المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم ـ الحمد لله ربّ العالمين ـ وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيدنا ومولانا محمد المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين والمُنزه عن كل ما هو مُشين، وعلى آله الطيبين الطاهرين أعلام الهدى ومصابيح الدّجى وأئمة المسلمين. أمّا بعد فهذه أسئلة أعددتها للمسلمين الباحثين خاصّة منهم أهل السنّة الذين يظنون أنهم هم وحدهم المتمسّكون بالسنة النبويّة الصحيحة على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التسليم وعلى آله الطاهرين. بل ويشدّدون نكيرهم على غيرهم من المسلمين وينبزونهم بالألقاب.

وقد بُعثتْ في شتّى البلاد الإسلامية جمعيات جديدة باسم الدّفاع عن السنّة المحمّدية ـ وباسم أنصار السنّة وأنصار الصحابة، وكتبت كتبٌ عديدة لشتم وتكفير الشيعة وأئمّتهم والاستهزاء بعلمائهم، ورَوّجت وسائل الإعلام العالمية هذه الأفكار في كل أقطار العالم الإسلامي وغير الإسلامي، وأصبح حديث النّاس اليوم هو «السنة والشيعة».

وكثيراً ما ألتقي في المناسبات مع بعض الشباب المثقّف من المسلمين الصادقين الذين يتساءلون ويسألون عن حقيقة الشيعة وباطلهم، وهم حائرون بين ما يشاهدونه ويعيشونه مع أصدقاء لهم من الشيعة وما

الصفحة 6
يسمعونه ويقرؤونه عنهم ولا يعلمون أين يوجد الحق. وقد تحدثت مع البعض منهم وأهديت لهم كتابي «ثم اهتديت» والحمد لله أن الأغلبية من هؤلاء وبعد المناقشة والبحث يهتدون لمعرفة الحق فيتبعونه، ولكن هذا يبقى مقصوراً على نخبة من الشباب الذين ألتقي بهم صدفةً، أما البقية فقد لا يتاح لهم مثل هذا اللقاء فتبقى مشوّشة الفكر بين الآراء المتضاربة.

وبالرغم من وجود الأدلة المقنعة والحجج الدّامغة في كتاب «ثم اهتديت» وكتاب «مع الصادقين» إلا أنهما لا يكفيان لمواجهة تلك الحملات المسعورة والدعايات المكثفة التي تموّلها بعض الجهات الشريرة بالبتر ودولار في مختلف وسائل الأعلام.

وبالرغم من كل ذلك سيبقى صوت الحق مدويّاً وسط الضوضاء المزعجة ويبقى بصيص النور مضيئاً الظلام الدّامس لأن وعد الله حق ولا بدّ لوعده من نفاذ قال تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون) [الصف: 8]. وقال تعالى مُبيّناً بأنّ أعمالهم هذه ستبوءُ بالفشل وتنقلب عليهم: (إن الذين كفروا يُنفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حَسْرَةً ثمّ يُغلَبُون والذين كفروا إلى جهنّم يحشرون) [الأنفال: 36].

لأجل ذلك، كان واجباً على العلماء والكُتّاب والمفكّرين أن يوضّحوا للنّاس ما أشكل عليهم ويهدوهم سواء السبيل. قال تعالى: (إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للنّاس في الكتاب، أولئك يلعنُهُم اللهُ ويلعنُهم اللاّعنون، إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوبُ عليهم وأنّا التواب الرحيم) [البقرة: 160].

فلما لا يتكلم العلماء ويبحثون في هذا الموضوع بجدّ وإخلاص لوجه الله تعالى، وإذا كان سبحانه قد انزل البيّنات والهدى، وإذا كان قد أكمل الدّين وأتمّ النّعمة، وإذا كان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أدّى

الصفحة 7
الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح للأمّة، فلماذا هذه التفرقة والعداوة والبغضاء والتنابز بالألقاب، وتكفير بعضنا البعض.

وأنا بدوري أقف وقفة صريحة هنا لأقول لكلّ المسلمين بأن لا خَلاص ولا نجاة ولا وحدة ولا سعادة ولا جنّة إلاّ بالرجوع إلى الأصلين الأساسين كتاب الله وعترة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلاّ بالركوب في سفينة النجاة وهي مركب أهل البيت عليهم السلام. وليس هذا القول كلاماً من اختراعي، إنما هو كلام الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إن المسلمين اليوم أمام اتجاهين أثنين في طريق الوحدة المنشودة.

الأول: هو ان يقبل أهل السنة والجماعة بمذهب أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو ما يأخذ به الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، ويصبح بذلك المذهب الخامس لديهم ويتعاملون مع نصوص الفقهية بالنحو الذي يتعاملون به مع المذاهب الإسلامية الأربعة، فلا ينقصونه ولا ينبزون معتنقيه بشيء ويتركون للطلبة والمثقفين حرية اختياره المذهب الذي يقتنعون به، وضمن نفس السياق فإن على المسلمين ـ سنة وشيعة ـ القبول بالمذاهب الإسلامية الأخرى كالأباضية والزيدية.. ورغم أن هذا الإتجاه يمثل حلاً يوفّر على أمتنا كثيرا من التنافر والتفرقة إلا أنه لا ينهض إلى مستوى المعالجة الحاسمة للمعضل التاريخي الذي تعيشه منذ قرون.

* الاتجاه الثاني: هو أن يتوحّد المسلمون كافّة على عقيدة واحدة رسمها كتاب الله ورسوله وذلك عن طريق واحد وصراط مستقيم وهو ابتاع أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ولهذا السبب فالمسلمون كافّة سنة وشيعة مُتّفقون على أعلميتهم وتقدُمهم في كل شيء من تقوى وورع وزهد وأخلاق وعلم وعمل، ويختلف المسلمون في الصحابة، فليدع المسلمون ما اختلفوا فيه إلى ما اتفقوا عليه، من باب قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم «دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك». فتجتمع بذلك الأمّة وتتوحّد على قاعدة أساسية هي مَدَارُ كلّ شيء أسّسَها صاحب الرسالة في قوله: «تركتُ فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً،

الصفحة 8
كتاب الله وعترتي أهل بيتي» صحيح مسلم.

وإذا كان هذا الحديث صحيحاً عند الطرفين بل عند كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم، فما بال قسم من المسلمين لا يعمل به؟؟؟ ولو عمل المسلمون كافة بهذا الحديث لنشأت بينهم وحدة إسلامية قوية لا تزعزها الرّياح ولا تهدّها العواصف، ولا يبطلها الإعلام ولا يفشلها أعداء الإسلام.

وحسب اعتقادي أن هذا هو الحلّ الوحيد لخلاص المسلمين ونجاتهم وما سواه باطل وزخرف من القول، والمتتّبع للقرآن والسنّة النبوية والمطّلع على التاريخ والمتدبر فيه بعقله يوافقني بلا شكّ على هذا.

