وكم في كتب الصحاح أمثال هذه الروايات المخزية التي لا يقصد منها إلاّ انتقاص نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلم، كالروايات التي تقول بأنّ الرسول سُحر حتّى لا يدري ما يفعل وما يقول وحتى يخيّل له أنه يأتي نساءه ولا يأتيهنّ(1) وكالروايات التي تقول بأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصبح في رمضان جنباً(2) وأنه ينام حتى يغطّ في نومه ثم يقوم فيصلّي بغير وضوء(3) .
ويسهو في صلاته فلا يدري كم ركعة صلّى(4) ولا يدري رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما هو مصيره يوم القيامة وما يفعل به(5) وأنه يبول قائماً والصحابي يبتعد عنه فيناديه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ليقترب منه حتى يفرغ من بوله(6) .
نعم لقد بلغ من تدليل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زوجته عائشة بنت أبي بكر أنه يحبس نفسه ويحبس المسلمين معه ليبحثوا عن عقد ضاع من عائشة وليس معهم ماء حتّى أن الناس يشتكون من عائشة لأبي بكر فيأتي أبوها يوبّخها ويلومها كل ذلك ورسول الله مشغول بالنوم في حجر زوجته. وإليك الرواية بالتفصيل!
أخرج البخاري في صحيحه في باب التيمم ومسلم في صحيحه في باب التيمم أيضاً عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض أسفاره حتّى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما
____________
(1) البخاري: 4/68 وج7/29.
(2) البخاري: 2/232 وصفحة 234.
(3) البخاري: 1/ 44 و171.
(4) البخاري: 1/123 وج 2/65.
(5) البخاري: 2/71.
(6) صحيح مسلم: 2/157 في باب المسح على الخفين.
فهل يصدق مؤمن عرف الإسلام بأن رسول الله يتهاون في أمر الصلاة إلى هذه الدرجة ويحبس المسلمين وهم على غير ماء وليس عندهم ماء كل ذلك من أجل البحث على عقد زوجته الذي ضاع منها. ثم يترك المسلمين يتحسّرون على الصلاة ويشتكون إلى أبي بكر، وهو يذهب فينام على فخذ زوجته ثم يستغرق في نوم لا يشعر معه بدخول أبي بكر وتوبيخه عائشة وطعنها في خاصرتها، وكيف يجوز لهذا الرسول أن يترك النّاس يموجون من أجل الماء واقتراب وقت الصلاة وينام هو في حجر زوجته.
ولا شك بأن هذه الرواية وضعت في زمن معاوية بن أبي سفيان ولا أساس لها، وإلاّ كيف نفسّر حادثة مثل هذه حضرها كل الصحابة وتغيب عن عمر بن الخطاب فلا يعرفها عندما يسئل عن التيمّم كما أخرج ذلك البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب التيمّم.
والمهم في كل هذه الأبحاث هو أن نعرف بأنّ المؤامرة ضد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانت مؤامرة خسيسة ودنيئة تعمل على الانتقاص من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحط من قيمته إلى درجة أن
____________
(1) صحيح البخاري: 1/86. وصحيح مسلم: 1/191.
وقد بدات المؤامرة حسب اعتقادي بعد حجة الوداع وبعد تنصيب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للإمام علي كخليفة له يوم غدير خم وبذلك عرف الطّامعون في الرئاسة أن ليس أمامهم إلاّ المعارضة والتمرّد على هذا النّص كلّفهم ذلك ما كلّفهم ولو أدّى إلى الانقلاب على الأعقاب. وبذلك يستقيم تفسير الأحداث التي بدأت بمعارضة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل أوامره من كتابة الكتاب إلى تأمير أسامة إلى عدم الذهاب في الجيش الذي عبأه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بنفسه، وكذلك الأحداث التي أعقبت وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم من حمل الناس على البيعة بالقوة وتهديد المتخلفين بالحرق وفيهم علي وفاطمة والحسنين، إلى منع الناس من نقل أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحرق الكتب التي فيها سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحبس الصحابة لئلا يتحدثوا بأحاديث النبي، إلى قتل الصحابة الذين امتنعوا عن أداء الزكاة لأبي بكر لأنه ليس هو الخليفة الذي بايعوه على عهد نبيّهم، إلى اغتصاب حق فاطمة الزهراء من فدك والإرث وسهم الخمس وتكذيبها في دعواها، إلى إبعاد الإمام علي عليه السلام عن كل مسؤولية وتولية الفسّاق والمنافقين من بني أمية على رقاب المسلمين إلى منع الصحابة من التبرّك بآثار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومحاولة محو اسمه من الأذان إلى إباحة مدينته المنورة للجيش الكافر يفعل فيها ما يشاء إلى ضرب البيت الحرام بالمنجنيق وحرقه وقتل الصحابة في داخله ـ إلى قتل عترة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وسبّهم ولعنهم وحمل الناس على ذلك ـ إلى قتل وتشريد من يحبّ أهل البيت ويتشيع لهم، إلى أن أصبح دين الله لعباً وهزؤاً والقرآن يُمزق ويُعبث به.
