ثالثاً: إن عليّاً بن أبي طالب هو الذي كتب الصّلح يوم الحديبية بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يعترض عليه في شيء طيلة حياته، لا بمناسبة الحديبية ولا في غيرها، ولم يسجّل التاريخ بأنّه عليه السّلام تأخّر عن أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عصاه مرّة واحدة ـ حاشاه ـ ولا فرّ مرّة من الزحف وترك أخاه وابن عمه بين الأعداء، بل كان دائماً يفديه بنفسه. والخلاصة أن عليّاً بن أبي طالب هو كنفس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولذلك كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لا يحلّ لأحد أن يجنب في المسجد إلاّ أنا وعلي»(1) .
وأقتنع أغلب المحاورين بما أوردته واعترفوا بأنّ علياً بن أبي طالب ما خالف في حياته أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثامن في الباب كراهية الخلاف من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة.
عن عبدالله بن عباس قال: لمّا احتضر النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده، فقال عمر: إنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غلبهُ الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واخصتموا فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال: قوموا عنّي، فكان ابن عباس يقول: إنّ الرّزية كل الرزّية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (صحيح البخاري: 8/161 و1/37 و5/138).
____________
(1) صحيح الترمذي: 5/303. تاريخ الخلفاء للسيوطي: 172. الصواعق المحرقة لابن حجر: 121.
* وهذا أمرٌ آخر لرسول الله صلّى الله عليه وآله يقابله الصّحابة بالرفض والعصيان وبانتقاص النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
مع الملاحظة بأنَّ عمر بن الخطاب قال بحضرة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا طلب منهم إحضار الكتف والدّواة ليكتب لهم الكتاب الذي يمنعهم من الضّلالة قال: إنّ رسول الله يهجر بمعنى يهذي ـ والعياذ بالله ـ.
ولكنّ البخاري هذّب تلك العبارة وأبدلها بـ«غلبه الوجع» لأنّ قائلها عمر بن الخطاب. وتراه إذا أهمل اسم عمر في الرواية قال: فقالوا هجر رسول الله وهذه أمانة البخاري في نقل الحديث (وسوف نعقد له باباً خاصّاً).
وعلى كل حال فإنّ أكثر المحدّثين والمؤرّخين ذكروا بأنّ عمر بن الخطاب قال: إن رسول الله يهجر، وتبعه كثير من الصّحابة فقالوا مقالته بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولنا أن نتصور ذلك الموقف الرّهيب وتلك الأصوات المرتفعة وكثرة اللّغط والاختلاف بحضرته صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومهما تكن الرّواية معبّرة فلا تعبّر في الواقع إلاّ قليلاً عن المشهد الحقيقي، كما إذا قرأنا كتاباً تاريخياً يحكي حياة موسى عليه السّلام فمهما يكن الكتاب معبّراً فلا يبلغ تعبير الفيلم السينمائي الذي نُشاهده عياناً.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السّابع في باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله عزّ وجلّ من كتاب الأدب.
قال: احتجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حجيرة مخصّفةً أو حصيراً فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلّي إليها، فتبعه رجالٌ وجاؤوا يصلّون بصلاته ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم: ما زال بكم صنعكم حتى ظننت أنّه سيكتب
* ومع كلّ الأسف فإنّ عمر بن الخطّاب خالف أمر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجمع النّاس على صلاة النّافلة أيام خلافته وقال في ذلك: إنها بدعة ونعم البدعة(1) ، وتبعه على بدعته أكثر الصّحابة الذين كانوا يرون رأيّه ويؤيدونه في كل ما يفعل ويقول، وخالفه علي بن أبي طالب وأهل البيت الذي لا يعملون إلاّ بأوامر سيّدهم رسول الله صلّى الله عليه وعليهم ولا يبغون عنها بدلاً، وإذا كانت كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النّار فما بالك بالّتي جعلت لتخالف أحكام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب غزوة زيد بن حارثة من كتاب المغازي.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اُسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيّم الله لقد كان خليقاً للإمارة وإن كان من أحبّ النّاس إليّ وإنّ هذا لمن أحبّ النّاس إليّ بعده (صحيح البخاري: 5/84).
* وهذه القصّة ذكرها المؤرخون بشيء من التفصيل وكيف أنهم أغضبوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى لعن المتخلّفين عن بعث أسامة وهو القائد الصغير الذي لم يبلغ عمره سبعة عشر عاماً وقد أمره النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على جيش فيه أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وكل وجوه قريش، ولم يعيّن في ذلك الجيش علي بن أبي طالب ولا أحداً من الصّحابة الذين كانوا يتشيّعون له.
____________
(1) صحيح البخاري: 2/252 كتاب صلاة التراويح.
ولكن البخاري دائماً يقتصر الحوادث ويبتر الأحاديث حفاظاً على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة، ومع ذلك ففي ما أخرجه كفاية لمن أرد الوصول إلى الحقّ.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثّاني في باب التنكيل لمن أكثر الوصال من كتاب الصوم.
عن أبي هريرة قال: نعى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الوصال في الصّوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنّك تواصل يا رسول الله! قال: وأيّكم مثلي؟ إنّي أبيت يطعمني ربّي ويسقين، فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخّر لزدتكم كتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا. (صحيح البخاري: 2/243).
* مرحى لهؤلاء الصّحابة الذين ينهاهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الشيء فلا ينتهوا ويكرّر لهم نهيه فلا يسمعوا، أفلم يقرأوا قول الله تعالى: (وما أتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب) [الحشر: 7].
ورغم تهديد الله سبحانه لمن خالف رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعقاب الشّديد فإنّ بعض الصّحابة لا يقيمون لتهديده ووعيده وزناً.
وإذا كان حالهم على هذا الوصف فلا شك في نفاقهم ولو تظاهروا بكثرة الصّلاة والصّيام والتشدّد في الدّين إلى درجة أنهم يحرّموا نكاح نسائهم لئلاّ يرّوحوا ومذاكيرهم تقطر منيّاً. ويتنزهون عمّا يفعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تقدّم في الأبحاث السّابقة.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب بعث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كتاب المغازي:
عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم
* ذكر المؤرّخون هذه الحادثة بشيء من التفصيل وكيف ارتكب خالد بن الوليد هذه المعصية الشنيعة هو وبعض الصحابة الذين أطاعوه ولم يمتثلوا أوامر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحريم قتل من أسلم، إنّها من أكبر المعاصي التي أراقت دماء بريئة، ولأنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بدعوتهم للإسلام ولم يأمره بقتالهم.
