وتضارب الأقوال في أن شعيبا كان له قوم به أو قوم واحد، لا يغير النتيجة عند التأمل، فالنتيجة واحدة هنا وهناك وتحمل قولا واحدا هو أن الله تعالى أهلك الذين بعث فيهم شعيب ودمرهم بسبب تمردهم على الله وعلى رسوله وتكذيبهم له. وشعيب عليه السلام واجه تجار الجشع والطمع على أرض مدين والأيكة بمعارف وعلوم وأدب رفيع وأقام عليهم الحجة في أتم ما يكون، وكان عليه السلام في زمرة الرسل المكرمين. وقد أشركه الله فيمن أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه. وقصص شعيب. ذكر الله تعالى طرفا منها في كتابه الكريم في سور: الأعراف، هود، الشعراء، القصص، العنكبوت وكان شعيب عليه السلام معاصرا لموسى عليه السلام. وقد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره موسى ثمان حجج وإن أتم عشرا فمن عنده، فخدمه موسى عشر سنين، ثم ودعه، وسار بأهله إلى مصر.
* 1 - من خيام الانحراف:
فطر الله تعالى الإنسان على فطرة تهديه إلى الحق، ولأن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض فإنه تعالى فطره على الاجتماع، فطره على أن تكون حياته في مجتمع. لهذا قام الإنسان في البداية بتأسيس المجتمع المنزلي أولا ثم اتسع عالم الاجتماع الإنساني شيئا فشيئا حتى صار مجتمعا مدنيا تقوم عليه حضارات واسعة. والإنسان في خطوته الأولى زوده الله تعالى بالحرية، فله أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك، فأي فعل يقف عليه له مطلق العنان في أن يختار جانب الفعل. وله أن يختار جانب الترك، وإلى جانب هذه الحرية. فإن للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل. وليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده ويمتلك إرادته وعمله ويحمله على ما يكرهه فهذه الحرية ضمن عجينة الفطرة التي فطر الله الناس عليها. كي يقيم الإنسان المجتمع على الأرض. والإنسان على الأرض أحاطه
____________
(7) المصدر السابق: 365 / 10.
المعاملات المالية، وخاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال به أو يوزن، فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.
فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشراء من أركان حياة الإنسان الاجتماعية، فالإنسان يقدر ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه أن يبذله في مقابلة من الثمن. ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير، فإذا خانه الذي يعامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو، يكون بذلك قد أفسد تدبيره وأبطل تقديره، ويختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا. من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء. ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب. فيسلب بهذا إصابة النظر وحسن التدبير في حياته. ويتخبط في حياته خبط العشواء وهو الفساد، وإذا شاع ذلك في مجتمع. فقد شاع الفساد فيما بينهم. ولم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض. ويرتحل بذلك الأمن العام من بينهم وهو
فشعيب عليه السلام جاء لقوم احترفوا الفساد، وركبوا التجارة وساروا بها في اتجاه النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح، وذلك لأن جشعهم امتد إلى غد الإنسان. فهم سرقوه في يومه، والذي سرق منه جزء يقيم صلبه، ولكي يسترده لا بد له من أن يضاعف من عمله كي يأتي بالثمن، وعندما يذهب ليشتري ما يقيم صلبه، يدفعه أهل الطمع والجشع والاحتكار إلى يوم آخر يتعب فيه ليس من أجل نفسه ولكن من أجلهم، ومع اللهب يأتي الفساد ويسود الاضطراب وترفع أعلام العسف والطغيان، وتفقد الإنسانية إنسانيتها، وشعيب عليه السلام جاء إليهم بمشعل الهدى الذي به يقيمون المجتمع الصالح الذي يعرف الإنسان فيه ما له وما عليه، وبين لهم أن القضية لم تكن يوما من أجل أن يمتلك هذا أو ذاك المال الوفير، لأن العلل والأسباب في كون الله لا تسمح لأحد من إنقاذ ثروته إذا جاء أمر الله.
* - مواجهة الانحراف:
يقول تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الخير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) (9).
