانه وتعالى (1).
وقال أبو القاسم القشيري (عبد الكريم بن هوازن - المتوفى 465 / 1074 م) في الرسالة القشيرية: اتصل هذا الحديث بهذا السند ببعض أمراء السامانية، فكتبه بالذهب، وأوصى أن يدفن معه في قبره، فرئي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بتلفظي ب " لا إله إلا الله "، وتصديق " أن محمدا رسول الله " (وقد أورده المناوي في شرحه الكبير على الجامع الصغير وغيره) (2).
وروي عن الإمام الرضا عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: " من لم يؤمن بحوضي، فلا أورده الله تعالى حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي "، ثم قال: " إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل ".
وروي عن الإمام الرضا عن آبائه عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " لما أسري بي رأيت رحما معلقة بالعرش تشكو رحما إلى ربها، أنا قاطعة لها، قلت: كم بينك وبينها من أب، قالت: نلتقي في أربعين أبا ".
وروي عن الإمام الرضا أنه قال: " من صام من شعبان يوما واحدا، ابتغاء ثواب الله، دخل الجنة، ومن استغفر الله تعالى في كل يوم منه سبعين مرة، حشر
____________
(1) نور الأبصار ص 154 - 155.
(2) نور الأبصار ص 155.
10 - من أقوال الإمام الرضا:
قال الإمام الرضا: " لا يتم عقل امرئ، حتى تكون فيه عشر خصال:
الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، ويستكثر قليل الخير من غيره، ويستقل كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب الحوائج إليه ولا يمل من طلب العلم طول دهره، والفقر في الله أحب إليه من الغنى، والذل في الله أحب إليه من العز، والخمول أشهى إليه من الشهرة، والعاشرة: أن لا يرى أحدا إلا قال: هو خير مني وأتقى ".
وسئل عن معنى التوكل. فقال: أن لا تخاف أحدا إلا الله.
وقال: يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة في اعتزال الناس، وواحد في الصمت.
وقال: أحسن الناس معاشا، من حسن معاش غيره في معاشه.
أي من تحيا الناس بوجوده حياة طيبة، وتعيش بفضل جهوده، عيش الأمن والهناء، فهو أسعد الناس، وأحسنهم حالا، حتى ولو لم يملك شيئا من حطام الدنيا، تماما كما كانت الحال بالنسبة إلى الرسول الأعظم، (صلى الله عليه وسلم)، وأمير المؤمنين عليه السلام.
وقال: من صدق الناس كرهوه.
قال المؤمن إذا غضب لم يخرج عن حق، وإذا رضي لم يدخل في باطل، وإذا قدر لم يأخذ أكثر من حقه. وقال: من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل.
____________
(1) نور الأبصار ص 155.
وقال إبراهيم بن العباس: سمعت الرضا يقول، وقد سأله رجل: أيكلف الله العباد ما لا يطيقونه؟.
فقال الإمام الرضا: هو أعدل من ذلك.
فقال: فيقدرون على كل ما يريد؟
فقال: هم أعجز من ذلك.
وقال ياسر الخادم: سمعت الرضا بن موسى يقول: " أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع:
يوم يولد إلى الدنيا، ويخرج المولود من بطن أمه فيرى الدنيا.
ويوم يموت، فيعاين الآخرة وأهلها.
ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.
وقد سلم الله تعالى على عيسى - عليه السلام - في هذه الثلاثة مواطن، فقال تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا)، وقد سلم على يحيى بن زكريا، عليهما السلام، في هذه الثلاثة المواطن، فقال تعالى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) (1)
____________
(1) محمد جواد مغنية: فضائل الإمام علي ص 234 - 236 (بيروت 1981).
(2) سورة مريم: آية 15 - 33.
قال الإمام الرضا: الله تعالى أعدل من أن يجبر، ثم يعذب.
قال الفضل: فمطلقون، قال الإمام الرضا: الله تعالى أحكم من أن يهمل عبده، ويكله إلى نفسه.
وعن أبي الحسين القرظي عن أبيه قال: حضرنا مجلس أبي الحسن الرضا، فجاء رجل فشكا أخاه.
فأنشأ الإمام الرضا يقول:
وفي نور الأبصار: " دخل على الإمام علي الرضا بن موسى قوم من الصوفية فقالوا: إن أمير المؤمنين المأمون نظر فيما ولاه الله تعالى من الأمور، ثم نظر فرآكم أهل البيت أولى من قام بأمر الناس، ثم نظر في أهل البيت، فرآك أولى الناس بالناس من كل واحد منهم، فرد هذا الأمر إليك، والناس تحتاج إلى من يأكل الخشن، ويلبس الخشن، ويركب الحمار، ويعود المريض، ويشيع الجنائز ".