ولكنّ خالد بن الوليد تغلّبت عليه دعوى الجاهلية وأخذته الحمية الشيطانية لأنّ بني جذيمة قتلوا عمّه «الفاكه بن المغيرة» أيام الجاهلية، فغدر بهم وقال لهم ضعوا أسلحتكم فإنّ الناس قد أسلموا ثم أمر بهم فكتّفوا وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ولمّا علم بعض الصّحابة المخلصين نوايا خالد، هربوا من الجيش والتحقوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعادوا عليه الخبر، فتبرّأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من فعله وأرسل عليّاً بن أبي طالب فودّى لهم الدّماء والأموال.
ولمعرفة هذه القضية بشيء من التفصيل، لا بأس بقراءة ما كتبهُ عباس محمود العقاب في كتابه «عبقرية خالد» إذ قال العقّاد بالحرف في صفحه 57 و58 ما يلي:
«فبعد فتح مكّة توجّهتْ عنايته عليه السّلام إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام، فأرسل السرايل إلى قبائلها لدعوتها والأستيثاق من
فلما أقبل عليهم خالد وعلموا أنّ بني سليم معه لبسوا السّلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول، فسألهم خالد: أمسلمون أنتم؟ فقيل إنّ بعضهم أجابه بنعم، وبعضهم أجابه: صبأنا صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام، ثم سألهم: فما بال السّلاح عليكم؟ قالوا: إنّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السّلاح! فناداهم: ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا. فصاح بهم رجلٌ منهم يقال له جحدم، ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً. فما زالوا به حتّى نزع سلاحه فيمن نزع وتفرّق الآخرون.
فأمر خالد بهم فكتّفوا وعرضهم على السّيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبي عليه السلام بالقتال، ثم انتهى الخبر إلى النّبي فرفع يديه إلى السّماء وقال ثلاثاً: «اللهمّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» وبعث بعلي بن أبي طالب إلى بني جذيمة فودّى دماءهم وما أصيب من أموالهم…
وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة، من حضر منهم السّرية ومن لم يحضرها، واشتدّ عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثار عميّه» انتهى كلام العقّاد.
* نعم هذا ما ذكره العقّاد الحرف في كتابه عبقرية خالد والعقّاد
فكيف وقد شهد هو بنفسه في كلامه بأنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال ـ وأعترف بأن بني جذيمة نزعوا سلاحهم بعد ما لبسوه عندما خدعهم خالد بقوله لأصحابه: ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا واعترف أيضاً بأنّ جحدم الذي رفض نزع السّلاح وحذّر قومه بأنّ خالداً سيغدر بهم بقوله: ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد، والله ما بعد وضع السّلاح إلا الأسار وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً. وقال العقّاد بأنّ بني جذيمة ما زالوا به حتّى نزع سلاحه، وهذا ما يدلُّ على إسلام القوم وحسن نيّتهم.
فإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال كما شهدت يا عقّاد فما هو عذر خالد لمخالفة أوامر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم؟ هذه عقدة لا أحسبك تحلها يا عقّاد.
وإذا كان القوم قد نزعوا السّلاح وأعلنوا إسلامهم وغلبوا صاحبهم الذي أقسم أن لا يضع سلاحه حتّى أقنعوه كما اعترفت به يا عقّاد فما هو عذر خالد للغدر بهم وقتلهم صبراً وهم عُزّل من السلاح؟
وقد قلت بأن خالد أمر بهم فكتّفوا وعرضهم على السّيف. وهذه عقدة أخرى ما أظنّك قادراً على حلّها يا عقّاد. وهل الإسلام أمر المسلمين بقتل من لم يقاتلهم؟ على فرض أنّهم لم يعلنوا إسلامهم. كلا فهذه حجّة المستشرقين أعداء الإسلام والتي يروّجونها اليوم.
ثم اعترفت مرّةً أخرى بأنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأمره بقتال القوم، إذ قلت بأنّ المهاجرين والأنصار أنكروا على خالد أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبي
ويكفينا ردّاً على العقّاد، أنّه أبطل أعذاره بنفسه وناقضها باكلمها حين اعترف بقوله:
وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها ـ فإذا كان أجلاّء الصّحابة شدّدوا النّكير على خالد حتّى هربوا من جيشه واشتكوه للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإذا كان عبد الرحمن بن عوف قد اتّهم خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثأر عمَيْه ـ كما شهد بذلك العقّاد ـ.
وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد رفع يديه إلى السماء وقال ثلاث مرّات: «اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد».
وإذا كان النّبي بعث بعلي ومعه أموالٌ فودّى لبني جذيمة دماءهم وما أصيب من أموالهم حتى استرضاهم ـ كما شهد العقاد ـ هذا يدل على أن القوم أسلموا ولكنّ خالد ظلمهم واعتدى عليهم فهل من سائل يسأل العقّاد الذي يحاول جهده تبرير خالد إن كان هو أعلم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي تبرّأ إلى الله ثلاثً من فعله؟ أو من أجلاّء الصّحابة الذين أنكروا عليه؟ أو من الصّحابة الذين حضروا الواقعة وهربوا من السّرية لهول ما رأوه من صنيعه المُنكر؟ أو من عبد الرحمن بن عوف الذي كان معه في السّرية وهو لا شك أعرف بخالد من العقّاد، والذي اتهمه بقتل القول عمداً ليدرك ثأرَ عمَّيه؟
قاتل الله التعصّب الأعمى والحمية الجاهلية التي تقلب الحقائق؛ ومهما اختصر البخاري القضية في أربعة سطور، فإن فيما أورده كفاية لإدانة خالد وبقية الصّحابة الذي أطاعوه في قتل المسلمين الأبرياء والذين ذكرهم العقاد بقوله: فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، ولكنّ البخاري لا يستثني من الصحابة الذين أطاعوه إلا اثنين أو ثلاثة هربوا من الجيش ورجعوا للنبي يشتكون خالد فلا يمكن لك أن تقنعنا يا عقّاد بأنّ
ولكنّها محاولة منك للحافظ على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة وستر الحقائق بأيّ ثمن. وجاء الوقت لإزاحة السّتار ومعرفة الحق.
وكم لخالد بن الوليد من مجازر شنيعة حدّثنا عنها التأريخ خصوصاً يوم البطاح عندما انتدبه أبو بكر على رأس جيش كبير مؤلّف من الصّحابة الأولين فغدر أيضاً بمالك بن نويرة وقومه ولمّا وضعوا السّلاح أمر بهم فكُتّفوا وضرب أعناقهم صبراً، ودخل بزوجة مالك ليلى أم تميم في نفس الليلة التي قتل فيها بعلها. ولمّا وقف عمر بن الخطاب يقتص منه وقال له: قتلت أمرءاً مسلماً ثم نزوت على زوجته، والله لأرجمنّك بأحجارك يا عدوّ الله! وقف أبو بكر إلى جانب خالد وقال لعمر: إرفع لسانك عن خالد فإنّه تأوّل فأخطأ. وهذه قضية أخرى يطول شرحها ويقبح عرضها. فكم من مظلوم يهضم حقّه لانّ ظالمه قويٌّ عزيز، وكم من ظالم ينصرُ ظلمه وباطله لأنّه غنيٌّ ومقرّبٌ للجهاز الحاكم، فهذا البخاري عندما يستعرض قصّة بنو جذيمة يبترها بتراً ويقول: بعث النبي خالد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا.
