الصفحة 389
بإبراهيم وبإرث إبراهيم من النيل إلى الفرات ما هو إلا من علم الدجل الذي يصل إليه كل من ركب طريق الطمس.

3 - الصد بالمنافقين:

بعد أن تآكل معسكر الانحراف في ميادين القتال وبعد ن حطم القرآن حجج أصحاب الأهواء وتجار التراث الذي ليس فيه من الله سلطان. لم يكن أمام معسكر الانحراف سوى ورقة النفاق. وهذه الورقة كانت شر ورقة بل وأمضى سلاح استخدم في عالم الصد. وذلك لأن المنافق يعيش بلسانه وسط المسلمين بينما ينبض قلبه فخيمة من خيام الانحراف التي يباركها الشيطان. فهو بلسانه دخل المساجد يصبح من المصلين له ما لهم وعليه ما عليهم. في نفس الوقت يحيط بقلبه غلالات الحقد والحسد وغلالات الأهواء المتنوعة التي تحمل بصمات سلف الانحراف في جميع الأجيال. لقد كانت ورقة النفاق التي استعملها معسكر الصد عن سبيل الله. تحمل بذرة ملعونة أنبتت شجرة ملعونة هي من أسوء أشجار معسكر الانحراف لأن المنافقين بملابس الإسلام قادوا أكثر من سبعين فريقا إلى النار. بعد أن قاموا بتأويل الآيات وفقا لأهوائهم. الأمر الذي أدى بهم في نهاية المطاف إلى اتباع سنن الذين من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. فشاركوهم الذل في الدنيا وفي الآخرة يشاركونهم. عذاب السعير يوم يكونوا في الدرك الأسفل من النار. والنفاق و إن كانت له معالم ضيقة في بداية الدعوة في مكة. إلا أنه في المدينة اتسع وكان المنافقون يقفون مع أعداء السلام بصورة من الصور على الرغم من وجودهم في الخندق السلامي. والقرآن الكريم فضحهم في أكثر من موضع. ولأن درب النفاق طويل ويحتاج بحثا منفصلا فإننا سنسلط الأضواء هنا على الخطوط الرئيسية للنفاق في صدر الإسلام. تلك الخطوط التي سد عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميع المنافذ في حياته. وعندما تغافل عنها المسلمون بعد مماته. انطلقت للتاجر الشعار الخالي من كل شعور.

(أ) المنافقين أعدى أعداء الحق:

تكرر ذكر المنافقين في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر

الصفحة 390
والمنافقون والتحريم. وقد أوعدهم الله في كتابه أشد الوعيد. ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم. وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم. فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه. وناهيك فيهم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليهم:

(هم العدو فاحذرهم) (233) وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة. وقد نزلت - على ما قيل - على رأس ستة أشهر من الهجرة. ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم.

كانسلالهم من الجند السلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبا. وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد ضرار واشاعتهم حديث الإفك إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات القرآنية حتى بلغ أمرهم في الفساد وتقليب الأمور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (234) إلى حيث هددهم الله تعالى بقوله:

(لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) (335).

وأجهزة ومؤسسات النفاق عملت على خطوط الصد عن سبيل الله في كل موضع نظرا لاختفاء جنودها تحت اللافتة الإسلامية. وهذه الميزة جعلتهم يتسللون في كل مكان. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف بعضهم.

والبعض الآخر لا يعلمهم ولا يعلمهم إلا الله. يقول تعالى لرسوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (236) قال المفسرون: أي من القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب

____________

(233) سورة المنافقون، الآية: 4.

(234) الميزان: 288 / 19.

(235) سورة الأحزاب، الآيتان: 69 - 61.

(236) سورة التوبة، الآية 101.

الصفحة 391
منافقون ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون (مردوا على النفاق) أي مرنوا عليه ودربوا به. وقيل: مردوا على النفاق أي لجوا فيه وأبوا غيره. لا تعلمهم أنت يا محمد. وهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم نحن نعلمهم (237) فهذا الفريق الذي مرن على النفاق ودرب به ومارسه. حتى اعتاده. منه من أجاد التسلل بين الأحداث طمعا في الرئاسة والإمارة والعودة بروح القبيلة التي قضى عليها السلام بعد أن أرسى قاعدة إن أكرم الناس عند الله أتقاهم وهذا الصنف الذي وضع الإمارة أمام عينيه شق طريقه بالركوبة التي تنظم له الوصول إلى هدفه. ومن المنافقين أيضا من ارتد كما في قوله تعالى: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) (238) وكتم الارتداد لا يحمل إلا السوء للأمة والمتدبر في حوادث آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتن الواقعة بعد رحلته يجد صورا عديدة تبدو فيها ملامح أولئك الذين دربوا ومرنوا على النفاق.

وطابور الانحراف الذي يحمل اسم النفاق ويعمل على خطوط الصد له هيئته وهيبته بين الناس. فالفريق وإن كان بينه الأخساء وأولاد الزنا إلا أنه يجمع بين دفتيه الشراف وأصحاب الصوت المسموع والكعب العالي. يقول تعالى:

(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) (239) قال المفسرون: المراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء. إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الاصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه. وقوله: (كأنهم خشب مسندة) ذم لهم. والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة.

