الصفحة 90
هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة.. ".

إذن - بعد هذا كله - هل يرتاب طالب حق منصف!

أم سيغني التأويل، وصناعة الرواية من الحق شيئا؟

إقرأ معي - أخيرا - حديث رسول الله صلى عليه وآله وسلم الذي يرويه الإمام أحمد بإسناده عن أنس بن مالك، قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وصيه، فقال له سلمان: يا رسول الله، من وصيك؟

قال: " يا سلمان، من كان وصي موسى؟ ".

قال: يوشع بن نون.

قال: " فإن وصيي، ووارثي، يقضي ديني، وينجز موعودي علي بن أبي طالب " (1).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لكل نبي وصي ووارث، وإن عليا وصيي ووارثي " (2).

وقوله مخاطبا ابنته الزهراء: " ووصيي خير الأوصياء، وهو بعلك " (3).

فهذه نصوص ثلاثة صريحة، يشهد بعضها لبعض، بأن عليا عليه السلام هو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير ما تقدم.

____________

(1) فضائل الصحابة 2: 615 / 1052، وأخرجه أيضا: الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 113، المحب الطبري في الرياض النضرة 3: 138، وذخائر العقبى: 71، (2) ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر 3: 5 / 1030 و 1031، الرياض النضرة 3: 138، ذخائر العقبى: 71، المناقب للخوارزمي: 42، الفردوس 3: 382 / 5047، المناقب لابن المغازلي:

201 / 238، كفاية الطالب: 260، وسيلة المتعبدين ج 5 - ق 2: 162.

(3) مجمع الزوائد 8: 253 و 9: 165، ذخائر العقبى: 136، المناقب للخوارزمي: 63، ابن المغازلي:

101 / 144، كفاية الطالب: 296، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5: 31.

الصفحة 91

7 - حديث الغدير

هذا الحديث، الذي بلغ حد التواتر عند جميع المسلمين - كما سنرى - وحفظته أمهات المصادر، قد لاقى من الكتمان، أو شبهه، ما لم يلقه شئ من أخبار الآحاد أو الضعاف، حتى صار كالمجهول لدى الغالبية منا، وأصبح ذكره يستوجب الكثير من التفصيل في إثباته، ثم رد الأقاويل التي نسجت حوله ابتغاء تأويله!

ومهما يكن، فليس بقادح في جمال الربيع صدود من لا يعشق الجمال.

وبينما ترى بعضنا يقف خاشعا مذعنا أمام النص النبوي الشريف، تجد آخر يسلك فنون التأويل، ويحمل الألفاظ ما لا تطيق، ليصرف النص عن مفاده ومغزاه.

ونبدأ رحلتنا الطويلة مع هذا الحديث بما أثبته اليعقوبي في تاريخه، تحت عنوان " حجة الوداع " (1).

وهو يروي خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أن يقول:

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ترجعوا بعدي كفارا مضلين يملك بعضكم رقاب بعض، إني قد خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا:

كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلغت "؟

قالوا: نعم، قال: " اللهم اشهد ".

ثم قال إنكم مسؤولون، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ".

____________

(1) 2: 111 - 112، ومثله في السيرة الحلبية 3: 336.

الصفحة 92
ثم يمضي في الحديث إلى أن يبلغ قوله: وخرج ليلا منصرفا إلى المدينة، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة، يقال له: غدير خم، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، وقام خطيبا، وأخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال:

" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم "؟

قالوا بلى، يا رسول الله.

قال: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".

ثم قال " أيها الناس، إني فرطكم على الحوض، وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".

قالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟

قال: " الثقل الأكبر: كتاب الله، سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به، ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي ".

هكذا جاء، فأرجو أن نمعن النظر في عبارات التأكيد، والمبالغة في البيان، ثم الوعظ، والأمر والوعيد!

ثم مع الحافظ النسائي (1)، عن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطريق مكة، وهو متوجه إليها، فلما بلغ غدير خم وقف للناس، ثم رد من سبقه، ولحقه من تخلف، فلما اجتمع الناس إليه، قال: " أيها الناس، من وليكم "؟

قالوا: الله ورسوله، ثلاثا.

____________

(1) في كتابه (خصائص أمير المؤمنين) وقد ذكر فيه حديث الغدير بأسانيد عديدة وطرق شتى وألفاظ مختلفة بلغت تسع عشرة رواية، منها ثلاثة طرق عن سعد بن أبي وقاص، واثنان عن زيد بن أرقم.

ص 21 - 27.

الصفحة 93
ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، ثم قال: " من كان الله ورسوله وليه، فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".

وعن زيد بن أرقم، قال: لما دفع رسول الله من حجة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات (1) فقممن (2)، ثم قال: " كأني دعيت فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيها، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".