والمؤامرة ما زالت حتى اليوم وآثارُها ومفعولها يسري في الأمة الإسلامية وما دام هناك في المسلمين من يترضّى عن معاوية ويزيد ويبّرر
وأنا لست بقادر على كشفها كلها أو الإحاطة بكل تفاصيلها وجوانبها ولكني أحاول بجهدي المتواضع أن أُنزّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الروايات المخزية التي ألصقت بحضرته وأدافع عنه وعن عصمته، وأحاول إقناع المسلمين المثقّفين والمتحرّرين بأنّ هذا الرسول الذي أرسله الله لهداية البشرية جميعاً وجعله قمراً وسراجاً مُنيراً هو أجلّ وأعظم وأسمى وأظهر وأنقى وأكمل إنسان خلقه الله تعالى فلا يمكن لنا أن نسكت على مثل هذه الروايات التي لم يقصد من ورائها إلا النّيل من كرامته والحطّ من قيمته.
فلا ولن نرضى بهذه الروايات ولو اتّفق عليها أهل السنة والجماعة وأخرجوها في صحاحهم ومسانيدهم، لا بل ولو اتفق عليها أهل الأرض كافّة. فقوله سبحانه وتعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) هو القول الفصل والحكم الأصل وليس بعده إلا الأباطيل والأوهام.
وهذا هو قول الشيعة في سيد الأنام ومنقذ البشرية من العمى والضلال وقائدها إلى الأمن والسّلام فاعتبروا يا أولى الألباب!.
قول أهل الذكر في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
يقول الإمام علي: حتّى أفضتْ كرامة الله سبحانه إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً وأعزّ الأرومات مغرساً. من الشجرة التي صدع منها أنبياءه وانتخب منها أمناءه، عترته خير العتر وأسرتُه خير الأسر وشجرته خير الشجر نبتت في حرم وبسقت في كرم، لها فروع طوالٌ وثمرة لا تنال فهو إمام من أتّقى وبصيرة من أهتدى، سراج لمع ضوءه
أرسله بالضياء وقدّمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق وساور به المغالب وذلَّل به الصعوبة وسهّل به الحزونة حتى سرّح الضلال عن يمين وشمال.
الفصل الثالث
فيما يتعلّق بأهل البيت عليهم السلام
السؤال الثالث: من هم أهل البيت؟
يقول الله سبحانه وتعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [الأحزاب: 33].
يقول أهل السنة والجماعة بأن هذه الآية نزت في نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويستدلّون على ذلك بسياق ما قبلها وما بعدها من الآيات، وعلى حسب زعمهم فإنّ الله أذهب الرجس عن نساء النبي وطهّرهن تظهيراً.
ومنهم من يضيف إلى نساء النّبي علي وفاطمة والحسن والحسين، ولكنّ الواقع النقلي والعقلي والتاريخي يأبى هذا التفسير، لأن أهل السنة يروون في صحاحهم بأنّ الآية نزلت في خمسة وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين،وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي خصّهم ونفسه الشريفة بهذه الآية الكريمة عندما أدخل عليّاً وفاطمة والحسنين معه تحت الكساء. وقال: اللهم هؤلاء أهلي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وقد أخرج ذلك من علماء أهل السنة جمع غفير أذكر منهم:
1 ـ مسلم في صحيحه في باب فضائل أهل بيت النبي: 2/368.
2 ـ الترمذي في صحيحه: 5/30.
3 ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل: 1/330:
4 ـ مستدرك الحاكم: 2/123.
5 ـ خصائص الإمام النسائي: 49.
6 ـ تلخيص الذهبي: 2/150.
7 ـ معجم الطبراني: 1/65.
8 ـ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 2/11.
9 ـ البخاري في التاريخ الكبير: 1/69.
10 ـ الإصابة لابن حجر العسقلاني: 2/502.
11 ـ تذكرة الخواص لابن الجوزي: 233.
12 ـ تفسير الفخر الرازي: 2/700.
13 ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: 107.
14 مناقب الخوارزمي: 23.
