إن عين كل منهما على الكرسي. كي يتسمى بأمير المؤمنين. وينتج ثقافة لا تنتج إلا غثاء لو قاتلتهم الثعالب يوما لغلبتهم. ودارت المعارك وقال في الفتح:
قتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه. نحو سبعين ألفا. وقيل كانوا أكثر من ذلك. ويقال كان بينهم أكئر من سبعين زحفا (127) وعلى امتداد المعارك قتل عمار. وكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بأن آخر زاد له من الدنيا ضياح من لبن. يقول حبة بن جوين: شهدت عمار يوم قتل وهو يقول: إئتوني بآخر رزق لي في الدنيا. فأتي بضياح من لبن في قدح له حلقة حمراء. وقال: اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه. ثم قاتل حتى قتل (128) وبعد قتل عمار التهبت المعارك وشارك فيها نفر من الذين اعتزلوا القتال. بعد أن تبينوا أن معسكر معاوية على الضلالة. فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك. قال لمعاوية. هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا. ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم قال نرفع المصاحف ثم نقول هذا حكم بيننا وبينكم. فإن بعضهم سيقول ينبغي أن نقبل فتكون فرقة بينهم. وإن قبلوا رفعنا القتال عنا إلى أجل. فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم. فلما رآها الناس قالوا نجيب إلى كتاب الله (129).
لقد تاجروا بما تأولوه ووضعوه في غير موضعه. تاجروا بالمصحف الذي أخفوه تحت أغطية الرأي. ودخلت الحيلة على الأجيال التي شبت في عالم الرأي. وطالبوا الأمير بأن يقبل التحكيم. فقال: " عباد الله! إمضوا إلى حقكم وصدقكم. وقتال عدوكم. فإن معاوية وعمرو بن العاص ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. وأنا أعرف بهم منكم. صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فهم شر أطفال
____________
(126) البداية: 264 / 7، ابن الأثير: 158 / 3.
(127) فخ الباري: 86 / 13.
(128) ابن الأثير: 157، 161 / 3.
(129) الطبري: 48 / 6.
ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون " (132).
فقال له بعض القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد: يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم. فقال: فاحفظوا عني نهي إياكم.
واحفظوا مقالتكم لي. فإن تطيعوني فقاتلوا. وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم (*). وكان النبي صلى عليه وآله وسلم. قد أخبر عن اختلاف الأمة بعد موته. وأن دائرة هذا الاختلاف ستتسع عند تحكيم حكمين. فقال: (إن بني إسرائيل اختلفوا. فلم يزل اختلافهم بينهم. حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا.
وإن هذه الأمة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين ضلا وضل من اتبعهما " (133) واتفق الطرفان على الحكمين وارتضى معسكر معاوية بابن العاص حكما وارتضى الذين في معسكر أمير المؤمنين أبو موسى الأشعري حكما. ولكن أمير المؤمنين اعترض وقال (إني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه " فقالوا: لكنا لا نرضى إلا به. فقال لهم. افعلوا ما شئتم (134) واحفظوا عني نهي إياكم. واحفظوا مقالتكم لي (135).
وبدأ التحكيم. وكما بدأت الحركة بخدعة المصاحف أنهت الموقف
____________
(130) ابن أبي الحديد: 426 / 1، البداية: 274 / 7، الطبري: 48 / 6، ابن الأثير: 161 / 3.
(131) أبي الحديد: 426 / 1.
(132) البداية: 299 / 7.
(*) ابن الأثير: 161 / 3.
(133) أخرجه البيهقي (الخصائص الكبرى: 234 / 2).
(134) الطبري 0 38 / 6.
(135) البداية: 274 / 7.
وأن يجعلا الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. وأمام الناس دعا عمرو أبا موسى أن يقدمه في الكلام. فتقدم وقال. أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة. فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشملها. من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه. وهو أن نخلع عليا ومعاوية. ويولي الناس أمرهم من أحبوا. وأني قد خلعت عليا ومعاوية. واستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا. ثم قام عمرو. فقال: إن هذا قد قال ما سمعتموه. وخلع صاحبه. وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية. فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه (136).