قال، وكان علي الرضا متكئا، فاستوى جالسا، ثم قال: " كان يوسف بن يعقوب نبيا، فلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب، والقباطي المسنوجة بالذهب، وجلس على متكآت آل فرعون، وحكم وأمر ونهى، وإنما يراد من الإمام القسط والعدل، إذا قال صدق، وإذا وعد أنجز إن الله لم يحرم ملبوسا، ولا
11 - من كرامات الرضا:
روى الطوسي في كتابه " إعلام الورى " عن " أبي الصلت الهروي " قال:
دخل " دعبل الخزاعي " (765 - 860 م) الشاعر، على الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم، رضي الله عنهما، في " مرو " فقال له: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إني قلت فيكم أهل البيت قصيدة، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك، أحب أن تسمعها مني، فقال له الإمام الرضا، هات قل، فأنشأ يقول:
____________
(1) نور الأبصار ص 153 - 155.
(2) سورة الأعراف: آية 32.
وهي قصيدة طويلة عدة أبياتها مائة وعشرون بيتا.
ولما فرغ " دعبل " من إنشادها، نهض أبو الحسن علي الرضا - رضوان الله عليه - وقال: لا تبرح، فأنفذ إليه صرة، فيها مائة دينار، واعتذر إليه، فردها دعبل - وقال: ما لهذا جئت، وإنما جئت للسلام عليك، وللتبرك بالنظر إلى وجهك الميمون، وإني لفي غنى، فإن رأى (سيدي) أن يعطيني شيئا من ثيابه للتبرك، فهو أحب إلي، فأعطاه الإمام الرضا جبة، ورد عليه الصرة، وقال للغلام: قل له خذها ولا تردها، فإنك ستصرفها أحوج ما تكون إليها، فأخذها وأخذ الجبة.
ودعبل يسمعه، فقال: أتعرف هذا البيت لمن؟ قال: وكيف لا أعرفه؟ هو لرجل من خزاعة، يقال له " دعبل " شاعر أهل البيت، قاله في قصيدة مدحهم بها، فقال دعبل: أنا والله هو صاحب هذه القصيدة وقائلهم، فقال، ويلك، أنظر ما تقول، فقال: والله، الأمر أشهر من ذلك، واسأل أهل القافلة: وهؤلاء الممسكين معكم يخبرونكم بذلك، فسألوهم فقالوا بأسرهم: هذا دعبل الخزاعي، شاعر أهل البيت المعروف الموصوف، ثم إن دعبلا أنشدهم القصيدة من أولها إلى آخرها، عن ظهر قلب، فقالوا: قد وجب حقك علينا، وقد أطلقنا القافلة، ورددنا جميع ما أخذناه منها، كرامة لك يا شاعر أهل البيت.
ثم إنهم أخذوا دعبلا معهم، وتوجهوا به إلى " قم " ووصلوه بمال، وسألوه في بيع الجبة التي أعطاها له الإمام أبو الحسن على الرضا، ودفعوا له فيها ألف دينار، فقال: والله لا أبيعها، وإنما أخذتها للتبرك من أثره.
ثم ارتحل عنهم من " قم " بعد ثلاثة أيام، فلما صار خارج البلد، على نحو ثلاثة أميال (حوالي 5 كيلا)، خرج عليه قوم من أحداثهم، فأخذوا الجبة منه، فرجع إلى " قم " وأخبر كبارهم بذلك، فأخذوا الجبة منهم وردوها عليه.
ثم قالوا: نخشى أن تؤخذ هذه الجبة منك، ويأخذها غيرنا، ثم لا ترجع عليك، فبالله، إلا ما أخذت الألف منا وتركتها، فأخذ الألف منهم، وأعطاهم، الجبة، ثم ارتحل عنهم.
بكى الإمام الرضا - عليه السلام -، وقال - بعد أن رفع رأسه - يا خزاعي، لقد نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين (1).
وفي " در الأصداف " لما جعل المأمون الإمام الرضا ولي عهده، وخليفة من بعده، كان في حاشية المأمون أناس كرهوا ذلك، وخافوا على خروج الخلافة من بني العباس، وعودها لنبي فاطمة، فحصل عندهم من الإمام علي الرضا نفور ".
وكان من عادة " الرضا " إذا جاء دار المأمون بادر من بالدهليز من الحجاب وأهل النوبة من الخدم والحشم، بالقيام والسلام عليه، ويرفعون له الستر حتى يدخل، فلما حصلت لهم هذه النفرة، وتفاوضوا من أمر هذه القصة، ودخل في قلوبهم منها شئ، قالوا - فيما بينهم -: إذا جاء يدخل على الخليفة بعد اليوم نعرض عنه، ولا نرفع له الستر، واتفقوا على ذلك فيما بينهم، فبينما هم جلوس إذ جاء " الإمام علي الرضا " على جاري عادته، فلم يملكوا أنفسهم أن قاموا وسلموا عليه، ورفعوا له الستر على عادتهم، فلما دخل أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، لكونهم ما فعلوا ما اتفقوا عليه، وقالوا: الكرة الآتية، إذا جاء لا نرفعه.