15 ـ السيرة الحلبية: 3/212.
16 ـ السيرة الدحلانية: 3/329.
17 ـ أسد الغابة لابن الأثير: 2/12.
18 ـ تفسير الطبري: 22/6.
19 ـ الدر المنثور للسيوطي: 5/198.
20 ـ تاريخ ابن عساكر: 1/185.
21 ـ تفسير الكشاف للزمخشري: 1/193.
22 ـ أحكام القرآن لابن عربي: 2/166.
23 ـ تفسير القرطبي: 14/182.
24 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر: 85.
25 ـ الاستيعاب لابن عبد البر: 3/37.
26 ـ العقد الفريد لابن عبد ربه: 4/311.
27 ـ منتخب كنز العمال: 5/96.
28 ـ مصابيح السنة للبغوي: 2/278.
29 ـ أسباب النزول للواحدي: 203.
تفسير ابن كثير: 3/483.
وغير هؤلاء من علماء أهل السنة والجماعة كثيرون لم نذكرهم واكتفينا في هذه العجالة بهذا القدر.
وإذا كان كل هؤلاء يعترفون بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي بيّن المقصود من هذه الآية فما قيمة أقوال غيره من الصحابة أو التابعين أو المفسّرين الذين يريدون حمل معناها على غير ما يريده الله ورسوله، ابتغاء مرضاة معاوية وطمعاً في ما عنده.
كما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أشار إليهم مرّة أخرى وخصّهم بأنهم هم أهل البيت لا غيرهم، وذلك عندما نزل قوله سبحانه وتعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 61]. فدعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا فهلمّوا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم. وفي رواية مسلم «اللهم هؤلاء أهلي»(1) .
وعلماء أهل السنّة والجماعة الذين ذكرتهم في المصادر السّابقة كلّهم يعترفون أيضاً بنزول هذه الآية في هؤلاء الخمسة المذكورين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
على أنّ أزواج النبي رضي الله تعالى عنهن عرفْن مقصود الآية
____________
(1) صحيح مسلم: 7/121. باب فضائل علي بن أبي طالب.
أضف إلى كل ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، قد رفع هذا للّبس وهذا الإشكال لأنّه علم بأنّ المسلمين قد يرؤون القرآن ويحملون أهل البيت على سياق الآيات السابقة واللاّحقة والتي تحذّر نساء النبي، فبادر إلى تعليم الأمّة بمقصود آية إذهاب الرجل والتطهير عندما داوم طيلة ستة أشهر (بعد نزول الآية) على المرور بباب علي وفاطمة والحسنين قبل الشروع في إقامة الصلاة فيقول: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، قوموا إلى الصلاة يرحمكم الله) .
وقد أخرج هذه المبادرة التي فعلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الترمذي في صحيحه: 5/31 والحاكم في المستدرك: 3/158 والذهبي في تلخيصه ـ وأحمد بن حنبل في مسنده: 3/259 وابن الأثير في أسد الغابة: 5/521 والحسكاني في شواهد التنزيل: 2/11 والسيوطي في الدر المنثور: 5/199 والطبري في تفسيره: 22/6 والبلاذري في أنساب الأشراف: 2/104 وابن كثير في تفسيره: 3/483 والهيثمي في مجمع الزوائد: 9/168 وغيرهم.
وإذا أضفنا إلى كل هؤلاء أئمة أهل البيت وعلماء الشيعة الذين لا يشكّون في اختصاص محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين بهذه الآية الكريمة فلا تبقى بعد ذل أية قيمة لمن خالفهم من أعداء أهل البيت والمتشيعين لمعاوية وبني أميّة الذين يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.
وقد كشف أولئك الذين يفسّرون الآية على غير تفسير النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
على أنّ العقل وحده يحكم بعدم شمول هذه الآية، أعني (إذهاب الرجس ـ والتطهير) لزوجات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
1 ـ فإذا ما أخذنا على سبيل المثال أمّ المؤمنين عائشة التي تدّعي أنها أحبّ أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إليه وأقربهم لديه حتّى أن باقي أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غرن منها وبعثن للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ينشدنه العدل في ابنة أي قحافة كما قدّمنا، لم تتجرّأ، ولم يتجرّأ أحد من أنصارها ومحبّيها ولا من السّابقين أو من اللاّحقين أن يقول بأنّ عائشة كانت تحت الكساء يوم نزول الآية، فما أعظم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في أقواله وأفعاله وما أعظم حكمته عندما حصر أهل بيته معه تحت الكساء حتى أن أمّ المؤمنين أمّ سمة زوجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أرادت الدخول معهم تحت الكساء وطلبت ذلك من زوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكنّه منعها من ذلك وقال لها: «أنت إلى خير».