أما إذا فشل الإتجاه الأول وهو فاشل من أول يوم فارق فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الحياة حيث اختلف الصحابة وتسبب ذلك في انقسام الأمة وتمزيقها، وحيث فشلت الأمة عبر قرون في الرجوع إلى الإتجاه الثاني وهو الاعتصام بالكتاب والعترة، لما بثّته وسائل الإعلام قديماً في العهدين الأموي والعباسي، وحديثاً في عصرنا الحاضر من تشويه وتضليل وتكفير لأتباع أهل البيت النبوي ـ فلم يبق أمامنا حينئذٍ إلا المواجهة بصراحة وإظهار الحقّ لكل من يرغب يه، متوخّين في ذلك أسلوب القرآن الكريم إذ يتحدّى فيقول: (.. قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [البقرة: 111]. والبرهان والحجة لا يُفرضان بالقوّة ولا بالأموال ولا يطرحان بوسائل الترغيب والترهيب عند الأحرار الذين باعوا أنفسهم لله وحده ولم ولن يرضوا بديلاً للحق ولو كلّفهم ذلك إزهاق النّفوس.

فيا ليت علماء الأمة اليوم يعقدون مؤتمراً ليبحثوا فيه هذه المسائل بقلوب منفتحة وعقول واعية ونفوس صافية، ويخدمون بذلك الأمة الإسلامية ويعملون على لَمِّ شتاتها وتضميد جراحاتها وتوحيد صفوفها وجمع كلمتها.

إن هذه الوحدة قادمة لا محالة أحبّوا أمْ كرهوا لأن الله سبحانه رصد لها إمَاماً من ذرية المصطفى سيملئها قسطاً وعدلاً كما ملئتْ ظلماً وجوراً. وهذا الإمام هو من العترة الطاهرة وكأن الله سبحانه جلّت حكمته يمتحنُ

الصفحة 9
هذه الأمّة طيلة حياتها، حتى إذا قرب أجلُها كشف لها عن خطأ اختيارها وأعطاها فرصة للرجوع إلى الحقِّ واتباع النهج الأصيل الذي دعا إليه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي كان يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

وإلى أن يحين ذلك الوقت أقدّم كتابي هذا «فاسئلوا أهل الذكر» وهو جملة من الأسئلة مع الإجابة عليها من خلال مواقف وتعاليم أئمة أهل البيت سلام الله عليهم ـ عسى أن يستفيد منها المسلمون في كل البلاد الإسلامية ويعملوا على تقريب وجهات النظر للإعداد للوحدة المنشودة.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه اُنيب، ربِّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، أسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل عملي ويجعل فيه الخير والبركة، فما هو إلا لبنةً واحدة لبناء رباط الوحدة.

أقول هذا لأنّ المسلمين اليوم ما زالوا بعيدين عن أبسط حقوق الإنسان والتعامل بالحسنى مع بعضهم البعض.

لمستُ ذلك بنفسي خلال رحلاتي وزياراتي الكثيرة في البلدان الإسلامية أو البلدان التي فيها مسلمون. وآخرها عهداً في القارة الهندية التي يسْكنها أكثر من مائتي مليون مسلم ربعهم شيعة وثلاثة أرباعهم من السنّة، وقد سمعتُ عنهم الكثير ولكن ما شاهدته يبعث فعلاً على الدهشة والحيرة والخوف، ولقد تأسّفتُ وبكيتُ على مصير هذه الأمة، وكاد اليأس يدبُّ إلى قلبي لولا الرّجاء والأمل والإيمان.

وفور رجوعي من الهند أرسلتُ رسالة مفتوحة إلى العالم الهندي الذي يرجع إليه أهل السنّة والجماعة في تلك القارّة وهو أبو الحسن الندوي ووعدته بنشرها مع الردّ عليها ولكن لم أتلقَّ الردّ عليها حتى الآن وإني أنشرها في مقدمة هذا الكتاب كما هي لتكون وثيقة تاريخية تشهد لنا عند الله وعنه النّاس بأنّنا من دعاة الوحدة.

الدّكتور محمد التيجاني السماوي


الصفحة 10

الصفحة 11
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله الطاهرين

رسالة مفتوحة إلى السيد أبو الحسن الندوي العالم الهندي

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:

أنا محمد التيجاني السماوي التونسي الذي منّ الله عليه بالهداية والتوفيق فاعتنق مذهب أهل البيت النبوي بعد بحث طويل وبعدما كنتُ مالكياً ومن أتباع الطريقة الصوفية المشهورة في شمال إفريقيا وهي التيجانية، وعرفتُ الحقّ من خلال رحلة موفّقة إلى علماء الشيعة، وكتبتُ في ذلك كتاباً أسميته «ثم اهتديت» ثمّ طبعه عندكم في الهند من طرف المجمع العلمي الإسلامي بعدة لغات وبالمناسبة دُعيت لزيارة الهند.

سيدي العزيز قدمتُ إلى الهند في زيارة قصيرة، وكان أملي أن ألتقي بحضرتكم لما أسمعه عنكم ولما أعلمه بانّكم المشار إليه بين أهل السنّة والجماعة عندكم. ولكن عاقني عن ذلك بعد المسافة وضيق الوقت، واكتفيتُ بزيارة مدينة «بومباي» وبونة وجبل بور وبعض المدن الأخرى في كوجراتي وتألّمت كثيراً لما شاهدته في الهند من عداوة وبغضاء بين أهل السنّة والجماعة وإخوانهم المسلمين من الشيعة.

وقد كنتُ أسمع بأنهم يتحاربون ويتقاتلون أحياناً وتُسفك دماء بريئة من الطرفين باسم الإسلام.

الصفحة 12

ولم أكن أصدّق، معتقداً بأنّه مبالغة في التشويه، ولكنّ ما شاهدته وما سمعته من خلال زيارتي يبعث حقّاً على الجيرة والاستغراب وأيقنتُ بأنّ هناك نوايا خسيسة ومؤامرات خطيرة تُحاك ضد الإسلام والمسلمين للقضاء عليهم جميعاً سنّة وشيعة وممّا زاد يقيني وضوحاً وعلمي رسوخاً تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنّة يتقدّمهم الشيخ عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية وكان اللقاء في مسجدهم «بومباي» وبدعوة منهم.

وما أن حللتُ بينهم حتّى بدأ الأزدراء والتهكّم والسبُّ واللّعنُ لشيعة آل البيت، وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي لعلمهم مسبّقاً بأنّي قد ألّفتُ كتاباً يدعو للتّمسك بمذهب أهل البيت سلام الله عليهم. ولكنّي فهمتُ قصدهم وتمالكتُ أعصابي وابتسمتُ لهم قائلاً: أنا ضيق عندكم وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مُسرعاً مُلبياً، فهل دعوتموني لتسبّوني وتشتموني، وهل هذه هي الأخلاق التي علّمكم إيّاها الإسلام؟؟ فأجابوني بكل صلافة بأني لم أكن يوماً في حياتي مسلماً لأنني شيعي والشيعة ليسوا من الإسلام في شيء وأقسموا على ذلك.

قلتُ: اتّقوا الله يا إخوتي فربّنا واحد ونبيّنا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة، والشيعة يوحّدون الله ويعملون بالإسلام اقتداءاً بالنبي وأهل بيته، وهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويحجّون بيت الله الحرام، فكيف يجوز لكم تكفيرهم؟؟

أجابوني: أنتم لا تؤمنون بالقرآن، أنتم منافقون تعملون بالتقية وإمامكم قال: التقية ديني ودين آبائي. وأنتم فرقة يهودية أسّسها عبد الله بن سبأ اليهودي.