لكنهم كالخشب المسندة. أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون. وقوله: (يحسبون كل صيحة عليهم) ذم آخر لهم. أي أنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة.

____________

(237) ابن جري في تفسيره: 8 / 11.

(238) سورة المنافقين، الآية: 3.

(239) سورة المنافقين، الآية: 4.

الصفحة 392
يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم. ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها وقوله: (هم العدو فاحذرهم) أي هم كاملون في العداوة. بالغون فيها. فإن أعدى أعداءك. من يعاديك وأنت تحسبه صديقك (240).

فالفريق الانحرافي لهم مواهب عديدة دربوا عليها ولم يستعملوها إلا في مواضعها. وما كانوا يحذروا إلا أن ينزل الله فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم.

ورغم حذرهم هذا إلا أن البعض منهم أقدم على أعمال من أجل عرقلة المسيرة.

واضعين في اعتبارهم أن اكتشاف حقيقتهم يذوب أثره بمجرد أن يحلفوا بالله أنهم ما فعلوا أو إنهم فعلوا هذا من باب اللهو. لقد كشفت آيات القرآن الكريم خطة المنافقين في استغلال القسم بالله للتمويه على جرائمهم في أكثر من سورة من سور القرآن منها قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) (241) قال المفسرون: ويحلفون بالله لكم أيها المؤمنون كذبا وباطلا خوفا منكم إنهم لمنكم في الدين والملة. وما هم منكم. أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم. بل هم أهل شك ونفاق يخافونكم يقولون بألسنتهم إنا منكم ليأمنوا فيكم فلا يقتلون (242) وفي موضع آخر يقول تعالى: (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) (243).

فتحت دثار القسم هذا أرادوا لجرائمهم في حق الفطرة أن تعبر. ولكن الوحي كان لهم بالمرصاد فكشف الجرائم وجعلهم عبرة يعتبر بها من أخذ بذيل آباء النفاق أولئك الذين تاجروا بآيات الله وبالمساجد وبكل شعار للإسلام بعد أن فرغوه من كل شعور وروح.

(ب) من جرائم المنافقين:

جرائم معسكر النفاق الذي تلحف بلحاف المسلمين لا تصب نتائجها إلا

____________

(240) الميزان: 281 / 19.

(241) سورة التوبة، الآية: 56.

(242) ابن جرير في التفسير: 107 / 10.

(243) سورة التوبة، الآية: 96.

الصفحة 393
في صالح الذين كفروا بالإسلام ورسالته وذلك لأن المنافقين تربطهم بالذين كفروا أخوة الصد عن سبيل الله. وهذه الأخوة سجلها كتاب الله في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم...) (244) لقد وضعهم الله تعالى في كتابه في خرمة واحدة مع الذين كفروا لأن أهدافهم واحدة. ولأن جرائم المنافقون في حق الفطرة عديدة فإننا نكتفي. بإلقاء الضوء على ما نرى أنه يفي بالغرض. وأول هذه الجرائم محاولة طابور النفاق اغتيال الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقد أفاضت كتب التفسير في وصف هذا الحدث. وقال بعض المفسرين في تفسير سورة التوبة أن اثنى عشر رجلا (245) وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه وتبوك. فأخبر جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم. وعمار بن ياسر كان يقود دابة رسول الله. وحذيفة يسوقها. فقال لحذيفة: أضرب وجوه رواحلهم. فضربها حتى نحاهم. فلما نزل. قال رسول الله لحذيفة: من عرفت من القول؟ قال: لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله (ص): إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فنقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

وفي رواية "... وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه. وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها. فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوهم. فغضب رسول الله. وأمر حذيفة أن يراهم ويتعرف عليهم. فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها بالمحجن. وأبصر القوم وهم متلثمون فأرعبوا حين أبصروا حذيفة. وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس. وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله. فلما أدركه قال: أضرب الناقة يا حذيفة وامش أنت يا عمار.

فأسرعوا وخرجوا من العقدة ينتظرون الناس. فقال النبي: يا حذيفة: هل عرفت

____________

(244) سورة الحشر، الآية: 11.

(245) وفي رواية خمسة عشر رجلا.

الصفحة 394
أحدا منهم؟ فقال: عرفت راحلة فلان وفلان. وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون. فقال رسول الله: هل عرفت ما شأنهم. ما يريدون؟ قال: لا يا رسول الله قال: فإنهم فكروا أن يسيروا معي حتى إذا صرت في العقبة طرحوني فيها. فقال: أهلا ترأف بهم إذا جاءك الناس؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدا قتل أصحابه ثم سماهم بأسمائهم.

ومن المعلوم من سير الحوادث. أن المسألة إذا كانت تتعلق بكبار الصحابة. فلا ترد أسماؤهم صريحة فيها. ويأتي التعبير عنهم بفلان وفلان.

وكل مورد من هذا القبيل فهو يعني جماعة يخاف الراوي من التصريح بأسمائهم.