2 ـ ثم إنّ الآية بمفهومها الخاص والعام دالّ على العصمة. فإن إذهاب الرّجس يشمل كل الذّنوب والمعاصي والرّذائل صغيرها وكبيرها وخصوصاً إذا أضيف إليها تطهير من ربّ العزّة والجلالة، وإذا كان المسلمون يتطهرون بالماء والتراب طهارة جسدية لا تتعدّى ظاهر الجسم، فأهل البيت طهرهم الله طهارة روحية غسلت العقل والقلب والفؤاد فلم تترك لوساوس الشيطان ولا لارتكاب المعاصي مكانا.ً فأصبحت قلوبهم صافية نقية خالصة مخلصة لخالقها وبارئها في كل حركاتها وسكناتها.
3 ـ ولكلّ ذلك كان هؤلاء المطهّرون مثالاً للإنسانية جمعاء في الزهد والتقوى والإخلاص والعلم والحلم والشجاعة والمروءة والعفّة والنّزاهة والعُزوف عن الدنيا والقُرب منه جلّ وعلا ولم يسجّل التاريخ لواحد منهم معصية أو ذنباً طيلة حياته.
وإذا كان الأمر كذلك، فلنعد إلى المثال الأول لزوجات النبي صلّى اله عليه وآله وسلّم وهي عائشة التي بلغت من المرتبة السّامية والمكانة العالية والشهرة الكبيرة ما لم تبلغه أيّة زوجة أخرى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، لا ولا حتّى لو جمعنا فضائلهنّ بأجمعهنّ ما بلغنَ عشر معشار عائشة بنت أبي بكر، هذا ما يقوله أهل السنة فيها والذين يعتبرون أنّ نصف الدّين يؤخذ عنها وحدها.
وإذا ما تجرّدنا للحقيقة بدون تعصّب ولا انحياز، فهل من المعقول أن يحكم العقل بأنها مطهّرة من الذنوب والمعاصي؟ أم أنّ الله سبحانه رفع عنها حصانته المنيعة بعد موت زوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؟ فلننظر معاً إلى الواقع.
عائشة في حياة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
وإذا ما بحثنا حياتها مع زوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وجدنا الكثير من الذنوب والمعاصي فكانت كثيراً ما تتآمر مع حفصة على النبي حتّى اضطرّته إلى تحريم ما أحل الله له كما جاء ذلك في البخاري ومسلم وتظاهرتا عليه أيضاً كما أثبت ذلك كل الصحاح وكتب التفسير وقد ذكر الله الحادثتين في كتابه العزيز.
كما كانت الغيرة تسيطر على قلبها وعقلها فتتصرف بحضرة النبي تصرّفاً بغير احترام ولا أدب، فمرّة قالت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما ذكر عندها خديجة: مالي ولخديجة إنها عجوز حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها، فغضب لذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى اهتزّ شعره(1) ومرّة اُخرى بعث إحدى أمهات المؤمنين للنبي (وكان في بيتها) بصحفة فيها طعام كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يشتهيه، فكسّرت الصحفة أمامه بطعامها(2) وقالت للنبي مرة أخرى: أنت
____________
(1) صحيح البخاري: 4/231 باب تزويج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خديجة وكذلك صحيح مسلم.
(2) صحيح البخاري: 6/157 في باب الغيرة.
وتآمرت هي وحفصة مرّة أخرى على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى اعتزل نساءه بسببها لمدّة شهر كامل ينام على حصير(5) . ولمّا نزل قول الله تعالى: (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء…) قالت للنبي في غير حياء: ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك(6) وكانت عائشة إذا غضبت (وكثيراً ما كانت تغضب) تهجر اسم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا تذكر اسم محمد وإنما تقول وربّ إبراهيم(7) .
وقد أساءت عائشة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كثيراً وجرّعته الغصص ولكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رؤوف رحيم، وأخلاقه عالية وصبره عميق، فكان كثيراً ما يقول لها: «ألبسك شيطانك يا عائشة» وكثيرا ما كان يأسى لتهديد الله لها ولحفصة بنت عمر، وكم من مرّة ينزل القرآن بسببها
____________
(1) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: 2/29 كتاب أدب النكاح.
(2) كنز العمّال: 7/116 وكذلك إحياء العلوم للغزالي.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/145. الإصابة لابن حجر: 4/233. تاريخ اليعقوبي: 2/69.