فهل كان بنو جذيمة فرس أم أتراك أم هنود وألمان، حتى لا يحسنوا أن يقولوا أسلمنا يا بخاري؟ أم هم من القبائل العربية التي نزل القرآن بلغتهم؟ ولكن التعصّب الأعمى والمؤامرة الكبرى التي حيكت للحفاظ على كرامة الصحابة هي التي جعلت البخاري يقول مثل هذا القول ليبرّر فعل خالد بن الوليد. وهذا العقاد أيضاً يقول: فسألهم خالد أمسلمون أنتم؟ ثم يقول العقّاد: فقيل إنّ بعضهم أجابه بنعم وبعضهم أجابه صبأنا صبأنا… وكلمة «فقيل» تدل دلالة واضحة على أنّ القوم يتمسكون بأي شيء قد
معاملة الصحابة لأوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
بعد وفاته
تضييعهم سنة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
أخرج البخاري في جزئه الأول في باب تضييع الصّلاة.. عن غيلان قال أنس بن مالك: ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم! قيل الصّلاة، قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها.
وقال سمعت الزهري يقول دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركت إلاّ هذه الصّلاة وهذه الصّلاة قد ضيّعت. (صحيح البخاري: 1/134).
كما أخرج البخاري في جزئه الأول في باب فضل صلاة الفجر في جماعة قال: حدّثنا الأعمش قال: سمعت سالماً قال: سمعت أمّ الدرداء تقول دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضبٌ فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً. (صحيح البخاري: 1/159).
وأخرج البخاري في جزئه الثاني في باب الخروج إلى المصلّى بغير منبر عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى فأول شيء يبدأ به الصّلاة ثم بعد
إذا كان الصحابة في عهد أنس بن مالك وعلى عهد أبي الدرداء وفي حياة مروان بن الحكم وهو عهد قريب جدّاً بحياة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم، يغيّرون سنن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويضيّعون كل شيء حتّى الصّلاة كما سمعت،ويقلّبون سنن المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم لمصالحهم الخسيسة وهي أنّ بني أمية اتخذوا سنّة سبّ ولعن علي وأهل البيت على المنابر بعد كل خطبة فكان أكثر النّاس في عيد الفطر والأضحى عندما تنتهي الصّلاة يتفرّقون ولا يحبّون الاستماع إلى الإمام يلعن عليّاً بن أبي طالب وأهل البيت ولذلك عمد بنو أميّة إلى تغيير سنّة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقدّموا الخطبة على الصلاة في العيدين ليتسنّى لهم سبّ ولعن علي بمحضر المسلمين كافّة ويرغمون بذلك أنوفهم وعلى رأس هؤلاء معاوية بن أبي سفيان فهو الذي سنّ لهم تلك السنّة التي أصبحت عندهم من أعظم السنن التي يتقرّبون بها إلى الله حتى أنّ بعض المؤرخين حكى أنّ أحد أئمّتهم أتمّ خطبته في يوم الجمعة ونسي لعن علي وهمّ بالنزول للصّلاة فإذا النّاس يتصايحون من كل جانب: تركت السُنّة، نسيت السنّة ـ أين هي السنّة؟ نعم، وللأسف فهذه البدعة التي ابتدعها معاوية بن أبي سفيان بقيت ثمانين عاماً متداولة على منابر المسلمين، وبقيت أثارها حتّى اليوم، ومع ذلك فأهل السنّة والجماعة يترضّون على معاوية وأتْباعه ولا يطيقون فيه نقداً ولا تجريحاً بدعوى احترام الصّحابة.
والحمد لله أنّ الباحثين المخلصين من أمة الإسلام بدأوا يعرفون
عند ذلك يتلجلجون ويتلكّؤون في الجواب ويقولون أشياء إن دلّت على شيء فلا تدلّ إلاّ على سخافة العقول والتعصّب الأعمى المقيت يقول بعضهم مثلاً: هذه أكاذيب من موضوعات الشيعة، والبعض الآخر يقول: هم صحابة رسول الله ولهم أن يقولوا في بعضهم ما شاؤوا أمّا نحن فلسنا في مستواهم لكي ننتقدهم!
سبحانك اللهمّ وبحمدك لقد أوقفني كلامك في القرآن الكريم على حقائق كان من الصعب عليّ فهمها والاعتقاد بها وكنت كلّما قرأت: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم أذانٌ لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون) [الأعراف: 179].
أتعجّب في نفسي وأقول كيف يكون ذلك؟ أيمكن أن يكون الحيوان الأبكم أهدى من هذا الإنسان؟ أيمكن أن ينحت الإنسان حجراً ثمّ يعبده ويطلب منه الرزق والمعونة؟ ولكن والحمد لله زال عجبي عندما تفاعلت مع النّاس وسافرت إلى الهند ورأيت العجب العجاب رأيت دكاترة في علم التشريح يعرفون خلايا الإنسان ومكوّناته، ولا يزالون يعبدون البقر، ولو
____________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك في: 3/121 وقال حديث صحيح على شرط الشيخين، كما أورده الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: 6/323 والنسائي وغيرهم.
شهادة أبي ذرّ الغفاري في بعض الصحابة
أخرج البخاري في جزئه الثاني في باب ما أدّيت زكاته فليس بكنز عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملإ من قريش فجاء رجلٌ خشن الشعر والثياب والهيئة حتّى قام عليهم فسلّم ثمّ قال: بشّر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل ثمّ ولّى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت! قال: إنّهم لا يعقلون شيئاً، قال لي خليلي…، قلت من خليلك؟ قال: النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال لي: يا أبا ذر أتبصر أحداً قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: ما أحبّ أن لي مثل أحدٍ ذهباً أنفقه كلّه إلاّ ثلاثة دنانير. وإنّ هؤلاء لا يعقلون إنّما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دينٍ حتّى ألقى الله عزّ وجلّ. (صحيح البخاري: 2/112).
وأخرج البخاري في جزئه السابع في باب الحوض وقول الله تعالى: إنا أعطيناك الكوثر: 'ن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: بينما أنا قائم فإذا زمرةُ حتّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمّ فقلت أين؟ قال: إلى النّار والله قلت: وما شأنهم قال: إنهم ارتدّوا بعدك أدباهم القهقرى ثم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلمّ، قلت أين؟ قال: إلى النّار والله
وعن أبي سعيد الخدري: فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي. (صحيح البخاري: 7/209).
كما أخرج البخاري في جزئه الخامس من باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة) .
