الصفحة 115

الفصل الرابع
فيما يتعلّق بالصّحابة عامّة

إنّ كل الأحكام التشريعية والعقائد الإسلامية، جاءتنا عن طريق الصحابة، فليس هناك أحد يدّعي أنّه يعبد الله من خلال الكتاب والسنّة إلاّ وكان الصحابة هم الواسطة لإيصال هذين المصدرين الأساسيّين إلى كلّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

وبما أنّ الصّحابة اختلفوا بعد الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتفرّقوا، وتسابّوا وتلاعنوا، وتقاتلوا حتّى قتل بعضهم بعضاً فلا يمكن والحال هذه، أن نأخذ عنهم الأحكام بدون نقاش ولا نقدٍ ولا تمحيص ولا اعتراض، كما لا يمكن أن نحكم لهم أو عليهم بدون معرفة أحوالهم وقراءة تاريخهم وما فعلوه في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وبعد وفاته، ونمحّص المحقّ من المُبطل، والمؤمن من الفاسق والمخلص من المنافق، ونعرف المنقلبين من الشّاكرين.

وأهل السنّة عامّة، وبكلّ أسف لا يسمحون بذلك ويمنعون بكل شدّة نقد الصّحابة وتجريحهم ويترضّون عليهم جميعاً، بل ويصلّون عليهم كما يصلّون على محمد وآل محمد ولا يستثنون منهم أحداً.

والسّؤال الذي يطرحُ على أهل السنّة والجماعة هو: هل في نقد الصّحابة وتجريحهم خروج عن الإسلام، أو مخالفةً للكتاب والسنّة؟

الصفحة 114

وإجابةً على هذا السّؤال لا بدّ لي من استعراض أعمال وأقوال بعض الصحابة في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعد وفاته، من خلال ما ذكره علماء أهل السنّة في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم مقتصراً عليهم دون ذكر أي كتاب من كتب الشيعة لأنّ هؤلاء موقفهم من بعض الصّحابة معروف ولا يتطلّب مزيداً من التوضيح.

وحتّى أرفع الإلتباس لكي لا أترك للخصم حجّة يحتجّ بها عليً، أقول إنّه عندما نتكلّم في هذا الفصل عن الصّحابة فالمقصود هو البعض منهم وليس جميعهم، وقد يكون هذا البعض أكثريّة أو أقلّية، فهذا ما سنعرفه من خلال البحث إن شاء الله تعالى. لأنّ كثيراً من المشاغبين يتّهموننا بأنّنا ضد الصّحابة، وأنّنا نشتم الصّحابة ونسبّهم ليؤثّروا بذلك على السّامعين ويقطعوا بذلك الطريق على الباحثين، في حين أنّنا نتنزّه عن سبّ الصّحابة وشتمهم بل ونترضّى على الصّحابة المخلصين الذين سمّاهم القرآن، بـ(الشاكرين) ونتبرّأ من المنقلبين على الأعقاب الذين ارتدّوا على أدبارهم بعد النبيّ وتسبّبوا في ضلالة أغلب المسلمين وحتّى هؤلاء لا نسبّهم ولا نشتمهم، وإنّما كل ما في الأمر أنّنا نكشف أفعالهم التي ذكرها المؤرخون والمحدّثون ليتجلّى الحقّ للباحثين، وهذا ما لا يرتضيه إخواننا من أهل السنّة ويعتبرون ذلك سبّاً وشتماً.

وإذا كان القرآن الكريم وهو كلام الله الذي لا يستحي من الحقّ هو الذي فتح لنا هذا الباب وأعلمنا بأنّ من الصّحابة منافقين، ومنهم الفاسقين، ومنهم الظّالمين، ومنهم المكذّبين، ومنهم المشركين ومنهم المنقلبين، ومنهم الذين يؤذون الله ورسوله.

وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا أخذه في الله لومة لائم، هو الذي فتح لنا هذا الباب وأعلمنا بأنّ من الصّحابة مرتدّين، ومنم المارقين، والناكثين والقاسطين، ومنهم من يدخل النار ولا تنفعه الصّحبة، بل تكون عليه حجّة قد تضاعف عذابه يوم

الصفحة 115
لا ينفع مال ولا بنون.

فكيف والحال هذه، يشهد بها كتاب الله الحكيم، وسنّة رسوله العظيم، ومع ذلك يريد أهل السنّة منع المسلمين من التكلّم والنٌّقاش في الصّحابة لئلاّ ينكشف الحقّ ويعرف المسلمون، أولياء الله فيوالونهم كما يعرفون أعداء الله ورسوله فيعادونهم.

كنت يوماً في العاصمة التونسية داخل مسجد عظيم من مساجدها، وبعد أداء فريضة الصلاة جلس الإمام وسط حلقة من المصلّين وبدأ درسه بالتّنديد والتكفير لأولئك الذين يشتمون أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واسترسل في حديثه قائلاً:

إيّاكم من الذين يتكلّمون في أعراض الصّحابة بدعوى البحث العلمي والوصول لمعرفة الحق، فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، إنهم يريدون تشكيك النّاس في دينهم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا وصل بكم الحديث إلى أصحابي فأمسكوا، فوالله لو أنفقتم مثل أحدٍ ذهباً لما بلغتم معشار معشار أحدهم».

وقاطعه أحدُ المستبصرين كان يصحبني قائلاً: هذا الحديث غير صحيح وهو مكذوب على رسول الله!

وثارت ثائرة الإمام وبعض الحاضرين والتفتوا إلينا منكرين مشمئزّين، فتداركت الموقف متلطّفاً مع الإمام وقتل له: يا سيدي الشيخ الجليل، ما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في القرآن قوله: (وما محمّد إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران: 144].

وما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لأصحابه: «سيؤخذ بكم يوم القيامة إلى ذات الشمال، فأقول: إلى أين؟ فيقال: إلى النار والله، فأقول:

الصفحة 116
يا ربّ هؤلاء أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك إنهم لا يزالوا مرتدّين منذ فارقتهم، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي، ولا أرى يخلص منهم إلاّ مثل همل النّعم»(1) .

وكان الجميع يستمعون إليّ في صمتٍ رهيب، وسألني بعضهم إن كنت واثقاً من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري؟ وأجبتهم: نعم كوثوقي بأن الله واحد لا شريك له، ومحمّد عبده ورسوله.

