واليهود قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام. وكان الله قادرا على منعهم من قتلهما، كما كان سبحانه قادرا على منع ثمود من عقر الناقة، ولكن كل شئ يجري لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة! فزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام هم آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية. ومن عدل الله سبحانه أنه جعل سد منافذ الهدى يأتي على أيدي الظالمين، ليكون رفضهم للهدى هو عين إقامة الحجة عليهم بأنهم قد جاءهم من الله هدى. وقتل بني إسرائيل لأنبياء الله، يدل على أن القوم اتسعوا في الانحراف والشذوذ، ومعنى رفضهم للهدى من أجل المحافظة على الانحراف، أنهم باختيارهم خرجوا من دائرة التفضيل على العالمين، لكونهم شعب غير جدير بالجندية تحت قيادة أنبياء الله. باختصار لم يظلمهم الله، فهم الذين قتلوا الأنبياء وهم الذين قفزوا خارج دائرة التفضيل، ولأن قيادة البشرية ليست حكرا على أحد، فقد جاء الله تعالى بالذين يتولون قيادة المسيرة من بعد شعب بني إسرائيل الذي تفرغ للكيد وا الظلم والفساد. وبني إسرائيل كان عمدتهم في قتل الأنبياء وتكذيبهم، أنهم! يجدون عندهم ما تهوى أنفسهم.
بمعنى أنهم يريدون أن يتبع الحق أهواءهم!! وهذا ضد حركة الوجود لقوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) (31) قال المفسرون: إن الذين يكرهون الحق. إنما يكرهونه لمخالفته هواهم. فهم يريدون من الحق أن يتبع أهواءهم وهذا مما لا يكون، إذ لو اتبع الحق أهواءهم.
____________
(30) ابن كثير 80 / 2.
(31) سورة المؤمنون، الآية: 71.
وقديما عقرت ثمود الناقة، وكانت الناقة ترشد هم إلى الطريق الحق، فعندما تغوص ثمود في أوحال الذنوب تشرب الناقة من الماء الكثير ولا تترك لهم إلا القليل، كما تأكل من العشب مثل ذلك، وعندما يخرجوا من أوحال الذنوب لا تشرب الناقة ولا تأكل إلا القليل، كانت الناقة تفعل وصالح عليه السلام يترجم.
لكنهم أبوا إلا الأوحال وأرادوا أن توافق حركة الناقة أفعالهم التي تمليها أهواءهم ولأن الحق لا يتبع الأهواء.. عقروها، ولأن الأنبياء لم يأتوا بني إسرائيل إه بما لا تهوى أنفسهم قتلوهم، فأي فرق بين ثمود وبين بني إسرائيل؟ لقد قتلوا زكريا ويحيى وقالوا: (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله) (32) لقد شاهدوا معجزاته الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه!
وخالفوه! وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم! حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام. ولم يتركوه في سياحته فعملوا على حصاره، وعندما شرعوا في الهجوم عليه، رفعه الله إليه، وألقى الله شبه عيسى على آخر. فلما رأوا شبيهه ظنوه إياه فألقوا القبض عليه وصلبوه.
إن حركة ثمود لم تمت. بل تجددت ولبست أكثر من ثوب ذواعا عن الأهواء، بعد أن فقد القوم روح الطاعة والسمع لرسل الله. وبعد أن استقرت
____________
(32) سورة النساء، الآية: 157.
4 - بصمة انحراف قوم لوط:
قوم لوط قطعوا السبيل ودقوا أوتاد اللاأخلاق في طريق المسيرة البشرية، ورقعوا الحجارة في وجه من يريد الاصلاح! وهددوه بالرجم وخوفوه بالإخراج من قريتهم! كان لوط عليه السلام يريد زرع الأخلاق الفاضلة وإزالة الأخلاق الرذيلة لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلا قهم كان عليه السلام يريد أن يرتفع القوم ويخرج من حياة الحضيض حيث الفحشاء والوقاحة والفساد إلى بئر العفة حيث يتعلمون الأدب ولا يتركون شيئا إلا لله ولا يتعلقون بسبب إلا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده. ولكن القوم أبوا إلا الفحشاء والعار فحل بهم الدمار. ومن بعدهم بدأت الفحشاء حول وتدهم الذي دقوه تتسع شيئا فشيئا، وعندما استقرت الفحشاء في معامل بني إسرائيل خرجت بوجوه عديدة، تنطلق من فقه يحب أن تشيع الفاحشة بين الناس، ومن أجل هذا الهدف زينوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. زينوا المقدمات والنتائج.