أما إذا لم يكن الحادث مع الكبار من الصحابة. فيأتي الاسم صريحا كما يبدو ذلك للمتتبع وسيأتي أمثلة ذلك فيما بعد وقصة المؤامرة في كتب التفسير بالمأثور وجوامع الحديث وذكر اليعقوبي في تاريخه بصورة مجملة وقال إن حذيفة كان يقول أنه يعرفهم بأسمائهم (246) وروي أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن عمار قال في الفريق الذي أراد اغتيال رسول الله: " أشهد أن الاثني عشر الباقين منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا " (247).

إن طابور النفاق الذي أعد خطة اغتيال رسول الله لم يكن ليقدم على مثل هذه الخطوة إلا بعد أن تأكد أن بين صفوفه العديد من الذين إذا قالوا استمع الناس لأقوالهم وإذا رآهم الناس أعجبتهم أجسامهم. فلو لم يكن الطابور على ثقة في كوادره وأنهم يتمتعون باللسان الطليق وبمقدرة على احتواء ما سيترتب عليه الحدث ما أقدموا على ذلك وخلاصة القول: لقد تحركوا لتنفيذ الجريمة من باب عدم الإيمان بالله والاستهزاء بآياته وانطلقوا في طريق الانحراف من أجل سد أبواب الطهارة عن الفطرة. ولكن الله تعالى ردهم ولم ينالوا شيئا. ووراء الجدران بدأوا يرتجفون خوفا من أن ينزل الله فيهم سورة تخبر المؤمنين بهم.

وأعدوا لهذا سيلا من الأعذار طمعا في النجاة. ووراء الجدر عاشوا حياة الظلام

____________

(246) سيرة المصطفى / هاشم معروف: 633.

(247) مجمع الزوائد: 195 / 6.

الصفحة 395
وإن كانوا تحت الشمس وحياة الخوف وإن كانوا بين الجند.

أما الجريمة الثانية التي نلقي عليها الضوء. فهي جريمة بناء المسجد الضرار. لقد أراد طابور الانحراف أن يشق الدعوة برموز الدعوة. ففي عصر الرسالة لم يكن في استطاعة هذا المعسكر سوى أن يقيم بنيانا تقام فيه الصلاة وتبث منه ثقافة تمهد لمجئ الروم. يقول تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) (248) قال المفسرون: إن الباعث لهم على هذا العمل. كان أمورا أربعة:

الأول: الضرار وهو المضارة أي إيصال الضرر.

والثاني: الكفر بالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق.

والثالث: التفريق بين المؤمنين. لأنهم أرادوا أن لا يحضروا في مسجد قباء. فتقل جماعتهم. ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم. فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة.

والرابع: قوله: (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله) (249).

هذه أعمدة مسجد طابور الانحراف. أعمدة هدفها الصد عن سبيل الله.

وبداية هذه العمل كما اتفق عليه أهل النقل: إن جماعة من بني عمرو بن عوف.

بنوا مسجد قبا. وسألوا النبي أن يصلي فيه. فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف. وهم منافقون. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا أبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم، ولما بنوا المسجد أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتجهز إلى تبوك. وسألوه أن يأتيه ويصلي فيه. ويدعو لهم بالبركة. فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة. فلما رجع النبي من تبوك نزلت الآيات. وروي

____________

(248) سورة التوبة، الآية: 107.

(249) ابن جرير في التفسير: 17 / 11.

الصفحة 396
أن أحد المنافقين وهو أبو عامر الراهب قد أمرهم ببناء هذا المسجد. وقد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما دخل النبي المدينة كان يشاغب عليه. وبعد أن فتح النبي مكة التجأ أبو عامر إلى الطائف. ولما أسلم أهل الطائف التحق ببلاد الشام وتنصر. وقد أرسل إلى المنافقين أن يتموا بناء المسجد ويجدوا في أمرهم. ووعدهم بأنه سيذهب إلى قيصر. ويحرضه على إرسال جيش قوي إلى المدينة للقضاء على محمد ومن معه من المسلمين. فكان المنافقون يتوقعون ذلك. ولكنه هلك قبل أن يتصل بملك الروم. ولما نزل الوحي على النبي.

وقص عليه حديث هذا المسجد أمر النبي بإحراقه وأن يتخذوه مكانا للأوساخ والنفايات.

لقد تظاهروا بالدين وتاجروا بالشعارات وبناء المساجد. لأغراض تخدم أعداء الدين. ويتخذون منها منطلقا للمؤامرة على الإسلام والمسلمين. فجهاز النفاق كان يعد العدة لاغتيال الرسول وهو في طريق العودة من تبوك. وفي نفس الوقت كان مسجدهم الضرار له مهمة أخرى في حال نجاة الرسول من القتل على طريق تبوك. لكنهم لم يربحوا هنا أو هناك. وفضحتهم بصماتهم هناك على صفحات التاريخ وفضحهم مسجدهم هنا حيث أصبح محلا للأوساخ والنفايات.

وفضح الله امتدادهم على مر الزمان. كما فضح الذين اتخذوا العجل من بعد موسى عليه السلام. فالذين اتخذوا العجل قال فيهم سبحانه: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) (250) قال المفسرون: الإشراب هو السقي. والمراد بالعجل. حب العجل. وضع للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل (251) لقد أشربوا العجل وناولوا كأسه لمن اتخذهم قدوة أو وقع هواه على هواهم أما الذين اتخذوا المسجد الضرار ففيهم يقول تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) (252) قال المفسرون: أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع. أورثهم نفاقا في قلوبهم كما

____________

(250) سورة البقرة، الآية: 93.