فقال أبو موسى لعمرو: ما لك. لا وفقك الله. غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا فقال له عمرو: بل إياك يلعن الله. كذبت وغدرت.
إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. ثم وكز أبا موسى فألقاه لجنبه (137) وهكذا اكتملت المأساة وصار مصير الأمة يلهو به من مثله كمثل الحمار والكلب. وهكذا خضع كل شئ للتجارة بعد رحيل النبي بزمن يسير.
وعندما علم أمير المؤمنين بهذه الخدعة قال: قد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة ونحلتكم رأيي لو كان لقصير أمر. ولكن أبيتم إلا ما أردتم ألا إن هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما. وأحييا ما أمات القرآن. واتبع كل واحد منهما هواه. بغير هدى من الله فحكما بغير حجة بينة ولا سنة ماضية. واختلفا في حكمهما. وكلاهما لم يرشد. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام (138) وكان معسكر أمير المؤمنين قد انشق قبل التحكيم وظهرت الخوارج على مسرح الأحداث وكانوا قد أنكروا تحكيم الرجال. فبعث إليهم يخبرهم بالنتيجة التي أسفر عنها رفع المصاحف. وقال لهم: فإذا بلغكم كتابي هذا
____________
(136) ابن الأثير ة 168 / 3.
(137) المسعودي: 41 / 2، ابن الأثير: 168 / 3.
(138) ابن الأثير: 171 / 3.
فكتبوا إليه: إن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء! فلما قرأ كتابهم آيس منهم. ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس حتى يلقى أهل الشام. فيناجزهم. فقام في أهل الكوفة ثم قال: اتقوا الله. وقاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله. فقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين الذين ليسوا بقراء القرآن ولا فقهاء في دين الله ولا علماء في التأويل. ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام. والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل تيسروا للمسير إلى عدوكم (139) وفي الوقت الذي كان يشدهم شدا لقتال معسكر معاوية. كان الناس يقولون لو سار بنا لقتال الحرورية (الخوارج) فلما بلغه ذلك قال لهم. بلغني ما قلتم. فدعوا ذكر هؤلاء. وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكا ويتخذوا عباد الله خولا. فناداه الناس أن سر بنا حيث أحببت (140).
وبينما أمير المؤمنين يستعد لقتال معاوية قتل الخوارج بعض من شيعته وكان فيهم أطفالا. وأتى الخبر عليا والناس معه فقالوا يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفونا في عيالنا وأموالنا سر بنا إلى القوم. فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام. وسار أمير المؤمنين لقتال الخوارج. وقال قبل بدء قتالهم:
... ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة. ونبأتكم أنها مكيدة. وإن القوم ليسوا بأصحاب دين فعصيتموني. فلما فعلت شرط واستوثقت على الحكمين أن يحيا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن. فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة.
فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فمن أين أنتم؟ قالوا: إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا. وكنا بذلك كافرين. وقد تبنا. فإن تبت فنحن معك ومنك. وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء. فقال علي: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر. أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله.
أشهد على نفسي بالكفر. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. ثم انصرف
____________
(139) ابن الأثير: 171 / 4.
(140) ابن الأثير: 174 / 3.