ثم قال " إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن " ثم إنه أخذ بيد علي، فقال: " من كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".

قال أبو الطفيل: فقلت لزيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

فقال: وإنه ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه، وسمعه بأذنيه.

وأما المحب الطبري فيروي (3) عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا: الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي، وقال: " ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم "؟

قالوا: بلى، فأخذ بيد علي، وقال: " اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".

قال: فلقيه عمر بعد ذلك، فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت

____________

(1) الدوحة: الشجرة. النهاية (دوح) 2: 138.

(2) قم الشئ قما: كنسه. لسان العرب (قم) 12: 493.

(3) في ص 67 من الذخائر في فصل أسماه: ذكر أنه من كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مولاه فعلي مولاه.

الصفحة 94
وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

وزاد الخوارزمي (1) عن أبي سعيد الخدري (رض) قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا الناس إلى غدير خم، أمر بما كان تحت الشجرة من شوك، فقم، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي فأخذ بضبعه (2)، فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه، ثم لم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي ".

ثم قال: " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ".

فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله، أتأذن لي أن أقول أبياتا؟

فقال: " قل ببركة الله تعالى ".

فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
بأني مولاكم نعم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا

____________

(1) في المناقب: 80.

(2) الضبع: وسط العضد، وقيل: ما تحت الإبط. النهاية 3: 73.

الصفحة 95

فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا (1)

وفي البداية والنهاية (2) نجد التصريح بما ذكرنا من تواتر هذا الحديث، وإجماع المسلمين عليه، فيقول: وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، فجمع فيه مجلدين، أورد فيهما طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر (3) أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة.

ثم يشرع صاحب الكتاب بإيراد طرق هذه الخطبة، فيرويها بسبعة طرق، ثم ينتقل إلى حادثة مسجد الرحبة، حيث الشهادة الكبرى، وتجدد بيعة الغدير - إذ قام الإمام علي عليه السلام، في أيام خلافته، فناشد الناس: أنه من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم يقول: " من كنت مولاه فعلي

____________

(1) وروى هذه الأبيات: الخوارزمي أيضا في مقتل الإمام الحسين 1: 47، والحافظ أبو نعيم كما في النور المشتعل: 57، والجويني في فرائد السمطين من طريقين 1: 73، 74، وابن الجوزي في تذكرة الخواص:

33، والكنجي في كفاية الطالب: 64. مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(2) 5: 183 - 189 آخر فصول السنة العاشرة من الهجرة.

(3) هو علي بن الحسن بن هبة الله. الإمام العلامة، محدث الشام أبو القاسم الدمشقي - صاحب تاريخ دمشق - ولادته سنة 499. ووفاته 571 هـ‍. (سير أعلام النبلاء) 20 ت / 354.

الصفحة 96
مولاه " فليشهد بذلك - فيثبت هذه الحادثة من ستة وثلاثين طريقا، ثم يشهد بصحة القسم الأعظم منها وقوته.

ثم يختتم هذا الفصل بذكر ما رد به الشيخ الحافظ أبو عبد الله الذهبي (1) على حديث أبي هريرة، الذي فيه: عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة، قال:

لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي، قال: " من كنت مولاه فعلي مولاه " فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) الآية. قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا (2).

قال - بعد أن استعرض رأيه - وقد قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي بعد إيراده هذا الحديث: هذا حديث منكر جدا! ورواه حبشون الخلال وأحمد بن عبد الله بن أحمد النيري، وهما صدوقان، عن علي بن سعيد الرملي عن ضمرة، قال: يروي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك، وأبي سعيد، وغيرهم بأسانيد واهية (!).

قال: وصدر الحديث متواتر، أتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله، وأما " اللهم وال من والاه " فزيادة قوية الإسناد.

ولكنه - عفا الله عنه - بعد أن نقل كل هذا، عاد فانصاع لهواه، ومال مع نفسه، وكأني به يتقلب بين المسالك بحثا عما يخرجه إلى تأويل يصرف فيه الحديث عن حقيقته الظاهرة الجلية، فبعد أن دخل مدخلا واهيا ينشد غرضه، فظن أنه انتصر، قفز، وهو يظن أنه ارتقى أعلى درجات السلم، ولكنه - أسفا -

____________

(1) هو شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، صاحب التراجم والتاريخ، تلمذ على ابن تيمية وأخذ عنه نهجه السلفي، توفي سنة 748 هـ‍.