عن العلاء بن المسيّب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما فقلت: طوبى لك صحبت النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبايعته تحت الشجرة فقال: يا بن أخي إنّك لا تدري ما أحدثناه بعده. (صحيح البخاري: 5/66).
* وإنّها لشهادةٌ كبرى من صحابي كبير كان على الأقل صريح مع نفسه ومع النّاس، وتأتي شهادته مؤكّدة لما قاله الله فيهم (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) .
ومؤكّدة لما قاله النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فيقال لي، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».
والبراء بن عازب وهو صحابي جليل من الأكابر ومن السّابقين الأوّلين الذين بايعوا النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحت الشجرة يشهد على نفسه وغيره من الصحابة بأنّهم أحدثوا بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كي لا يغترّ بهم النّاس، وأوضح بأنّ صحبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومبايعته تحت الشجرة والتي سمّيت بيعة الرضوان لا تمنعان من ضلالة الصحابي وارتداده بعد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج البخاري في جزئه الثامن في باب قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لتتبعنّ سنن من كان قبلكم. عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لتتّبعنَّ سنن من كان قبلكم
شهادة التاريخ في الصّحابة
ولنا بعد القرآن والسنّة شهادة أخرى قد تكون أوضح وأصرح لأنها ملموسة ومحسوسة عاشها النّاس وشاهدوها وتفاعلوا معها فأصبحت تاريخاً يدوّن وأحداثاً تحفظ وتكتب.
وإذا قرأنا كتب التاريخ عند أهل السنّة والجماعة كالطبري وابن الأثير وابن سعد وأبي الفداء وابن قتيبة وغيرهم لرأينا العجب العجاب ولأدركنا أنّ ما يقوله أهل السنّة والجماعة في عدالة الصّحابة وعدم الطّعن في أيّ واحد منهم، كلام لا يقوم على دليل ولا يقبله العقل السّليم ولا يوافق عليه إلاّ المتعصّبون الذين حجبت الظلمات عنهم النور، ولم يعودوا يفرّقون بين محمد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ولا يفعل إلاّ الحق.وبين صحابته الذين شهد القرآن بنفاقهم وفسقهم وقلة تقواهم، فتراهم يدافعون عن الصّحابة أكثر ممّا يدافعون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. وأضرب لذلك مثلاً.
* عندما تقول لأحدهم بأنّ سورة عبس وتولَّى لم يكن المقصود بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وإنّما المقصود بها أحد كبار الصّحابة الذي عاتبه الله على تكبّره واشمئزازه عند رؤيته الأعمى الفقير ـ فتراه لا يقبل بهذا التفسير ويقول: ما محمد إلاّ بشرٌ وقد غلط مرات عديدة وعاتبه ربّه في أكثر من موقع. وما هو بمعصوم إلاّ في تبليغ القرآن، هذا رأيه في رسول الله!
ولكنّك عندما تقول بأنّ عمر بن الخطاب أخطأ في ابتداعه لصلاة التّراويح التي نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها وأمر النّاس بالصلاة في بيوتهم
تراه يدافع عن عمر بن الخطّاب دفاعاً لا يقبل النّقاش ويقول: إنها بدعة حسنة، ويحاول بكلّ جهوده أن يلتمس له عذراً رغم وجود النّص من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على النّهي، وإذا قلت له إنّ عمر عطّل سهم المؤلّفة قلوبهم الذي حكم به الله تعالى في كتابه العزيز فتراه يقول: إنّ سيدنا عمر عرف أن الإسلام قد قوي فقال لهم: لا حاجة لنا فيكم وهو أعلم بمفاهيم القرآن من كلّ النّاس! ألا تعجب من هذا؟
ووصل الحدّ بأحدهم عندما قلت له: دعنا من البدعة الحسنة ومن المؤلّفة قلوبهم، ما هو دفاعك عنه إذ أخذ يهدّد بحرق بيت فاطمة الزهراء بمن فيه إلاّ أن يخرجوا للبيعة؟
فأجابني بكلّ صراحة: معه الحقّ، ولولا أنّه لم يفعل ذلك لتخلّف كثير من الصّحابة عند علي بن أبي طالب ولوقعت الفتنة.
فكلامنا مع هذا النّمط من النّاس لا يجدي ولا ينفع، ومع الأسف الشّديد فإنّ الأغلبية من أهل السنّة والجماعة يفكّرون بهذه العقلية لأنهم لا يعرفون الحقّ إلاّ من خلال عمر بن الخطاب وأفعاله، فهم عكسوا القاعدة وعرفوا الحقّ بالرّجال، والمفروض أن يعرفوا الرجال بالحقّ (أعرف الحقّ تعرف أهله كما قال الإمام علي).
ثم سرت هذه العقيدة فيهم وتعدّت عمر بن الخطاب إلى كلّ الصّحابة، فهم كلّهم عدول ولا يمكن لأحد خدشهم أو الطعن فيهم وبذلك ضربوا حاجزاً كثيفاً وسدّاً منيعاً على كل باحث يريد معرفة الحقّ فتراه لا يتلّخص من موجة حتى تعترضه أمواج ولا يتخلّص من خطر حتى تعترض سبيله أخطار، ولا يكاد المسكين يصل إلى شاطىء السّلامة إلاّ إذا كان من اُولي العزم والصبر والشجاعة.
وإذا رجعنا إلى موضوع التأريخ فإنّ بعض الصّحابة قد كُشفت
وأوّل ما يلفت النّظر هو موقف هؤلاء تجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غداة وفاته روحي له الفداء، وكيف تركوه جثة ولم يشتغلوا بتجهيزه وتغسيله وتكفينه ودفنه، بل أسرعوا إلى مؤتمرهم في سقيفة بني ساعدة يختصمون ويتنافسون على الخلافة، والتي عرفوا صاحبها الشرعي وبايعوه في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم.
ممّا يؤكّد لنا بأنّهم اغتنموا فرصة غياب علي وبني هاشم الذين أبتْ أخلاقهم أن يتركوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مسجّى ويتسابقوا للسّقيفة فأراد هؤلاء أن يُبرمُوا الأمر بسرعة قبل فراغ أولئك من مهمّتهم الشريفة ويلزموهم بالأمر الواقع فلا يقدرون بعده على الكلام والاحتجاج لأنّ أصحاب السّقيفة تعاقدوا على قتل كل من يحاول فسخ الأمر الذي أبرموه بدعوى مقاومة المخالفين وإخماد الفتنة.