ولما عرف الإمام تأثيري في الحاضرين من خلال حفظي للأحاديث التي رويتها قال في هدوء: نحن قرأنا على مشايخنا رحمهم الله تعالى بأنّ الفتنة نائمة فعلن الله من أيقظها.

فقلت: يا سيدي الفتنة عمرها ما نامت، ولكنا نحن النّائمون، والذي يستيقظ منّا ويفتح عينيه ليعرف الحقّ تتهمونه بأنّه أيقظ الفتنة، وعلى كل حال فإنّ المسلمين مطالبون باتّباع كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، لا بما يقوله مشايخنا الذين يترضّون على معاوية ويزيد وابن العاص.

وقاطعني الإمام قائلاً: وهل أنت لا تترضّى عن سيدنا معاوية رضي الله عنه وأرضاه كاتب الوحي؟

قلت: هذا موضوع يطول شرحه، وإذا أردت معرفة رأيي في ذلك، فأنا أهديك كتابي «ثم اهتديت» لعلّه يوقظك من نومك ويفتح عينيك على بعض الحقائق وتقبّل الإمام كلامي وهديّتي بشيء من التردّد، ولكنّه وبعد شهر واحدٍ كتب إليَّ رسالة لطيفة يحمد الله فيها أن هداه إلى صراطه المستقيم وأظهر ولاءً وتعلّقاً بأهل البيت عليهم السلام وطلبتُ منه نشر رسالته في الطبعة الثالثة لما فيها من معاني الود وصفاء الروح التي متى ما عرفت الحقّ تعلّقت به وهي تعبّر عن حقيقة أكثر أهل السنّة الذين يميلون

____________

(1) صحيح البخاري: 7/209 و4/94 و156. صحيح مسلم: 7/66.

الصفحة 117
إلى الحق بمجرد رفع السّتار.

ولكنّه طلب منّي كتم رسالته وعدم نشرها، لأنه لا بدّ له من الوقت الكافي حتّى يقنع المجموعة التي تصلّي خلفه، وهو يحبّذ أن تكون دعوته سلمية بدون هرج ومرج حسب تعبيره.

ونعود إلى موضوع الكلام في الصّحابة، لنكشف عن الحقيقة المُرّة التي سجّلها القرآن الحكيم والسنّة النبوية الشريفة.

ولنبدأ بكلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحكم العدل وهو القول الفصل. قال تعالى في بعض الصّحابة:

* (ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم سنعذّبهم مرتين ثم يردّون إلى عذاب عظيم) [التوبة: 101].

* (يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا) [ التوبة: 74].

* (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدّقن ولنكونّن من الصّالحين فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولّوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) [التوبة: 77].

* (الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) [التوبة: 97].

* (ومن الناس من يقول أمّنا بالله وباليوم والآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) [البقرة: 10].

* (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول الله، والله يعلَمُ إنّك

الصفحة 118
لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون، إتّخذوا أيمانهم جنّة فصدوا عن سبيل الله إنّهم ساء ما كانوا يعملون، ذلك بأنّهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) [المنافقون: 3].

* (ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً، فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدّمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقا) [النساء: 62].

* (إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يراؤون النّاس ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً) [النساء: 142].

* (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون) [المنافقون: 4].

* (قد يعلم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمَّ إلينا ولا يأتون البأس إلاّ قليلاً، أشحَّةً عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ أشحًّةً على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً) [الأحزاب: 19].

* (ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك قالوا للّذين أوتوا العلم ماذا قال أنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءهم) [محمد: 16].

* (أم حسب الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) [محمد: 30].

* (سيقول لك المخلّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا، فاستغفر لنا يقول بألسنتهم ما ليس في قلوبهم…) [الفتح: 11].

فهذه الآيات البيّنات من كتاب الله المجيد وما بيّنته من نفاق البعض منهم الذين اندسّوا في صفوف الصّحابة المخلصين، حتّى غابت حقيقتهم عن صاحب الرسالة نفسه لولا وحي الله.

ولك لنا دائماً من أهل السنّة اعتراضٌ على هذا، فهم يقولون. ما لنا والمنافقين لعنهم الله، والصحابة ليسوا من هؤلاء، أو أنّ هؤلاء المنافقين ليسوا من الصحابة، وإذا ما سألتهم مَنْ هؤلاء المنافقين الذين نزلت فيهم أكثر من مائة وخمسين آية في سورتي التوبة والمنافقون؟ فسيجيبون: هو عبد الله بن أُبي وعبد الله بن أبي سلّول، وبعد هذين الرجلين لا يجدون إسماً آخر!

سبحانه الله! فإذا كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو نفسه لا يعرف الكثير منهم، فكيف يُحصر النّفاق بابن أبي وابن أبي سلّول المعلومين لدى عامّة المسلمين؟

وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله علم ببعضهم وعلّم أسماءهم إلى حذيفة بن اليمان كما تقولون وأمره بكتمان أمرهم حتّى أن عمر بن الخطاب أيام خلافته كان يسأل حذيفة عن نفسه، هل هو من أهل النّفاق؟ وهل أخبر النّبي باسمه؟ كما تروون في كتبكم(1) .

وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد أعطى للمنافقين علامةً يعرفون بها وهي بغض علي بن أبي طالب كما تروون ذلك في صحاحكما(2)

____________

(1) كنز العمّال: 7/24. تاريخ ابن عساكر: 4/97. إحياء العلوم للغزالي: 1/129.

(2) صحيح مسلم: 1/61. صحيح الترمذي: 5/306. سنن النسائي: 8/116. كنز العمّال: 15/105.

الصفحة 120
فما أكثر هؤلاء من الصحابة الذين تترضون عنهم وتضعونهم في القمّة وقد وصل بهم البغض لعلي أن حاربوه وقتلوه ولعنوه حيّاً وميّتاً هو وأهل بيته ومُحبّيه، وكلّ هؤلاء من خيار الصّحابة عندكم.

واقتضت حكمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُعلّم حذيفة أسماءهم تارةً، ويعطي للمسلمين علامتهم تارة أخرى، ليُقيم على النّاس الحجّة فلا يقولوا بعدها إنّا كنّا عن هذا غافلين.

ولا عبرة بما يقوله أهل السنّة اليوم: نحن نحبّ الإمام علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه فنقول لهم: إنّه لا يجتمع في قلب مؤمن حبّ ولي الله وحبّ عدوّه! وقد قال الإمام علي نفسه: «ليس منّا من سوّى بيننا وبين أعدائنا»(1) .