(2) والحديث رواه الخطيب في تاريخ بغداد 8: 290، وجميع رواته موثقون، ورواه الحاكم في شواهد التنزيل في ذكر الآية من سورة المائدة: 157 / 211، وسيأتي ذكر المزيد من مصادره في محله إن شاء الله تعالى.

الصفحة 97
كان قفزا إلى الأسفل!

وسنذكر محاولاته هذه بنصها:

فهو يقول - في أول كلامه الذي تركه مبهما بعنوان -: (فصل)، كتب تحته:

(في إيراد الحديث الدال على أنه عليه السلام خطب بمكان بين مكة والمدينة، مرجعه من حجة الوداع، قريب من الجحفة، يقال له: غدير خم، فبين فيه فضل علي بن أبي طالب، وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والصواب كان معه في ذلك.

لهذا لما تفرغ عليه السلام من بيان المناسك، ورجع إلى المدينة، بين ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في يوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ، وكان يوم الأحد، بغدير خم، تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر من فضل علي، وأمانته، وعدله، وقربه إليه، ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه، ونحن نورد عيون الأحاديث الواردة...).

نقف معه هنا لنرى كيف أراد أن يجعل هذه الخطبة العظيمة - كما وصفها هو - إنما جاءت لغرض بيان براءة علي مما شكاه منه نفر من الصحابة، لا غير!

وهذه لعمري حمل واه لا يمر على عاقل قرأ رواية واحدة لهذه الخطبة العظيمة، فكيف إذا علم القارئ أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد رد على تلك الشكاوى في محلها وفي وقتها، وعلى مرأى ومسمع من المسلمين؟

وقد وردت تلك الردود في كافة الروايات التي تعرضت إلى تلك الشكاوى، ومنها عدة روايات يذكرها صاحب البداية والنهاية نفسه!

وإليك قصص الشكاوى، نبدأها بما رواه في هذا الفصل، فقال:

لما أقبل علي من اليمن ليلقى رسول الله (ص) بمكة تعجل إلى رسول

الصفحة 98
الله (ص) واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، فقال: ويلك، ما هذا؟

قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس.

قال: ويلك، انزع قبل أن ينتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز - قال - وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم - ثم ذكر سندا ينتهي إلى أبي سعيد الخدري - قال: اشتكى الناس عليا فقام رسول الله (ص) فينا خطيبا فسمعته يقول: " أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله - أو في سبيل الله ".

ثم أضاف: وقال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين.... عن بريدة - فروى قصة بريدة حتى قال: فقال (ص) " يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم "؟

قال: بلى.

قال: " من كنت مولاه فعلي مولاه ". ثم قال: وكذا رواه النسائي عن أبي داود الحراني، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عبد الملك بن أبي غنية بإسناد نحوه، وهذا إسناد جيد قوي رجاله كلهم ثقات.

القصة الثانية:

أن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عزموا أن يشكوا عليا إذا لقوا رسول الله، فلما قدموا عليه، قال أحدهم: يا رسول الله، ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


الصفحة 99
وفعل الثاني منهم والثالث والرابع مثل أولهم، وفي كل مرة يعرض الرسول عن الشاكي - قال - فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يعرف في وجهه، فقال: " وما تريدون من علي؟ وما تريدون من علي؟!

إن عليا مني، وأنا منه، إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي " (1).

القصة الثالثة:

في شكوى بريدة: فعنه، أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثين إلى اليمن: على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال: " إذا التقيتم فعلي على الناس، وإذا افترقتما فكل واحد منكما على جنده ".

فلقينا بني زيد من أهل اليمن، فاقتتلنا، فظهر المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، فاصطفى علي لنفسه امرأة من السبي - قال بريدة - فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله يخبره بذلك.

فلما أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفعت الكتاب، فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل، وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به.

____________

(1) سنن الترمذي - كتاب المناقب - 5 ح / 3712، الخصائص للنسائي: 23، مسند أحمد 4: 438، وفضائل الصحابة - له أيضا - 2: 605 / 1035 و 620 / 1060، المستدرك 3: 111، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9: 41 / 6890، الجامع للأصول 9: 470 / 6480، أسد الغابة 4: 27، ابن أبي الحديد 9: 170، الرياض النضرة 3: 129، كنز العمال 11 ج 32883 مختصرا، وأصحاب المناقب.

الصفحة 100
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تقع في علي، فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي، وإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي " (1).

وهكذا ظهر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد رد على جميع تلك الشكاوى التي حصلت جميعها أيام حجة الوداع، وعند عودة علي عليه السلام من اليمن.

وأنه كان الرد في كل مرة على ملأ من الناس، ولم يكن خفيا.

وأنه في كل مرة كان يؤكد عظيم منزلة علي عليه السلام، ثم يؤكد الولاية له:

" فإنه مني، وأنا منه، وهو وليكم بعدي ".