وبعد أن رفعت أعلام الفواحش فتحوا الأبواب للمنكر ودونوا له الدساتير وبعد أن استقر في عالمهم المنكر دخل البغي.
إنها دوائر تسلم بعضها بعضا، فالفاحشة في عهد قوم لوط كانت بقعة قذرة، أما في عهد بني إسرائيل فكانت أقذر وأوسع، لقد سيطرت أدواتهم على عالم السهرات والأزياء وبيوت التجميل ومعامل السينما ودور العرض ووسائل الإعلام مسموعة ومنظورة ومقروءة. وظهرت في مدارسهم اللاأخلاقية أجيال المخنثين وفي هذه الدوائر ظهر الجنس الثالث حيث الرجال للرجال! والجنس الرابع حيث النساء للنساء! واتسعت تجارة اللواط والزنا والسحاق وأصبحت لها مدن ودول واستيراد وتصدير! وبالجملة قطع الفساد شوطا طويلا في عالم الانحراف والشذوذ وأصبح يهدد البشرية في عمقها. وتهديد العمق البشري يدرج
____________
(33) سورة الشعراء، الآية: 227
5 - بصمة انحراف أهل مدين.
لقد نهى الله تعالى عن نقص المكيال والميزان، وسماه إفسادا في الأرض، ومدين دقت وتدها في طريق المسيرة البشرية، ولقد نصحهم شعيب عليه السلام فأبوا إلا بخس الناس أشياءهم، وفي عهد بني إسرائيل اتسعت دوائر المعاملات المالية، وأصبح للمال بيوت عتيقة دولية وإقليمية، وقلما تجد بيتا عتيقا من هذه البيوت ليس لليهود فيه خيط، فالقوم أحكموا السيطرة لمعرفتهم بخفايا الربح السريع على امتداد تاريخهم الطويل. والقرآن الكريم وصفهم بأنهم في معاملاتهم يأكلون السحت، والسحت هو كل مال اكتسب من حرام. يقول
____________
(34) سورة المائدة، الآية: 64.
(35) الميزان: 36 / 6.
(36) ابن كثير: 76 / 2.
فإذا كانت القاعدة والقمة مهمتها بخس الناس أشياءهم وأكل أموالهم بالباطل، فإنه لا أمل في إقامة المجتمع الإنساني الذي يليق بالإنسان الفطري.
وكيف يتم هذا إذا كان أهل القمة على أرائك الدين قد انحرفوا إلى سبيل الباطل.
وهم المعنيون بإصلاح قلوب الناس وأعمالهم ودفع الناس في سلوك طريق العبودية. في الحقيقة إن أباطرة الحال في المحافل الدولية العتيقة لم يكن الإصلاح هدفا لهم في يوم من الأيام. وكيف يكون ذلك وهم الذين يسعون في الأرض فسادا بنص القرآن. لقد امتدت أيديهم إلى الجهة المالية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني واستحوذوا عليها، ثم بدأوا العمل المنظم الذي يؤدي إما إلى فقر مفرط، وإما إلى غنى مفرط، لأن هذه النتيجة ستؤدي في النهاية إلى فرض تربيتهم وسياستهم! وفي ظل التربية والسياسة هذه لا ترى ملامح حكمة ولا يصغى فيه لموعظة.. لقد هيمن أصحاب الأرائك الدينية على الجهات المالية
____________
(37) سورة المائدة، الآية 62.
(38) سورة النساء، الآية: 161.
(39) ابن كثير: 584 / 1.
(40) سورة البقرة، الآية: 79.
(41) ابن كثير: 117 / 1.
(42) سورة التوبة، الآية: 34.