ثم إنّ القرآن الكريم عندما تكلّم عن الصحابة تكلّم عنهم بعدّة أوصافٍ وعلاماتٍ ثابتة، وإذا استثنينا منهم الصحابة المخلصين الشاكرين، فإن البقيّة الباقية منهم وصفهم الذكر الحكيم بأنّهم: فاسقون، أو خائنون، أو متخاذلون، أو ناكثون أو منقلبون، أو شاكّون في الله وفي رسوله، أو فارّون من الزحف، أو معاندون للحقّ، أو عاصون أوامر الله ورسوله، أو مثبّطون غيرهم عن الجهاد، او منفضّون إلى اللّهو والتجارة وتاركون الصّلاة، أو قائلون مالا يفعلون، أو ممنّون على رسول الله إسلامهم، أو قاسية قلوبهم فلم تخشع لذكر الله وما نزل من الحقّ، أو رافعون أصواتهم فوق صوت النبي، أو مؤذون لرسول الله، أو سمّاعون للمنافقين.

ولنكتف بهذا القدر اليسير لأن هناك آيات كثيرة لم نذكرها روماً للاختصار ولكن لتعميم الفائدة لابدّ من ذكر بعض الآيات التي جاءت في ذمّ الصّحابة الذين اتصفوا بتلك الصّفات، ولكنّهم بفضل السّياسة أصبحوا

____________

(1) نهج البلاغة: 1/155.

الصفحة 121
بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعد انقطاع الوحي كلّهم عدول أبصعين أجمعين ولا يمكن لأحدٍ من المسلمين أن يتكلّم في حقّهم بشيء من النقد والتجريح.

القرآن الكريم يكشف حقائق بعض الصّحابة

وحتّى لا يتوهّم معاندٌ في آيات المنافقين ويحاول فصْلَهم عن الصّحابة كما يقول بذلك أهل السنّة، فقد تعمّدنا سرد الآيات التي تخصّ المؤمنين.

فقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى:

ـ (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثّاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل إلاّ تنفروا يُعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كلّ شيء قدير) [التوبة: 39].

ـ (يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يحاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمٍ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [المائدة: 54].

ـ (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنةٌ وأنّ الله عنده أجرٌ عظيم) [الأنفال: 28].

ـ (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يُحييكم واعلموا أنّ الله يحولُ بين المرءِ وقلبه وأنّه إليه تحشرون، واتّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذّين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب) [الأنفال: 25].

الصفحة 122

ـ (يا أيها الذين آمنوا اُذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً، إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوبُ الحناجر وتظنّون بالله الظنونا، هنالك ابتُلي المؤمنين وزلزلوا زلزالاً شديداً، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً) [الأحزاب: 12].

ـ (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [الصف: 3].

ـ (ألم يأن اللذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [الحديد: 16].

ـ (يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم، بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتُم صادقين) [الحجرات: 17].

ـ (قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين) [التوبة: 24].

ـ (قالت الأعراب أمّنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) [الحجرات: 14].

ـ (إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون) [التوبة: 45].

ـ (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاّ خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين) [التوبة: 47].

ـ (فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا

الصفحة 123
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحرّ، قل نار جهنّم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون) [التوبة: 81].

ـ (ذلك بأنّهم أتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، أم حسبَ الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في حن القول، والله يعلم أعمالكم) [محمد: 30].

ـ (وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحقِّ بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) [الأنفال: 6].

ـ (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغنيّ وأنتم الفقراء، وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم) [محمد: 38].

ـ (ومنهم من يلمزُك في الصّدقات فإنّ أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) [التوبة: 58].

ـ (ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتّبعوا أهواءهم) [محمد: 16].

ـ (ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولن هو أذنٌ، قل هو أذنٌ خيرٍ لكم يؤمنُ بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمةً للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليمٌ) [التوبة: 61].

إنّ هذا القدر من الآيات البيّنات كافٍ لإقناع الباحثين بأنّ الصّحابة ينقسمون إلى قسمين إثنين.

1 ـ قسمٌ آمن بالله وبرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأسلم أمره وقيادته لهما، فأطاع الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتفاني في حبهما وضحّى في سبيلها وكان من الفائزين،

الصفحة 124
وهؤلاء يمثّلون الأقلية وقد سمّاهم القرآن (الشّاكرين) .

2 ـ قسمٌ آمن بالله وبرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ظاهرياً ولكنّ قلبه فيه مرض، فلم يسلم أمره إلاّ لمصلحته الشخصيّة ومنافعه الدنيوية فهو يعارض الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحكامه وأوامره ويقدّم بين يدي الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان من الخاسرين، وهؤلاء يمثّلون الأكثرية وقد عبّر عنهم القرآن بأوجز تعبير إذ يقول عزّ وجل: (لقد جئناكم بالحقّ ولكنّ أكثركم للحقّ كارهون) [الزخرف: 78].

فالباحث يكتشفُ أنّ هؤلاء «الأكثرية» كانوا في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعيشون معه ويصلّون خلفه ويصحبونه في حلّه وترحاله، ويتقرّبون إليه بكلّ وسيلة لئلاّ ينكشف أمرهم للمؤمنين المخلصين، ويحاولون جهدهم أن يظهروا بمظهر يغبطهم عليه المؤمنون لكثرة تعبّدهم وورعهم في أعين الناس(1) .

فإذا كان هذا حالهم في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكيف أصبحوا بعد وفاته؟ لا شك بأنّهم نشطوا وتكاثروا وازداد تستّرهم وتمثيلهم، فلم يعد هناك نبيٌّ يعرفهم ولا وحيٌ يفضحهم، وخصوصاً وقد ظهرت بموته صلّى الله عليه وآله وسلّم بوادر الشقاق والافتراق من أهل المدينة الذين مردوا على النفاق وكذلك ارتداد العرب في شبه الجزيرة الذين هم أشدّ كفراً ونفاقاً، ومنهم من إدّعى النبوّة كمسيلمة الكذاب وطليحة وسجاح بنت الحرث وأتباعهم وكلّ هؤلاء كانوا من الصّحابة.

____________

(1) أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده وابن حجر في إصابته في ترجمة ذي الثدية عن أنس بن مالك، قال: كان في عهد رسول الله رجلٌ يعجبنا تعبّده واجتهاده، وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم باسمه فلم يعرفه، فوصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينما نحن نذكره إذ طلع الرجلُ، قلنا: هو ذا! قال رسول الله: إنكم تخبروني عن رجل إنّ في وجهه لسعفةٌ من الشيطان، إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، أقتلوهم فهم شرّ البريّة.