قال المفسرون: يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين، وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام. قريبا من معان. بلاد تعرف بهم يقال لها
____________
(8) سورة الإسراء، الآية: 35.
(9) سورة هود، الآيات: 84 - 86.
ويمكن تعميم الخير. بأن يراد به، أنكم مشمولون لعناية الله، معنيون بنعمه، آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا، فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره. وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدمه من قوله: (اعبدوا الله) إلخ وقوله: (ولا تنقصوا) إلخ. فمحصل قوله: (إني أراكم) إلى آخر الآية: أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله:
أحدهما: أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها.
وثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه، ومعنى كون اليوم - وهو يوم العذاب - محيطا.. أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله، فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا ينفع فيه توبة (11)، وبعد أن أنار عليه السلام لهم الطريق بمشعل الهداية، قال: (يا قوم أوفوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لقد دعاهم أولا في صدر حديثه إلى الصلاح بالنهي عن
____________
(10) تفسير ابن كثير: 455 / 2.
(11) الميزان: 362 / 10.
وبعد أن قال لهم إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي، إن بقية الله خير لكم، قال: (وما أنا عليكم بحفيظ) أي: وما يرجع إلى قدرتي شئ مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق أو نعمة، فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم، أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير لكم. أو دفع شر منكم (13) فهو كقوله تعالى: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ) (14).
هكذا تحدث نبي الله شعيب عليه السلام، هكذا دعا قومه إلى طريق الصواب، وبين لهم العديد من حقائق المعارف التي غفلوا عنها، فماذا كان رد قومه؟ لقد كان ردهم هو رد اللصوص في كل زمان ومكان. رد الذين تخصصوا في سلب كل فرع وكل غصن وكل زهرة وكل ورقة وكل عشب في أرض الله
____________
(12) الميزان: 362 / 10.
(13) الميزان:، 306 / 10.
(14) سورة الأنعام، الآية: 104.
وقد ظهر بهذا البيان:
أولا: أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة. لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان. وهذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك..) دون أن يقولوا:
أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك، ولذلك عبر عنه شعيب بالنهي فيما بعد
____________
(15) سورة هود، الآية: 87.
ثانيا: أنهم إنما قالوا: (أن نترك ما يعبد آباؤنا) دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا، أو أن نترك الأوثان. ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك. وهي أن هذه الأصنام. دام على عبادتها آباؤنا، فهي سنة قومية لنا، ولا خير في الجري على سنة قومية. ورثها الخلف من السلف. ونشأ عليها الجيل بعد الجيل. فإنا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا. وهو دين آبائنا. ونحفظ رسما مليا عن الضيعة.
ثالثا: أنهم إنما قالوا: (أن نفعل في أموالنا) فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم. ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة. فإن الشئ إذا صار مالا لأحد، لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه، وليس لغيره ممن يعترف بماليته له، أن يعارضه في ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة، ويتدبر في أمر المعيشة، بما يستطيعه من الحذق والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.
رابعا: إن قولهم: (أصلاتك تأمرك - إلى قوله - إنك لأنت الحليم الرشيد) مبني على التهكم والاستهزاء. إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم. وكذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير، وأما نسبة الحلم والرشد إليه. فليس فيه تهكم. ولذلك أكد قوله: (إنك لأنت الحليم الرشيد) بإن واللام وإتيان الخبر جملة اسمية، ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له، فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه. وأن الذي لا شك في حلمه ورشده، قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي. وينتهض على سلب حرية الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة (16).
كان هذا بيان التجار وأعوانهم والمستكبرين وأشياعهم: بيان رفض الصلاة، وتمسك بعبادة الآباء ونسب الأموال إلى أنفسهم باعتبارهم أحرارا لهم الحق المطلق في اختيار الدين الذي يرون وفي تدبير أمور معيشتهم كما يريدون.
فماذا كان رد شعيب عليه السلام على هذا البيان؟ لقد دفع إليهم في حاضرهم
____________
(16) الميزان: 366 / 10.