(4) صحيح البخاري: 1/101 باب الصلاة على الفراش.
(5) صحيح البخاري: 3/105 في باب الغرفة والعلية المشرفة من كتاب المظالم.
(6) صحيح البخاري: 6/24 و128 باب هل للمرأة ان تهب نفسها لأحدٍ. صحيح مسلم باب جواز هبة المرأة نوبتها لضرّتها.
(7) صحيح البخاري: 6/158 باب غيرة النساء ووجدهنّ.
ومرّة بعثها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا أراد أن يخطب لنفسه شراف أخت دحية الكلبي، وطلب من عائشة أن تذهب وتنظر إليها ولما رجعت كانت الغيرة قد أكلت قلبها فسألها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما رأيت يا عائشة؟ فقالت: ما رأيت طائلاً! فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لقد رأيت طائلاً، لقد رأيت خالاً تجدها اقشعرت منه ذوائبك. فقالت: يا رسول الله ما دونك سرّ، ومن يستطيع أن يكتمك(3) .
وكل ما فعلته عائشة مع حضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مؤامرات كانت في أغلب الأحيان تجرّ معها حفصة بنت عمر والغريب أننا نجد تفاهماً وانسجاماً تامّاً بين المرأتين عائشة وحفصة كالانسجام والتفاهم بين أبويهما أبو بكر وعمر غير أنّه في النّساء كانت عائشة دائماً هي الجريئة والقوية وصاحبة المبادرة وهي التي كانت تجرّ حفصة بنت عمر وراءها في كل شيء. بينما كان أبوها أبو بكر ضعيفاً أمام عمر الذي كان هو الجريء والقوي وصاحب المبادرة في كل شيء ولقد رأينا في ما مرّ من الأبحاث أنّه حتّى في خلافته كان ابن الخطاب هو الحاكم الفعلي ـ وقد حدث بعض
____________
(1) صحيح البخاري: 3/106 باب الغرفة والعلية من كتاب المظالم.
(2) صحيح البخاري: 6/69 و71 باب وإذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه.
(3) طبقات ابن سعد: 8/115. كنز العمال: 6/294.
وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين. ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين) [التحريم: 11 ـ 12].
وبهذا يتبين لكل الناس بأن الزوجية والصّحبة وإن كانت فيهما فضائل كثيرة إلا أنهما لا يغنيان من عذاب الله إلاّ إذا اتسمتا بالأعمال الصالحة، وإلاّ فإن العذاب يكون مضاعفاً. لأن عدل الله سبحانه يقتضي أن لا يعذّب البعيد الذي لم يسمع الوحي كالقريب الذي ينزل القرآن في بيته والإنسان الذي عرف الحق فعانده كالجاهل الذي لم يعرف الحق.
____________
(1) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة: 2/80.
وإليك الآن أيها القارئ بعض رواياتها بشيء من التفصيل لكي تتعرف على شخصية هذه المرأة التي لعبت أكبر الأدوار في إبعاد علي عن الخلافة وحاربته بكل ما أوتيت من قوة ودهاء.
ولكي تعرف أيضاً بأنّ آية إذهاب الرجل والتطهير بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض، وأنّ أهل السنة أكثرهم ضحايا الدسّ والتزوير فهم أتباع بني أمية من حيث لا يشعرون.
أم المؤمنين عائشة تشهد على نفسها
ولنستمع إلى عائشة تروي عن نفسها وكيف تفقدها الغيرة صوابها، فتتصرّف بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تصرفاً لا أخلاقياً، قالت: «بعثت صفية زوج النبي إلى رسول الله بطعام قد صنعته له، وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة حتّى أستقلّني أفكل، فضربت القصعة ورميت بها، قالت: فنظر إليّ رسول اله صلّى الله عليه وآله وسلّم فعرفت الغضب في وجهه، فقتل: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم، قالت، قال: أوِّلي، قلت وما كفّارته يا رسول الله؟ قال: طعام كطعامها وإناء كإنائها(1) .
ومرة أخرى تروي عن نفسها، قالت: قلت للنبي حسبُك من صفيّة كذا وكذا، فقال لي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لقد قلتِ كلمة لو مُزجتْ بماء البحر لمزجته(2) .
سبحان الله! أين أم المؤمنين من الأخلاق وأبسط الحقوق التي فرضها الإسلام في تحريم الغيبة والنّميمة؟ ولا شكّ بأن قولها: «حسبك من صفية كذا وكذا»، وقول الرسول بأنها كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته بأنّ ما قالته عائشة في ضرّتها أمّ المؤمنين صفية أمرٌ عظيم. وخطبٌ جسيم.