الصفحة 125

وإذا تركنا كل هؤلاء واعتمدنا فقط على سكّان المدينة من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّا نجزم بأنّ هؤلاء أيضاً ظهرت فيهم حسيكة النّفاق وحتّى المؤمنين منهم أغلبهم إنقلب على عقبيه من أجل الخلافة.

وقد عرفنا فيما سبق من أبحاث أنّهم تآمروا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى وصيّه وعصوا رسوله الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوامره التي أمرهم بها وهو على فراش الموت.

وهذه الحقيقة لا مفرَّ منها للباحثين عن الحقّ إذ يصطدمون بها عند قراءة كتب التأريخ والسيرة النبويّة، وقد سجّلها كتاب الله سبحانه بأجل العبارة وأحكم الآيات بقوله تعالى:

(وما محمد إلاّ رسولٌ قد خلتْ من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران: 144].

فالشّاكرون هم الأقلية من الصحابة الذين لم ينقلبوا، وثبتوا على العهد الذي أبرموه مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يبدّلوا تبديلاً.

وبهذه الآية الكريمة ومدلولها المحكم تسقط دعوى أهل السنّة: بأنّ الصحابة لا علاقة لهم بالمنافقين ولو سلّمنا لهم جدَلاً بذلك، فإنّ هذه الآية الكريمة خاطبت الصحابة المخلصين الذين لم يكونوا منافقين في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّما انقلبوا على أعقابهم بعد وفاته مباشرة.

وسوف يتّضح أمر هؤلاء إذا ما بحثنا أحوالهم في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعد وفاته وما قاله فيهم سول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وطفحت به كتب الحديث والسيرة والتأريخ.

الصفحة 126

السنّة النّبوية تكشف حقائق بعض الصحابة

وحتّى لا يتوهم معاندٌ في الأحاديث النبويّة التي تناولت الصّحابة يحاول الطعن فيها أو تضعيفها، فقد اعتمدنا فقط أحاديث البخاري والذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة ورغم أنّ البخاري كتم الكثير من هذه الأحاديث حفاظاً على كرامة الصحابة كما هو معروف عنه ولان غيره من صحاح أهل السنّة أخرج أضعافها وبعبارات أكثر وضوحاً إلاّ أننا نكتفي بهذا الموجز الذي أخرجه البخاري لتكون حجّتنا أبلغ.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الأول في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر من كتاب الإيمان.

قال إبراهيم التيميُّ: ما عرضت قولي على عملي إلاّ خشيت أن أكون مكذّباً، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّهم يخاف النّفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول إنّه على إيمان جبريل وميكاييل… (صحيح البخاري: 1/17).

* وإذا كان ابن أبي مليكة أدرك ثلاثين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّهم يخاف النفاق على نفسه ولا يدّعي الإيمان الصحيح لنفسه فما بالُ أهل السنّة يرفعونهم إلى منزلة الأنبياء ولا يقبلون النقد في أي واحد منهم.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرابع في باب الجاسوس والتجسّس من كتاب الجهاد والسير.

أنّ حاطب بن أبي بلتعة وهو من صحابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد جيء بكتابه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما هذا يا حاطب؟ فاعتذر للنبيّ بأنه يريد حماية قرابته في مكّة، وصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! قال: إنّه شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله أن يكن قد اطّلع على

الصفحة 127
أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.. (صحيح البخاري: 4/19).

* وإذا كان حاطب وهو من الرّعيل الأول من الصحابة الذين شهدوا بدراً يبعث بأسرار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أعدائه من مشركي مكّة ويخون الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعذر حماية قرابته، ويشهد عمر بن الخطاب نفسه على نفاقه، فكيف بالصحابة الذين أسلموا بعد الفتح أو بعد خيبر أو بعد حنين وكيف بالطلقاء الذين استسلموا ولم يسلموا.

أمّا ما جاء في الفقرة الأخيرة من القول المنسوب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن الله قال لأهل بدر إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فنترك التعليق عليه للقارئ اللّبيب.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السادس في باب قوله: سواء عليهم استغفر لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين من كتاب فضائل القرآن سورة المنافقين.

أنّ رجلاً من المهاجرين كسح رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاريُّ يا للأنصار وقال المهاجريُّ يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسح رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنّها منتنةٌ، فسمع بذلك عبد الله بن أُبي فقال: فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلّ، فبلغ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: دعه لا يتحدّث النّاس أنّ محمداً يقتل أصحابه. (صحيح البخاري: 6/65).

* وهذا الحديث صريح في أنّ المنافقين كانوا من الصّحابة، فقد أقرّ رسول الله قول عمر بأنّه منافق ولكن منعه من قتله حتّى لا يُقال بأنّ محمداً يقتل أصحابه، ولعلّ الرّسول كان يعلم بأنّ أكثر أصحابه منافقون وإذا ما قتل

الصفحة 128
كل المنافقين لم يبق من أصحابه عددٌ كثير. فأين أهل السنّة من هذه الحقيقة المؤلمة التي تدحض مزاعمهم.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب حديث الإفك من كتاب الشهادات.

أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاهُ في أهلي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عُنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة فقال: كبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن الحضير فقال: كذّبت لعمر الله، والله لنقتلنّه فإنّك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على المنبر فلم يزل يخفّضهم حتّى سكتوا وسكت… (صحيح البخاري: 3/156 وكذلك: 6/8).

* وإذا كان سعد بن عبادة سيد الأنصار يتّهم بالنّفاق بعد ما كان رجلاُ صالحاً كما تشهد بذلك الرّواية، ويقال عنه منافق بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا بدافع عنه وإذا كان الأنصار الذين امتدحهم الله في كتابه يثورون جميعاً بأوسهم وخزرجهم ويهمّوا بالاقتتال من أجل منافق آذى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أهله فيدافعون عنه ويرفعون أصواتهم بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

فكيف يستغرب النفاقُ من غيرهم الذين كرّسوا حياتهم في محاربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعوته أو من الذين همّوا بحرق دار إبنته بعد وفاته من أجل الخلافة.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثامن من كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) .