لقد رفض بيانهم ما سمعوه من شعيب. عندما دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف. بحجة أن الدعوة مخالفة لما هم عليه من الحرية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاؤوا ويفعلوا في أموالهم ما شاؤوا، فبين لهم شعيب أنهم ليسوا بأحرار بالنسبة إلى الله هم عبيد. وأخبرهم: بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه. حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم. ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة. بل هو رسول من ربهم إليهم، وله على ذلك آية بينة. والذي آتاهم به من عند الله الذي يملكهم ويملك كل شئ، وهم عباده لا حرية لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم، ثم ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة التي يوفقه الله تعالى
____________
(17) سورة هود، الآيات: 88 - 90.
(18) الميزان: 367 / 10.
وبعد أن أخبرهم بما أخبرهم، وحذرهم بما حذرهم، أمرهم أن يستغفروا الله من ذنوبهم وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله، إن الله ذو رحمة ومودة يرحم المستغفرين التائبين ويحبهم، فماذا كان ردهم على البينة التي تحتوي على صدق الرسالة وتشتمل على أصول المعارف؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بأن يرجعوا بذاكرتهم إلى الماضي حيث الطوفان والريح والصيحة والحجارة؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بالاستغفار والتوبة؟ لقد كان ردهم عجيبا: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) (20) يقول صاحب في ظلال القرآن: فهم ضيقوا الصدور بالحق الواضح لا يريدون أن يدركوه، وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة، فلا وزن عندهم للحقيقة، القوية التي يحملها شعيب ويواجههم بها، وفي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الإعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب، ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب..
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القومية والقيم الرفيعة والمثل العالية، فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا، فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة، ولا تتحرج عن البطش بالداعية، إلا أن تكون له عصبة تؤويه، وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه، أما حرمة العقيدة والحق والدعوة، فلا وزن لها، ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية (21).
____________
(19) الميزان: 373 / 10.
(20) سورة هود، الآية: 91.
(21) في ظلال القرآن: 1922 / 4.
لقد قال لهم إنه على بينة من ربه، وإنه يريد إصلاحهم كي ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، ثم ذكرهم بالأمم السابقة الذين كذبوا رسل الله وما حل بهم من عذاب، ثم دعاهم إلى الاستغفار والتوبة، فكان الرد عليه بلادة في الفهم وحجر في اليد، رفعوا الحجر أمام الكلمة، ولماذا لا يرفعون الحجر؟ إن الساحة من حولهم تعج باللصوص، والأشرار يحومون في كل مكان، والجميع على استعداد لحمل الحجارة ويلقون بها على كل من حاول أن يهدي إلى الحق، لأن الحق الذي يعرفونه هو الذي مسمره الشيطان على جسر الانحراف الذي عبروا عليه إلى عالم الصم البكم العمي الذين لا يفقهون، وعندما واجهوا شعيبا عليه السلام هذه المواجهة، رد عليه السلام: (قال يا قوم رهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا
____________
(22) الميزان: 375 / 10.
قال المفسرون: أي كيف تعززون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعززون الله ولا تحترمون جانبه؟ وإني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا منسيا، وليس لكم ذلك، وما كان لكم أن تفعلوه. إن ربي بما تعملون محيط، بما له من الإحاطة بكل شئ، وجودا وعلما وقدرة ثم هددهم أشد التهديد: فأخبرهم بأنه على وثوق مما يقول، لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمردهم على دعوته، فليعملوا على ما لهم من القوة والتمكن، فلهم عملهم وله عمله، فسوف يفاجئهم عذاب مخز، يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم (24).