فلما كان في اليوم التالي، وجاء الإمام الرضا على عادته، قاموا وسلموا عليه، ولم يرفعوا الستر، فجاءت ريح شديدة، فرفعت الستر له، عند دخوله،
____________
(1) نور الأبصار ص 153 - 154.
وروى الحاكم أبو عبد الله الحافظ (2) بإسناده عن محمد بن عيسى عن أبي حبيب، قال: " رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام، وكان قد وافى المسجد، الذي كان ينزل له الحجاج من بلدنا في كل سنة، وكأني مضيت إليه وسلمت عليه، ووقفت بين يديه، فوجدته وعنده طبق من خوص المدينة، فيه تمر صيحاني، وكأنه قبض قبضة من ذلك التمر، فناولنيها، فعدتها ثماني عشرة تمرة، فتأولتها أني أعيش بكل تمرة سنة، فلما كان بعد عشرين يوما، وأنا في أرض لي تعمر بالزراعة، إذ جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن علي الرضا بن موسى
____________
(1) نور الأبصار ص 1 / 158 - 159.
(2) الحاكم: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم، الحاكم النيسابوري (ولد عام 321 هـ / 933 م، وتوفي عام 404 هـ / 1014 م) وفي وفيات الأعيان: وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بنيسابور، توفي بها يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وأربعمائة، وقال الخليلي في كتاب " الإرشاد ": توفي سنة ثلاث وأربعمائة، بدأ طلب الحديث عام 331 هـ، وسمع عمرو بن سماك وأحمد بن سلمان النجاد، وتفقه على أبي سهل محمد بن سلمان الصعلوكي الفقيه الشافعي، وأصبح إمام أهل الحديث في عصره، وكان يميل إلى رأي الشيعة، وتولى القضاء في نيسابور عام 359 هـ، على أيام الدولة السامانية، ولكنه سرعان ما اعتزله، وقام بالسفارة للبويهيين، وأملى الحديث بما وراء النهر عام 355 هـ، وفي العراق عام 367 هـ، ولازمه " الدار قطني " (305 - 485 هـ / 918 - 995 م) وسمع منه أبو بكر القفال الشاسي.
وأما أهم آثاره فهي (المستدرك على الصحيحين - المدخل إلى معرفة الإكليل - المدخل إلى معرفة الصحيحين - معرفة أصول (أو علوم) الحديث - تاريخ نيسابور - شعر أصحاب الحديث - تسمية من أخرجهم البخاري - سؤالات أبي عبد الله النيسابوري للدارقطني وأجوبته في أسامي مشايخ من أهل العراق - الفوائد).
وأما أهم مصادر ترجمته (وفيات الأعيان 4 / 280 - 281، تاريخ بغداد للخطيب 5 / 473 - 474، تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص 227 - 321، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 1039 - 1045. غاية النهاية لابن الجزري 2 / 184، طبقات الشافعية للسبكي 3 / 64 - 74، النجوم الزاهرة 4 / 238، شذرات الذهب 3 / 176 - 177، لسان الميزان لابن حجر 5 / 232 - 233)، تاريخ التراث لسزكين 1 / 454 - 457، معجم المؤلفين لكحالة 10 / 238، مرآة الجنان لليافي 3 / 14، الأعلام للزركلي 7 / 101).
" فمضيت نحوه، فإذا هو جالس في الموضع الذي رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم)، جالسا فيه، وتحته حصير مثل الحصير الذي كان تحته (صلى الله عليه وسلم)، وبين يديه طبق من خوص المدينة، وفيه تمر صيحاني، فسلمت عليه، فرد السلام، واستدعاني وناولني قبضة من ذلك التمر، فعددتها فإذا هي بعدد ما ناولني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، في النوم، ثماني عشرة تمرة، فقلت: زدني، فقال: لو زادك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لزدتك.
وروى الحاكم أيضا بإسناده عن سعيد بن سعيد: أن أبا الحسن علي الرضا: نظر إلى رجل، فقال: يا عبد الله، أوص بما تريد، واستعد لما لا بد منه، فمات الرجل بعد ثلاثة أيام.
وعن صفوان بن يحيى قال: لما مضى موسى الكاظم، وظهر ولده علي الرضا: خفنا عليه وقلنا له: إنا نخاف عليك من هذا - يعني هارون الرشيد - قال الإمام الرضا: ليجهدن جهده، فلا سبيل له علي.