ويذكر المؤرخون أشياء عجيبة وغريبة وقعت في تلك الأيام من أولئك الصّحابة الذين اصبحوا فيما بعد، هم خلفاء الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمراء المؤمنين ـ كحملهم النّاس على البيعة بالضّرب والتهديد بالقوة وكالهجوم على بيت فاطمة وكشفه، وكعصر بطنها بالباب الذي كانت وراءه حتى أسقطت جنينها. وإخراج علي مكتّفاً وتهديده بالقتل إن رفض البيعة، وغصب الزهراء حقوقها من النحلة والإرث وسهم ذي القربى حتّى ماتت غاضبة عليهم وهي تدعي عليهم في كلّ صلاة، ودفنت في الليل سرّاً ولم يحضروا جنازتها وكقتلهم للصّحابة الذين أبوا أن يدفعوا الزّكاة لأبي بكر تريّثاً منهم حتّى يعرفوا سبب تأخّر علي عن الخلافة، لأنهم يعوه في حياة النبيّ في غدير خم(1) .
____________
(1) قضية مالك بن نويرة وقتله مشهورة في كتب التاريخ.
وكهتكهم للمحارم وتعدّي حدود الله في قتل الأبرياء من المسلمين والدخول بنسائهم من غير احترام للعدّة(1) .
وكتغييرهم أحكام الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم المبيّنة في الكتاب والسنّة وإبدالها بأحكام اجتهادية تخدم مصالحهم الشخصية(2) .
وكشرب بعضهم الخمر والمداومة على الزنا وهم ولاة: المسلمين والحاكمون فيهم(3) .
وكنفي أبي ذر الغفاري وطرده من مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى مات وحيداً بدون ذنب اقترفه ـ وضرب عمّار بن ياسر حتّى وقع له فتق وضرب عبدالله بن مسعود حتّى كسرت أضلاعه وعزل الصحابة المخلصين من المناصب وتوليّة الفاسقين والمنافقين من بني أميّة أعداء الإسلام.
وكسبِّ ولعن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً وقتل من تشيّع لهم من الصّحابة الأبرار(4) .
وكاستيلائهم على الخلافة بالقهر والقوّة والقتل والإرهاب وتصفية من عارضهم بشتّى الوسائل كالاغتيال ودسّ السمّ وغير ذلك(5) وكإباحتهم مدينة الرسول لجيش يزيد يفعل فيها ما يشاء رغم قول الرسول: «إنّ حرمي المدينة فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجميعن».
____________
(1) قضية خالد بن الوليد ودخوله بليلى بنت المنهال بعد قتل زوجها.
(2) كتعطيل إرث الزهراء. وسهم ذي القربى ـ وسهم المؤلفة قلوبهم ـ ومتعة الزواج ومتعة الحج وغيرها كثير.
(3) كقضية المغيرة بن شعبة وزناه بأم جميل والقصة مشهورة في كتب التاريخ.
(4) كما قتل معاوية بن أبي سفيان حجر بن عدي الصحابي الجليل وأصحابه لأنّه امتنع عن لعن علي بن أبي طالب.
(5) يقول المؤرخون كان معاوية يستدعي معارضيه ويسقيهم عسلاً مسموماً فيخرجون من عنده ويموتون فيقول: إنّ لله جنداً من عسل.
وكرميهم بيت الله بالمنجنيق وحرقهم الحرم الشريف وقتلهم بعض الصّحابة بداخله.
وكحربهم لأمير المؤمنين وسيد الوصيين سيد العترة الطّاهرة الذي كان من رسول الله بمنزلة هارون من موسى في حرب الجمل وحرب صفين وحرب النهروان من أجل أطماع خسيسة ودنيا فانية.
وكقتلهم سيديّ شباب أهل الجنّة الإمام الحسن بالسمّ والإمام الحسين بالذبح والتمثيل، وقتل عترة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأجمعهم فلم ينجُ منهم إلا علي بن الحسين وكأفعال أخرى يندى لها جبين الإنسانية وأُنزّه قلمي عن كتابتها وأهل السنّة والجماعة يعرفون الكثير منها ولذلك يحاولون جهدهم صدّ المسلمين عن قراءة التاريخ والبحث في حياة الصّحابة.
وما ذكرته الآن من كتب التاريخ من جرائم وموبقات هي من أعمال الصّحابة بلا شكّ، فلا يمكن لعاقل بعد قراءة هذا، أن يبقى مصرّاً على تنزيه الصّحابة والحكم بعدالتهم وعدم الطّعن فيهم إلاّ إذا فقد عقله.
مع الملاحظة الأكيدة بأنّنا واعون جدّاً إلى عدالة البعض منهم ونزاهتهم وتقواهم وحبّهم لله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وثباتهم على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، حتّى قضوا نحبهم وما بدّلوا تبديلاً فرضي الله عنهم وأسكنهم بجوار حبيبهم ونبيّهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
وهؤلاء هم أكبر وأعظم وأسمى من أن يخدش في سمعتهم خادشٌ، أو يتقوّل عليهم متقوّلٌ وقد مدحهم ربُّ العزّة والجلالة في عدة مواضع من كتابه العزيز كما نوّه بصحبتهم وإخلاصهم نبيّ الرحمة أكثر من مرّة كما لم يسجّل لهم التاريخ إلاّ المواقف المشرّفة المليئة بالمروءة والنبل والشجاعة والتقوى والخشونة في ذات الله، فهنيئاً لهم وحسن مئاب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ورضاءٌ من الله أكبر ذلك جزاء الشاكرين. والشّاكرون كما ذكر كتاب الله هم أقلية قليلة، فلا تنس!
أما الذين استسلموا ولمّا دخل الإيمان في قلوبهم وصاحبوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رغبة ورهبة أو لحاجة في نفس يعقوب ووبخهم القرآن وهدّدهم توعّدهم، وحذّرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحذّر منهم ولعنهم في عدة مواطن، وسجّل لهم التاريخ أعمال ومواقف شنيعة… أمّا هؤلاء فليسوا جديرين بأي احترام ولا تقدير فضلاً عن نترضّى عليهم وننزلهم منزلة النبيّين والشهداء والصالحين.
وهذا لعمري هو الموقف الحقّ الذي يزن الموازين بالقسط ولا يتعدّى حدود ما رسمه الله لعباده من موالاة المؤمنين ومعادة الفاسقين والبراءة منهم قال تعالى في كتابه العزيز: (ألم تر إلى الذين تولّوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون * أعدّ الله لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون * اتخذوا أيمانهم جنّةً فصدّوا عن سبيل الله فلهم عذابٌ مهينٌ * لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنّهم على شيءٍ ألا إنهم هم الكاذبون * استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون * إنّ الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الأذلّين * كتب الله لأغلبنّ أنا وسلي إنّ الله قويٌ عزيز * لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم الملفحون) [المجادلة: 14 ـ 22].
صدق الله العلي العظيم
ولا يفوتني في هذا الصّدد أن أسجّل بأن الشيعة هم على حقّ لأنهم لا يلقون بالمودّة إلاّ لمحمّد وأهل بيته وللصحابة الذين ساروا على نهجهم
فتراهم يترضون عن عليّ ومعاوية غير مبالين بما ارتكبه هذا الأخير من أعمال أقلّ ما يقال فيها أنها كفرٌ وضلال ومحاربة لله ورسوله وقد ذكرت فيما سبق تلك الطريقة التي لا بأس بتكرارها وهي أنّ أحد الصالحين زار قبر الصّحابي الجليل حجر بن عدي الكندي فوجد عنده رجلاً يبكي ويكثر البكاء فظنّه من الشيعة فسأله: لماذا تبكي؟ أجاب: أبكي على سيدنا حجر رضي الله تعالى عنه!