قلتُ لهم مبتسماً: دعونا من الشيعة، وتكلّموا معي أنا شخصياً فقد كنتُ مالكياً مثلكم واقتنعتُ بعد بحث طويل بأن أهل البيت هم أحق وأولى بالاتّباع، فهل عندكم حجّة تجادلوني بها، أو تسألوني ما هو دليلي وحجّتي عسى أن نفهم بعضنا بعضاً؟

الصفحة 13
قالوا: أهل البيت هم نساء النبي وأنت لا تعرف من القرآن شيئاً قلت: فإنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم يفيدان غير ما ذكرتم! قالوا: كل ما في البخاري ومسلم وكتب السنة الأخرى من حجج تحتجّون بها هي من وضع الشيعة دسّوها في كتبنا.

أجبتهم ضاحكاً: إذا كان الشيعة وصلوا للدّس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها لمذهبكم القائم عليها!! فسكتوا وأفحموا ولكنّ أحدهم عَمَدَ إلى التهريج والإثارة من جديد فقال: من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي وسيدنا معاوية وسيدنا يزيد رضي الله عنه وأرضاه فليس بمسلم!

ودهشت لهذا الكلام الذي ما سمعتُ مثله في حياتي وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابن يزيد، وقلتُ في نفسي: معقول أن يترضّى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمرٌ طبيعي أما على يزيد فلم أسمع ذلك إلا في الهند. والتفتُ إليهم جميعاً أسألهم: أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلّهم: نعم.

وعند ذلك عرفتُ بأن لا فائدة في مواصلة الكلام، وفهمتُ بأنهم إنّما يريدون إثارتي حتّى ينتقموا منّي، وربّما يقتلوني بدعوى سبّ الصحابة فمن يدري؟

ورأيت في أعينهم شرّاً وطلبتُ من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يُخرجني فوراً، فأخرجني وهو يتحسّر ويعتذر إليَّ على ما وقع. وهذا الشخص البريء الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرّف على الحقيقة هو الشاب المهذّب شرف الدين صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في «بومباي» فهو شاهد على كل ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة ولم يُخفِ استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنهم من أكبر العلماء.

الصفحة 14

وغادرتهم وأنا ساخط متأسّف على ما وصلت إليه حالة المسلمين وخصوصاً الذين يتزعّمون مراكز الصدارة ويتسمّون بالعلماء وقلتُ في نفسي إذا كان العلماء بهذه الدرجة من التعصّب الأعمى فكيف يكون عامة النّاس وجهّالهم، وعرفتُ عندئذٍ كيف كانت تقوم المعارك والحروب التي تسفك فيها الدماء المحرّمة وتُهتك فيها الأعراض والحُرماتُ باسم الدفاع عن الإسلام، وبكيتُ على مصير هذه الأمة التّعيسة المنكوبة التي حمّلها الله سبحانه مسؤولية الهداية وحمّلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضاً مسؤولية إيصال النور إلى القلوب المظلمة فإذا بها تصبح بحاجة إلى بصيص من النّور، وفي وقت يكون فيه في الهند وحدها سبعمائة مليون نسمة يعبدون غير الله تعالى، ويقدّسون البقر والأصنام والأوثان، وبدلاً من أن تتوحّد جهود المسلمين لهدايتهم وإرشادهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى يُسلموا لربّ العالمين، نرى أن المسلمين اليوم وخصوصاً في الهند هم بحاجة إلى الهداية والتصحيح.

لهذا سيدي أرفع كتابي إليكم داعياً إيّاكم باسم الله الرحمن الرحيم وباسم رسوله الكريم وباسم الإسلام العظيم ولقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) أدعوكم أن تقفوا وقفة المسلم الشجاع الذي لا يخشى في الله لومة لائم ولا تأخذه العصبية ولا الطائفية إلى حيث يحب الشيطان وأولياءه.

أدعوكم لوقفة مخلصة وصريحة، فأنتم من الذين حمّلهم الله المسؤولية ما دمتم تتكلمون باسم الإسلام في تلك الربوع، فلا يرضى الله منكم أن تقفوا وقفة المتفرّج الراضي بما يقعُ هنا وهناك من مآسٍ يدفع ثمنها الأبرياء من المسلمين سنّة وشيعة، والله سائلكم يوم القيامة عن كل صغيرة وكبيرة ومحاسبكم عن كل شاردة وواردة لأنّه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم.

الصفحة 15

وما دمتم تتزعّمون علماء الهند فمسؤوليتكم عظمى لا شك فيها وكلمة منكم قد يكون فيها صلاح الأمّة في الهند كما قد يكون فيها هلاك الحرث والنسل فاتقوا الله يا أولي الألباب!.

وبما أن الله سبحانه أعطى للعلماء المرتبة الأولى بعد الملائكة فقال عز من قائل: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) . وإذا كان سبحانه يأمرنا جميعاً بقوله: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان) وإذا كان المفسّرون يذهبون إلى ضرورة إقامة العدل في الموازين المادّية ذات القيمة المحدودة، فما بالكم بإقامة العدل في القضايا العقائدية التي تتأرجح بين الحق والباطل وتتوقف عليها هداية البشرية ونجاة الإنسانية بأسرها.

قال الله تعالى: (وإذا حكمتم فاحكموا بالعدل) وقال أيضاً: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) .

وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «قل الحق ولو على نفسك، قل الحق ولو كان مُرّاً».

سيدي العزيز إلى كتاب الله أدعوكم، وإلى سنّة رسوله أدعوكم، فقولوها صريحة مُدوّية ولو كانت مرّة تكون لكم شهادة عند الله، بربّك هل الشيعة عندكم غير مسلمين.

هل تعتقدون حقّاً أنهم كفّار؟ هل أتباع أهل البيت النّبوي الذين يوحّدون الله ويعظّمونه أكثر من كل الفرق ـ لقولهم بتنزيهه عن المشابهة والمشاكلة والتجسيم. ويؤمنون برسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعظّمونه أكثر من كل الفرق ـ لقولهم بعصمته المطلقة حتى قبل البعثة، هل هؤلاء تحكمون بكفرهم؟؟

هل الذين يتولّون الله ورسوله والذين آمنوا، ويهوون هوى عترة النّبي

الصفحة 16
ويوالونهم، كما عرّفهم ابن منظور في لسان العرب في مادة شيعة، فهل تقولون أنتم بأنهم غير مسلمين؟؟

هل هؤلاء الشيعة الذين يُقيمون الصلاة كأفضل قيام، ويؤتون الزكاة ويزيدون عليها خمس أموالهم طاعة لله ولرسوله ويصومون رمضان وغيره من الأيام ويحجون البيت ويعظمون شعائر الله ويحترمون أولياء الله ويتبرؤون من أعداء الله وأعداء الإسلام، هل هؤلاء عندكم مشركون؟؟

هل الذين يقولون بإمامة اثني عشر إماماً من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وقد نصّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم وغيرهما من صحاح أهل السنّة، هل هؤلاء عندكم مارقين عن الإسلام؟؟