(251) الميزان: 123 / 1.

(252) سورة التوبة، الآية: 110.

الصفحة 397
أشرب عابدوا العجل حبه (253) لقد أتموا البناء وحلفوا بالله ما أرادوا ببنائهم إلا خيرا ورفقا بالناس والله يشهد أنهم لكاذبون فيما قصدوا وفيما نووا (254) لهذا جعلهم الله عبرة لمن أراد الاعتبار ولكي يتدبر في أحداثهم أولئك الذين يقيمون المساجد لأغراض لا تمت إلى الدين بصلة من الصلات. ويعلموا أن البناء الذي يفرق بين المسلمين ويدس على الإسلام ما ليس منه ويستند على أكتاف أعداء الله. هو في حقيقة الأمر امتداد للبناء الأول والقائمون عليه شربوا من إناء سلفهم الأول وإن لم يروهم.

ومن جرائمهم أيضا في صدر الإسلام تثاقلهم عن الجهاد وانسحابهم من المعركة بلا سبب. وعند حركتهم أثناء القتال قال تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليهم بالظالمين) (255) قال المفسرون: الخبال: هو الفساد واضطراب الرأي.

والإيضاع: الاسراع في الشر والخلال: البين. والبغي: هو الطلب. فمعنى يبغونكم الفتنة: أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة. والفتنة هي المحنة واختلاف الكلمة. وقوله تعالى: (وفيكم سماعون لهم) أي فيكم مطيعون لهم ومستجيبون لحديثهم وكلامهم.. وقيل: فيكم سماعون لهم: أي عيون يسمعون لهم الخبار وينقلونها إليهم (256).

فخط الصد الذي يحمل اسم النفاق يعمل من أجل اختلاف الكلمة في أشد الأوقات ولقد عمل من أجل تفرق الجماعة في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي سلول بثلث القوم وخذل النبي. وتثاقلوا بعد ذلك في أكثر من غزوة وأرادوا بهذا الخذلان أن تأكل الحرب المسلمين ولم يكتف معسكر النفاق بانسحابه من المعارك بل استعان بخط ثان يتجسس لحسابه ويدعو إلى الخلاف والخذلان عن الجهاد. وعلى الرغم من اختراق النفاق لأكثر من ساحة. إلا أن الله رد كيدهم

____________

(253) ابن كثير في التفسير: 391 / 2.

(254) ابن كثير في التفسير: 388 / 2.

(255) سورة التوبة، الآية: 47.

(256) ابن كثير في التفسير: 361 / 2.

الصفحة 398
فلم يلحقوا بالدعوة في عهد النبوة أي ضرر. ولم يستطيعوا النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم محاولاتهم العديدة لقضاء عليه. لم يستطيعوا هم أو غيرهم. لأن الله تعالى عصم رسوله منهم قال سبحانه: (والله يعصمك من الناس) (257) وتحدى سبحانه الناس أن يكيدوا لرسول الله وأن يضروه إن استطاعوا ولن يستطيعوا فقال جل شأنه: (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) (258) لقد كانت عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة بذاتها على أجهزة الكيد التي تخدم خطوط الانجراف. فشلهم في كل مرة كان في حقيقة الأمر دعوة للتوبة والإيمان بالرسالة. ولكن أهل التذبذب والنفاق لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وتمادوا في طغيانهم ومكائدهم و سبحوا في التجاه المضاد لحركة الفطرة والكون. وهذه السباحة وهذا التوغل في الظلام جعلهم غرضا لضربات الكون.

وهذه الضربات كانت أيضا دعوة لهم كي يؤمنوا الإيمان الحق لكنهم لم يصححوا مسارهم نحو الاتجاه الصحيح يقول تعالى: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) (259) قال المفسرون: اختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدة. وقال آخرون: بالسنة والجوع (260) ومعنى الآية: أي ما لهم لا يتفكرون ولا يعتبرون. وهم يرون أنهم يبتلون ويمتحنون كل عام مرة أو مرتين. فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية وهم لا يتوبون ولا يتذكرون. ولو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم. وأيقنوا أن الاستمرار على هذا الشأن ينتهي بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبد (261).

وطابور النفاق الذي خرج من معسكر الانحراف ليسير بين المسلمين.

____________

(257) سورة المائدة، الآية: 67.

(258) سورة الأعراف، الآية: 195.

(259) سورة التوبة، الآية: 126.

(260) ابن جرير: 54 / 11.

(261) الميزان: 410 / 9.

الصفحة 399
جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفقا لحركة الدعوة. فهو عليه الصلاة السلام كان يخشى أن يخرج معسكر الكفر بلافتات تقول بأن محمد يقتل أصحابه. فهذا القول في حد ذاته لن يكون بحال في صالح الدعوة وعلى الأخص في صدرها الأول. فالرسول جاهدهم وفقا لأمر الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) (262) وقال المفسرون: المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم. فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا وإن اقتضت وعظوا باللسان وإن اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الأرض (263).