هكذا تحدث غلمان ثقافة الرأي والتأويل. الغلمان الذين تغذوا على ثقافة الوليد بن عقبة ونديمه النصراني أبو زبيد الطائي. لقد قطع الغلمان شوطا مع أمير المؤمنين وفي منتصف الطريق عصوه وفي نهايته كفروه لعنهم الله. وكان تخاذل الغلمان سببا في أن أهل الشام سلموا على معاوية بالخلافة. وعندما اشتغل أمير المؤمنين بالخوارج اشتغل معاوية بالإغارة على أعمال أمير المؤمنين هنا وهناك. وكان يشعر بالفخر عندما تحمل إليه الأخبار أن بسر بن أرطاة يمزق أحشاء الأطفال والنساء الذين يوالون علي بن أبي طالب. لقد فتح غلمان الرمز والشعار الخالي من الشعور على أمير المؤمنين جبهة وفتح الذين صلى بهم معاوية الجمعة يوم الأربعاء جبهة أخرى. وأصبح الإسلام بين نابين ناب يقتل باسم الدين والدين منه برئ. وناب يبث سموم هواه المزخرفة بالذهب والفضة ويرفع راية الدين والدين من برئ. لقد تكاتفوا ليقيضوا الصراط المستقيم ويقع الكثرة في مهاوي الضلال. وبدأ أمير المؤمنين في قتال الخوارج. وبعد أن نصره الله عليهم قال: (إن خليلي أخبرني أن قائد هؤلاء رجل مخدج اليد. على حلمة ثديه شعرات كأنهن ذنب اليربوع. فالتمسوه) فلم يجدوه. فجعل يقول: إقلبوا ذا. إقلبوا ذا. فقالوا يا أمير المؤمنين لم نجده. فقال ما اسم هذاء المكان؟
قالوا: النهروان. قال: صدق رسول الله وكذبتم إنه لفيهم. فالتمسوه. فوجدوه وجاؤوا به وعليه العلامة التي قد قالها لهم. فكبر علي عليه السلام. وعندما سمع أحد أبنائه يقول. الحمد لثه الذي أراح أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه العصابة. قال أمير المؤمنين: لو لم يبق من أمة محمد إلا ثلاثة لكان أحدهم على رأي هؤلاء. أنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء (142).
لقد كشف أمير المؤمنين عن مناهج ثلاث داخل البيت الإسلامي:
أحدهما. على رأي الخوارج.
والثاني. على رأي أهل الشام.
____________
(141) ابن الأثير: 174 / 3.
(142) رواه الطبراني في الأوسط (كنز: 291 / 11).
4 - مقتل الإمام:
بعد الفراغ من الخوارج ظل أمير المؤمنين يدعو في معسكره لقتال معاوية.
ولكنه عندما رأى منهم التكاسل قال. (إني أرى أهل الشام على باطلهم أشد اجتماعا منكم على حقكم) " والله لتطأون هكذا هكذا - وضرب برجله على المنبر حتى سمع قدمه في آخر المسجد - ثم قال: ثم لتستعملن عليكم اليهود والنصارى حتى تنفوا ثم لا يرغم الله إلا بآنافكم) (143) لقد وعدوه بأنهم بعد الفراغ من الخوارج يسيرون معه إلى أهل الشام. ولكن هذا الوعد كان كرغوة جوفاء وهباء ضائع في خلاء. وفي كل يوم يدفع معاوية بأمواله لتزداد رقعة طابور النفاق الطويل الذي ورث انحرافات البشرية منذ أيام قابيل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصاب دينارا أو درهما في فتنة طبع على قلبه بطابع النفاق) (144) وقال: لكل أمة عجل يعبدونه وعجل أمتي الدرهم والدينار (145)، كان أمير المؤمنين يحذرهم ويطالبهم بأن يأخذوا بالأسباب لوقف تقدم الانحراف. ولكن القوم لم يثبتوا معه على رأي. فضاق بهم ذرعا. ووضع المصحف على رأسه وقال: اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه.
فاعطني ثواب ما فيه اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني. اللهم أمت قلوبهم ميت الملح في الماء (146).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بأن عليا لن يموت إلا مقتولا فقال: ألا أحدثكما بأشقى الناس. رجلين: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة.
والذي يضربك يا علي. على هذه - يعني قرنه - حتى تبتل هذه من الدم - يعني
____________
(143) الدولابي في الكنى والأسماء، ابن أبي شيبة (كنز: 780 / 5).
(144) رواه الديلمي (كنز العمال 187 / 17).
(145) الديلمي (كنز: 223 / 3).
(146) ابن عساكر: 195 / 3 (كنز العمال، البداية: 14 / 8، المسعودي 139 / 3.
وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد. فعمهم الله بالعذاب فقال تعالى: (فعقروها فأصبحوا نادمين)! فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوراء. أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء ومن خالف وقع في التيه (148) وكان أمير المؤمنين يقول لأهل العراق. وددت أنه قد انبعث أشقاكم يخضب هذه - يعني لحيته - من هذه - ووضع يده على مقدمة رأسه (149) وقال لابنه الحسن: رأيت في منامي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقلت: يا رسول ما لقيت من أمتك من الأود واللدد (150). فقال لي: أدع الله عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرا لي منهم. وأبدلهم بي شرا لهم مني (151) وكان يقول. غدا ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني. وقيام غيري مقامي (152).