هل كان المسلمون يوماً يجهلون الإمامة ولا يقرّون بها سواء كان ذلك في حياة الرسول أو بعد وفاته حتى نلصق نظرية الإمامة ومبادئها بالفرس والمجوس؟

وهل تقولون فعلاً بكفر من لا يعترف بإمامة يزيد بن معاوية الذي عرف فسقه الخاص والعام من المسلمين، ويكفي يزيد خسّة وسقوطاً ما أجمع عليه المسلمون من إباحته المدينة المنورة لجيشه وجنده يفعلون فيها ما يشاؤون لأخذ البيعة له بالقهر على أنهم له عبيد، فقتلوا عشرة آلاف من خيرة الصحابة والتابعين وهتكوا فيها أعراض المحصنات من النساء والفتيات المسلمات حتّى ولدن من سفاح ما لا يُحصي عدده إلا الله. ويكفيه عاراً وشناراً وخزياً مدى الدهر قتله سيد شباب أهل الجنّة وسبيه بنات الرسول، وضربه ثنايا الحسين بقضيبه وتمثله بالأبيات المعروفة:

ليت أشياخي ببدر شهدوا إلى قوله لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحي نزل».

وهو صريح بأنه لا يؤمن بنبوّة محمد ولا بالقرآن الكريم، فهل حقّاً

الصفحة 17
توافقون على تكفير من تبرّأ من يزيد وأبيه معاوية الذي كان يلعن عليّاً ويأمر بلعنه بل ويقتلُ كلّ من امتنع عن ذلك من خيرة الصحابة كما فعل مع حجر بن عدي الكندي وأصحابه، وسنّها سنة متبعة دامت سبعون عاماً، وهو يعلم قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم «من سبّ علياً فقد سبني ومن سبني فقد سبّ الله». كما أخرج ذلك صحاح أهل السنّة. إضافة إلى ما قام به من أعمال تتنافى مع الإسلام، وقتله الأبرياء والصلحاء من أجل أخذ البيعة لابنه يزيد بالقهر والقوّة، وقتله الحسين بن علي عن طريق جعدة بنت الأشعث، إلى جرائم أخرى كثيرة يذكرها له التاريخ عند أهل السنة كما يشهد له بها شيعة علي.

فما أظنكم سيدي توافقون على كل ذلك، وإلا فعلى الإسلام السّلام، وعلى الدنيا العفا. وعندها لا يبقى بعد ذلك مقاييس ولا عقل ولا شرع ولا منطق ولا دليل.

والله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا وكونوا مع الصادقين) . ولقد صدق والله عالم الباكستان المغفور له أبو الأعلى المودودي رحمه الله عندما ذكر في كتابه المسمّى بـ«الخلافة والملك» في صفحة 106 نقلاً عن الحسن البصري قوله:

أربع خصال كنّ في معاوية لو لم تكن له إلا واحدة لكانت موبقة له:

1 ـ أخذه الأمر من غير مشورة المسلمين وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة.

2 ـ استخلافه بعده ابنه السكير الخمير الذي يلبس الحرير ويضرب الطنابير.

3 ـ إدّعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

الصفحة 18

4 ـ قتله حجراً وأصحاب حجر فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر (أعادها ثلاثاً).

فرحم الله أبا الأعلى المودودي الذي صدع بالحقّ ولو شاء لزاد فوق هذه الخصال الأربع أربعين ولكنّه رحمه الله رأى أنّ في ذلك كفاية لتكون موبقة لمعاوية، والمعروف أنّ كلمة موبقة معناه (توبق في النار).

ولعلّ المودودي كان يراعي عواطف النّاس الذين تعلّموا من أسلافهم تقديس معاوية واحترامه والترضّي عليه بل وحتّى على ابنه يزيد أيضاً كما سمعت ذلك بنفسي من علمائكم في الهند فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولكل ذلك راعيتُ أنا أيضاً عواطف أولئك الذين دعوني ليستفزّوني، فلم أذكر لهم شيئاً من ذلك خوفاً على نفسي.

فأنا أهيب بكم سيدي أن تقفوا وقفة صريحة تبغون بها وجه الله تعالى فإن الله لا يستحي من الحقّ ولا أطلب منكم الاعتراف بمساوىء هؤلاء ولا بنشر فضائحهم فالتاريخ كفانا وإياكم مؤونة ذلك.

ولكن المطلوب منكم أن تعترفوا وتُعلّموا أتباعكم بأنّ الذين لا يعترفون بإمامة هؤلاء ولا يوالونهم، هم مسلمون حقيقيون جديرون بالاحترام وليس في ذلك شكّ. أن تقولوا بأنّ الشيعة مظلومون على مرّ التاريخ لأنّهم لم يتّبعوا ولم يعترفوا بإمامة الشجرة الملعونة التي ضربها الله مثلاً في القرآن.

فما هو ذنب الشيعة بربّكم، إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمر المسلمين باتّباع أهل بيته من بعده حتى جعلهم كسفينة نوح ينجو من يركب فيها ويهلك من يتخلّف عنها. وما ذنب الشيعة إذا امتثلوا لأمر الرسول بقوله «تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً» كما تشهد بذلك صحاح السنّة فضلاً عن كتب الشيعة.

الصفحة 19

وبدلاً من شكرهم وتقديمهم وتفضيلهم على غيرهم لامتثالهم أوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، نشتمهم ونكفّرهم ونتبرّأ منهم، فما هذا بإنصاف ولا هو معقول.

دعونا سيدي من أقوال التخريف والتزييف التي لم تعد تقوم على دليل وبرهان ولم تعد تنطلي على المثقفين من أبناء أمّتنا، من أن الشيعة لهم قرآن خاص بهم، أو أنهم يقولون بأن صاحب الرسالة هو علي، أو أنّ عبد الله بن سبأ اليهودي هو مؤسس التشيّع، إلى غير ذلك من الأقوال السخيفة المغرضة التي يشهد الله أنها من خيال أعداء الإسلام وأعداء أهل البيت وشيعتهم، والتي ما أوجدها إلا التعصّب الأعمى والجهل المقيت.

وأنا أسأل سيدي العزيز أين علماء الهند من علماء الأزهر الشريف الذين أفتوا بجواز التعبّد بمذهب الشيعة الإمامية منذ ثلاثين عاماً، ومن علماء الأزهر الأعلام من يرى بأن الفقه الجعفري الذي تعمل به الشيعة هو أشمل وأثرى وأقرب إلى روح الإسلام من المذاهب الإسلامية الأخرى التي هي عيالٌ عليه. وعلى رأس هؤلاء فضيلة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله الذي ترأس الأزهر في حياته فهل أمثال هؤلاء العلماء لا يعرفون الإسلام والمسلمين؟ أم أنّ علماء الهند أعلم منهم وأعرف؟ فما أظنّكم تقولون بذلك…!!