قال: ما ذا أصابه؟
أجاب: قتله سيدنا معاوية رضي الله تعالى عنه.
قال: ولماذا قتله؟
أجاب: لأنه أمتنع عن لعن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه.
فقال له ذلك الصّالح: وأنا أبكي عليك أنت رضي الله تعالى عنك.
فلماذا هذا الإصرار والعناد على مودّة كلّ الصّحابة أجمعين حتّى نراهم لا يصلّون على محمد وآله إلاّ ويضيفون وعلى أصحابه أجمعين فلا القرآن أمرهم بذلك ولا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طلب منهم ذلك ولا أحدٌ من الصّحابة قال بذلك، وإنما كانت الصّلاة على محمد وآله محمد كما نزل بها القرآن وكما علّمها لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وإن شككت في شيء فلا ولن أشكّ في أنّ الله طلب من المؤمنين مودّة ذي القربى وهم أهل البيت وجعلهم فرضاً عليهم كأجر على الرسالة المحمّدية فقال تعالى:
(قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) [الشورى: 23].
وقد اتّفق المسلمون بلا خلاف على مودّة أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام واختلفوا في غيرهم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
وقول الشيعة في مودّة أهل البيت ومن تبعهم لا ريب فيه وقول أهل السنّة والجماعة في مودّة الصّحابة أجمعين فيه ريبٌ كبير وإلاّ كيف يلقي المسلم بالمودة إلى أعداء أهل البيت عليهم السلام وقاتليهم ويترضّى عنهم؟ أليس هذا هو التناقض المقيت؟
ودع عنك قول أهل الشطحات وبعض المتصوّفة الذين يزعمون أن الإنسان لا يصفى قلبه ولا يعرف الإيمان الحقيقي إلاّ عندما لا يبقى في قلبه مثقال ذرة من بعضٍ لعباد الله أجمعين من يهود ونصارى وملحدين ومشركين، ولهم في ذلك أقوال عجيبة وغريبة يلتقوا فيها مع المبشّرين من رجال الكنيسة والمسيحيين الذين يموّهوا على النّاس بأنّ الله محبّة والدّين محبّة فمن أحبّ مخلوقاته فليس له حاجة بالصّلاة والصّوم والحج وغير ذلك.
إنّها لعمري خزعبلاتٌ لا يقرّها القرآن والسنّة ولا العقل فالقرآن الكريم يقول: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله) ويقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [المائدة: 51].
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الإيمان، ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظّالمون) [التوبة: 23]. وقال أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [الممتحنة: 1].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا يتمّ إيمان المؤمن حتّى يكون حبّه في الله وبغضه في الله».
وقال أيضاً: «لا تجتمع في قلب مؤمن حب الله وحبّ عدوّه».
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جداً. ويكفي العقل وحده دليلاً بأنّ الله سبحانه حبّب للمؤمنين الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان فقد يكره الإنسان إبنه أو أباه أو أخاه لمعاندة الحقّ والتمادي في طريق الشطيان، وقد يحبّ ويوالي أجنبي لا تربطه به إلاّ أخوّة الإسلام.
ولكلّ هذا يجب أن يكون حُبّنا وودّنا وموالاتنا لمن أمر الله بمودّتهم كما يجب أن يكون بغضنا وكرهنا وبراءتنا لمن أم الله سبحانه بالبراءة منهم.
ومن أجل ذلك كانت موالاتنا لعلي والأئمّة من بنيه من غير أن تكون لنا علاقة مسبقة بمودّتهم وذلك لأنّ القرآن والسنّة والتّاريخ والعقل لم يتركوا لنا فيهم أي ريب.
ومن أجل ذلك كانت أيضاً براءتنا من الصّحابة الذين اغتصبوا حقّه في الخلافة من غير أن تكون لنا علاقة مسبقة ببغضهم وذلك لأنّ القرآن والسنّة والتاريخ والعقل تركوا لنا فيهم ريباً كبيراً.
وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرنا بقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فلا ينبغي لمسلم أن يتّبع أي أمرٍ مريب ويترك الكتاب الذي لا ريب فيه.
كما يجب على كلّ مسلم أن يتحرّر من قيوده وتقاليده ويحكّم عقله بدون أفكار مسبقة ولا أحقاد دفينة لأنّ النّفس والشيطان عدوّان خطيران
وعلى المسلمين أن يتّقوا الله في عباده الصّالحين منهم. أمّا الذين لم يكونوا من المتّقين فلا حرمة لهم، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «لا نميمة في فاسق» ليكشف المسلمون أمره فلا يغترّون به ولا يوالونه.
وعلى المسلمين أن يكونوا اليوم صادقين مع أنفسهم وينظروا إلى واقعهم المؤلم الحزين المخزي ويكفيهم من التغنّي والتفاخر بأمجاد أسلافهم وكبرائهم فلو كان أسلافنا على حقّ كما نصوّرهم اليوم لما وصلنا نحن إلى هذه النتيجة التي هي حتماً حصيلة الانقلاب الذي وقع في الأمّة بعد وفاة نبيّها روحي وأرواح العالمين له الفداء.
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيّاً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً) [النساء: 135].
قول أهل الذكر بخصوص بعض الصّحابة
قال الإمام علي عليه السّلام، صف هؤلاء الصّحابة المعدودين من السّابقين الأوّلين: فلمّا نهضت بالأمر، نكثت طائفةٌ ومرقت أخرى، وقسط آخرون(1) ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين) بلى
____________
(1) يقول محمد عبده في شرح نهج البلاغة من الخطبة الشقشقية في هذا: الناكثون أصحاب الجمل، والمارقون أصحاب النهروان، والقاسطون أي الجائرون وهم أصحاب صفين.
وقال أيضاً سلام الله عليه فيهم: اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً واتّخذهم له أشراكا فباض وفرّخ في صدورهم ودبّ ودرج في حجورهم فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم فركب بهم الزّلل وزيّن لهم الخطل فعل من قد شرّكه الشيطان في سلطان ونطق بالباطل على لسانه. نهج البلاغة: 96.
وقال عليه السّلام في الصّحابي المشهور عمرو بن العاص: عجباً لابن النّابغة… لقد قال باطلاً ونطق اثماً، أما وشرُّ القول الكذب، إنه يقول فيكذب ويعد فيخلف، ويسأل فيلحف ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الإلّ. نهج البلاغة: 200.
* وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «آيات المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ـ وكل هذه الرّذائل وأكثر منها موجودة في عمرو بن العاص.