وبهذا يتبين بطلان ما ادعاه، والحمد لله.

وبعد، فإذا نظرنا فيما تميزت به هذه الخطبة من خصوصيات، نجد بما لا يدع أدنى مجالا للشك، أن ذلك التأويل ليس له محل على الاطلاق. فقد تمتعت هذه الخطبة، بميزات لم تحظ بها أية خطبة أخرى في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

- فبعد عودة الناس من حجهم الأكبر.

- وعند بلوغهم مفترق الطرق، حيث يتجه كل إلى أهله وموطنه.

- وفي منتصف النهار، ولهيب الهاجرة.

- ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

- فرد المتقدم.

- وانتظر المتأخر حتى لحق به.

____________

(1) مسند أحمد 5: 356، المستدرك 3: 110، الخصائص للنسائي: 24، ابن عساكر كما في الترجمة:

400 / 466 و 467 و 468 و 469 و 477، فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل 2: 584 / 989، مجمع الزوائد 9: 108، الرياض النضرة 3: 130، وأصحاب المناقب.

الصفحة 101
- ثم قام ذلك المقام المشهود، أمام مائة ألف أو يزيدون!

ألا يدل ذلك، بل بعض منه، على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد لهذا الأمر أن ينال الحظ الأوفر من اهتمام الناس، والثبات في الأذهان، والانتشار في الأقطار والأمصار، إلى درجة تبلغ فيها الحجة كل المسلمين، وفي كافة أقطارهم؟

بلى، إنها كانت بيعة على الأشهاد، تولى إبلاغها خير الخلق وسيد العباد، ثم لم يصرفهم من تجمعهم الكبير، ولا اختتم كلامه حتى أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم، وفرض عليهم تبليغها في بلدانهم بشكل لم يفرضه على أمر آخر، أو خطبة أخرى، فكرر القول:

" ألا هل بلغت "، اللهم اشهد ".

و " إنكم مسؤولون، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ".

وبعد هذا البيان، نعود إلى كلامه الذي اقتطعناه عند قوله: (ونحن نورد عيون ما روي في ذلك، مع إعلامنا أنه لا حظ للشيعة ولا متمسك لهم ولا دليل، لما سنبينه وننبه عليه، فنقول، وبالله المستعان: قال محمد بن إسحاق...).

ثم بدأ بسرد روايات خطبة الغدير، حتى أتى على إحدى وأربعين رواية - بالتفصيل الذي وصفناه - وجعل آخرها رد الحافظ الذهبي على رواية أبي هريرة، ثم وصلها مباشرة بما أراده أن يكون دليلا على عدم صحة الاستدلال بهذه الروايات على خلافة علي بن أبي طالب، ولأجل المزيد من الاطمئنان من عدم قطعنا كلامه، نعود إلى حيث انتهينا عنده من رد الحافظ الذهبي، لنأتي بالحديث إلى آخره:

قال - الحافظ الذهبي - وصدر الحديث متواتر، أتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله، وأما " اللهم وال من والاه " فزيادة قوية الإسناد، وأما

الصفحة 102
هذا الصوم فليس بصحيح، ولا والله ما نزلت هذه الآية إلا يوم عرفة، قبل غدير خم بأيام والله تعالى أعلم (1) وقال الطبراني: حدثنا علي بن إسحاق الوزير الأصبهاني، حدثنا علي ابن محمد المقدمي، حدثنا محمد بن عمر بن علي المقدمي، حدثنا علي بن محمد ابن يوسف بن شبان بن مالك بن مسمع، حدثنا سهل بن حنيف، عن سهل بن مالك أخي كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة من حجة الوداع، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني قط، فاعرفوا ذلك له، أيها الناس، إني عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين راض، فاعرفوا ذلك لهم، أيها الناس، احفظوني في أصحابي وأصهاري وأحبابي لا يطلبنكم الله بمظلمة أحد منهم، أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحد منهم فقولوا فيه خيرا، بسم الله الرحمن الرحيم ". انتهى.

فلعمري ما الذي أراد إثباته من هذا النص لمقابلة نصوص الغدير التي شهد لها بالتواتر وصحة الإسناد؟

هل أراد أن يقول: إن فيه دلالة على استخلاف أبي بكر؟

فأي شئ فيه يدل على الاستخلاف؟

ثم إنه ليس له أن يستدل بهذا، ولا بغيره لأن ذلك يخالف مذهبه الذي يقول إن النبي لم يستخلف أحدا!

وبعد، فهذا هو كل ما عثر عليه ليرد به على من استدل على ولاية علي

____________

(1) سيأتي بيان ذلك لاحقا.