سيدي الكريم أملي فيكم وطيد وقلبي إليكم مفتوح بالمحبّة والشفقة والحنان، وقد كنتُ في ما مضى مثلكم محجوب عن الحقيقة وعن أهل البيت وشيعتهم، فهداني الله سبحانه إلى الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضّلال، وتحررتُ من قيود التعصب والتقليد الأعمى، وعرفتُ بأنّ أغلب المسلمين لا زالت تحجبهم الإشاعات والأباطيل وتصدّهم الدعايات عن الوصول إلى الحقيقة ليركبوا جميعاً في سفينة النجاة ويعتصموا بحبل الله المتين فليس هناك كما تعلمون بين السنّة والشيعة فرقٌ إلا فيما اختلفوا فيه بعد الرسول من أجل الخلافة، وأساس الفرقة هو اعتقادهم في الصحابة،

الصفحة 20
والصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيما بينهم حتّى لعنوا بعضهم بل وتحاربوا وقتل بعضهم بعضاً.

فإن يكن الإختلاف فيهم خروجاً عن الإسلام فالصحابة هم أولى بهذه التهمة والعياذ بالله. ولا أعتقد بأنكم ترضون بذلك والإنصاف يدعوكم أن لا ترضوا بإخراج الشيعة عن الإسلام وكما دأب الشيعة على تقديس أهل البيت واحترامهم كذلك دأب السنّة على احترام الصحابة وتقديسهم أجمعين وشتّان بين الموقفين، فإذا كان الشيعة في ذلك مُخطئين فأهل السنّة أولى بالخطأ، لأن الصحابة بأجمعهم يُقدّمون على أنفسهم أهل البيت ويصلّون عليهم كصلاتهم على النّبي ولم نعرف أحدً من الصحابة رضوان الله عليهم قدّم نفسه أو فضّلها على أهل بيت المصطفى في علم أو في عمل.

فالوقتُ قد حان لرفع المظلمة التاريخية عن شيعة أهل البيت والتقارب معهم والتآخي والتعاون على البرّ والتقوى ـ ويكفي هذه الأمة إراقة الدِّماء وإثارة الفتن.

فعسى الله سبحانه يجمع بكم الكلمة ويلمّ بكم الشتّات ويرتق بكم الفتق ويُداوي بكم هذه الجراح ويُخمدَ بكم نار الفتنة ويُخزي بكم الشيطان وحزبه فتكونون عند الله من الفائزين خصوصاً وأنّكم من سلالة العترة الطاهرة على ما أسمع، فاعملوا على أن تُحشروا معهم (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون) . (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وفّقكم الله وإيانا لما فيه خير البلاد والعباد وجعلكم الله وإيانا من العاملين المخلصين لوجهه الكريم.

أبعث لسيادتكم وبصحبة هذه الرسالة نسخة من كتاب «ثم اهتديت» الذي ألّفتُه بخصوص هذا الموضوع هدية منّي إليكم عسى أن يجدَ لديكم القبول.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
المخلص محمد التيجاني السماوي التونسي


الصفحة 21

فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون(1)

إنّ هذه الآية الكريمة تأمر المسلمين بالرّجوع إلى أهل الذكر في كلّ ما أشكل عليهم حتّى يعرفوا وجه الصواب لأن الله رشّحهم لذلك بعدما علّمهم، فهم الرّاسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن.

وقد نزلت هذه الآية لتعرّف بأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وذلك في عهد النُبوة، أمّا بعد النّبي وحتّى قيام السّاعة فهم هؤلاء الخمسة المذكورين أصحاب الكساء يضاف إليهم الأئمّة التسعة من ذرية الحسين الذين عيّنهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عدة مناسبات وسمّاهم أئمّة الهدى ومصابيح الدّجى وأهل الذكر، والراسخون في العلم الذين أورثهم الله سبحانه علم الكتاب.

وهذه الروايات ثابتة صحيحة ومتواترة عند الشيعة منذ عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد أخرجها بعض علماء أهل السنّة ومفسّروهم معترفين بنزولها في أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام. أذكر من هؤلاء على سبيل المثال:

1 ـ الإمام الثعلبي في تفسيره الكبير في معنى هذه الآية من سورة النّحل.

____________

(1) سورة النحل آية 43. وسورة الأنبياء آية 7.

الصفحة 22

2 ـ تفسير القرآن لابن كثير في جزئه الثاني الصفحة 570.

3 ـ تفسير الطبري في جزئه الرابع عشر الصفحة 109.

4 ـ تفسير الألوسي المسمّى روح المعاني في جزئه الرابع عشر الصفحة 134.

5 ـ تفسير القرطبي في جزئه الحادي عشر الصفحة 272.

6 ـ تفسير الحاكم المسمّى شواهد التنزيل في جزئه الأول الصفحة 334.

7 ـ تفسير التستري المسمّى إحقاق الحق في جزئه الثالث الصفحة 482.

8 ـ ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي الصفحة 51 و140.

ولمّا كان أهل الذكر في ظاهر الآية هم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى كان لزاماً علينا أن نوضّح بأنّهم ليسوا المقصودين من الآية الكريمة.

أولاً: لأن القرآن الكريم ذكر في العديد من الآيات بأنهم حرّفوا كلام الله وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً وشهد بكذبهم وتقليبهم الحقائق فلا يمكن والحال هذه أن يأمر المسلمين بأن يرجعوا إليهم في المسائل التي لا يعلمونها.

ثانياً: روى البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات باب لا يسأل أهل الشرك من الجزء الثالث صفحة 163.

عن أبي هريرة: قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تصدّقوا أهلَ الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل»… الآية.

وهو يفيد عدم الرجوع إليهم في المسألة وتركهم وإهمالهم، لأنّ عدم

الصفحة 23
التصديق وعدم التكذيب ينفيان الغرض وهو السؤال الذي ينتظر الجواب الصحيح.

ثالثاً: روى البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: (كل يوم هو في شأن) من جزئه الثامن صفحة 208.

عن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم أحدث الأخبار بالله محضاً لم يُشبْ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيّروا فكتبوا بأيديهم قالوا هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمناً قليلاً أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم. فلا والله ما رأينا رجُلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم.

رابعاً: لو سألنا أهل الكتاب من النّصارى اليوم فإنهم يدّعون بأن عيسى هو إله واليهود يكذّبونهم ولا يعترفون به حتى نبيّاً. وكلاهما يكذّب بالإسلام ونبيّ الإسلام ويقولون عنه كذّاب ودجّال ـ لكل هذا لا يمكنُ أن يَفهم من الآية بأنّ الله أمرنا بمسألتهم ولمّا كان أهل الذكر في ظاهر الآية هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. فإنّ هذا لا ينفي أنّها نازلة في أهل بيت النبوّة كما ثبت عند الشيعة والسنّة من طرق صحيحة وبذلك يُفهم منها أن الله سبحانه وتعالى أورث علم الكتاب الذي ما فرّط فيه من شيء إلى هؤلاء الأئمة الذين اصطفاهم من عباده ليرجع إليهم النّاس في التفسير والتأويل وبذلك تّضمن هدايتهم ـ إذا ما أطاعوا الله ورسوله.

ولأن الله سبحانه وجلّتْ حكمته أراد أن يُخضِع النّاس عامّة إلى نخبةٍ منهم اصطفاهم وعلّمهم على الكتاب لكي تسهل القيادة وتنتظم أحوال النّاس بذلك، فلو غاب هؤلاء عن حياة النّاس لأصبح المجال مفتوحاً أمام المُدَّعين والجاهلين ولَرَكِبَ كلّ واحد هَوَاهُ واضطربت أمور النّاس ما دام كل واحد يمكنُه ادّعاء الأعلمية.