ولما كانت الليلة التي أصيب فيها أمير المؤمنين أتاه ابن النباح حين طلع الفجر يؤذن بالصلاة وهو مضطجع فتثاقل. فعاد إليه الثانية وهو كذلك. ثم عاد الثالثة فقام عليه السلام يمشي وهو يقول:
فلما بلغ الباب الصغير ضربه ابن ملجم لعنه الله على رأسه فابتلت لحيته (153).
____________
(147) رواه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم (الخصائص الكبرى: 211 / 2) وأحمد والطبراني والبزار (الزوائد: 136 / 9).
(148) النهج خطبة: 199.
(149) رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقاة (الزوائد: 136 / 9).
(150) الأود / العوج، اللدد / الخصومة الشديدة.
(151) الطبقات: 3 / 36، مقاتل الطالبين 16، العقد الفريد: 298 / 2، البداية والنهاية: 14 / 8، تاريخ الخلفاء: 164 (152) النهج خطبة: 148.
(153) ابن عساكر (كنز: 196 / 13).
وبعد قتل الإمام اتسع الانحراف وحمل الحسن بن علي راية الاصلاح بعد أبيه. ولكن الناس هم الناس وثقافة الأديرة بدأت تنساب من المخادع. وبدأ المال يكتسب كل يوم أرض جديدة حول الحسن. وفشلت محاولات الحسن لإعداد جيش يقاتل به معاوية. فاللصوص والقتلة حوله في كل مكان. سرقوا بساطه وطعنوه وأرادوا خطفه وتسليمه إلى معاوية. وعندما عرض عليه معاوية الصلح. رفض أن يأخذ في هذا الصلح قرارا حتى يخبر الناس. لعلهم يطيعوه ويقاتلوا معه. فقال الحسن لأتباعه: إن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة. فإن أردتم الموت رددناه عليه. وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف.
وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا. فناداه الناس من كل جانب. البقية البقية وإمضاء الصلح. واشترط الحسن في وثيقة الصلح. بأن يحكم معاوية بما أنزل الله. وأن يكون للحسن الأمر من بعده. ولكن معاوية أطاح بكل هذا ولم يكن له عهدا. وروي أن الحسن عندما طالبه القوم بإبرام الصلح مع معاوية خطب في الناس وقال. أيها الناس. إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم. ونحن أهل بيت نبيكم الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وكرر ذلك. حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه (156) وبعد إمضاء الصلح خطب
____________
(154) كنز العمال: 617 / 11.
(155) رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو نعيم وابن عساكر وابن جرير (الفتح الرباني 164 / 24)، (كنز العمال: 192 / 13).
(156) ابن الأثير: 204 / 3.
5 - ظلال الشجرة الخبيثة:
لقد ظلمت الرعية قيادتها. ولو كانت القيادة تحب الغدر وتعمل به ما وقف في وجهها أحد. ولكن مهمة القيادة رفع أعلام الحق. وعلى الرعية أن تهرول إلى هذه الأعلام. لأن دين الله لا إجبار فيه. فإذا التفت الرعية أخذت القيادة القرار الذي يناسب هذا الالتفاف. وكل إنسان يقدم لنفسه وكل إنسان محاسب أمام الله عما قدم. لقد ذكرهم الإمام بأنه ولي رسول الله وأنه يقاتل معارك التأويل التي زرع شجرتها القص والرأي ولكن المساحة العريضة لم تفهم هذا المعنى لأنهم كانوا يزينون الأمور في أغلب الأحيان برأيهم. ألم تر أنهم قالوا لأمير المؤمنين عند رفع المصاحف! أجب إلى كتاب الله وإلا دفعنا برمتك إلى القوم. إن الجيل الذي يقول مثل هذه الكلمة لعلي بن أبي طالب جيل ميؤوس منه عجنت نفسيته بماء اغتسل منه جبابرة قوم نوح وعاد وثمود الذين عقروا الناقة.