وقال عليه السّلام في مدح أبي ذر الغفّاري، وذمّ عثمان ومن معه الذين أخرجوه إلى الربذة ونفوه إلى أن مات وحيداً:
يا ابا ذر، إنّك غضبت لله فراج من غضبت له، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً والأكثر حسّداً. ولو أن السّماوات والأرضين كانت على عبد رتّقاً ثم اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً، ولا يؤنسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو قرضت منها لأمنوك. نهج البلاغة: 299.
وقال عليه السّلام في المغيرة بن الأخنس وهو أيضاً من أكابر الصّحابة: يا بن اللّعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، والله ما
وقال عليه السّلام في طلحة والزّبير الصّحابيان الشهيران اللذان حارباه بعدما بايعاه ونكثا بيعته:
والله ما أنكروا على منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً، وإنّهم ليبلطون حقّاً هم تركوه، ودماً هم سفكوه…
وإنها للفئة الباغية فيها الحما والحمة والشبهة المغدقة وإنّ الأمر لواضح، وقد زاح الباطل عن نصابه واقطع لسانه عن شغبه…
فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون البيعة البيعة، قبضت كفِّي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فجاذبتموها.
اللّهم إنّهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وألّبا النّاس عليّ، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا، ولقد استتبتهما قبل القتال، واستأنيت بهما أمام الوقاع فغمطا النّعمة وردّا العافية. نهج البلاغة: 306. وفي رسالة منه إليهما أيضاً فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار والنار والسلام. نهج البلاغة: 626.
وقال عليه السّلام في مروان بن الحكم وقد أسّره في حرب الجمل ثمّ أطلق سراحه وهو من الذين بايعوا ونكثوا البيعة.
لا حاجة لي في بيعته إنّها كفٌّ يهوديّة، لو بايعني بكفّه لغدر بسبّته، أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمّة منه ومن ولده يوماً أحمر. نهج البلاغة: 176.
وقال عليه السّلام في الصّحابة الذين خرجوا من عائشة إلى البصرة في حرب الجمل، وفيهم طلحة والزبير:
فخرجوا يجرّون حرمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تجرّ الأمة عند شرائها متوجهين بها إلىالبصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما وأبرزا حبيس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجلٌ إلاّ وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره، فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها فقتلوا طائفة صبراً، وطائفة غدراً فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً معتمدين لقتله بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم. نهج البلاغة: 370.
وقال عليه السّلام في عائشة وأتباعها من الصّحابة في حرب الجمل: كنتم جند المرأة وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم وعقر فهربتم أخلاقكم دقاقّ وعهدكم شقاقّ، ودينكم نفاقّ. نهج البلاغة: 98.
أمّا فلانة فأدركها رأي النّساء، وضغنٌ غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لم تفعل ولها بعد حرمتها ألأولى والحساب على الله تعالى. نهج البلاغة: 334.
وقال عليه السّلام في قريش عامّة وهم صحابة بلا شك:
أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً، والأشدّون بسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نوطاً، فإنّها كانت أثرةٌ شحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم الله والمعود إليه القيامة ودع عنك نهباً صيح في حجراته.
وهلّم الخطب في ابن ابي سفيان فلقد أضحكني الدّهر بعد إبكائه ولا غرو والله فيا له خطباً يستفرغ العجب ويكثر الأود، حاول القول إطفاء نور الله من مصباحه وسدّ فواره من ينبوعه وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً، فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه وإن تكن
وقال في هذا المعنى عند دفنه سيدة النّساء فاطمة الزّهراء وهو يخاطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:
وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخرها الحال. هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر… نهج البلاغة: 460.
وقال عليه السلام في رسالة إلى معاوية بعث بها إليه:
فإنّك مترفٌ قد أخذ الشيطان منك مأخذه وبلغ فيك أمله وجرى منك مجرى الروح والدّم.
ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيّة وولاّة أمر الأمّة بغير قدم سابق ولا شرف باسقٍ ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشّقاء. وأحذّرك أن تكون متمادياً في غرّة الأمنية مختلف العلانية والسريرة.
وقد دعوت إلى الحرب فدع النّاس جانباً وأخرج إليَّ وأعف الفريقين من القتال ليعلم أيّنا المرين على قلبه والمغطّى على بصره، فأنا أبو الحسن قاتل جدّك وخالط وأخيك شدخاً يوم بدر، وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوّي ما استبدلت ديناً ولا استحدثت نبيّاً، وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين… نهج البلاغة: 526.
وأمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، ولكن ليس أمية كهاشمٍ ولا حربٌ كعبد المطّلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللّصيق ولا المحقّ كالمبطل ولا المؤمن كالمدغل ولبئس الخلف خلف يتتبع سلفاً هوى في نار جهنّم.
وفي أيدينا بعد فضل النبوّة التي أذللنا بها العزيز ونعشنا بها الذّليل
وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله، ولسنا إيّاك أجبنا ولكنّا أجبنا القرآن في حكمه ـ والسّلام. نهج البلاغة: 595.
(وقل جاءالحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً) [الإسراء: 81].
الفصل الخامس
فيما يتعلّق بالخلفاء الثلاثة (أبو بكر وعمر وعثمان)
إنّ أهل السنّة والجماعة وكما قدّمنا لا يسمحون بنقد وتجريح أيّ صحابي من صحابته صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعتقدون بعدالتهم جميعاً، وإذا كتب أي مفكر حرّ وتناول أفعال بعض الصّحابة، فهم يُشنّعون عليه بل ويكفّرونه ولو كان من علمائهم وذلك ما حصل لبعض العلماء المتحرّرين المصريين وغير المصريين أمثال الشيخ محمود أبو ريّة صاحب «أضواء على السنة المحمدية» وكتاب «شيخ المضيرة» وكالقاضي الشيخ محمد أمين الانطاكي صاحب كتاب «لماذا اخترت مذهب أهل البيت» وكالسيد محمد بن عقيل الذي ألّف كتاب «النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية» ـ بل ذهب بعض الكتّاب المصريين إلى تكفير الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري.
وإذا كان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية يشنّع عليه لمجرّد اعترافه بالمذهب الشيعي الذي ينتسب لأستاذ الأئمة ومعلّمهم جعفر الصادق عليه السلام فما بالك بمن اعتنق هذا المذهب بعد بحث وقناعة وتناول بالنقد المذهب الذي كان عليه وورثه من الآباء والأجداد. فهذا ما لا يسمح به أهل السنّة والجماعة ويعتبرونه مروقاً عن الدّين وخروجاً عن الإسلام وكأنّ الإسلام على زعمهم هو المذاهب الأربعة، وغيرها باطل. إنها عقول متحجّرة
ولكل ذلك فأنا واثقُ من الهجمة الشرسة التي سوف تواجهني من أولئك المتعصّبين الذين جعلوا أنفسهم قوّامين على غيرهم فلا يحقّ لأحد أن يخرج عن المألوف لديهم ولو كان هذا المألوف لا يمتّ للإسلام بشيء وإلاّ كيف يحكم على من انتقد بعض الصّحابة في أعمالهم بالخروج عن الدّين والكفر، والدّين بأصوله وفروعه ليس فيه شيء من ذلك.