* 3 - الصد عن سبيل الله:
على أرض مدين دار الصراع بين الباطل الذي أقام جدرانه على أعمدة الظلم والجشع وبين الحق الذي ينصر الفطرة ويهدي إلى الصراط المستقيم، وقمة هذا الصراع ترى أطرافه في سورة الأعراف، فشعيب عليه السلام بعد أن بث دعوته في قومه آمن به فئة قليلة، ولكن الذين يفسدون في الأرض، ركبوا كل طريق من أجل أن يفتنوا الذين آمنوا ويصدوهم عن سبيل الله المستقيم وعندما نهاهم شعيب عليه السلام عما يفعلونه بالذين آمنوا خيروهم إما أن يعودوا في ملتهم وإما الطرد من الديار!
1 - بيان شعيب عليه السلام:
في سورة الأعراف ضوء ساطع، كشف كيف يفكر الذين يبغونها عوجا، فالتفكير عند هؤلاء لا يستند إلا على التهديد والحجر، وقد ظهرت معالم هذا التفكير عندما واجههم شعيب عليه السلام بحجج دامغة يقول تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من
____________
(23) سورة هود، الآيتان: 92 - 93.
(24) الميزان: 375 / 10.
قال المفسرون: دعاهم (أولا): بعد التوحيد الذي هو أصل الدين، إلى إيفاء الكيل والميزان وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم. لأن الإفساد في المعاملات كان رائجا فيهم شائعا بينهم. ثم دعاهم (ثانيا): إلى الكف عن الفساد في الأرض بعدما أصلحها الله كي ينتظم أمر الحياة السعيدة، ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله: (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) أما كونه إيفاء الكيل والميزان، وعدم بخس الناس أشياءهم خير، فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها، مبنية على المبادلة بين الأفراد، بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته. وأخذ ما يعادله مما يتم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها، وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات، تحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه. فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس، فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله، وهو شيوعه. وإذا شاع البخس والغش كان فيه هلاك الأموال والنفوس جميعا. وأما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم، فلأن سلب الأمن العام، يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الإنسانية فالمعنى: إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكف عن الفساد في الأرض خير لكم، يظهر لكم خير نية إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي. أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.. ثم دعاهم (ثالثا): إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم.
الذي هو الدين. فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب عليه السلام. ويوعدونهم على إيمانهم به. والحضور عنده.
والاستماع منه. وإجراء العبارات الدينية معه. ويصرفونهم عن التدين بدين الحق والسلوك في طريق التوحيد... وبالجملة كانوا يقطعون الطريق على
____________
(25) سورة الأعراف، الآيات: 85 - 87.
2 - أنياب طابور الانحراف:
دعاهم شعيب عليه السلام إلى التوحيد. ثم دعاهم ثانيا إلى الكف عن الإفساد في الأرض (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن) ودعاهم رابعا إلى الصبر حتى يحكم الله بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحكمين) فماذا كان رد القوم عليه؟ يقول تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملأ الذين كفروا من
____________
(26) الميزان: 189 / 8.
قال المفسرون: لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه. بما أرشدهم إليه من الصبر وانتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه. بل بادروا بتهديده وتهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم. إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد. وفي تأكيدهم القول (لنخرجنك) بالقسم ونون التأكيد. دلالة على قطعهم العزم على ذلك. ولذا بادر عليه السلام بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.. فعندما بلغ الكلام هذا المبلغ. وأخبر الذين كفروا طائفة الحق بعزمهم على أحد أمرين: الإخراج، أو العودة إلى ملتهم..
أخبرهم شعيب عليه السلام بالعزم القاطع على عدم العودة إلى ملتهم والتجأ إلى ربه واستفتح بقوله عن نفسه وعن المؤمنين: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) سأل ربه أن يفتح بين شعيب والمؤمنين به، وبين المشركين من قومه، وهو الحكم الفاصل، فإن الفتح بين شيئين، يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه، حتى لا يماس هذا ذاك، ولا ذاك هذا (28).