الصفحة 129

أنّ علياً بن أبي طالب بعث وهو باليمن إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقطع من الذهب فقسّمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على بعض النّاس فتغضّبت قريش والأنصار فقالوا يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا؟ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: فمن يطع الله إذا عصيته؟ فيأمنّي على أهل الأرض ولا تأمنوني؟

فسأل خالد بن الوليد قتله فمنعه النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك. فلمّا ولّى قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: إنّ من ضئضئي هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السّهم من الرميّة يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عادٍ. (صحيح البخاري: 8/178).

* وهذا منافقٌ آخر من الصحابة يتّهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحيف في القسمة ويواجه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في غير أدب بقوله: يا محمد إتّق الله ورغم معرفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لنفاقه وأنّه يخرج من ضئضه قومٌ يمرقون من الإسلام مروق السّهم من الرميّة فيقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ورغم ذلك كلّه منع النبيُّ خالد من قتلهِ.

وفي هذا جواب لأهل السنّة الذين كانوا كثيراً ما يحتجّون عليَّ بقولهم: لو كان رسول الله يعلم أنّ من أصحابه منافقين سيكونوا سبباً في ضلالة المسلمين لوجب عليه قتلهم لحماية أمّته وحماية دينه.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب إذا أشار الإمام بالصلح من كتاب الصلح.

أنّ الزبير كان يحدّث أنّه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدْراً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للزبير: إسقِ يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاريُّ فقال: يا رسول الله إن كان ابن عمّتك؟ فتلوّن وجه

الصفحة 130
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. ثم قال: أسقِ ثم أحبس حتّى يبلغ الجدر… (صحيح البخاري: 3/171).

* وهذا نمطٌ آخر من الصحابة المنافقين الذين يعتقدون بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تأخذه العاطفة فيميل مع ابن عمّته ويقولها بكل وقاحة حتى يتغير وجه رسول الله ويتلوّن من شدّة الغضب.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرّابع في باب ما كان النبيّ يعطي المؤلفة قلوبهم من كتاب الجهاد والسير. عن عبدالله رضي الله عنه.

قال: لما كان يوم حنين آثر النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أناساً في القسمةِ فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجُلٌ: والله إنّ هذه القسمة ما عُدلَ فيها وما أريد بها وجهُ اللهِ، فقلتُ واللهِ لأخُبرنَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأتيتُه فأخْبرتُه، فقال: فمن يعدِلُ إذا لم يعدل اللهُ ورسولُهُ؟ رحم اللهُ موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر. (صحيح البخاري: 4/61).

وهذا منافقٌ آخر من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولعلّه من عظماء قريش ولذلك تحاشى الراوي ذكر اسمه خوفاً من الجهاز الحاكم في ذلك الوقت وترى هذا المنافق يعتقد جزماً ويُقسم على ذلك بأنّ محمداً ما كان عادلاً ولا أراد بقسمته وجه الله. ورحم الله محمّداً فقد أوذيَ بأكثر من هذا فصبر.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرّابع في باب علامات النبوّة في الإسلام من كتاب بدء الخلق.

أنّ أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقسمُ قسماً إذا أتاهُ ذو الخويصرة وهو رجلٌ من

الصفحة 131
بني تميم فقال: يا رسول الله أعدلْ! فقال: ويلَك ومن يعدلْ إذا لم أعدل قد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عُنقَهُ، فقال: دعْهُ فإنَّ له أصحاباً يحقِرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتهم وصيامهُ مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوزُ تراقيهم يمرقُون من الدّين كما يمرُقُ السّهم من الرميّة…» (صحيح البخاري: 4/179).

* وهذا نمط آخر من الصحابة المنافقين الذين كانوا يظهرون أمام النّاس بمزيد من التقوى والخشوع حتّى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعمر إن أحدكم يحقر صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم. ولا شكّ أنّهم كانوا يحفظون القرآن حفظاً متراكماً ولكن لا يتجاوز حناجرهم، وقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: «دعه فإنّ له أصحاباً» يدلّ على وجود المنافقين بأعداد كبيرة ضمن الصّحابة.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السابع في باب من لم يواجه الناس بالعتاب من كتاب الأدب.

قالت عائشة: صنع رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً فرخّص فيه فتنزّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوامٍ يتنزّهون عن الشيء أصنعه فوالله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشيةً، (صحيح البخاري: 7/96).

* وهذا نوع آخر من الصحابة الذين يتنزّهون عن سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا شكّ أنّهم كانوا يسخرون من أفعاله ولذلك نراه صلّى الله عليه وآله وسلّم يخطب فيهم ويقسم بالله أنّه لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب الإشتراك في الهدي والبدن من كتاب المظالم.

عن ابن عباس قال قدم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم صبح رابعة من ذي الحجّة مهلّين بالحجّ لا يُخلطهم شيءٌ، فلمّا قدمنا أمرنا فجعلناها عُمرة

الصفحة 132
وأن نحلَّ إلى نسائنا، ففشت في ذلك القالة، قال عطاء، قال جابر: فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيّاً، فقال جابر بكفّه، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقام خطيباً فقال: بلغني أنّ أقواماً يقولون كذا وكذا، والله لأنّا أبرّ وأتقى لله منهم… (صحيح البخاري: 3/114).

* وهذا نمط آخر من الصحابة الذين يعصون أوامر رسول الله في الأحكام الشرعية، وقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: بلغني أنّ أقواماً يقولون كذا وكذا، يدلّ على أنّ الكثير منهم رفضوا أن يتحلّلوا لنسائهم بدعوى أنّهم يتنزّهون أن يروحوا إلى منى وذكرانهم تقطر منيّاً وغاب عن هؤلاء الجهلة أنّ الله أوجب عليهم الغسل والطّهارة بعد كل عملية جنسية، فكيف يروحون إلى منى والمنيّ يقطر من ذكورهم؟ وهل هم أعلم بأحكام الله من رسول الله نفسه؟ أم هم أبرُّ وأتقى لله منه؟

ولا شكّ أنّ زواج المتعة. أو «متعة النّساء» وقع تحريمها بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من طرف عمر، من هذا القبيل، فإذا كانوا في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يرفضون أوامره بنكاح نسائهم أيّام الحجّ، فلا يستغرب منهم أن يمنعوا نكاح المتعة بعد وفاته تنزيهاً منهم لأنفسهم عمّا كان يأمر به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويعتبرون نكاح المتعة من قبيل الزنا، كما يقول اليوم أهل السنّة بهذه المقالة.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرّابع في باب ما كان النبي يُعطي المؤلّفة قلوبهم من كتاب الجهاد والسير.