والخلاصة: أن معسكر النفاق كان من أكبر الأخطار على الدعوة وعلى الفطرة الإنسانية. وتوعدهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا وبالدرك الأسفل من النار في الآخرة. وهذا المعسكر سيكون لأبنائه الذين ساروا على طريقه وراء راية المسيح الدجال. الذي أخبرت الأحاديث الشريفة بظهوره آخر الزمان. وتحت قيادة الدجال سيتجرعون الذل تحت ضربات عذاب الاستئصال. لأنهم في الحقيقة تلاميذ الشيطان الذين يضعون العراقيل على الصراط المستقيم.

سادسا: عذاب في بطن الغيب:

في عهد الرسالة الخاتمة عمل طابور النفاق في الخفاء. وتوارى أهل الكفر وراء الجدر في انتظار الوقت المناسب الذي ينقضون فيه على طلائع النهار.

وعلى الرغم من ذلك لم يضربهم الله بالطوفان أو بالريح العقيم أو بالصيحة. كما ضرب سبحانه الأمم السابقة من قبل. وذلك لأن القافلة البشرية لها أجل. وهذا الأجل لا ينتهي بانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فرسول الله قام بتبليغ الرسالة عن ربه. وهذه الرسالة صالحة لقيادة القافلة البشرية حتى قيام الساعة. ومعنى أن العذاب لم يضرب جحافل الكفر ضربة الاستئصال في حياة الرسول. أن هذا العذاب مدخر في بطن الغيب. وله صورته وموعده ولا يعلمهما

____________

(262) سورة التوبة، الآية: 73.

(263) ابن جرير: 126 / 10، الميزان: 339 / 6.

الصفحة 400
إلا الله تعالى. وآيات القرآن الكريم تصرح في أكثر من موضع بهذا العذاب الذي يحمله المستقبل. وذلك لعلم الله تعالى بما ستقترفه الأمة من آثام بعد تبليغ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة. فالأمة التي انحرفت عن كتاب الله واتبعت أبناء الطمس شبرا بشبر وذراعا بذراع لا بد وأن يطول عذاب المنحرفين منهم قبل يوم القيامة ليكون لهم ذل في الدنيا. قال تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (264) قال ابن كثير في التفسير: قال الحسن: عذاب في الدنيا وعذاب في القبر.. وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ثم يردون إلى عذاب عظيم. وذكر أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أسر إلى حذيفة بإثني عشر رجلا من المنافقين فقال: ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم. يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره وستة يموتون موتا (265). والعذاب المدخر في بطن الغيب ورد أيضا في قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) (266) قال المفسرون: أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت (267) وقيل: أي محالة سيقع بهم الذاب.

والدليل على أن عذاب الاستئصال مؤجل أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في آية من الآيات المدنية أن يصبر ولا يستعجل لهم. قال تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) (268) قال المفسرون: لا تستعجل لهم حلول العقوبة. كقوله تعالى: (ذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا) (269) وقال تعالى لرسوله أيضا في آية مدنية أخرى:

(ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما

____________

(264) سورة التوبة:، الآية: 101.

(265) تفسير ابن كثير: 385 / 2.

(266) سورة الزخرف، الآية: 41.

(267) ابن كثير: 128 / 4 وتفسير البغوي: 399 / 7.

(268) سورة الأحقاف، الآية: 35.

(269) تفسير ابن كثير: 172 / 4.


الصفحة 401
تعدون " (270) قال المفسرون.: إن الله لا يعجل. فإن مقدار ألف سنة عند خلقه. كيوم واحد عنده. فالله تعالى لا يخاف الفوت حتى يعجل لهم بالعذاب.

بل هو سبحانه حليم. يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم. ثم يأخذهم فيما قدر لهم من الأجل. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. من هذا يبدو أن المد والإمهال قد فتح بابه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحتى الوقت المعلوم وإذا كان طابور الكفر والنفاق قد استعجل العذاب بعد هجرة النبي فإنه قبل الهجرة قد استعجل العذاب ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعو عليهم بالاستئصال لعلمه من ربه جل وعلا أن لكل أمة أجل. ومن الآيات . المكية التي سجلت عليهم استعجالهم للعذاب قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين) (271) قال المفسرون: أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر. وحينا من الزمان وإن طال. ثم جاءهم أمر الله. أي شئ يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم (272).

فهذه الآيات وأيضا الأحاديث الشريفة التي أخبر فيها النبي عن ربه بما هو كائن إلى يوم القيامة. وما سترتكبه بعض فصائل الأمة من منكرات تقود إلى ملك عضوض وجبرية تنتج غثاء لا قيمة له يتبع سنن الذين من قبله شبرا بشبر وذراعا بذراع ويهرول من ورائهم على امتداد طريق الطمس هرولة الخادم المطيع. فهذا الإخبار بالغيب والذي ورد في أحاديث صحيحة يستقيم مع قول المفسرين بأن العذاب مدخر في بطن الزمان. ولا قيمة للرأي القائل بأن العذاب قد رفع عن هذه الأمة إكراما لها. وهل الذين يهرولون وراء سنن الذين من قبلهم ولا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه. لهم كرامة عند الله. ما لهم كيف يحكمون؟ هل للذين فرقوا دينهم وركبوا أعناق الأمة باسم الإسلام كرامة عند الله؟ كيف وقد برئ الله ورسوله منهم! إن الذين قالوا برفع العذاب ما أرادوا إلا تأصيل الشذوذ والانحراف. ولقد قطعوا بمقولتهم هذه شوطا كبيرا في عالم تغييب

____________

(270) سورة الحج، الآية: 47.