الصفحة 24

ولأُبَرْهِنَ على الرأي بعد اقتناعي بأنّ أهل البيت هم أهل الذكر ـ فسأوردُ بعض الأسئلة التي ليس لها جواب عند أهل السنّة والجماعة، أو أن لها جواباً ولكن متكلّف لا يستند إلى حجّة يقبلها الباحث المحقق. أمّا جوابُها الحقيقي فهو عند هؤلاء الأئمة الأطهار الذين ملأوا الدنيا علماً ومعرفةً، وعملاً وصلاحاً.

الصفحة 25

الفصل الأول
فيما يتعلّق بالخَالِق جلّ جلاله

السّؤال الأوّل: حول رؤية الله سبحانه وتجسيمه:

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: (لا تدركه الأبصار) [الأنعام: 103]. (وليس كمثله شيء) [الشورى: 11] ويقو لموسى لمّا طلب رؤيته، (لن تراني) [الأعراف: 143].

فكيف تقبلُون بالأحاديث المرويّة في صحيح البخاري وصحيح مسلم بأنّ الله سبحانه يتجلّى لخلقه ويَروْنَه كما يرون القمر ليلة البدر(1) ، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا في كلّ ليلة(2) ويضع قدمه في النار فتمتلىء(3) وأنّه يكشف عن ساقه لكي يعرفهُ المؤمنون(4) وأنه يضحك ويتعجّب، وإلى غير ذلك من الرّوايات التي تجعل من الله جسماً متحركاً ومتحولاً، له يدان ورجلان وله أصابع خمسة يضع على الأول منها السماوات وعلى الإصبع الثاني الأرضين، والشجر على الإصبع الثالث وعلى الرابع يضع الماء

____________

(1) صحيح البخاري: 7/205. صحيح مسلم: 1/112.

(2) صحيح البخاري: 2/47.

(3) صحيح البخاري: 8/178 و187.

(4) صحيح البخاري: 8/182. صحيح مسلم: 1/115.

الصفحة 26
والثرى ويضع بقية الخلائق على الإصبع الخامس(1) وله دار يسكُن فيها ومحمدٌ يستأذن للدخول عليه في داره ثلاث مرات(2) . تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً ـ سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون.

والجواب على هذا عند أئمة الهُدى ومصابيح الدّجى هو التنزيه الكامل لله سبحانه وتعالى عن المجانسة والمشاكلة والتصوير والتجسيم والتشبيه والتحديد.

يقول الإمام علي عليه السلام في ذلك:

«الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يُحصي نعماءهُ العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا ينالُه غوصُ الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود ولا نعت موجود ولا وقتٌ معدود ولا أجل ممدُودُ…

فمن وصف الله سبحانه فقد قرنَهُ، ومن قرنَهُ فقدْ ثنّاهُ ومن ثنَّاهُ فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهلُه، ومن جهلَهُ فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حَدَّهُ، ومن حدّهُ فقد عَدَّهُ، ومن قَال فِيمَ فقدْ ضمَّنه، ومن قال علامَ فقد أخلَى منه كائنٌ لاَ عن حَدَثٍ، موجودٌ لا عن عَدَمٍ، مع كل شيء لا بمُقارنةٍ وغيرٌ كل شيءٍ لا بمزايلةٍ، فاعِلٌ لا بمعنى الحركات والآلةِ بصيرٌ إذْ لا منظور إليه من خلقِهِ(3) .

وإنّي ألفِتُ نظر الباحثين من الشباب المثقفين إلى الكنوز التي تركها الإمام علي عليه السلام والتي جُمعتْ في نهج البلاغة ذلك السفر القيّم الذي لا يتقدّمه إلاّ القرآن والذي بقي مع الأسف مجهولاً لدى أغلبية النّاس نتيجة الإعلام والإرهاب والحصار المضروب من قبل الأمويين والعبّاسيين

____________

(1) صحيح البخاري: 6/33.

(2) صحيح البخاري: 8/183. صحيح مسلم: 1/124.

(3) نهج البلاغة للإمام علي: شرح محمد عبده ج1 الخطبة الاولى.

الصفحة 27
على كل ما يتّصل بعلي بن أبي طالب.

ولستُ مبالغاً إذا قلتُ بأن في نهج البلاغة كثيراً من العلوم والنصائح التي يحتاجها النّاس على مرّ العصور، وفي نهج البلاغة علم الأخلاق وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وإشارات قيمة في علم الفضاء والتكنولوجيا إضافة إلى الفلسفة والسّلوك والسياسة والحكمة.

وقد اثبتُ ذلك شخصياً في الأطروحة التي قدمتها إلى جامعة السربون والتي نُوقِشتْ على مواضيع أربعة اخترتها من نهج البلاغة وحصلتُ من خلالها على شهادة الدكتوراه. فيا ليتَ المسلمين يولون نهج البلاغة عناية خاصّة فيبحثون فيه كلّ الأطروحات وكل النّظريات فهو بحر عميق كلّما غاص فيه الباحث استخرج منه اللؤلؤ والمرجان. تعليق:

هناك فرق واضح بين العقيدتين:

عقيدة أهل السنة والجماعة التي تقول بالتجسيم وتجعل من الله سبحانه وتعالى جسماً وشكلاً يُرى وتصوره وكأنّه إنسان فهو يمشي وينزل ويحوي جسمه دارٌ إلى غير ذلك من الأشياء المنكرة، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وعقيدة الشيعة الذين ينزّهون الله عن المشاكلة والمجانسة والتجسيم ويقولون باستحالة رؤيته في الدنيا وفي الآخرة وأعتقد شخصيّاً بأنّ الروايات التي يحتج بها أهل السنة والجماعة كلها من دسّ اليهود في زمن الصحابة لأن كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم في عهد عمر بن الخطّاب هو الذي أدخل هذه المعتقدات التي يقول بها اليهود، عن طريق بعض البسطاء من الصحابة أمثال أبي هريرة ووهب بن منبّه فأغلب هذه الروايات مروية في البخاري ومسلم عن أبي هريرة وقد تقدم في بحث سابق كيف أنّ أبا هريرة

الصفحة 28
لا يفرق بين أحاديث النّبي وأحاديث كعب الأحبار حتّى ضربه عمر بن الخطاب ومنعه من الرواية في قضية خلق الله السماوات والأرض في سبعة أيام.

وما دام أهل السنة والجماعة يثقون في البخاري ومسلم ويجعلون منهما أصحّ الكتب وما دام هؤلاء يعتمدون على أبي هريرة حتى أصبح عمدة المحدّثين وأصبح عند أهل السنة راوية الإسلام فلا يمكن والحال هذه أن يغيّر أهل السنّة والجماعة عقيدتهم إلاّ إذا تحرّروا من التقليد الأعمى، ورجعوا إلى أئمة الهدى وعترة المصطفى وباب مدينة العلم الذي منه يُؤتى.