عن أنس بن مالك، أنّ رسول الله حين أفاء الله عليه من أموال هوازن فأعطى رجالاً من قريش، فقال الأنصار: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! فجمعهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قبّة ولم يدع معهم أحداً غيرهم وقال لهم: «ما كان حديثٌ بلغني عنكم؟» ولمّا أعادوا عليه مقالتهم، قال: «إنّي أعطي رجالاً حديثٌ عهدهم بكفرٍ، أما

الصفحة 133
ترضون أن يذهب النّاس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله، فوالله ما تنقلبون به خيرٌ ممّا ينقلبون به» قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم: «إنكم سترون بعدي أثرةٌ شديدة فاصبروا حتّى تلقوا الله ورسوله على الحوض» قال أنس: فلم نصبر (صحيح البخاري: 4/60).

* ونتساءل: هل كان في الأنصار كلّهم رجلٌ واحدٌ رشيد إقتنع بما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واعتقد بأنَّه لا يميل مع الهوى والعاطفة، وفهم قول الله سبحانه في هذا الصّدد: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً) [النساء: 65].

فهل كان فيهم مَنْ دافَعَ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما قالوا: يغفر الله لرسول الله؟

كلاّ لم يكن فيهم واحداً بمستوى الإيمان الذي اقتضته الآية الكريمة، وقولهم بعد ذلك: بلى يا رسول الله قد رضينا، لم يكنْ عن قناعة، ولذلك جاءت شهادة أنس بن مالك وهو منهم في محلّها عندما قال: أوصانا بالصبر فلم نصبر.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي.

عن أحمد بن إشكاب حدّثنا محمّد بن فضيل عن العلاء بن المسيّب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما، فقلت: طوبى لك صحبت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبايعته تحت الشجرة!

فقال: يا بن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده. (صحيح البخاري: 5/66).

* لقد صدق البراء بن عازب: فإن أغلب النّاس لا يدرون ما أحدث الصّحابة بعد وفاة نبيّهم صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من ظلم وصيّه وابن عمّه

الصفحة 134
وأبعاده عن الخلافة ـ ومن ظلم ابنته الزّهراء وتهديدها بالحرق، وغصب حقّها من النّحلة والإرث والخمس، ومن مخالفة وصايا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبديل الأحكام التشريعية وحرق السنّة النبويّة وضرب الحصار عليها، ومن أذيته صلّى الله عليه وآله وسلّم في لعن وقتل أهل بيته وإبعادهم وتشريدهم وإعطاء السلطة إلى المنافقين والفاسقين من أعداء الله ورسوله. نعم كل ذلك وغيره كثير مما أحدثوه من بعده وبقي مجهولاً عند عامّة النّاس الذين ما عرفوا من الحقائق إلاّ ما أملته عليهم مدرسة الخلفاء. التي تفنّنت في تبديل أحكام الله ورسوله باجتهادات شخصية سمّيت البدع الحسنة.

وبهذه المناسبة نقول لأهل السنّة: لا تغترّوا يا إخوتنا بالصُّحبة والصّحابة فها هو البراء بن عازب من الرّعيل الأول، الذين بايعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحت الشجرة يقول لابن أخيه بلسان الحال: لا تغرنّك صحبتي ولا بيعتي تحت الشجرة فإنّك لا تدري ما أحدثت بعده وقد قال تعالى: (إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه…) [الفتح: 10].

وكم كان عدد الصحابة النّاكثين كبيراً حتّى عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن عمّه علي أن يقاتلهم، كما جاء ذلك في كتب التاريخ.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الأوّل والثالث في باب إذا نفر النّاس عن الإمام في صلاة الجمعة من كتاب الجمعة.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أقبلت عيرٌ من الشّام تحمل طعاماً ونحن نصلّي مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الجمعة، فانفضّ النّاس، إلاّ إثني عشر رجلاً، فنزلت هذا الآية، وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً (صحيح البخاري: 1/225 و3/6و7).

* وهذا نمط آخر من الصحابة المنافقين الذين لا يتورّعون ولا يخشعون، بل ويفرّون من صلاة الجمعة ليتفرّجوا على العير والتجارة

الصفحة 135

ويتركون رسول الله قائماً بين يدي الله يؤدّي فريضته في خشوع ورهبة.

فهل هؤلاء مسلمون كَمُلَ إيمانهم؟ أم هل هم منافقون يهزؤون من الصّلاة وإذا قاموا إليها قاموا كُسالى؟ ولا يُستثنى منهم إلاّ الذين ثبتوا مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لإتمام صلاة الجمعة وعددهم إثنى عشر رجلاً.

ومن تتبّع أحوالهم واستقصى أخبارهم، فسوف يندهش لأفعالهم ولا شكٌّ أن هروبهم من صلاة الجمعة تكرّر لمرّات متعدّدة ولذلك سجّله كتاب الله سبحانه بقوله: قل ما عند الله خير من اللّهو ومن التجارة.

وحتّى تعرف أيّها القارئ العزيز، مدى احترامهم لهذه الصّلاة الّتي يحترمُها مسلمو العصر الحاضر أكثر منهم إليك هذه الرّواية.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب ما جاء في الغرس من كتاب الوكالة.

عن سهل بن سعيد رضي الله عنه أنّه قال: إنّا كنّا نفرح بيوم الجمع كانت لنا عجوزٌ تأخذ من أصول سلقٍ لنا كنّا نغرسه في أربعائنا فتجعله في قدرٍ لها فتجعل فيه حبّاتٍ من شعير لا أعلم إلاّ أنّه قال ليس فيه شحمٌ ولا ودكٌ، فإذا صلّينا الجمعة زرناها فقرّبته إلينا، فكنّا نفرح بيوم الجمعة من أجل ذلك، وما كنّا نتغذّى ولا نقيل إلاّ بعد الجمعة. (صحيح البخاري: 3/73).

* فهنيئاً مريئاً لهؤلاء الصّحابة الذين لا يفرحون بيوم الجمعة للقاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والاستماع لخطبه ومواعظه والصّلاة بإمامته ولا بلقاء بعضهم البعض وما في ذلك اليوم من بركات ورحماتٍ ولكنّهم يفرحون بيوم الجمعة من أجل طعام مخصوص أعدّته لهم عجوز، ولو قال أحد المسلمين اليوم بأنّه يفرح بيوم الجمعة من أجل الطعام لأعتبر من المسوّفين المهملين.