(271) سورة الشعراء، الآيتان: 204 - 205.

(272) تفسير ابن كثير: 348 / 3.

الصفحة 402
العقل وتوثين الوجدان وفقا لأطروحة الأماني الشيطانية. إن للإسلام شريعة وهذه الشريعة لا تجامل أحدا فمن أخذ بها نجا ومن تركها وراء ظهره ضربه الذل في الدنيا وفي الآخرة عذاب أليم. أما كرامة من أخذ بذيول فقهاء الدجل وآباء الانحراف فلا وجود لها في الإسلام ولقد أخبر الله تعالى بأن الأخير الذي استمتع بما استمتع به رأس الانحراف الأول وخاصة فيما خاض فيه أصحاب خيام الانحراف والشذوذ. فهذا الأخير لا محالة سينال العقاب كما ناله الأوائل. ومن هذه الآيات قول الله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم * كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون * ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " (273) قال المفسرون: ومعنى الآية والله أعلم. أنتم كالذين من قبلكم. كانت لهم قوة وأموال وأولاد بل أشد وأكثر في ذلك منكم. فاستمتعوا بنصيبهم. وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا. وخضتم كما خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وأولئك هم الخاسرون. وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران. ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم. ثم ذكر سبحانه بما قص عليهم القرآن من قصص الأمم الماضين. فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق وعاد قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية. وثمود قوم صالح عذبهم بالرجفة. وقوم إبراهيم أهلك ملكهم وسلب عنهم النعمة. والمؤتفكات وهي قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها. فهذه الأقوام أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك. ولم يكن من شأن السنة الإلهية أن يظلمهم.

لأنه بين لهم الحق والباطل. وميز الرشد من الغي والهدى من الضلال ولكن كان أولئك الأقوام والأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في

____________

(273) سورة التوبة، الآيات: 68 - 0 7.

الصفحة 403
آيات الله (274) وقال ابن جرير في تفسير الآية: أخبرهم يا محمد أن يحذروا أن يحل بهم عقوبة الله مثل الذي حل بالذين من قبلهم. وقد سلك المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقهم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلهم وخاضوا كخوض تلك الأمم وذكر ابن جرير عن الربيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الآية - (حذركم " - الله - أن تحدثوا في الإسلام حدثا.

وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة. فقال تعالى في ذلك: أ فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم) الآية. وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم. وأن الفتن عائدة كما بدأت " وذكر ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لتأخذن كما أخذ الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحد من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه " قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم القرآن، (كالذين من قبلكم - إلى قوله تعالى - فاستمتعتم بخلاقكم " الآية (275) وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه قال. ما أشبه الليلة بالبارحة " كالذين من قبلكم " هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه (276).

والخلاصة: إن العذاب قادم ولن ينجو منه إلا من سار على الصراط المستقيم. وبني إسرائيل الذين قتلوا الأنبياء لم يضربهم عذاب الاستئصال بعد.

ولكن لهم يوم سيصيبهم فيه هذا العذاب. ولن يكونوا وحدهم في هذا اليوم وإنما سيكون معهم الذين اتبعوهم وساروا على طريقتهم وشربوا معهم من أوعية الطمس التي ينبع ماؤها من نهر مخالف لنهر الفطرة. وأبناء الطمس وأتباعهم سينتظموا جميعا في جيش واحد هو جيش المسيح الدجال الذي سيهلكه الله بأيدي طلائع النهار في آخر الزمان.! ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين " قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم

____________

(274) الميزان: 337 / 9.

(275) ابن جرير في تفسيره: 122 / 10.

(276) ابن كثير في تفسيره: 368 / 2.

الصفحة 404
منتظرون " (277) ولقد أجمع المفسرون على أن يوم الفتح في هذه الآية لم يحدث في الماضي وإنما هو في بطن الغيب (278).

سابعا: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة:

ظل معسكر الانحراف يكيد للدعوة بكل قواه. ولم يعرقل كيدهم سير الدعوة. بل ظلت تفيض عليهم بالحجج التي تدعو إلى الإيمان. كانت الدعوة في جميع مراحلها تحمل كلمة الإخلاص وتعلن أن دين الله لا إكراه فيه. فمن رضي بالإسلام دينا فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ومن رفض هذا الدين وأغلق عليه بابه ولم يصد عن سبيل الله فبينه وبين سيوف الإسلام حاجزا. فإن تعدى هذا الحاجز فلا يلومن إلا نفسه. لم تكن الدعوة في أي يوم من أيامها تحمل أحقادا ولقد سجل التاريخ أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عفا يوم فتح مكة عن أصحاب الجرائم الكبيرة في حق الإسلام والمسلمين ومن هؤلاء أبو سفيان بن حرب الذي قاد العديد من المعارك ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومنهم زوجته هند بنت عتبة التي شاركت يوم أحد في قتل حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ولم تكتف بقتله وإنما أكلت كبده. ومنهم وحشي قاتل حمزة جاء إلى النبي يطلب الأمان فأجابه لذلك. وروي أنه لم ينظر إلى وجهه.