بعض المتعصّبين كان يروّج في أوساطه بأنّ كتابي «ثم أهتديت» يشبه كتاب سلمان رشدي، ليصدّ الناس عن قراءته بل ويحّهم على لعن كاتبه.
إنّه الدسّ والتزوير والبهتان العظيم الذي سوف يحاسبه عليه ربّ العالمين وإلاّ كيف يقارن كتاب «ثم اهتديت» الذي يدعو إلى القول بعصمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتنزيهه والاقتداء بأئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً بكتاب «الآيات الشيطانية» الذي يشتم فيه صاحبه الملعون الإسلام ونبي الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعتبر أنّ الدين الإسلامي هو نفثة الشياطين؟؟
فالله يقول: (يا ايها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) [النساء: 135].
ومن أجل هذه الآية الكريمة فأنا لا أبالي إلاّ برضاء الله سبحانه وتعالى ولا أخشى فيه لومة لائم ما دمت أدافع عن الإسلام الصحيح وأنزّه نبيّه الكريم عن كل خطأ ولو كان ذلك على حساب نقد بعض الصّحابة المقرّبين ولو كانوا من «الخلفاء الراشدين» لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أولى بالتنزيه من كلّ البشر. والقارئ الحرُّ اللّبيب يفهم من
ولو عرف المسلمون حقيقة الأمر لما اقاموا لهم ولا لمروياتهم وزناً ثم أنّه لو كان التاريخ يروي لنا بأنّ الصّحابة كانوا يمتثلون أوامر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونواهيه ولا يناقشونه ولا يعترضون على أحكامه، وأنّهم لم يعصوه في أواخر أيام حياته في عدة أحكام، لحكمنا بعدَالتِهم جميعاً ولما كان لنا في هذا المجال بحثٌ ولا كلام.
أمّا وأنّ منهم مكذّبون ومنهم منافقون ومنهم فاسقون بنص القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة.
أمّا وأنّهم اختلفوا بحضرته وعصوه في أمر الكتاب حتّى اتهموه بالهذيان ومنعوه من الكتابة. ولم يمتثلوا أوامره عندما أمّر عليهم أسامة، أما وإنّهم اختلفوا في خلافته صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى أهملوا تغسيله وتجهيزه ودفنه واختصموا من أجل الخلافة فرضي بها بعضهم ورفضها بعضهم الآخر ـ أمّا وأنهم اختلفوا في كل شيء بعده حتّى كفّر بعضهم بعضاً ولعن بعضهم بعضاً وتحاربوا فقتل بعضهم بعضاً وتبرّأ بعضهم من بعض أما وأنّ دين الله الواحد أصبح مذاهب متعدّدة وآراء مختلفة فلا بدّ والحال هذه أن نبحث عن العلّة وعن الخللّ الذي أرجع خير أمّة أخرجت للنّاس وأهوى بها إلى الحضيض فأصبحت أذلّ وأجهل وأحقر أمّة على وجه البسيطة تنتهك حرماتها وتحتلّ مقدساتها وتستعمر شعوبها وتشرّد وتطرد من أراضيها فلا تقدر على
والعلاج الوحيد فيما أعتقد لهذه المعضلة هو النقد الذّاتي فكفانا التغنّي بأسلافنا وبأمجادنا المزيّفة التي تبخرت وأصبحت متاحف أثرية خالية حتى من الزّوار. والواقع يدعونا أن نبحث عن اسباب أمراضنا وتخلّفنا وتفرّقنا وفشلنا حتى نكتشف الدّاء فنشخّص له الدواء الناجع لشفائنا قبل أن يقضي علينا ويأتي على آخرنا.
هذا هو الهدف المنشود والله وحده هو المعبود وهو الهادي عباده إلى سواء الصراط.
وما دام هدفنا سليماً، فما قيمة اعتراض العترضين والمتعصّبين الذين لا يعرفون إلا السّباب والشتائم بحجّة الدفاع عن الصّحابة، وهؤلاء لا نلومهم ولا نحقد عليهم بقدر ما نرثى لحالهم لأنهم مساكين منعهم حسنُ ظنهم بالصّحابة وحجبهم عن الوصول للحقيقة فما أشبههم بأولاد اليهود والنّصارى الذين أحسنوا الظنّ بأبائهم وأجدادهم، ولم يكلّفوا أنفسهم جهد البحث في الإسلام معتقدين بمقالة أسلافهم بأنّ محمداً كذّابٌ، وليس هو بنبيّ. قال تعالى: (وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) [البيّنة: 3]. وبمرور القرون المتتالية أصبح من العسير اليوم على المسلم أن يُقنع يهوديّاً أو نصرانيّاً بعقيدة الإسلام فما بالك بمن يقول لهم بأن التوراة والإنجيل اللذين يتدالونهما هما محرّفان ويستدل على ذلك بالقرآن، فهل يجد هذا المسلم آذاناً صاغية لديهم؟
وكذلك المسلم البسيط الذي يعتقد بعدالة كلّ الصّحابة ويتعصّب لذلك بدون دلل فهل يمكن لأحد من النّاس أن يقنعه بعكس ذلك؟
وإذا كان هؤلاء يطيقون جرح ونقد معاوية وابنه يزيد وأمثالهم كثير الذين شوّهوا الإسلام بأعمالهم القبيحة فما بالك إذا كلّمتهم عن أبي بكر وعمر وعثمان «الصديق والفاروق ومن تستحي منه الملائكة» أو عن عائشة أم
ولنكشف ثانياً لإخواننا من أهل السنة والجماعة بأنّ هذه الانتقادات لا تدخل في السبّ والشتم والانتقاص بقدر ما هي إزالة للحجب للوصول إلى الحق كما أنها ليست من مختلقات وأكاذيب الروّافض كما يدّعي عامة النّاس وإنّما هي من الكتب التي حكموا بصّحتها وألزموا أنفسهم بها.
أبو بكر الصدّيق في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السادس صفحة 46 في كتاب تفسير القرآن سورة الحجرات. قال: حدثنا نافع بن عمر عن أبن أبي مليكة قال كاد الخيران أن يهلكا ابا بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع واشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ أسمه فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي قال ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) الآية. قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر.
كما أخرج البخاري في صحيحه في الجزء الثامن صفحة 145 من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة. باب ما يكره من التعمّق والتنازع. قال أخبرنا وكيع عن نافع بن عمر عن أبن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يلهكا أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفد بني تميم،