قال صفوان: فحدثني ثقة: أن يحيى بن خالد البرمكي قال لها روى الرشيد: هذا علي بن موسى قد تقدم، وادعى الأمر لنفسه، فقال هارون: يكفينا ما صنعنا بأبيه، تريد أن نقتلهم جميعا؟.
وعن مسافر: قال: كنت مع أبي الحسن علي الرضا بمنى، فمر يحيى بن خالد البرمكي، وهو مغط وجهه بمنديل من الغبار، فقال الرضا: مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة، فكان من أمرهم ما كان.
قال: وأعجب من هذا، أنا وهارون كهاتين، وضم إصبعيه السبابة والوسطى، قال مسافر، فوالله ما عرفت معنى حديثه في هارون، إلا بعد موت الرضا، ودفنه إلى جانبه.
وعن الحسن بن يسار قال: قال الإمام الرضا: إن عبد الله يقتل محمدا،
وعن الحسين بن موسى قال: كنا حول أبي الحسن علي الرضا بن موسى، ونحن شباب من بني هاشم، إذ مر علينا جعفر بن عمر العلوي، رث الهيئة، فنظر بعضنا إلى بعض، نظر مستزر وجالته، فقال الإمام الرضا: سترونه عن قريب، كثير المال، كثير الخدم، حسن الهيئة، فما مضى إلا شهر واحد، حتى ولي أمر المدينة، وحسنت حاله، وكان يمر بنا كثيرا، وحوله الخدم والحشم، يسيرون بين، فنقوم له، ونعظمه وندور له.
وعن جعفر بن صالح قال: أتيت الرضا فقلت، امرأتي أخت محمد بن سنان - وكان من خواص شيعتهم - وبها حمل، فادع الله أن يجعله ذكرا، قال:
هما اثنان، فوليت وقلت: أسمي واحدا عليا، والآخر محمدا، فدعاني فأتيته، فقال: سم واحدا عليا، والأنثى أم عمرو، كما أمرني، وقلت لأمي: ما معنى أم عمرو، قالت: جدتك كانت تسمى " أم عمرو ".
وعن حمزة بن جعفر الأرجاني قال: خرج هارون الرشيد من المسجد الحرام من باب، وخرج الإمام علي الرضا من باب، فقال علي الرضا - وهو يعني هارون الرشيد - يا بعد الدار، وقرب الملتقى، يا طوس، ستجمعيني وإياه.
وعن موسى بن عمران قال: رأيت علي الرضا بن موسى في مسجد المدينة، وهارون الرشيد يخطب، قال: تروني وإياه ندفن في بيت واحد.
وعن هرثمة بن أعين - وكان من خدم الخليفة عبد الله المأمون، وكان قائما بخدمة علي الرضا - قال: طلبني سيدي أبو الحسن الرضا في يوم من الأيام، وقال لي: يا هرثمة إني مطلعك على أمر، يكون سرا عندك، لا تظهره لأحد مدة حياتي، فإن أظهرته حال حياتي، كنت خصما لك عند الله، فحلفت له، أني لا أتفوه بما يقوله لي لأحد مدة حياته.
وقال أنا إذا وضعت في نعشي، وأرادوا الصلاة علي، فلا يصلى علي، وليتأن قليلا، يأتكم رجل عربي، على ناقة مسرع من جهة الصحراء، فينيخ ناقته، وينزل عنها، ويصلي علي فصلوا معه علي، وإذا فرغتم من الصلاة علي، وحملت إلى مدفني، الذي عينته لك، فاحفر شيئا يسيرا من وجه الأرض، تجد قبرا مطبقا معمورا، في قعر ماء أبيض، فإذا كشفت عنه الطبقات نضب الماء، فهذا مدفني، فادفنوني فيه، الله الله يا هرثمة أن تخبر أحدا بهذا.
قال هرثمة: فوالله ما طالت أيامه، حتى أكل الرضا عند الخليفة عنبا ورمانا، فمات.
وعن أبي الصلت الهروي قال: دخلت على الإمام علي الرضا، وقد خرج من عند المأمون، فقال: يا أبا الصلت، قد فعلوها، وجعل يوحد الله ويمجده، فأقام يومين، ومات في اليوم الثالث.
قال هرثمة: فدخلت على الخليفة المأمون، لما بلغه موت أبي الحسن علي الرضا، فوجدت المنديل بيده، وهو يبكي عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أقول لك، قال: قل، فقصصت القصة عليه، التي قالها لي الرضا من أولها إلى آخرها، فتعجب المأمون من ذلك.
ثم إنه أمر بتجهيزه وخرجنا بجنازته إلى المصلى، وأخرنا الصلاة عليه
قليلا، فإذا بالرجل العربي قد أقبل على بعيره من جهة الصحراء، كما قال،