الصفحة 103
ابن أبي طالب عليه السلام من حديث الغدير، ونظائره، كما يدل على هذا كلامه المتقدم: (مع إعلامنا أنه لا حظ.... ولا متمسك لهم، ولا دليل)!

فلم يبق إلا أنه أراد أن يقول بوجوب حفظ كرامة الصحابة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " احفظوني في أصحابي وأصهاري وأحبابي، لا يطلبنكم الله بمظلمة أحد منهم ".

ونحن معه في هذا كله، فهل إن الاستدلال على ولاية علي عليه السلام من النصوص المتواترة فيه مظلمة لأحد؟

بل نحن ندعو كل من يعتقد بحفظ كرامة الصحابة أن يثبت معنا على اعتقاده هذا حين يقف على ما حصل من مظالم بحقهم، ويرى من الذين سيطلبهم الله بمظلمة أخلص أصحاب رسول الله، وأصهاره وأحبابه؟

ونعود فنقول: بل إن أول من استدل بخطبة الغدير على ولاية علي عليه السلام هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد مر في حديث البراء بن عازب: فلقيه عمر بعد ذلك، فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

وأورد أحمد وغيره أن أبا بكر وعمر لما سمعاه، قالا له: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة (1). لقد كانت بيعة صريحة منهم له عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!

____________

(1) مسند أحمد 4: 281، فضائل الصحابة - له أيضا - 2: 596 / 1016 و 610 / 1042، أسد الغابة 4: 28، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 2: 76 / 579، 580 و 82 / 584 ومواضع أخرى، تفسير الرازي 12: 49 - 50، روح المعاني 6: 194، الصواعق المحرقة: 44، الرياض النضرة 3: 127، المناقب لابن المغازلي: 19، تذكرة الخواص: 29، هذا غير ما تقدم من مصادره.

الصفحة 104

الشهادة الكبرى
أو
(البيعة الثانية)

نعم، لقد كان بلاغا مشهودا بلاغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم، فقد تهيأ له من أسباب الحفظ والثبات والشيوع ما يناسب جلالته، فلا يقوى على طمسه من يشاء.

ولقد كاد أن يحدث ذلك لولا تلك العناية الكبرى التي أحاطه بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد أمسى هذا الحديث مهجورا بعد رسول الله، أو كالمهجور، والأمة تمضي على غير سبيله، حتى شاء الله أن يعد له من يحييه من جديد، وعلى ملأ من المسلمين أيضا، فكان ذلك في الكوفة، وفي مسجد الرحبة منها، وبعد خمس وعشرين سنة من غياب رسول الله، إذ قام علي بن أبي طالب - أيام خلافته - خطيبا، فقال:

" أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه لما قام فشهد ".

قال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلى أحدهم، فقالوا:

نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم:

" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجي أمهاتهم؟ ".


الصفحة 105
فقلنا: بلى، يا رسول الله.

قال: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه " (1).

وفي حديث آخر: أنه عليه السلام قال في مناشدته: " ولا يقوم إلا من رآه ".

فقام - أي الصحابة - إلا ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم، فأصابتهم دعوته (2).

وقد نال هذا الحديث من الشهرة ما ناله حديث الغدير، فلا يكاد يذكر حديث الغدير إلا وذكر خبر الرحبة إلى جانبه.

وحين أقف أمام كل هذه النصوص، فلا أرى أمامي سوى الاطمئنان والرضى والتسليم لأمر الله ورسوله، غير أن النفس تنزع دوما لما يلائم طبعها، وما نشأت عليه، وترى الاذعان إلى ما يخالفه أمرا ثقيلا، مرا، قد لا تستسيغه مهما بلغت درجته من القوة!

وتلك النفس هي التي تختفي وراء محاولات التأويل، وصرف النص النبوي الشريف عن معناه ومؤداه، ولتلك المحاولات سبل شتى، ومسالك

____________

(1) مسند أحمد 1: 88، 118، 119 (بطريقين)، فضائل الصحابة (لأحمد بن حنبل) 2: 585 / 991 و 992 و ص 682 / 1167 - وفيه: فقام ثلاثون فشهدوا -، أسد الغابة 2: 233 و 3: 93 و 4: 28، خصائص النسائي: 22 - 25 من عدة طرق، الإصابة 4: 182 / 5189 - ترجمة عبد الرحمن بن مدلج - ومواضع أخرى، مجمع الزوائد 9: 104 - 105 بعدة طرق، السيرة الحلبية 3:

337: ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر 2: 5 - 25 ح / 503 - 524، ومواضع أخرى، تاريخ بغداد 14: 236، صفة الصفوة 1: 313، تاريخ الخلفاء: 134، الرياض النضرة 3: 127، حلية الأولياء 5: 26، وكتب المناقب قاطبة، وقد تقدم أن ابن كثير أخرجه في البداية والنهاية من ستة وثلاثين طريقا.