____________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 6/277. وسنن النسائي: 2/148.
(2) صحيح الترمذي وقد رواه عنه الزركشي في صفحة 73.
وأعتقد بأنّ روّاة الحديث استفضعوها واستعظموها فأبدلوها بعبارة (كذا وكذا) كما هي عادتهم في مثل هذه القضايا.
وها هي عائشة أم المؤمنين تحكي مرة أخرى عن غيرتها من أمهات المؤمنين قالت: ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت حارثة بين النعمان، وفزعنا لها فجزعت، فحوّلها رسول الله إلى العالية فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا ثم رزقه الله الولد منها وحرمناه(1) .
كما أنّ عائشة تعدت غيرتها دائرة مارية ضرّتها إلى إبراهيم المولود الرضيع البريء! قالت لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إليّ، فقال: أنظري إلى شبهه بي، فقلت: ما أرى شبهاً. فقال رسول الله: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟ قالت فقلت: من سقي ألبان الضّان إبيضّ وسمن(2) .
وقد تعدّت غيرتها كل الحدود وفاقت كل تعبير عندما وصلت بها الظّنون والوساوس إلى الشك في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكانت كثيراً ما تتظاهر بالنّوم عندما يبات عندها رسول الله ولكنّها ترقب زوجها وتتحسّس مكانه في الظلام وتتعقّبه أين ما ذهب وإليك الرواية عن لسانها والتي: أخرجها مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وغيرهم قالت: لمّا كانت ليلتي التي كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدتُ فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً فجعلت درعي في رأسي
____________
(1) الطبقات الكبرى لأبن سعد: 8/212، أنساب الأشراف: 1/449، الإصابة في معرفة الصحابة للعسقلاني أخرجها في ترجمة مارية القبطية.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/37 ترجمة إبرايم بن النبي ـ وكذلك في أنساب الأشراف.
ومرة أخرى قالت فقدت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فظننت أنّه أتى بعض جواريه، فطلبته فإذا هو ساجد يقول: رب اغفر لي(2) وأخرى قالت: إن رسول الله خرج من عندي ليلاً، قالت: فغرت عليه، قالت فجاء فرأى ما أصنع فقال: مالك يا عائشة، أغرتِ؟ فقلت: ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك! فقال رسول الله: أفأخذك شيطانك…(3) .
وهذه الرواية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أنها عندما تغار تخرج عن أطوارها وتفعل أشياء غريبة كأن تكسّر الأواني أو تمزّق الملابس مثلاً. ولذلك تقول في هذه الرواية فلمّا جاء ورأى ما أصنع قال: أفأخذكِ شيطانكِ؟
ولا شك أنّ شيطان عائشة كان كثيراً ما يأخذها أو يلبسها وقد وجد لقلبها سبيلاً من طريق الغيرة وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «الغيرة للرّجل إيمان وللمرأة كفرٌ». باعتبار أن الرّجل يغار على زوجته لأنّه لا يجوز شرعاً أن يشاركه فيها أحد ـ أما المرأة فليس من
____________
(1) صحيح مسلم: 3/64 باب ما يقال عند دخول القبور. مسند أحمد بن حنبل: 6/221.
(2) مسند الإمام أحمد: 6/147.
(3) مسند أحمد بن حنبل: 6/115.
والتاريخ لم يحدّث إلا بأحاديثها وكتب السيرة طافحة إلاّ بتمجيدها وأنها حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدلّلة التي كان لا يطيق فراقها.
واعتقد بأنّ كل ذلك من الأموّيين الذين أحبّوا عائشة وفضّلوها لمّا خدمت مصالحهم وروت لهم ما أحبّوا وحاربت عدّوُّهم علي بن أبي طالب.
وكما أعتقد بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن يحبّها لما فعلته معه كما قدّمنا! وكيف يحبّ رسول الله من تكذب وتغتاب وتمشي بالنميمة وتشكّ في الله ورسوله وتظنّ منهما الحيف ـ كيف يحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من تتجسّس عليه وتخرج من بيتها بدون إذنه لتعلم أين يذهب ـ كيف يحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من تشتم زوجاته بحضرته ولو كنّ أمواتاً ـ كيف يحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من تبغض إبنه إبراهيم وترمي أمّه مارية بالإفك(1) ـ كيف يحبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من تتدخّل بينه وبين زوجاته بالكذب مرّة وبإثارة الأحقاد أخرى وتتسبب في
____________
(1) يراجع في هذا الموضوع كتاب حديث الإفك للعلاّمة جعفر مرتضى العاملي.