وهذه الدعوى لا تختصّ بالكبار والشيوخ ولكن الشباب المثقف من أهل السنّة والجماعة كذلك ومن واجبه أن يتحرّر من التقليد الأعمى ويتّبع الحجة والدليل والبرهان. السؤال الثاني: حول العدل الإلهي والجبر

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: (وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 23]. (لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرشد من الغي) [البقرة: 256]. (فمن يعملْ مثقال ذرة خيراً يَرَهُ ومنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره) [الزلزلة: 8]. (إنما أنت مذكّر لست عليهم بمصُيطر) [الغاشية: 22]. فكيف تقبلون بالأحاديث المروية في صحيح البخاري وصحيح مسلم بأنّ الله سبحانه قدّر على عباده أفعالهم قبل أن يخلقهم فقد روى البخاري في صحيحه(1) قال: أحتجَّ آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم أنت أبونَا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة. قال له آدمُ: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخطّ لك بيده أتلومني على أمرٍ قدّرَهُ الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنةٍ فحجَّ آدمُ موسى ثلاثاً…

____________

(1) صحيح البخاري: 7/214 كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى. صحيح مسلم: 8/49.

الصفحة 29

كما روى مسلم في صحيحه(1) قال: إنّ أحدكم يُجمَعُ خَلْقُهُ في بطن أمّهِ أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك ثم يكون في ذلك مُضغة مثل ذلك ثم يُرسل الملكُ فينفُخُ فيه الرّوح ويُؤْمَرُ بأربع كلماتٍ بِكَتْبِ رِزِقِهِ وأجلهِ وعَملِهِ وشقيٌ أو سًعِيدٌ فوالذي لا إله غيرهُ إنّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينُه وبينها إلاّ ذراع فيسبقُ عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وأن أحكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل الجنة فيدخلُها.

كما روى مسلم في صحيحه(2) عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: دُعي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى جنازة صبيٍّ من الأنصار فقلتُ يا رسول الله طوبى لهذا عصفورٌ من عصافير الجنّة لَمْ يعمل السّوء ولم يدركْهُ، قال: أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنّة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنّارٍ أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.

وروى البخاري في صحيحه(3) قال رجلٌ: يا رسول الله أيُعرفُ أهل الجنة من أهل النّار؟ قال: نعم. قال: فلم يعمَلُ العاملون؟ قال: كلٌّ يعملُ لما خُلقَ له أو لما يُسيَّر لَهُ.

سبحانك ربّنا وبحمدك تباركت وتعاليتَ عن هذا الظلم علوَّاً كبيراً ـ فكيف نصدّق بهذه الأحاديث المناقضة لكتابك العزيز الذي قُلت فيه وقولك الحقّ:

(إن الله لا يظلم النّاس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) [يونس: 44]. (إن الله لا يظلم مثقال ذرّة) [النساء: 40] (ولا يظلم ربّك أحداً) [الكهف: 49]. (وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) [آل عمران: 117].

____________

(1) صحيح مسلم: 8/44 كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه. صحيح البخاري: 7/210.

(2) صحيح مسلم: 8/55 كتاب القدر باب كل مولود يولد على الفطرة.

(3) صحيح البخاري: 7/210 كتاب القدر باب جفّ القلم على علم الله.

الصفحة 30
(فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [التوبة: 70 ـ العنكبوت: 40 ـ الروم: 9] (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) [الزخرف: 76]. (ذلك بما قدّمت أيديكم وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد) [الأنفال: 51] (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلام للعبيد) [فصلت: 46]. وكما قال في حديث قدسي «يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا» فكيف يصدق مسلم آمن بالله وبعدالته ورحمته أنّ الله سبحانه خلق الخلق وحكم على بعضهم بالجنة وعلى الآخرين بالنار حسب اختياره هو، وقدّر لهم أعمالهم فكلّ ميسّرٌ لما خُلِقَ له. على حسب هذه الروايات المعارضة للقرآن الكريم، وللفطرة التي فطر الله الناس عليها، وللعقل والوجدان ولأبسط حقوق الإنسان؟

كيف نؤمن بهذا الدّين يحجّر العقول على أنّ هذا الإنسان هو دمية تُحرِّكُها أَيْدي القدر كيف شاءت لتُلقي بها بعد ذلك في التنّور ـ هذا الاعتقاد الذي يمنع العقول من الخلق والابتكار والإبداع والتطوّر والمنافسة التي تأتي بالأعاجيب ويبقى الإنسان جامداً راضٍ بما هو فيه وبما عنده بدعوى أنه ميسّر لما خُلقَ لَهُ.

كيف نقبلُ هذه الرّوايات التي تصادمُ العقول السليمة وتصور لنا بأن الله سبحانه هو خالقُ جبّارٌ قويٌ قاهرٌ وله أن يخلق عباده الضعفاء ليزجُّ بهم في نار جهنم لا لشيء إلاّ لأنّه يفعل ما يشاء، وهل يسمّي العقلاء هذا الإله حكيماً أو رحيماً أو عادلاً؟

كيف لو تَحدّثنا مع المثقّفين والعلماء من غير المسلمين وعَرفُوا بأنّ رَبّنا على هذه الصّفات وأنَّ دِينّنَا قد حكم على النّاس قبل ولاداتهم بالشقاء، فهل سيقبلون الإسلام ويدخلون في دين الله أفواجاً؟؟

سبحانك إنّ هذا زورٌ من القول ركَّزَهُ الأمويّون وروّجوا له لحاجة في نفس يعقوب، والباحث يعرف سرّ ذلك. وهو زورٌ من القول لأنه يعارض

الصفحة 31
كلامك، وحاش رسولك أنّ يتقوّل عليك بما يُناقضُ وَحْيُك الذي أوحيتَ إليه. وقد ثبت أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا جاءكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافق الكتاب فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار».

وكل هذه الأحاديث وأمثالها كثيرة تعارض كتاب الله وتعارض العقل فليضرب بها عرض الجدار ولا يُلتفتُ إليها وإن كان أخرجها البخاري ومسلم فما كان معصوميْن عن الخطأ. ويكفينا دليلاً واحداً للردّ على هذا الأدّعاء الباطل، هو بعثة الأنبياء والمرسلين من قبل الله إلى خلقه، وعلى طول التاريخ البشري ليُصلحوا مفاسد العباد ويوضّحوا لهم الصراط المستقيم ويعلّموهم الكتاب والحكمة ويبشّروهم بالجنّة إن كانوا صالحين وينذروهم من عذاب الله في النّار إن كانوا مُفسدين.

ومن عدالة الله سبحانه في خلقه ورحمته بهم أنّه لا يعذّب إلا من بعث إليه رسولاً وأقام عليه الحجّة قال تعالى: (من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلُّ عليها ولا تَزِر وازرة وزر أخرى وما كُنّا مُعذِّبين حتّى نبعث رسولاً) [الإسراء: 15].

فإذا كانت هذه الروايات التي أخرجها البخاري ومسلم والتي تقول بان الله كتب على عباده أعمالهم قبل أن يخلُقهم وحكم على البعض منهم الجنّة وعلى البعض بالنّار، كما قدّمنا سابقاً وكما يؤمنُ بذلك أهل السنّة والجماعة. أقول إن كان هذا صحيح، فإن إرسال الرّسل وإنزال الكتب يصبح ضرباً من العبث! ـ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ـ وما قدروا الله حق قدره ـ فما يكون لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.