(2) مسند أحمد 1: 119، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 74.

الصفحة 106
متشعبة، تناولنا منها شيئا، وسنمر هنا على أهمها في هذا المقام عرضا ونقدا موجزين.

فللشيخ الآلوسي في (روح المعاني) (1) عند تفسيره قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية (2).

بحث مسهب، يلمس فيه المتتبع محاولاته الفرار من المسؤولية أمام النص القطعي، معتمدا تأويلات لغوية، وتكلفا شديدا، لا أظن أنه - مع طول باعه، وسعة تبحره - كان مقتنعا بها حقا، ولكنها السبيل الوحيد إلى ما ترضاه النفس، ويمل إليه الهوى!

فيقول: والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحيهما، لعدم وجدانهما له على شرطهما..

وهذا الكلام ليس له قيمة علمية لسببين:

أولهما: في قوله: لعدم وجدانهما له على شرطهما.

فهذا ادعاء باطل، لما أثبته الحاكم في المستدرك وقد روى حديث الغدير من طريقين، وأثبت صحتهما جميعا على شرط الشيخين، وهذا نص الحاكم:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، فقال: " كأني قد دعيت فأجيب، إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله تعالى، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".

ثم قال: " إن الله عز وجل مولاي: وأنا مولى كل مؤمن - ثم أخذ بيد

____________

(1) 6: 195.

(2) المائدة: 67.

الصفحة 107
علي رضي الله عنه فقال - من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه " وذكر الحديث بطوله وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله.

ثم قال: شاهده حديث سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل أيضا صحيح على شرطهما، حدثناه أبو بكر بن إسحاق، ودعلج بن أحمد السجزي، قالا:

أنبأ محمد بن أيوب، ثنا الأزرق بن علي، ثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، ثنا محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الطفيل عامر (1) بن واثلة أنه سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول:

نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية فصلى ثم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال:

" أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما:

كتاب الله، وعترتي أهل بيتي - ثم قال - أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثلاث مرات. قالوا: نعم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " (2).

ومن المناسب القول: إن وفاة الحاكم كانت في سنة 405 هـ‍، في حين توفي الآلوسي سنة 1270 هـ‍، فهل خفي عليه ما أورده الحاكم؟

____________

(1) في المصدر " عن ابن واثلة " والصحيح ما أثبتناه، لأن أبا الطفيل هو عامر بن واثلة.

(2) المستدرك على الصحيحين 3: 109 - 110.

الصفحة 108
وهل خفي عليه أن الترمذي قد أخرجه في سننه وصححه (1)، وأخرجه ابن ماجة في سننه من طريقين (2)، وأحمد في مسنده من ستة عشر طريقا (3)؟!.

كيف إذن جزم جزمه القاطع دونما استقصاء؟!

إن هذا يعد عيبا كبيرا مع المسائل البسيطة، فكيف به مع أمر يعتمد في العقيدة وتفسير القرآن؟!

أم يقال: إنه وجد كلام الحاكم باطلا، فقطع بحكمه ذاك؟

فجوابه: أنه لو كان كذلك لما اكتفى بمجرد الإشارة إليه، بل لبسط القول في إثبات بطلانه، لأنه مهم جدا لمعارضته دعواه التي اعتمدها في حجته، فكيف ولم يشر إليه بأدنى إشارة!

وغير هذا، فحديث الغدير مما ثبت تواتره بشكل لا يخالطه شك (4).

بل قد لا يجد المتتبع لأحاديث الشريعة كلها حديثا متواترا أكثر طرقا من حديث الغدير (5)، فإن لم يصح حديث كهذا فليس في الشريعة حديث صحيح.

وقد كتم هذا الحديث قوم فما فنوا من الدنيا إلا عموا وبرصوا (6).

____________

(1) سنن الترمذي 5: 633 / 3713.

(2) سنن ابن ماجة 1: 43 / 116، 45 / 121.

(3) مسند أحمد 1: 84، 88، 119 (بطريقين)، 152، 331، و 4: 281، 368، 370، 372 (بطريقين) و 5: 347، 358، 361، 362، 419.

(4) وممن صرح بتواتره: الذهبي - كما تقدم - وقد صرح بأنه أفرد جزءا في طرق هذا الحديث فانظر:

تذكرة الحفاظ: 1043، وسير أعلام النبلاء 17: 169 (عند ترجمة الحاكم).

(5) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من (91) طريقا انظر ترجمة الإمام علي منه ح 503 - ح 593 ، وتقدم قول ابن كثير أن الطبري ألف كتابا في طرقه.