وأصحاب الأرائك. أو أصحاب الأيكة الجدد لا يضرهم الذين ساروا في طريق الفقر الذي انتهى إلى قطعهم للطرق واختلاسهم لأموال الناس. ولا يضرهم الذين ساروا في طريق الغنى الذي انتهى بهم إلى الاسترسال في الشهوات لأن خيوط اللعبة كلها في أيديهم. فإذا اختل النظام الحاكم في حيازة الأموال هنا. رد عليه نظام آخر في اقتناء الثروة هناك، إن أصحاب الأيكة الجدد يقبضون على المال ويظفرون بالثروة وهي بين أهلها الذين قتلهم الفقر أو الذين قتل فيهم الترف إنسانيتهم، والقبض على المال ليس غاية وإنما الصد عن سبيل الله هو الغاية. والمحيط الإنساني عندما يجري فيه قطاع الطرق الذين يبحثون عندما يسرقون. ويجري فيه الذين يبحثون عن مشتهيات النفس ومتعتها، ينقلب هذا المحيط إلى محيط حيواني ردئ. لا هم فيه إلا البطن وما دونه، ولا يملك فيه أحد إرادته، وبفشو الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي تغلق أبواب الحكمة والمواعظ وهذا هو هدف أصحاب الأيكة الجدد. وأن لا يقوم مجتمع حي فعال يليق بالإنسان الفطري، المتوجه إلى سعادته الفطرية. ولأن السعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان، أو يعمل للوصول إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت، قام أصحاب الأيكة الجدد برفع أعلام أكثر من طاغوت. أعلام مغلفة بأغلفة تستقيم مع روح العصر الحديث. فأيهما أبشع وجها. أهل مدين أم أصحاب الأيكة الجدد؟
6 - بصمة انحراف الفراعنة:
تقوم العقيدة الفرعونية في الأساس على عبادة الشمس، وهذه العبادة
وبالجملة كان القوم على استعداد للانحراف نظرا لعب ء الثقافة الفرعونية على عقله وقلبه. ولقد آتت هذه الثقافة ثمارها، عندما وعد الله تعالى موسى عليه السلام أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوما، وأخبر موسى قومه بذلك وجعل عليهم أخاه هارونا عليه السلام، فلما جاء الثلاثون يوما ولم يرجع موسى.
عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون! وقالوا: إن موسى كذب وهرب منا، وعندئذ تقدم السامري وكان من أصحاب موسى وكان على مقدمة القوم يوم أغرق الله فرعون وأصحابه، وروي أن السامري وهو على مقدمة القوم شاهد فرس جبرائيل كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض. تحرك ذلك الموضع فأخذ السامري قبضة من هذا التراب، وصرها في صرة وكان يفتخر بها على بني إسرائيل.
وعندما هم القوم بهارون واتهموا موسى بالهرب.. أمر السامري بجمع الذهب.
وفي رواية أن الشيطان جاءهم في صورة رجل وقال لهم: إن موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه، وعندما جاء القوم بالذهب وصنعوا العجل.. ألقى السامري بالتراب الذي معه في جوف العجل. فلما وقع التراب في جوفه خار فسجد له أكثر بني إسرائيل!
____________
(43) تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع.
وعقاب الذلة الذي ضربه الله على الذين اتخذوا العجل. ظل علامة مميزة لهم على امتداد الزمان يحمله الذين جاؤوا على أهوائهم جيلا بعد جيل. يقول تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا
____________
(44) سورة الأعراف، الآية: 148.
(45) سورة البقرة، الآية: 93.
(46) الميزان: 222 / 1.
(47) سورة الأعراف، الآية: 152.
(48) الميزان: 253 / 8.
(49) ابن كثير: 248 / 2.
(50) الميزان: 253 / 8.
(ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) (53) قال المفسرون: إن الذلة مضروبة عليهم كضرب الخيمة على الإنسان أو كضرب السكة على الفلز فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله. وحبل وسبب من الناس وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة، فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا، ومن الناس البناء والعمل. والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم والدليل على ذلك قوله. (أين ما ثقفوا) فإن ظاهر معناه أينما وجد هم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية، فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي. إلا أن يد خلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.
وقال بعض المفسرين. إن قوله: (ضربت عليهم الذلة) ليس في مقام تشريع الحكم. بل إخبار عما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر. فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى، وهذا المعنى لا بأس به (54).
لقد اتبعوا عجول الفراعنة فضربتهم الذلة بعد عجل سيناء، ولأنهم يعلمون أن مقامهم في الذلة يتحدد بدقة، إذا هيمن الدين الحق، لم يدخروا جهدا في وضع العراقيل أمام مشاعل النور للدين الحق. واشتروا بذهب العجول كل
____________
(51) سورة البقرة، الآية: 61.