وعندما جاء الحسن بن علي وجد في الجيل الذي عاصره مجموعة من اللصوص أخبرهم أنه من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. ولكن لا حس لأن السواد الأعظم سار على أهداف دائرة الرجس التي حذر القرآن منها.
ومن أخذ مال من رجس لا ينظر إلى تطهير. وقضى الله أنه من يأخذ درهما أو دينارا في فتنة طبع الله على قلبه بطابع النفاق.
لقد كافح بني أمية منذ فتح مكة من أجل هذا اليوم. كافح طابورهم الذي يرتدي ملابس الإسلام ويمشي بين الناس بشهادته. وازداد هذا الكفاح استعارا عندما ألغى عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم. وهو من الأحكام الشرعية التي وردت في القرآن وذلك في قوله تعالى: (وإنما الصدقات للفقراء والمسكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) " ولقد كان الرسول يمنح هؤلاء من
____________
(157) فتح الباري: 13 / 63.
إتقاء لشرهم وإبقاء على ودهم ومنهم أبو سفيان بن حرب (158) رأس بني أمية.
ولكن عمر لم يجر على تلك السنة التي جرى عليها أبو بكر ومن قبله رسول الله تنفيذا لحكم شرعي جاء في القرآن. وساوى هذا الصنف مع غيره من المسلمين (159). ووفقا لهذه المساواة انطلق طابور النفاق ليغرس مخالبه في جسد الأمة ويحفر له مكانا فيه وعن حذيفة إنه قال: (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون) (160).
وطابور النفاق حاصره كتاب الله كما ذكرنا من قبل وحاصرته السنة الشريفة وذلك في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب: (لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق) " (161) وقوله: (يا علي معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي) " (162) ومن هذا نعلم أن سياسة علي بن أي طالب هي الكشاف الذي يظهر المنافقين تحت ضوءه. ونظرا لأن سياسة علي في الأمة لم تنل حظها الوافر بعد رسول الله. فإن أبا بكر أعطى من كان يعطيه رسول الله من المؤلفة قلوبهم. أما الجديد منهم فإن السياسة لم تكتشفه. وعلى هذا اتسعت الدائرة لتصل في عهد عمر أقصى اتساع لها وذلك لإلغائه العلامة التي ضربها الله على هذا الصنف ليميزه بين الأمة. والغمس العديد من المفكرين لعمر في هذا الأعذار ومما قيل: ا أن عمر رأى أن الحكمة التي أدت إلى تقرير ذلك الحكم الشرعي قد زالت. بعبارة أخرى. إنه عمل بروح النص لا بظاهره أو حرفيته. أما عن تلك الحكمة فقد كانت حاجة المسلمين في ذلك الحين إلى
____________
(158) الإصابة: 238 / 3.
(159) أزمة الفكر: 122.
(160) البخاري: 230 / 4.
(161) رواه أحمد (الفتح الرباني: 121 / 23) ومسلم: 64 / 18.
(162) رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي فيه سلام بن سليمان وزيد الصمي وهما صديقان وقد وثقا وبقية رجاله ثقاة (الزوائد: 135 / 9).
وجد رقعة واسعة فيها من يريد الكرسي أو المال وفيها من يتأول القرآن وبضعه أين يشاء. وعلى الرغم من هذا الاتساع. اعتمد أمير المؤمنين على القاعدة المؤمنة وقام بمعاركه. وعندما أكلت الحرب أصحابه ولم يبق معه إلا غلمان ساحة الاتساع. كان ما كان وارتفع السفهاء على الحلماء كما في الحديث الشريف (ضاف ضيف رجلا من بني إسرائيل. وفي داره كلبة محج (164). فقالت الكلبة: والله لا أنبح ضيف أهلي. فعوى جراؤها في بطنها. قيل ما هذا؟
فأوحى الله عز وجل إلى رجل منهم: هذا مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاءها حلماءها " (165) وفي رواية: يستعلي سفهاؤها على علمائها (166).