(6) كنز العمال 13: 131 / 36417، مسند أحمد 1: 119 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 74.

الصفحة 109
فماذا بقي له من عذر سوى حسن ظنه بالشيخين، فلما لم يجده عندهما ظن عدم وجدانهما له على شرطهما، فهل يصح هذا؟ أنظر النقطة التالية:

وثانيهما: إن عدم ذكر الشيخين، له ليس بقادح فيه بعدما تبين من شهرته وشهادة الأعلام بتواتره.

ثم هل روى الشيخان كل ما يطابق شروطهما من مناقب علي عليه السلام لنجعل ذلك حجة؟

هذا ما لا يدعيه أحد على الاطلاق، ولا يقول به أحد رأى الكتابين، واطلع على ما ذكراه من مناقب علي عليه السلام، فكيف يقول ذلك وهو لا يجد له فيهما سوى أربع مناقب، مع ثلاث قصص أخرى ذكراها في الباب (1)؟

وإنه لمن دواعي الاستغراب أن نفتش عمن نلوذ به هربا من النص الشريف المواتر!

____________

(1) أنظر صحيح البخاري 5: 87 - مناقب علي بن أبي طالب فقد أدخل حديث " أنت مني وأنا منك " في عنوان الباب، ثم خصص الحديثين 197 و 198 في راية خيبر، ثم حديث المنزلة برقم (202)، أما الحديث (199) فهو في قصة تسميته بأبي تراب، والحديث (200) ذكر فيه خبر رجل يسأل عبد الله بن عمر عن عثمان وعلي، قال: فذكر محاسن عمله وقال: هذا بيته في أوسط بيوت النبي، والحديث (201) عن علي عليه السلام في طلب الزهراء عليها السلام خادمة من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فأمرها بالتسبيح المعروف بعد كل صلاة، واختتم بالحديث (203) في رواية نسبها إليه أيضا لم يرد بها سوى تزكية الخلفاء الثلاثة، لا غير.

وأما في صحيح مسلم فقد جاءت مناقبه عليه السلام بين الرقمين 2404 و 2409، أولها حديث المنزلة، ثم راية خيبر وقد شغلت الأرقام 2405 - 2407، ثم حديث الثقلين عن زيد بن أرقم من خطبة الغدير وقد بترها، ثم اختتم بالرقم 2409 في قصة تسميته بأبي تراب، وانتهى الباب.

فهذه هي مناقب علي عليه السلام عند الشيخين، تلك المناقب والفضائل التي قال عنها أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي، وقال إسماعيل القاضي، والنسائي، وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي!

ذكر أقوالهم هذه: الحاكم في المستدرك 3: 107 وابن عبد البر في الاستيعاب 3: 51، وابن حجر في الصواعق باب 9: 120، والسيوطي في تاريخ الخلفاء: 133.

الصفحة 110
فهل جعلت الحجة علينا فيما ثبت صدوره عن رسول الله بالطرق الصحيحة، أم الحجة فيما ينتخبه رجل أو اثنان من نصوص الشريعة؟

فبدلا من أن نتساءل عن دواعي إهمالهما ذكره بعد تواتره، نحتج عليه بهما؟!

ثم قال: ووجه استدلالهم بخبر " من كنت مولاه فعلي مولاه ": أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة.

ولا يخفى - والكلام له - أن أول الغلط في هذا الاستدلال: جعلهم المولى بمعنى الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي (1)، متمسكا بقول أبي عبيدة (2) في تفسير قوله تعالى: (هي مولاكم) أي أولى بكم.

أنظر كيف ذكر اثنين من النحويين ثم عدهم واحدا.

ثم إن الذين فسروا المولى بالأولى - غير من ذكر - هم جمع غفير، منهم:

1 - من أئمة اللغة:

المبرد (3): عند قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) (4) قال:

____________

(1) هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري: أحد أئمة الأدب واللغة، قال ابن الأنباري: كان سيبويه إذا قال: " سمعت الثقة " عنى أبا زيد، ولد سنة 119 وتوفي بالبصرة سنة 215 هـ‍. الأعلام 3: 93.

(2) هو معمر بن المثنى التيمي: الإمام العلامة البحر، قال عنه بن المديني: كان لا يحكي عن العرب إلا الشئ الصحيح، وقيل: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.. سير أعلام النبلاء 9: 445 / 168.

(3) هو أبو العباس محمد بن يزيد البصري: صاحب (الكامل) إمام النحو، متفنن في جميع العلوم، وكان آية في النحو، وكان إمام العربية في بغداد، وأحد أئمة الأدب والأخبار، توفي في بغداد سنة 386 هـ‍.