الصفحة 136

وإذا أردنا مزيداً من البحث والتنقيب فإنّنا سنجد الشّاكرين الذين مدحهم القرآن الكريم، أقليّة لا يتجاوز عددهم الإثنى عشر رجلاً، وهؤلاء هم المخلصون الذين لم ينفضّوا إلى اللّهو والتجارة ويتركوا الصّلاة، وهم أنفسهم الذين ثبتوا في الجهاد مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في العديد من المواطن التي فرّ منها بقيّة الصّحابة وولّوا مدبرين.

فقد أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الرابع في باب ما يكره من التّنازع والاختلاف في الحرب من كتاب الجهاد والسير.

عن البراء عازب قال: جعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على الرجّالة يوم أحدٍ وكانوا خمسين رجلاً، عبدالله بن جبير فقال: إن رأيتمونا تخطّفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتّى أرسل إليكم، فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهنّ وأسواقهنّ رافعاتٍ ثيابهنّ، فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وآله سلم؟ قالوا: «والله لنئأتينّ النّاس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلمّا أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في آخراهم فلم يبق مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غير إثني عشر رجلاً فأصابوا منّا سبعين…» (صحيح البخاري: 4/26).

* وإذا عرفنا ممّا ذكره المؤرخون لهذه الغزوة بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج بألف صحابي كلّهم يتشوّقون للجهاد في سبيل الله مغترّين بالنّصر الذي حصل في غزوة بدر، ولكنّهم عصوا أمر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتسبّبوا في هزيمة نكراء شنيعة قتل فيها سبعون وعلى رأسهم حمزة عمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وفرّ الباقون ولم يبق مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ساحة المعركة غير إثني عشر رجلاً على ما يقوله البخاري، أمّا غيره من المؤرخين فينزل بهذا العدد إلى أربعة فقط وهم علي بن أبي طالب الذي تصدّى للمشركين يحمي بذلك

الصفحة 137
وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو دجانة يحمي ظهره وطلحة والزبير وقيل سهل بن حنيف.

ومن هذه المواقف نفهم قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا أرى يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم» (سيأتي البحث في هذا الحديث).

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد توعّدهم بالنّار إذا فرّوا من الحرب فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار، ومن يولّهم يومئذ دبره إلاّ متحرّفاٌ لقتال أو متحيّزاً إلى فئة، فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير) [الأنفال: 16].

فما هي قيمة هؤلاء الصّحابة الذين يفرّون من الصّلاة من أجل اللّهو والتجارة، ويفرّون من الجهاد خوفاً من الموت تاركين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده بين الأعداء. وفي كلتا الحالتين ينفضّوا ويولّوا الأدبار بأجمعهم ولا يبق معه صلّى الله عليه وآله وسلّم غير إثني عشر رجلاً على أكثر التقديرات. فأين الصّحابة يا أولي الألباب؟؟

ولعلّ بعض الباحثين عندما يقرؤون مثل هذه الأحداث والروايات يستصغرون شأنها ويظنّون بأنها حادثة عرضية عفى الله عنها، ولم يعد الصحابة إلى مثلها بعد ذلك.

كلا، فإنّ القرآن الكريم يوقفنّا على حقائق مذهلة، فقد سجَّل الله سبحانه فرارهم يوم غزوة أحد(1) بقوله:

(ولقد صدقكم الله وعده، إذ تحسّونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون، منكم من يريد الدّنيا ومنكم

____________

(1) تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: 4/126. تفسير الطبري أيضاً. وكذلك صحيح البخاري: 5/29 باب غزوة أحد.

الصفحة 138
من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذا تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمّاً بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبيرٌ بما تعملون) [آل عمران: 153].

فهذه الآيات نزلت بعد معركة أحد، والتي انهزم فيها المسلمون بسبب رغبتهم في متاع الدنيا عندما رأوا النّساء رافعات ثيابهن قد بدت أسواقهنّ وخلاخلهنّ على ما حكاه البخاري، فعصوا الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما حكاه القرآن؛ فهل اعتبر الصّحابة بتلك الحادثة وتابوا إلى الله واستغفروه ولم يعودوا لمثلها بعد ذلك؟

كلاّ فإنهم لم يتوبوا وعادوا إلى أكبر منها في غزوة حنين والتي وقعت في آخر حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم. وكان عددهم في تلك المعركة إثنى عشر ألفاً على ما ذكره المؤرّخون، ورغم كثرتهم فقد لاذوا بالفرار وولّوا مدبرين كالعادة تاركين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسط أعداء الله من المشركين ومعه تسعة أو عشرة أنفار من بني هاشم على رأسهم الإمام علي بن أبي طالب كما نصّ عليه اليعقوبي في تاريخه وغيره(1) .

وإذا كان فرارهم يوم أحد شنيع فهو في حنين أشنعُ وأقبحُ لأنّ الصّابرين الذين ثبتوا معه يوم أحد كانوا أربعة من ألف صحابي وهي نسبة واحد من كل مائتين وخمسين.

أمّا في يوم حُنين فكان الصّابرون الثّابتون عشرة، من إثني عشر ألف صحابي وهي نسبة واحد من كل ألف ومائتين.

وإذا كانت معركة أحد في بداية الهجرة والنّاس لم يزالوا أقليّة وحديثي

____________

(1) عباس العقّاد في عبقرية خالد: 68.

الصفحة 139
عهد بجاهلية، فما هو عذرهم في معركة حنين التي وقعت في آخر السنّة الثامنة للهجرة النبويّة ولم يبق من حياة النبيّ معهم إلاّ عامين ورغم كثرة عددهم وعدّتهم فقد أطلقوا أرجلهم للرّيح وهربوا غير ملتفتين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

فالقرآن الكريم يبيّن بوضوح مواقفهم المتخاذلة وهروبهم من الزّحف في تلك المعركة بقوله:

(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) [التوبة: 26].

يبيّن سبحانه بأنّه قد ثبت رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين صبروا معه على القتال بإنزال السكينة عليهم، ثم أمدّهم بجنود من الملائكة يحاربون معهم ونصرهم على الكافرين فلا حاجة للمرتدّين الذين يفرّون من العدوّ خوفاً من الموت، ويعصون بذلك ربّهم ونبيّهم، وكلّما امتحنهم الله وجدهم فاشلين.