ومنهم كعب بن زهير وكان شاعرا يهجو النبي وعند فتح مكة خرج هاربا منها.

وأخيرا عفا عنه النبي. وغير هؤلاء الكثير. وروي أن الرسول صلى عليه وآله وسلم قال لقريش يوم فتح مكة: (يا معشر قريش إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس لآدم وآدم من تراب. ثم تلا قوله تعالى:! يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أقربكم عند الله أتقاكم " (279) ووجه حديثه إلى المكيين وسألهم. ماذا ترون أني فاعل بكم وما تظنون؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت وأصبح أمرنا بيدك. فقال إني أقول لكم ما قاله أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم

____________

(277) سورة السجدة، الآيات: 28 - 0 3.

(278) راجع كتابنا المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى.

(279) سورة الحجرات، الآية 130.

الصفحة 405
الراحمين. اذهبوا فأنتم الطلقاء قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء على الرغم من أنهم لم يدخلوا في الإسلام.

ولقد قال لهم هذا ليجعلهم أحرارا في قبول العقيدة. وبعد هذا القول اطمأن المكيون على مصيرهم. فمنهم من أسلم وأخلص في إسلامه. ومنهم من وجد أن حياته لن تكون إلا بمهادنة الدعوة التي أقامت حجتها بالكلمة والسلاح. وجاء في شرح النهج عن. الواقدي. أن العباس بن عبد المطلب قال لأبي سفيان عند دخول النبي إلى مكة " إذهب فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله.

فخرج أبو سفيان مسرعا حتى دخل من كداء وهو ينادي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. حتى انتهى إلى زوجته هند بنت عتبة.

فقالت: ما وراءك يا أبا سفيان؟ قال: هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد. وقد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن. فقالت: قبحك الله من رسول قوم. وجعلت تقول.

ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم. وأبو سفيان يقول: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم. فإني رأيت من الرجال والكراع والسلاح ما ليس لأحد به طاقة. إن محمدا في عشرة آلاف مقاتل أسلموا تسلموا. وجاء في رواية المبرد في الكامل: أن هند أمسكت رأسه وقالت لهم اقتلوه. وذكر البعض أن كبار المنافقين كانوا وقتئذ في دار أبي سفيان. وقول النبي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. كان ليعرفهم.

والخلاصة. فتحت طلائع النهار مكة ولم تسل فيها دما على الرغم من أنهار الدماء التي تسببت فيها قريش بعد هجرة النبي وكان فتح مكة مثلا في الرحمة والعفو والترفع عن الحقد والانتقام. مثلا شاخصا أمام العالم كله وأمام الأجيال في كل عصر وزمان وكان هذا العفو وهذه الرحمة دليلا على خسة النفاق وأهله.

ودعوة إلى طابور النفاق الذي دخل الإسلام خوفا أو طمعا. كي يصححوا نفوسهم بوضعها على الطريق الصحيح بعد أن شاهدوا وعلموا أن الإسلام لا يزرع خوفا وإنما يزرع حرية. وفي مجال هذه الحرية يختار الإنسان عقيدته على أن يمارسها بشروط الإسلام. لأن الإسلام دين الفطرة. ولا يسمح بثقافة تسير في طرقاته تبشر بغير ثقافة الفطرة. كان العفو والترفع عن الحقد والانتقام يوم فتح مكة دعوة

الصفحة 406
إلى طابور النفاق كي يتعامل مع الدنيا على اعتبار أنها قنطرة إلى الآخرة. وعلى هذا لا بد لمن يأكل أن يأكل بشرف ولمن يأخذ أن يأخذ بشرف. ولكن طابور النفاق في مجمله لم يتذوق هذه المعاني السامية وأضمر في أعماقه جوعا وحقدا وانتقاما. ومارس عمليات الحفر لينتج في النهاية حفرا عديدة إذا وضعت بذرة في إحداها لا تنبت إلا مسخا وغثاء. وفي جميع الحالات النتيجة لصالح مراقب بني إسرائيل على طريق الطمس الذي يؤدي إلى نبي اليهود المنتظر والذي يسميه الإسلام بالمسيح الدجال. ويرى الباحث في السيرة النبوية أن طابور النفاق بعد فتح مكة نشطت خطواته. ويبدو هذا في أحداث غزوة حنين وغزوة تبوك والمسجد الضرار وكلها بعد فتح مكة.

ثامنا: من تعاليم النجاة:

على امتداد بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. كان الوحي يرشد إلى صراط الله ويقيم الحجة على عباد الله. ويوم فتح مكة هدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنيان دين الشرك وكسر الأصنام ليجعل بذلك العقل والوجدان في حرية تامة كي يختارا العقيدة التي ترتضيها الفطرة. وأمام الفطرة وضعت الشرائع التي تبث الأمن والأمان وتعلن يأس الكفار من النيل من هذا الدين. وتدعو الفطرة أن لا موجب للخشية بعد يأس هؤلاء. وأن عليها أن تخشى الله الذي بيده مصير الأمور قال تعالى:! اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون) (280) قال المفسرون: أي بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار مصون من الخطر المتوجه من قبلهم. وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم. وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة. ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي. ويومئذ يسلبهم الله نعمته وبغيرها إلى النقمة ويذيقهم لباس الجوع والخوف. ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية من قوله:! فلا تخشوهم واخشون، فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم. ثم يرجع القهقري بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل، على أصول القضايا وأعراقها.