وبني أمية كان عليهم من الله ورسوله تحذير ولكن هذا التحذير ضاع من الذاكرة كما ضاع غيره. قال المفسرون في قوله تعالى: (ألم تر الذين بدلوا نعمة الله كفرا " أنهم " بنو المغيرة وبنو أمية) وفي رواية " بنو أمية وبني مخزوم " (167) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لكل دين آفة وآفة هذا الدين بنو أمية " (168) وقال: (شر قبائل العرب بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف " (169) وقال: (يهلك الناس هذا الحي من قريش " قالوا: فما تأمرنا؟
قال: لو أن الناس اعتزلوهم (170) وقال في فتح الباري: المراد أنهم بها كون
____________
(163) أزمة الفكر السياسي في الإسلام: 122.
(164) محج / أي حامل.
(165) رواه أحمد والطبراني والرامهرمزي (كنز العمال: 254، 256 / 14) والبزار (كنز: 280 / 7).
(166) رواه الطبراني (كنز: 256 / 14).
(167) أخرجه البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر (الدر المنثور: 4 8 / 4).
(168) أخرجه أبو نعيم (كنز: 87 / 14).
(169) رواه البيهقي ورجاله ثقاة (البداية والنهاية: 268 / 6).
(170) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
معاملة اليهود والنصارى أحب إلي من معاملة هؤلاء الأمراء (176) وقال. لا تنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بإنكار قلوبكم عليهم لئلا تحبط أعمالكم (177). وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إمارة السفهاء:، أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي. فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم. فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون علي حوضي " (178).
وبداية ظهور هؤلاء الأمراء لم تكن بعد ثلاثة قرون من البعثة أو بعد ألف سنة منها. وإنما كان الظهور في وقت مبكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(171) فتح الباري: 10 / 13.
(172) البداية والنهاية: 275، 276 / 6.
(173) أخرجه أحمد (الفتح الرباني: 33 / 23) والبخاري والحاكم (كنز العمال: 128 / 11).
(174) أحمد (الفتح: 34 / 23).
(175) أحمد في كتاب الورع. ص 94.
(176) أحمد في كتاب الورع: ص 96.
(177) أحمد في كتاب الورع: ص 96.
(178) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح (الزوائد 247 / 5).
____________
(179) أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والبيهقي والحاكم (كنز العمال 1190 / 11) (الخصائص الكبرى: 236 / 2) (البداية والنهاية: 0 26 / 6).
(180) رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى (البداية: 249 / 8، 266 / 6).
(181) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقاة (الزوائد: 231 / 6) والحاكم وأقره الذهب (المستدرك: 547 / 4) وابن حبان والبيهقي (كنز العمال: 195 / 11).
(182) أسد الغابة: 468 / 1.
(183) الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك: 515 / 4).
(184) الإصابة: 17 / 2.
(185) الإصابة: 15 / 2.
وأما البراءة فلا تبرأوا مني فإني على الفطرة) " (190) فمعاوية حاصر الكثرة بثقافة السب التي تكاتفت مع ثقافة القصاص في المساجد ومن وراء هذا وذاك المال الذي سال على كل جانب. ووفقا لهذا لم تفهم الكثرة حركة الحسين التي تستقيم مع حركة الدعوة. وقتل الحسين. والكثرة يلعقون من فوق موائد معاوية ما يشتهون. ولم يعد للإمام علي ذكر في عالم السب. وروي أنه قيل لزعيم من زعماء الرأي والعقل من أهل الشام: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصا من لصوص الفتن (191) فإذا كان الأكثر علما في عالم بني أمية لا يعلم من هو علي بن أبي طالب فما هو الفرق بينه وبين من صلى الجمعة يوم الأربعاء وفي عالم يزيد بن معاوية نصبت مجزرة لأهل المدينة بعد مجزرة الحسين. وذلك عندما خلعه أهل المدينة لما رأوا من فسوقه. وروي أن
____________
(186) أخرجه عبد الله بن أحمد والترمذي (الفتح الرباني: 104 / 22).
(187) رواه أحمد والطبراني (الفتح الرباني: 106 / 22).
(188) الطبري 179 / 6.
(189) رواه أحمد (الفتح: 121 / 23) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك: 121 / 3).
(190) ابن عساكر والحاكم (كنز: 302 / 11).