ولمزيد البيان لا بدّ لنا من استعراض الرواية التي أخرجها البخاري بخصوص انهزام الصحابة يوم حنين.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب قول الله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) . من كتاب المغازي.

أن أبا قتادة قال: لمّا كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله من رواءه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني فضربت يده فقطعتها ثم أخذني فضمّني ضمّاً شديداً حتّى تخوّفت ثم ترك فتحلّل ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب في النّاس، فقلت له: ما

الصفحة 140
شأن النّاس؟ قال: أمر الله… (صحيح البخاري: 5/101).

* عجيبٌ والله أمر عمر بن الخطاب الذي هو معدود عند أهل السنّة من أشجع الصّحابة إذا لم يكن أشجعهم على الإطلاق، لأنهم يروون بأن الله أعزّ به الإسلام وأنّ المسلمين لم يجهروا بالدعوة إلاّ بعد إسلامه وقد أوقفنا التاريخ على الصحيح والواقع وكيف أنّه ولّى دبره وهرب من المعركة يوم أحد، كما ولّى دبره وفرّ هارباً يوم خيبر عندما أرسله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مدينة خيبر ليفتحها وأرسل معه جيشاً فانهزم هو وأصحابه ورجعوا يجبّنونه ويجبّنهم(1) ، كما ولّى دبره وهرب يوم حنين مع الهاربين أو لعلّه كان أوّل الهاربين وتبعه النّاس إذ كان هو أشجعهم، ولذلك نرى أبا قتادة يلتفت من بين ألوف المنهزمين إلى عمر بن الخطاب ويسأله كالمستغرب، ما شأن الناس؟ ولم يكتف عمر بن الخطاب بهروبه من الجهاد وترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسط الأعداء من المشركين حتّى يموّه على أبي قتادة بأنّه أمر الله!.

فهل أمر الله عمر بن الخطاب بالفرار من الزّحف؟

أم أنّه أمره بالثّبات والصبر في الحروب وعدم الفرار؟ فقد قال له ولأصحابه (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار) [الأنفال: 1].

كما أخذ الله عليه وعلى أصحابه عهداً بذلك، فقد جاء في الذكر الحكيم: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً) [الأحزاب: 15].

فكيف يُولّي أبو حفص الدّبر من الزّحف ويدّعي أن ذلك أمر الله؟؟

فأين هو من هذه الآيات البيّنات، أم على قلوب أقفالها؟

____________

(1) مستدرك الحاكم: 3/37 كما أخرجه الذهبي في تلخيصه.

الصفحة 141

ولسنا هنا بصدد البحث عن شخصية عمر بن الخطاب فسوف نفرد له باباً خاصّاً به، ولكنّ حديث البخاري مثيرٌ لم يترك لنا مندوحة من هذه الملاحظة السّريعة، والذي يهمّنا الآن هو شهادة البخاري بأنّ الصحابة على كثرة عددهم ولّوا مدبرين يوم حنين، والذي يقرأ كتب التاريخ في تلك الحروب والغزوات يظهر له العجب العجاب.

وإذا كان أمر الله لا يطاع من أكثر الصحابة كما عرفنا من خلال الأبحاث السّابقة، فلا يستغرب منهم الإعراض عن أوامر الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حيٌّ معهم ـ أمّا أوامره بعد وفاته بأبي هو وأمّي وما لقيت منهم من إهمال وتبديل فحدّث ولا حرج.

الصّحابة تجاه أوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته

ولنبدأ بالأوامر التي أمر بها صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته والتي قوبلت بالتمرّد والعصيان من قبل هؤلاء الصّحابة.

وسوف لن نتحدث إلا بما أخرجه البخاري في صحيحه روماً للاختصار وضارباً على بقية صحاح أهل السنّة صفحاً وإلا فإن فيهم أضعاف الأضعاف وبعبارات أكثر وضوحاً، وأكثر تحدّياً.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب من كتاب الشروط.

وبعد ما أورد البخاري قصة صلح الحديبية ومعارضة عمر بن الخطاب لما وافق عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وشكّه فيه حتّى قال له صراحة: ألست نبي الله حقّاً؟ إلى آخر القضيّة. قال البخاري: فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه قوموا فانحروا ثم أحلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ حتّى قال ذلك ثلاث مرّات فلم يقم منهم أحدٌ فدخل على أمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس.

الصفحة 142
(صحيح البخاري: 3/182).

* ألا تعجب أيها القارئ من تمرّد الصّحابة وعصيانهم تجاه أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورغم تكرار الأمر ثلاث مرات فلم يستجب له منهم أحد؟؟

ولا بدّ هنا من ذكر محاورة دارت بيني وبين بعض العلماء في تونس بعد صدور كتابي «ثم اهتديت» وأنهم قرأوا فيه تعليقي على صلح الحديبية، فعلّقوا بدورهم على هذه الفقرة بقولهم: إذا كان الصّحابة قد عصوا أمر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنحر والحلق فلم يمتثل لأمره أحد فإنّ عليّاً بن أبي طالب كان معهم ولم يمتثل هو الآخر لأمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. وأجبتهم بما يلي:

أولاً: لم يكن علي بن أبي طالب معدوداً من الصّحابة، فهو أخ رسول الله وابن عمّه وزوج ابنته وأبو ولده، وقد كان عليّ مع رسول الله في جانب وبقية النّاس في جانب، فإذا قال الرّاوي في صحيح البخاري بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أصحابه بالنحر والحلق، فإن أبا حسنٍ سلام الله عليه لم يكن معدوداً ضمنهم، فهو بمنزلة هارون من موسى، ألا ترون أنّ الصلاة على محمد لا تكون كاملة إلاّ إذا أضيف إليها الصلاة على آله، وعلي هو سيد آل محمد بدون منازع فأبو بكر وعمر وعثمان وكل الصّحابة لا تصحّ صلاتهم إلا إذا كان فيها ذكر علي بن أبي طالب مع محمد بن عبدالله.

ثانياً: ـ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان دائماً يشرك عليّاً أخاه في هَدْيه كما وقع ذلك في حجة الوداع عندما قدم عليٌّ من اليمن وسأله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بماذا أهللت يا علي؟ فقال: بما أهلّ رسول الله. فأشركه النبي في هديه، وقد ذكر هذه القضيّة كل المحدّثين والمؤرّخين، فلا بد أن يكون شريكه يوم الحديبية أيضاً.