وبعد أن استفتح شعيب من الله تعالى، تمادى الذين كفروا من قومه، فتوجهوا بأشد التهديد إلى الذين آمنوا، وقالوا لهم: (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) فهذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب، أو أراد أن يؤمن به وفقا لخطة الصد عن سبيل الله التي نهاهم شعيب عنها من قبل، وقال المفسرون: ويحتمل أن يكون قولهم: (لئن اتبعتم) الاتباع بمعناه الظاهر. وهو اقتفاء أثر الماشي على الطريق، والسالك السبيل. بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه ومن معه إلى أحد الأمرين: الخروج من أرضهم أو العودة في ملتهم، ثم سمعوه يرد عليهم العودة إلى ملتهم ردا قاطعا. ثم يدعو بمثل قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق..) لم يشكوا أنه سيتركهم ويهاجر إلى أرض غير أرضهم، ويتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم، خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) فهددوهم وخوفوهم بالخسران
____________
(27) سورة الأعراف، الآيات: 88 - 90.
(28) الميزان: 192 / 8.
وهذا التفسير الأخير بما يكون الأقرب لفهم بعث شعيب عليه السلام إلى أصحاب الأيكة. بمعنى أنه عليه السلام كانت له مقدمة بأي صورة من الصور إلى مكان خارج مدين. وبما أن خطابه كان فيما بعد للأيكة، فإن الأيكة هي المرشحة لأن تكون هذا المكان، وقد توجه إليها بالدعوة بعد أن فصل الله بينه وبين مدين والله تعالى أعلم.
وخلاصة القول: أن الاستكبار وضع قافلة الإيمان بين (فكي كماشة) كما يقولون. إما الخروج وإما العودة إلى ملتهم، أما قافلة الأيمان فقد وضعت الاستكبار تحت قانون الاستفتاح (على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) لقد وضعوا الاستكبار تحت قوة لا طاقة لهم بها، فشعيب عليه السلام يعرف مصدر القوة، وملجأ الأمان، ويعلم أن ربه تعالى هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان. ولقد قال لهم وهو يقيم عليهم الحجة في أول الطريق: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب) (30) ثم قال لهم في وسط الطريق: (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحكمين) (31) ثم دعا ربه في نهاية الطريق: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (32) لقد كان شعيب عليه السلام يتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه، والتي ليس منها مضر، إلا بفتح من ربه ونصر.
* - وجاء الفتح:
لقد دار أهل مدين في اتجاه عكسي لدوران الكون! خالفوا الفطرة، ونصروا الهوى وأشاعوا الفساد في الأرض. إن نقص المكيال والميزان سرقة للأرزاق، وسرقة الأقوات مقدمة يستغلها الشيطان من أجل التشكيك في الرزاق، وبالتشكيك يربط بين ضعاف الإيمان وبين المستكبرين الذين في سعة من زخرف
____________
(29) الميزان: 193 / 8.
(30) سورة هود، الآية: 93.
(31) سورة الأعراف، الآية: 87.
(32) سورة الأعراف، الآية: 89.
وهم في دارهم أخذتهم الرجفة فوقعوا على وجوههم، وهم في ديارهم أخذتهم الصيحة فوقعوا على وجوههم.
والرجفة: الاضطراب الشديد. والجثوم في المكان: القعود فيه أو البروك على الأرض. وهو كناية عن الموت. والمعنى: أخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم. لقد ضربتهم الرجفة
____________
(33) سورة العنكبوت، الآية: 37.
(34) سورة هود، الآيتان: 94 - 95.
قال المفسرون: كان حالهم كحال الذين لم يطيلوا الإقامة في أرضهم.
فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع وعقار، وأما من تمكن في أرض واستوطنها وأطال المقام بها، وتعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية، فإن تركها له متعسر كالمتعذر، وخاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها، وما اقتنته فيها طول مقامها، وقد ترك هؤلاء وهم أمة عريقة في الأرض دارهم وما فيها في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وقد كانوا يزعمون أن شعيبا. ومن تبعه سيخسرون، فخاب ظنهم، وانقلبت الدائرة عليهم، فكانوا هم الخاسرين، فمكروا ومكر الله والله خير الماكرين (36). لقد تصرفوا كأحرار والكون يحيط بهم من كل مكان ولا حرية لهم أمام علله وأسبابه وقد حذرهم شعيب عليه السلام من عذاب محيط (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) (37).