____________

(280) سورة المائدة، الآية: 3.

الصفحة 407
لقد وضعت الفطرة أمام الصفحة البيضاء وعلى امتداد الرسالة الخاتمة.

ولكن أعداء الحياة أعداء الفطرة عندما يئسوا من إحداث شرخ في جدار الشريعة نظرا لعظمة النص وبلاغته وقوة حجته. حالوا على امتداد التاريخ فصل المسلمين عن الإسلام. فبعيدا عن الإسلام يسهل عليهم نزالهم نظرا لتجريدهم من القوة التي عليها يرتكزون: ولقد ساعدهم في ذلك طابور النفاق في القديم وفي الحديث. فقديما كان يجلس داخل سور الأمة من يحب الدنيا ومن يحب الآخرة. فالذي يحب الدنيا عمل من أجلها. وقاده عمله إلى دائرة كفران النعمة التي عليها يترتب سلب الله لهذه النعمة والذي أحب الآخرة عمل من أجلها وقاده عمله إلى حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة حيث النعيم وجرعة ماء لا يظمأ بعدها أبدا. وهذا المشهد يصوره ويجسده حديث شريف يقول فيه النبي: - (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني. حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني. فلأقولن: أي رب. أصيحابي أصيحابي. فليقولن لي. إنك لا تدري بما أحدثوا بعدك " (281) وفي حديث رواه البخاري قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا فرطكم على الحوض. ليرفعن إلي رجال منكم. حتى إذا أهويت لأناولهم. اختلجوا دوني. فأقول: أي رب أصحابي.

يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " (282) وفي رواية عند البخاري: " أنا على حوضي أنتظر من يرد علي. فسيؤخذ بناس من دوني. فأقول: أمتي. فيقول:

لا تدري! مشوا على القهقري " (283) وعنده أيضا عن سهل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض. من ورده شرب منه. ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا. ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني. ثم يحال بيني وبينهم " (284) وفي رواية عند البخاري وابن ماجة. (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي. فيحلون على الحوض. فأقول: أي رب، أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك. إنهم إرتدوا بعدك على أدبارهم القهقري " (285)

____________

(281) رواه مسلم في صحيحه عن أنس: 15 / 15.

(282) رواه البخاري عن عبد الله: (221 / 4 ورواه مسلم: 59 / 5 1.

(283) رواه البخاري عن أسماء: 421 / 2.

(284) البخاري: 421 / 2، الإمام أحمد (الفتح الرباني: 195 / 1).

(285) كنز العمال: 417 / 14.

الصفحة 408
وفي لسان العرب القهقري: الرجوع إلى الخلف. وتقهقر: تراجع على قفاه.

وقال الأزهري في الحديث: (إنهم كانوا يمشون بعدك القهقري " معناه الارتداد عما كانوا عليه (*) باختصار اتبعوا سنن الذين من قبلهم وركبوا معهم طريق الطمس. وأحاديث القهقري التي سار أصحابها في الاتجاه المعاكس للفطرة كأصحابهم من الأمم السابقة الذين ساروا في طريق الطمس. أحاديث عديدة تجدها في كتب التفسير والحديث. ولما كان للنفاق خيمة داخل سور الأمة.

وهذه الخيمة تعمل على أهداف الأهواء التي تصب في وعاء بني إسرائيل في نهاية المطاف حدد الإسلام لأتباعه خطوطا لا يستطيع النفاق في حالة عمله منفردا أن يخترقها. ولا يمكن أن يخترقها أيضا في حالة عمله بتوجيهات من معسكر الكفر بجميع أعلامه. ومن هذه الخطوط خط تجنب الرجس وخط تجنب النجس.

1 - حصار الرجس:

الرجس هو البحيرة أو الخيمة التي تتلحف بها قلوب المنافقين. قال تعالى وهو يحذر منهم: " فاعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون 5 يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (286) والرجس هو ة القذر. والشئ القذر. والفعل القبيح.

والضلال. والعذاب (287) وقوله تعالى 10 فاعرضوا عنهم إنهم رجس " الآية أي: فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الأعذار. بل لأنهم رجس ينبغي ألا يقترب منهم. والقرآن الكريم حذر من أصحاب الرجس وطالب بالابتعاد عنهم في كثير من آياته. قال تعالى:! كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " (288) قال المفسرون: الرجس هو القذر. والمعنى:

كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم. فيحول بينهم وبين غيرهم. فتتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر (289). وقال تعالى:! قال قد وقع عليكم من (*) لسان العرب: 365 / 376.

____________

(286) سورة التوبة، الآيتان: 5 6 - 6 9.

(287) المعجم الوسيط: 330 / 1، المختار: 234.

(288) سورة الأنعام، الآية: 125.

(289) الميزان: 343 / 7.