(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وما الله يريد ظلماً للعالمين) [آل عمران: 108]. والجواب على هذا عند أئمة الهدى ومصابيح الدّجى ومنار الأمّة، هو تنزيه الله سبحانه عن الظلم والعبث.

الصفحة 32

فلنستمع إلى باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يشرح للنّاس هذا الاعتقاد الذي بقي لغزاً عند بعض المسلمين الذين تركوا الباب يقول عليه السلام (لمّا سأله أحد أصحابه: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره؟):

«ويحك لعلّلك ظنَنْتَ قضاءً لازماً وقدراً حاتماً، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. إنّ الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهُم تحذيراً، وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يُرسل الأنبياء لعباً، ولم يُنزل الكُتبَ للعباد عَبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، «ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار»(1) . صدق الإمام عليه السلام فويلٌ للذين يُنسبون العبث والظلم لله من عذاب أليم.

والجدير بالذكر والحقُّ يقال بأنّ أهل السنّة والجماعة ينزّهون الله عن العبثِ والظلم فإذا ما سألت أحدهم فسوف لن يُنسب الظلم لجلال الله سبحانه، ولكنّه سوف يجد نفسه متحرّجاً لرفض أحاديث أخرجها البخاري ومسلم ويعتقد ضمنيّاً أنّها صحيحة، ولذلك تراه عندما تجادله بالمنطق المعقول، يدّعي بأنّ ذلك لا يُسمّى ظلماً عند الله إذ أنّه الخالق، وللخالق أن يفعل في مخلوقاته ما يشاء! فهو لا يسأل عمّا يفعل وهم يُسألون وعندما تسأله: كيف يحكم الله على عبدٍ بالنار قبل خلقه لأنّه كتب عليه الشقاء، ويحكم على آخر بالجنّة قبل خلقه لأنه كتب عليه السعادة؟ أليس في ذلك ظلم للأثنين؟ لأن الّذي يدخل الجنّة لا يدخلها بعمله وإنّما باختيار الله له، وكذلك الّذي يدخل النار لا يدخلها بما اقترفه من ذنوبه وإنّما بما قدّره الله عليه. أليس في ذلك ظلم، وهو يناقض القرآن؟ فسيجيبك «بأن الله فعّالٌ لما يريد». فلا تفهم من موقفه المتناقض شيئاً، وهذا بديهي إذا أنه يُنزل

____________

(1) نهج البلاغة شرح محمد عبده: 673 ـ 674 من الجزء الرابع.

الصفحة 33
البخاري ومسلم بمنزلة القرآن ويقول أصحّ الكتب بعد كتاب الله البخاري ومسلم. وفي البخاري ومسلم عجائب وغرائبٌ ومصائبٌ ابتُلي بها المسلمون وقد نجح الأمويون ومن بعدهم العبّاسيون نجاحاً كبيراً في بثّ بدعهم وعقائدهم التي تتماشى وسياستهم العقيمة وبقيتْ آثارهم حتى اليوم إذ يعتبرها المسلمون أعزّ وأعظم تراث لأنّه جمع الأحاديث النبويّة الصحيحة على حدّ زعمهم ولو يعلم المسلمون مقدار ما كذّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أجل أغراضهم السّياسية لما صدّقوا بتلك الأحاديث وخصوصاً منها المتناقض مع كتاب الله.

ولأن القرآن الكريم تكفّل الله بحفظه ولأنّه كان محفوظاً عند الصحابة وكانوا يعرضونه على النّبي لذلك لم يتمكّنوا من تحريفه وتبديله فعمدوا إلى السنّة المطهّرة فوضعوا ما شاؤوا لمن شاؤوا، وبما أنّهم كانوا أعداءاً لأهل البيت حفظة القرآن والسنّة، اختلفوا لكل حادثة حديث نسبوه للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وموّهوا على المسلمين بأن هذه الأحاديث هي أصحّ من غيرها فقبلها النّاس على حسن نيّة وهم يتداولونها بالوراثة جيلاً بعد جيل. وللإنصاف أقول بأنّ الشيعة هم الآخرون ضحية الدس والتمويه في كثير من الأحاديث التي تُنسب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لأحد الأئمة الأطهار سلام الله عليهم. فهذا الدس والتمويه لم يسلم منه المسلمون سنة وشيعة على مرّ التاريخ ولكن الشيعة يمتازون على أهل السنّة والجماعة بثلاثة أشياء ميّزتهم على غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى وأبرزت عقائدهم سليمة ومتّفقة مع القرآن والسنّة والعقل، وهذه الأشياء الثلاثة هي:

أولاً: انقطاعهم لأهل البيت النّبوي فهم لا يقدّمونه عليهم أحداً وكلّنا يعلم من هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

ثانياً: عدد أئمة أهل البيت وهو اثني عشر إماماً امتدتْ حياتهم

الصفحة 34
وآثارهم طوال ثلاثة قرون. وقد وافق بعضهم بعضاً في كل الأحكام والأحاديث ولم يختلفوا في شيء ممّا جعل شيعتهم وأتباعهم متعلّمين في كل مجالات العلم والمعرفة بوضوح وبدون تناقض في العقائد أو في غيرها.

ثالثا: اعترافهم وإقرارهم بأنّ ما لديهم من الكتب يحتملُ الخطأ والصّواب وليس عندهم كتاب صحيح إلا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويكفيك أن تعرف مثلاً أن أعظم كتاب عندهم وهو «أصول الكافي» يقولون بأنّ فيه آلاف الأحاديث المكذوبة، ولذلك تجد علماءهم ومجتهديهم دائبين على البحث والتنقيب فلا يأخذون منه إلا الثّابت بالمتن والسند وما لا يتعارض مع القرآن والعقل.

أمّا أهل السنة والجماعة فقد ألزموا أنفسهم بكتب سمّوها الصحّاح الستّة باعتبار أن كل ما فيها صحيح وأغلبهم يتناقلون هذا الرأي بالوراثة بدون بحث ولا تمحيص، وإلا فإنّ كثيراً من الأحاديث التي رُويتْ في هذه الكتب لا تقوم على دليل علمي وفيها الكفر الصريح وبما يتناقض والقرآن وأخلاق الرسول أفعاله والحطّ من كرامته ويكفي الباحث أن يقرأ كتاب الشيخ المصري محمود أبو رية «أضواء على السنّة المحمدية» ليعرف ما هي قيمة الصحاح الستّة والحمد لله أنّ كثيراً من الشباب الباحث اليوم تحرّر من تلك القيود وأصبح يُفرّق بين الغث والسمين، بل حتّى الشيوخ المتعصّبين للصحّاح أصبح الكثير منهم اليوم يُنكرها لا لأنّه ثبت لديه ضعف بعض الأحاديث فيها ولكن لأنّه وجد فيها حجّة الشيعة التي يقولون بها سواء في الأحكام الفقهية أو في العقائد الغيبيّة، فما من حُكم أو عقيدة يقول بها الشيعة إلاّ ولها وجودٌ فعلي في أحد الصحاح الستّ لدى أهل السنة والجماعة.

وبالمقابل قال لي بعض المتعصّبين ما دُمتم تعتقدون بأنّ أحاديث