(52) ابن كثير: 102 / 1.
(53) سورة آل عمران، الآية: 112.
(54) الميزان: 384 / 3.
* - من معالم الخزي في الحي اليهودي:
عندما شاء الله أن يتقدم بني إسرائيل المسيرة البشرية وراء أنبيائهم في عالم يعج بعبادة غير الله، أقام الأنبياء الحجة الكاملة على البشرية، وفي نفس الوقت على القاعدة التي منها ينطلقون ألا وهم بنو إسرائيل. وإقامة الحجة هي العامود الفقري فإما أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا، فهذه قضية أخرى عامودها الفقري أن الله غني عن العالمين، فالله تعالى هو خالق الإنسان وبما أنه خالقه فهو سبحانه أعلم بما يصلحه، فبعث إليه الأنبياء والرسل بالإصلاح، فمن تقبل الدواء نال الشفاء ومن أبى إلا المرض عاش فيه وأصابه ما أصابه، فإن عاد بالتوبة قبله الله، وإن أصر على المعصية ففي الدنيا عذاب وفي الآخرة عذاب. ودين الله لا إجبار فيه والله غني عن العالمين، ولأن بني إسرائيل كانوا في المقدمة يوم أن فضلهم الله على العالمين، فإن الله تعالى جعل في بعضهم آيات تكون عبرة للقوم كي يستقيم المعوج وتواصل المقدمة المسيرة. ولكن تكون عبرة لمن يأتي بعدهم لينظر كيف تكون حركة التاريخ. ومن هذه الآيات بعد خروجهم من مصر: إهلاك السبعين وإحياؤهم، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، والتظليل بالغمام وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. وآية البقرة ومسخ بعضهم قردة خاسئين. وآيات كثيرة حدثت على امتداد رحلة تفضيلهم وهم وراء الأنبياء من بعد موسى عليه السلام، منها خروج قوم من أوطانهم هربا من الطاعون وكانوا أعدادا كثيرة، فأماتهم الله دهرا طويلا ثم بعثهم في وقت واحد، فهذه كلها آيات كان من المفروض أن تكون زادا لبني إسرائيل يمنعهم من الانحراف، لكن القوم تركوا وراء ظهورهم الآيات والعبر وعندما انتهت رحلة التفضيل، وانتقل الطريق والقافلة إلى غيرهم، جلسوا يجترون الذكريات ويعيشون في أوهام التفضيل وأعلامه. ونحن لن نسرد كل آيات العذاب التي ضربهم بها الله ليستقيم المعوج منهم، وإنما سنلقي الضوء على آيتين لما فيهما من عبر جامعة لم يلتفت إليها القوم. الأولى خاصة برجل آتاه الله الأموال وكانت عنده الكنوز والثانية لرجل آتاه الله العلم وأراه الآيات العليا. ولكن الرجلان جرت في دمائهما كل معالم
1 - عبرة قارون:
كان قارون من بني إسرائيل، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة القوة، فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره!
وأمن العذاب الإلهي، وآثر الحياة الدنيا على الآخرة، وبغى الفساد في الأرض. يقول تعالى: (إذ. قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (55) قال المفسرون:
وعظوه أن لا يبطر بما هو فيه من مال. وأن يشكر الله على ما أعطاه وأن يطلب فيما أعطاه الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله، ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى، وقالوا له: لا تنس أن نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شئ قليل مما أوتيت، وهوما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا، والباقي فضل ستتركه لغيرك.
فخذ منها ما يكفيك (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أنفقه لغيرك إحسانا، كما آتاكه الله إحسانا، ولا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة. إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والإصلاح (56) فماذا كان رد قارون على العظة؟ قال تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي) (57) قال المفسرون: أجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق.. لقد ادعى إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره. وبما أن هذا باستحقاق فقد استقل بما عنده وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني.
____________
(55) سورة القص، الآيتان: 76 - 77.
(56) الميزان: 76 / 16، ابن كثير: 399 / 3.
(57) سورة القصص، الآية: 78.
(وقال الذين أوتوا العلم..) أي المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون وعدوه سعادة عظيمة على الإطلاق. قالوا: إن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا مما أوتي قارون فإذا كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوا ثواب الله. (ولا يلقاها إلا الصابرون) أي وما يفهم هذا القول وهو قولهم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون..