وكل هذه الأفعال يمقُتها الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يحبّان فاعلها، لأنّ الله هو الحق ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمثل الحق، فلا يمكن له أن يُحب من كان على غير الحق.
وسوف نعرف خلال الأبحاث القادمة بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن يحبّها، بل إنّه حذّر الأمة من فتنتها(2) .
سألت بعض شيوخنا مرّة عن سبب حبّ النبي المفرط لعائشة بالذّات دون سواها؟ فأجابوني بأجوبة عديدة كلّها مزيّفة.
قال أحدهم: لأنها جميلة وصغيرة وهي البكر الوحيدة التي دخل بها ولم يشاركه فيها أحد سواه. وقال آخر: لأنها ابنة أبي بكر الصدّيق صاحبه في الغار.
وقال ثالث: لأنها حفظت عن رسول الله نصف الدّين فهي العالمة الفقيهة. وقال رابع: لأنّ جبرئيل جاءه بصورتها وكان لا يدخل على النبي إلاّ في بيتها.
وأنت كما ترى أيها القارئ بأن كلّ هذه الدّعايات لا تقوم على دليل ولا يقبلها العقل والواقع، وسوف نأتي على نقضها بالأدلة، فإذا كان الرسول يحبّها لأنها جميلة وهي البكر والوحيدة التي دخل بها، فما الذي يمنعه من الزواج بالأبكار الجميلات اللآتي كن بارعات في الحسن والجمال وكنّ
____________
(1) صحيح البخاري: 3/135 باب هبة الرجل لامرأته من كتاب الهبة وفضلها.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/29.
(3) صحيح البخاري: 4/46 باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير.
روى ابن سعد في طبقاته: 8/148 وابن كثير في تاريخه: 5/299 أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوّج مليكة بنت كعب، وكانت تعرف بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك، فاستعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فطلّقها فجاء قومها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: يا رسول الله إنّها صغيرة وإنها لا رأي لها، وإنها خُدعت فارتجِعْها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان أبوها قد قُتل في يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمة.
وهذه الرواية تدلّنا بوضوح بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان همّه من الزواج الصغر والجمال وإلاّ لما طلّق مليكة بنت كعب وهي صغيرة وبارعة في الجمال، كما تدلّنا هذه الرواية وأمثالها على الأساليب التي إتّبعتها عائشة في خداع المؤمنات البريئات وحرمانهن من الزواج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النّعمان لمّا غارت من جمالها وقالت لها: إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له: أعوذ بالله منك. وهذه مليكة، تُثير فيها حساسية مقتل أبيها وأنّ قاتله هو رسول الله وتقول لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك. فما كان جواب هذه المسكينة إلاّ أنها استعاذت من رسول الله! وما عساها أن تقول غير ذلك والناس لا يزالون حديثي عهد بالجاهلية الذين يأخذون بالثأر ويعيّرون من لا يثأر لأبيه؟
بقي أن نتساءل ويحق لنا أن نتساءل: لماذا يطلّق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هاتين المرأتين البريئتين واللّتين ذهبتا ضحية مكر وخداع عائشة لهنّ؟
وقبل كل شيء لابدّ لنا أن نضع في حسابنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم ولا يظلم أحداً ولا يفعل إلاّ الحق فلا بدّ أن يكون في تطليقهنّ حكمة يعلمها الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ان عدم تطليق عائشة رغم أفعالها فيه أيضاً حكمة، ولعلّنا نقف على شيء منها في الأبحاث المقبلة.
أما بالنسبة للمرأة الأولى وهي أسماء بنت النعمان فقد ظهرت سذاجتها عندما انطلت عليها حيلة عائشة فأول كلمة قابلت بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما مدّ يده إليها هي: «أعوذ بالله منك». ورغم جمالها البارع فلم يبقها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لبلاهتها يقول ابن سعد في طبقاته في: 8/145 وغيره عن ابن عبّاس: قال: «تزوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أسماء بنت النعمان وكانت من أجمل أهل زمانها وأتمّه». ولعلّه صلّى الله عليه وآله وسلم؟ أراد أن يعلّمنا أنّ رجاحة العقل أولى من الجمال. فكم من امرأة جميلة جرّها غباؤها للفاحشة.
أمّا بالنسبة للمرأة الثانية وهي مليكة بنت كعب والتي عيّرتها عائشة بأن زوجها هو قاتل أبيها، فلم يرد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تعيش هذه المسكينة (والتي هي صغيرة السنّ ولا رأي لها كما شهد بذلك قومها) على هواجس ومخاوف قد تُسبّب مصائب كبرى خصوصاً وأنّ عائشة سوف لن تتركها ترتاح مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. ولا شك أنّ هناك أسباباً أخرى يعلمها رسول الله وغابت عنّا.