سير أعلام النبلاء 13: 576 / 299، الأعلام 7: 144.

(4) سورة محمد (ص): 11.

الصفحة 111
إن أصل تأويل (الولي) الذي هو أولى أي أحق، ومثله المولى، والولي والمولى معناهما سواء، وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم (1).

والزجاج (2): عند قوله تعالى: (هي مولاكم) قال: يعني أولى بكم (3).

وابن الأنباري (4): قال: والمولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام...

والمولى: الولي، والمولى: الأولى. واستدل على هذا المعنى بالآية المتقدمة وبيت لبيد (5):

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها

والفراء (6): في قوله عز وجل: (مأواكم النار هي مولاكم) قال: أي

____________

(1) عن كتاب: الشافي في الإمامة 2: 271، ومجمع البيان في تفسير القرآن 3: 323، والتبيان 3: 560 جميعا عن كتاب (العبارة عن صفات الله) للمبرد.

(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السري الزجاج: الإمام، نحوي زمانه، مصنف كتاب (معاني القرآن) أخذ عن المبرد، وأخذ عنه أبو علي الفارسي وكان إذا استأذن أصحاب المبرد في الدخول عليه يبعث إليهم آذنه فيقول لهم: إن كان فيكم الزجاج فادخلوا وإلا انصرفوا. توفي سنة 310 وقيل 316 هـ‍.

سير أعلام النبلاء 14: 39 / 209، وفيات الأعيان 1: 49.

(3) كما في تفسير الرازي 29: 227.

(4) هو أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار ابن الأنباري: المقرئ النحوي الحافظ اللغوي، قيل فيه: ما رأينا أحدا أحفظ منه ولا أغزر علما، أخذ عن ثعلب، وأخذ الناس عنه، توفي سنة 328 هـ‍. وفيات الأعيان 4: 341.

(5) الأضداد 2: 46.

(6) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن منظور الأسدي: مولاهم الكوفي النحوي، قال ثعلب: لولا الفراء لما كانت عربية. وقد أملى الفراء كتابه (معاني القرآن) على أكثر من ثمانين قاضيا، توفي سنة (207) ه‍.. سير أعلام النبلاء 10: 118 / 12.

الصفحة 112
أولى بكم (1).

وثعلب (2): عند بيت لبيد المتقدم، قال: إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشئ، كقوله تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم) أي أولى بكم (3).

وابن المبارك (4)، في كتابه: غريب القرآن وتفسيره (5).

وابن الملقن (6)، في كتابه: تفسير غريب القرآن (7).

والجوهري (8)، في (الصحاح) وذكر قول لبيد: مولى المخافة. وقال:

يريد أنه أولى موضع أن تكون فيه الحرب (9).

____________

(1) معاني القرآن 3: 134.

(2) هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني: إمام النحو، العلامة المحدث، وكان أعلم الكوفيين وله كتاب (اختلاف النحويين) و (معاني القرآن) وغيرهما، توفي سنة 291 هـ‍.. سير أعلام النبلاء 14: 5 / 1.

(3) شرح المعلقات السبع، للزوزني: 148. وهامش (المقتضب) 3: 102.

(4) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يحيى بن المبارك اليزيدي: كان أديبا عالما عارفا بالنحو واللغة، أخذ عن الفراء وغيره، قال ثعلب: ما رأيت في أصحاب الفراء أعلم منه، توفي سنة 202 هـ‍. وفيات الأعيان 6: 182.

(5) ص: 371 / 15 - (هي مولاكم) هي أولى بكم.

(6) هو عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي، سراج الدين، من أكبر العلماء بالحديث والفقه وتاريخ الرجال، له نحو من ثلاثمائة مصنف. توفي بالقاهرة سنة 804 هـ‍. الأعلام 5: 57.

(7) ص: 449 / 16 (النار هي مولاكم) أي أولى بكم.

(8) هو إسماعيل بن حماد الجوهري: إمام اللغة، مصنف (الصحاح) وأحد من يضرب به المثل في اللغة وفي الخط، وقيل هو أول من حاول الطيران، فصنع جناحين من خشب وربطهما بحبل، وصعد سطح داره، ونادى في الناس: لقد صنعت ما لم أسبق إليه وسأطير الساعة، فازدحم أهل نيسابور ينظرون إليه، فتأبط الجناحين ونهض بهما، فخانه اختراعه، فسقط قتيلا في سنة 393 هـ‍..

الأعلام 1: 313، وسير أعلام النبلاء 17: 80.

(9) الصحاح: مادة (ولي) 6: 2529.

ووافقه ابن منظور في لسان العرب: مادة (ولي) 15: 410.