لكنهم لم يفكروا فيما حولهم فجاءهم العذاب الذي يحيط بدارهم وبديارهم. عذاب فيه رجفة تهتز لها الجدران والقلوب وفيه صيحة تقرع أسماع الذين خارج الجدران ويعملون في الحبوب والحقول. وبعدت مدين كما بعدت ثمود.
* 5 - حدائق الأيكة:
روي أن الأيكة كانت قريبة من مدين. وكانت تمتاز بحدائقها الملتفة
____________
(35) سورة الأعراف، الآيتان: 91 - 92.
(36) الميزان: 193 / 8.
(37) سورة هود، الآية: 84.
أولا: لأنهم استندوا إلى أحاديث أما غيرهم فلم يستند إلا على رأيه.
وثانيا: أنهم استندوا على عذاب الأيكة الذي خالف عذاب مدين من حيث نوعه. فمدين ضربت بالرجفة والصيحة، والأيكة ضربت بعذاب الظلة، واستندوا على كتاب الله، فالله تعالى نسب شعيبا إلى مدين ولم ينسبه إلى الأيكة، ثم إن هناك ملامح طرد وهجرة لأتباع شعيب من مدين في كتاب الله.
فربما أن تكون مقدمة شعيب قد وصلت الأيكة ثم تحرك ركب الإيمان إليهم بعد أن عم التدمير مدين كلها. وأخيرا لقد فجر أصحاب الأيكة قضية رفض البشر الرسول وهو الذي لم يحدث في مدين، وليس معنى هذا أن مدين كانت تعترف ببشرية الرسول، فمدين عبدوا الأصنام وتصرفوا وفقا لأهوائهم، ولكنهم لم يفجروا هذه القضية لأنهم لم يملكوا مؤهلاتها فالقضية لا تفجر إلا في مجتمع مترف. وأصحاب الأيكة امتلكوا الأيكة، وكان من عندهم يتدفق النهر الذي تحمل أمواجه الزخرف، ومدين ما هي إلا موجة من أمواجهم، أراد شعيب عليه السلام أن يطهرهم وبهم يطهر ما حولهم. لكنهم أبوا إلا العذاب، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ودخل شعيب والذين آمنوا معه الأيكة ليبدأوا معها الطريق الذي بدأوه مع مدين. يقول تعالى:
(كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناص أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين) (39).
____________
(38) البداية والنهاية: 189 / 1.
(39) سورة الشعراء، الآيات، 176 - 184.
لقد خاطبهم في صدر خطابه لهم، كما خاطب هود وصالح عليهما السلام الجبابرة في قومهما، أمرهم بالتقوى ونفي الأجر حتى لا يتهموه ثم أمرهم بما يستقيم مع الفطرة.. فماذا كان ردهم؟ يقول تعالى: (قالوا إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربي أعلم بما تعملون) (40).
قال المفسرون: يخبر تعالى عن جوابهم له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها، تشابهت قلوبهم حيث قالوا: (إنما أنت من المسحرين) (41) وبعد ذلك فجروا قضيتهم التي وضع الشيطان بذورها، وقال بها كل مترف مستكبر متكبر عال في الأرض، لقد خاطبوه بعيونهم، حيث شاهدوا من حولهم حدائقهم وعبيدهم وتجارتهم التي تجوب الجزيرة والشام وتأتي إليهم بالمال الوفير، في الوقت الذي لا يمتلك هو وأتباعه ما يعلوهم ويقهرهم. لقد خاطبوه وفقا لفقه الأعمى الذي لا ينظر إلى الوجود بعيون الفطرة، وإنما ينظر إليها وفقا لأعمدة فقه الزينة والإغواء، ولقد اختصر أصحاب الأيكة الطريق، فبعد أن اتهموه بالكذب، طالبوه بالعذاب إن كان من الصادقين، وحددوا العذاب الذي يريدون (فأسقط علينا كسفا من السماء) أي أسقط علينا قطعا من السماء. وقيل:
____________
(40) سورة الشعراء، الآيات: 185 - 188.