والمهم أن نعرف بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن يجري وراء الجمال والشهوات الجسدية والجنسية كما يتوهّمه بعض الجاهلين وبعض المستشرقين الذين يقولون كان همّ محمّد هو النساء الحسناوات.
وقد رأينا كيف طلّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هاتين المرأتين رغم صغرهما وجمالهما فكانتا أجمل أهل زمانهما وأتمّه كما جاء
أمّا القائلين بان حبّه إيّاها لأنها إبنة أبي بكر، فهذا غير صحيح، ولكن يمكننا أن نقول بأنّه تزوّجها من أجل أبي بكر، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوّج من عدّة قبائل زواجاً سيّاسياً لتأليف القلوب ولتسُود المودة والرحمة في تلك القبائل بدلاً من التنافر والتّباغض فقد تزوّج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمّ حبيبة أخت معاوية وهي بنت أبي سفيان العدوّ الأول للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك لأنّه لا يحقد وهو رحمة للعالمين، وقد تعدّى عطفه وحنانه القبائل العربية إلى مصاهرة اليهود والنصارى والأقباط ليقرّب أهل الأديان بعضهم من بعض.
وبالخصوص إذا عرفنا من خلال ما نقرأه في كتب السّيرة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يتزوج من ابنته عائشة، كما طلب عمر من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يتزوج إنته حفصة، وقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن قلبه يسع أهل الأرض كلّهم.
قال تعالى: (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك) [آل عمران: 159].
وإذا رجعنا إلى الرواية التي روتها عائشة وقالت فيها بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدت فأخذ رداءه رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه، عرفنا كذب الزعم بأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يصبر عنها(1) .
وهذا الاستنتاج ليس استنتاجاً عفوياً ألّفه خيالي، كلاّ فإنّ له أدلّة في صحاح السنّة، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره من صحاح أهل السنّة، أنّ عمر بن الخطاب قال: لمّا اعتزل نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نساءه قال دخلت المسجد فإذا النّاس ينكتون بالحصى ويقولون طلّق رسول الله صلّى
____________
(1) صحيح مسلم: 3/64. ومسند الإمام أحمد: 6/221.
يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب عليك بعيبتك! قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والله لقد علمت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يحبّك، ولولا أنا لطلّقك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبكت أشدّ البكاء… الحديث(1) .
إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبل الشكّ في أن زواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.
وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج أنّ عمر بن الخطاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يحبّ حفصة ويزيدنا عمر يقيناً جديداً بأنّ ابنته حفصة تعلم هي الأخرى هذه الحقيقة المؤلمة، إذ يقول لها: «والله لقد علمت بأنّ رسول الله لا يحبّك».
ثم لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندما قال: «ولولا أنا لطّلقك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم».
فهذه الرواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعائشة بنت أبي بكر، وأنّه صبر وتحمّل كل أذاها من أجل أبي بكر أيضاً، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره، لأنّه لم يصدر منها ما يسيء للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.
____________
(1) صحيح مسلم: 4/188 في باب الإيلاء واعتزال النّساء وتخييرهنّ وقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) .
وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أميّة في فضائل عائشة لوجدنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان كثيراً ما يتأذّى منها وكثيراً ما يغضب عليها، وها نحن ننقل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعر به أم المؤمنين عائشة من قبل زوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض إنّي وجع، أو وارأساه.
قال: سمعت القاسم بن محمد قال قالت عائشة: وا رأساه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ذاك لو كان وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنّي لأظنّك تحبّ موتي، ولو كان ذاك لظلت آخر يومك معرِّساً ببعض أزواجك(1) .
فهل تدلّك هذه الرواية على حبّ النبيّ لعائشة؟؟
ونخلص بالأخير إلى أنّ بني أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، يبغضون رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومنذ أن آلت إليهم الخلافة عملوا على تقليب الحقائق ظهراً على عقب، ورفعوا أقواماً إلى القمّة من المجد والعظمة بينما كانوا في حياة النبيّ أناساً عاديّين وليس لهم شان كبير، ووضعوا آخرين كانوا في قمة الشرف والعزّ أيام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين، فكل شخص كان ضد الرسول صلّى الله عليه وآله وضد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً رفعوا من شأنه واختلقوا له روايات
____________