وعلى مشهد من الجميع من أصحاب الدنيا وأصحاب العلم ابتلعت الأرض الطاغية المستكبر.. يقول تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من
____________
(58) سورة القصص، الآية: 78.
(59) سورة القصص، الآيتان: 79 - 80.
(60) سورة النجم، الآيتان: 29 - 30.
قال المفسرون: خسف به وبداره الأرض.. فما كان له جماعة يمنعونه العذاب، وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه، فلم يقه جمعه وتقه قوته من دون الله، وبأن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه. فالفاء في قوله:
(فما كان) لتفريع الجملة على قوله: (فخسفنا به) أي فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء عن الله، وأن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي (62).
واعترف الذين تمنوا مكانه ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدقونه بأن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان وعلمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه.. لقد عرفوا الحقيقة بعد مشهد وحركة. وعلموا أن سعة الرزق وضيقه بمشيئة من الله، وكان قارون علامة بارزة أمام بني إسرائيل لكن الكثرة عبروا عليها ولم يتبينوها، لأن في قلوبهم حب العجل!
2 - عبرة صاحب النبأ:
أبهم الله تعالى اسم صاحب النبأ، واختلف المفسرون في تعيين من هو في الآية الكريمة. وأقوى الروايات أنه يدعى (بلعم بن باعوراء)، وأن الله تعالى أعطاه الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له (63) وروي أن موسى عليه السلام بعثه إلى ملك مدين يد عوه إلى الله فأعطاه الملك الأرض والمال فتبع بلعم بن باعوراء دينه (64). وروي غير ذلك. والخلاصة أنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه
____________
(61) سورة القصص، الآيتان: 81 - 82.
(62) الميزان 76 / 16.
(63) الميزان: 337 / 8، ابن كثير: 265 / 2.
(64) ابن كثير: 264 / 2.
ولكنه أخذ بأسباب التدنس ومال إلى زينة الحياة الدنيا وأقبل على لذاتها ونعيمها.
واتبع هواه وكان ذلك موردا الإضلال الله له، لا لهدايته. وهذا الرجل مثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. فهو ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) فالتكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة. فلا تزال آيات الله تتكرر على حواسهم.
ويتكرر التكذيب بها منهم (فاقصص القصص) أي قص القصة (لعلهم يتفكرون) فينقادوا للحق وينزعوا عن الباطل.
لقد كان صاحب النبأ معه آيات باهرات، لكنه أخذ بأسباب الزينة التي تشبع الأهواء، فكان مصيره النار. لقد كان يحمل آيات باهرات، لكنه لم يستعمل قلبه وبصره وأذنه فيما ينفعه ويحقق له السعادة الدائمة الحقيقية والله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله أن يقص القصة لعل بني إسرائيل العالمين بحال صاحب النبأ وما جرى له بسبب استعماله نعمة الله في غير طاعة الله، لعلهم عندما يذكرهم النبي صلى الله عليه وآله بالقصة يتفكرون ليحذروا أن يكونوا مثله، وهم بما أنهم أهل كتاب، قد أعطاهم الله علما ميزهم به على من عداهم من الأعراب. وبصرف النظر عن تحريفهم لكتابهم، إلا أن هذا الكتاب كان يحتوي بين دفتيه على آية عظيمة. إذا كفروا بها كان شأنهم كشأن صاحب النبأ الذي ترك الآيات وجلس بجوار الذهب والفضة. وهذه الآية التي في كتابهم خاصة بنبي الله
____________
(65) سورة الأعراف، الآيتان: 175 - 176.
فذكره صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف الثلاثة [ الرسول النبي الأمي ] تدل على أنه كان مذكورا في التوراة والإنجيل بهذه الأوصاف الثلاثة. فماذا فعل أتباع صاحب النبأ بهذه الأوصاف؟ لقد حرفوها. ولكن التحريف لم يجهز على الحقيقة أمام البحث والتدقيق (67). إن الحقيقة باقية لتكون حجة على أجيالهم في كل زمان. إن اتباع صاحب النبأ لم يحترموا العلم فجعلهم الله كمثل الحمار كما جعل صاحبهم من قبل كمثل الكلب. يقول تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (68) قال المفسرون: المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى عليه السلام.
فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع. فتركوها ولم يعملوا بها. فحملوها ولم يحملوها. فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا وهؤلاء يعرف ما فيها من المعارف والحقائق. فلا يبقى له من حملها إلا التعب بحمل ثقلها!
* 3 - البعوث الدائمة والطمس الدائم:
لم يضرب عذاب الاستئصال شعب إسرائيل ضربة واحدة. كما ضرب من
____________
(66) سورة الأعراف، الآيتان: 156 - 157.
(67) راجع بحوثنا عن المسيح الدجال.
(68) سورة الجمعة، الآية: 5.
1 - البعوث الدائمة:
كتب الله على شعب إسرائيل القتل والأسر والاضطهاد على أيدي الجيوش الجرارة التي جاءت إليهم من جهات عديدة، بعد أن ظلموا أنفسهم وسهروا من أجل الحفاظ على الانحراف والشذوذ! وبعد أن تقلصت دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتسعت دوائر السلبية والظلم والبغي بينهم. وعلى امتداد مسيرة بني إسرائيل كان فيهم الصالحين وغير ذلك. ولكن غير الصالحين كانوا دائما إلى الافساد في الأرض أسرع! وذلك لأن رقعة الانحراف كانت رقعة واحدة بينما كانت رقعة الصالحين تنقسم إلى قسمين: قسم ضعيف قليل العدد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والقسم الآخر يحتوي على كثرة لم ترتكب المعاصي ولكنها تركت الساحة للمفسدين كي يعربدوا فيها وينشروا ضلالتهم.
ونظرا لهذا التقسيم انتشر الفساد لسهر أعوانه عليه. وفي سنة الله تعالى إذا عمل قوم بالمعاصي ولم يغيره الناس أوشك الله أن يعمهم بعقاب، لأن ارتكاب المعاصي مد خل رئيسي لهدم أركان الدين. ومن عدل الله سبحانه أنه قبل أن يعم بني إسرائيل بالعذاب الشامل، وضع في بداية طريقهم حدثا كان يجب عليهم أن يحفروه في ذاكرتهم، ليعلموا أن الذي حدث في قرية صغيرة يمكن أن يضرب الأمة الكبيرة. يقول تعالى. (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم
قال المفسرون: " انقسم أهل القرية في أمر الله ثلاث فرق. فرقة ارتكبت ما نهى الله عنه. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، وقالت للفرقة التي نهت واعتزلت: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من ذلك. فلا فائدة في نهيكم إياهم. فقالوا. (معذرة إلى ربكم) أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعلهم بهذا الانكار يتقون " (70). وفي قولهم: (إلى ربكم) حيث أضافوا الرب إلى الفريق الذي يلومهم ولم يقولوا: إلى ربنا.. إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم. لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه. ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده. وأنتم عباد له كما نحن عباده، فعليكم من التكاليف ما هو علينا (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء) وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين أي للفرقة التي ارتكبت ما نهى الله عنه. في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم. وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة. وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع وعظة، مشاركة معهم في ظلمهم. وأن الأخذ الإلهي الشديد، كما يترصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم (71).
لقد ضرب العذاب الظالم المعتدي والظالم الذي سكت. وفي الحديث كانوا أثلاثا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: (لم تعظون) وثلث أصحاب الخطيئة.
فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم (72) وقال تعالى للذين عتوا عن أمره:
____________
(69) سورة الأعراف، الآيات: 163 - 166.
(70) ابن كثير: 257 / 2.
(71) الميزان: 296 / 8.
(72) رواه ابن عباس وقال ابن كثير إسناده جيد: 259 / 2.
وقد نزل ببني إسرائيل نوازل كثيرة. منها ما جرى عليهم بيد (نبوخذ ناصر) عام 588 ق. م وكان من ملوك بابل وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلا دهم ثم فتحها عنوة وخرب البلاد وهدم الهيكل وأحرق التوراة وأباد النفوس بالقتل العام. ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة فأسرهم وسيرهم معه إلى بابل. وبعد رحيل (نبوخذ ناصر) دخلوا تحت حماية ملك الفرس (كورش) الذي أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة. وأعانهم على تعمير الهيكل.
وظل اليهود خاضعين لحكم الفرس حتى جاء الإسكندر الأكبر 323 ق. م واجتاح المنطقة، وبعد وفاة الإسكندر خضعت أورشاليم لبطليموس وكان واحدا من قواد الإسكندر الأكبر وكان يتولى حكم مصر. ثم اجتاح الرومان البلاد عام 63 ق. م بعد أن ضعفت أيدي الإغريق. وحدث نزاع شديد بين اليهود والرومان انتهى بخراب أورشاليم وهدم الهيكل عام 70 ميلادية على يد (تيطوس) الروماني. ثم حدثت مشادات بين اليهود والرومان. انتهت باستقلال
____________
(73) سورة الأعراف، الآية ة 167.
وفي عام 1948 اعترفت الأمم المتحدة بدولة إسرائيل. وكان هذا الاعتراف ثمرة لجهد طويل قامت به الأيدي الخفية التي زينت كل قبيح في عالم الطمس الطويل الذي يسير في عكس اتجاه الفطرة. وفي بطن الغيب ما زالت البعوث قائمة. وانتظروا ونحن معكم منتظرون.
2 - الطمس والمسخ:
(أولا) أخذ اليهود بأسباب الضلال:.
ظلت البعوث تطارد بني إسرائيل على ظلمهم. ولم يكن هذا يعني عدم وجود صالحين بينهم، فلقد عاش معهم في كل منازلهم التي نزلوا بها من يد عوهم إلى تقوى الله. ولكن دعوته كانت تذهب أدراج الرياح. وفي كل جيل بعد ذلك كانت تقل نسبة الصالحين وتتسع نسبة الذين يهرولون إلى السيئات. حتى جاءت الأجيال التي لا خير فيها. أجيال ورثت الكتاب وتحملوا ما فيه من المعارف والأحكام والمواعظ والبشارات. وكان لازم هذا. أن يتقوا ويختاروا الدار الآخرة. ويتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من. الثواب الدائم.
لكنهم أخذوا ينكبون على اللذائذ الفانية ولم يبالوا بالمعصية وإن كثرت. ووضعوا في طريق الانحراف وتدا هو من أشد الأوتاد خطورة بعد وتد رفض بشرية الرسول. وكان هذا الوتد قولهم: " سيغفر الله لنا " لقد هرولوا إلى المعاصي تحت لافتة مغفرة الله لهم. وهذا قول بغير حق. شربوه في قلوبهم وسقوه للذين
قال المفسرون. لقد أخذ الله عليهم الميثاق عند حملهم الكتاب (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) والحال أنهم درسوا ما فيه. وعلموا بذلك أن قولهم:
(سيغفر لنا) قول بغير الحق. ليس لهم أن يتفوهوا به. لأنه يجرئهم على معاصي الله وهدم أركان دينه " و " الحال أن " الدار الآخرة خير للذين يتقون " لدوام ثوابها وأمنها من كل مكروه (أفلا يتقون). ثم بين سبحانه أن التمسك بالكتاب هو الاصلاح الذي يقابل الافساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشري فيها. وخص سبحانه الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها وكونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله والخضوع إلى مقامه..
وبدأ الذين ورثوا الكتاب يتعاملون مع التوراة بأهوائهم تحت لافتة أنهم مغفور لهم ولأنهم وضعوا كتاب الله وراء ظهورهم سلط الله عليهم من جعلهم يتجرعون الذل. وخلال سبي شعب إسرائيل إلى بابل وكانوا وقتئذ يعرفون باسم العبرانيون (75). كان العبرانيون الذين ساروا على خطى الآباء تحت لافتة سيغفر الله لهم. قد نسوا أيضا هذه اللافتة عندما بدأوا في إعادة كتابة التوراة في بابل.
وذلك لأن التوراة التي أنتجها العبرانيون في بابل أنتجت الدين اليهودي. الذي سار فيما بعد بوقود الصهيونية التي تهدف إلى جمع اليهود ولم شملهم وتهجيرهم إلى فلسطين لتأسيس دولة يهودية فيها تدين بالدين اليهودي وتتميز بالعنصر اليهودي ربا لثقافة اليهودية وبإرادة بعث مملكة داود. والتوراة التي تم إنتاجها في بابل كتبت على يد " عزرا " شيخ العنصرية والتعصب الأعمى الأكبر (76) حوالي
____________
(74) سورة الأعراف، الآيتان: 169 - 170.
(75) أصول الصهيونية / إسماعيل الناروقي. ط وهبه ص 8.