قال ابن أبي مليكة قال ابن الزبير: فكان عمر بعد ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر إذا حدّث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بحديث حدّثه كأخي السرار لم يسمعه حتّى يستفهمه.
كما أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة 116 من كتاب المغازي ـ وفد بني تميم قال: حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة أنّ عبدالله بن الزبير أخبرهم أنّه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد بن زرارة: فقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر ما أردت إلا خلافي، قال عمرك ما أردت خلافك فتمارياً حتّى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) حتى انقضت.
والظاهر من خلال هذه الروايات أنّ أبا بكر وعمر لم يتأدّبا بحضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالآداب الإسلامية وسمحا لانفسهما بأن يقدّما بين يدي الله ورسوله بغير إذن ولا طلب منهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبديا رأيهما في تأمير أحد من بني تميم، ثم لم يكتفيا حتى تشاجرا بحضرته وارتفعت أصواتهما أمامه من غير احترام ولا مبالاة بما تفرضه عليهما الأخلاق والآداب التي لا يمكن لأي أحد من الصّحابة أن يجهلها أو
ولو كانت هذه الحادثة قد وقعت في بداية الإسلام لالتمسنا للشيخين في ذلك عذراً ولحاولنا أن نجد لذل بعض التأويلات.
ولكنّ الروايات تثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الحادثة وقعت في أواخر أيّام النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ أن وفد بني تميم قدم على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة ولم يعش بعدها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ بضعة شهور كما يشهد بذلك كل المؤرخين والمحدّثين الذين ذكروا قدوم الوفود على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والتي تحدث عنها القرآن الكريم في أواخر السور بقوله: (وإذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) .
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعتذر المعتذرون عن موقف أبي بكر وعمر بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولو اقتصرت الرواية على الموقف الذي مثله الصحابيّان فسحب لما وسعنا النقد ولا الاعتراض. ولكن الله الذي لا يستحي من الحق سجّلها وأنزل فيها قرآناً يتلى، فيه التنديد والتهديد لأبي بكر وعمر بأن يحبط الله أعمالهما إن عادا لمثلها، حتى أن راوي هذه الحادثة بدأت كلامه بقوله: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر.
ويحاول راوي الحادثة بعد ذلك وهو عبدالله بن الزبير أن يقنعنا بأنّ عمر بعد نزول هذه الآية في شأنه إذا حدّث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يسمعه صوته حتى يستفهمه ورغم أنّه لم يذكر ذلك عن جدّه أبي بكر فالتاريخ والأحداث التي ذكرها المحدّثون تثبت عكس ذلك ويكفي أن تذكر رزيّة يوم الخميس قبل وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاثة أيام حتّى نجد بأن عمر نفسه قال قولته المشؤومة «إن رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله» فاختلف القوم فمنهم من يقول قرّبوا إلى الرسول يكتب لكم ومنهم من يقول مثل قول
والذي نفهمه من كل هذا بأنهم لم يمتثلوا أمر الله في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ) ولم يحترموا مقام الرسول ولا تأدّبوا عندما طعنوه بكلمة الهجر.
وقد سيق لأبي بكر أن تلفّظ بكلام بذيء بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك عندما قال لعروة بن مسعود أمصَصْ ببظر اللاّب(4) . وقال القسطلاني شارح البخاري معلّقاً على هذه العبارة، والأمر بمص البظر من الشتائم الغليظة عند العرب، فإذا كانت أمثال هذه الكلمات تقال بحضرته صلّى الله عليه وآله وسلّم فما هو معنى قوله تعالى: (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) ؟.
وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على خلق عظيم كما وصفه ربّه وإذا كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها كما أخرج ذلك
____________
(1) البخاري: 5/138 باب مرض النبي ووفاته.
(2) البخاري: 1/37 كتاب العلم.
(3) كنز العمال: 3/138.
(4) البخاري: 3/179.
أضف إلى كل ذلك بأنّ أبا بكر لم يمتثل أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما أمّر عليه أسامة بن زيد وجعله من جملة عساكره وشدّد النكير على من تخلّف عنه حتى قال: لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة(3) وذلك بعدما بلغه صلّى الله عليه وآله وسلّم طعن الطاعنين عليه في مسألة تأمير أسامة التي ذكرها جلّ المؤرخين وأصحاب السير.
كما أنّه سارع إلى السّقيفة وشارك في إبعاد علي بن أبي طالب عن الخلافة، وترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مسجّى بأبي هو وأمّي ولم يهتمّ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه ودفنه متشاغلاً عن كل ذلك بمنصب الخلافة والزعامة التي أشرأبّت لها عنقه، فأين هي الصّحبة المقرّبة والخلّة المزعومة وأين هو الخلق؟ وأنا أستغرب موقف هؤلاء الصّحابة من نبيّهم الذي قضى حياته في هدايتهم وتربيّتهم والنصح لهم (عزيز عليه ما عنّتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم..) فيتركونه جثّة هامدة ويسارعون للسّقيفة لتعيين أحدهم خليفة له. ونحن نعيش اليوم في القرن العشرين الذي نقول عنه بأنّه أتعس القرون وأنّ الأخلاق تدهورت والقيم تبخّرت ومع كل ذلك فإن المسلمين إذا ماتَ جارٌ لهم أسرعوا إليه وانشغلوا به حتّى يواروه في حفرته ممتثلين قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إكرام الميّت دفنه».
____________
(1) البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي ـ ومسلم في كتاب الفضائل باب كثرة حيائه صلّى الله عليه وآله وسلم.
(2) مسلم كتاب الفضائل باب كثرة حيائه صلّى الله عليه وآله وسلّم البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
(3) كتاب الملل والنحل للشهرستاني المقدمة الرابعة، كتاب السقيفة لأبي بكر أحمد بن العزيز الجوهري.
وقد كشف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن تلك الوقائع بقوله: «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلّي منها محل القطب من الرّحا…»(1) .
ثم بعد ذلك استباح أبو بكر مهاجمة بيت فاطمة الزّهراء وتهديده بحرقه إن لم يخرج المتخلّفون فيه لبيعته. وكان ما كان ممّا ذكره المؤرّخون في كتبهم وتناقله الرواة جيلاً بعد جيل. ونحن نضرب عن ذلك صفحاً وعلى من أراد المزيد أن يقرأ كتب التاريخ.
أبو بكر بعد حياة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
تكذيبه للصّديقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء وغصبه حقّها
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة 82 في كتاب المغازي باب غزوة خيبر قال: عن عروة عن عائشة أن فاطمة عليها السّلام بنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا نوّرث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت وعاشت بعد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً وصلّى عليها ولم يؤذن بها أبا بكر وكان لعلي من النّاس وجهٌ في حياة فاطمة فلمّا توفيت استنكر عليّ وجوه النّاس فالتمس مصالحه
____________
(1) الخطبة الشقشقية من نهج البلاغة.
وأخرج مسلم في صحيحه من الجزء الثاني كتاب الجهاد باب قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نورث ما تركنا فهو صدقة.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ فاطمة عليها السّلام ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سألت أبا بكر الصديق، بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وممّا أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ستّة أشهر قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبي أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعمل به إلاّ عملت به، فإنّي أخشى، إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعبّاس، فأمّا خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر. فهما على ذلك إلى اليوم(2) .
* ورغم أنّ الشّيخين البخاري ومسلم اقتضبا هذه الروايات واختصراها لئلاّ تنكشف الحقيقة للباحثين، وهذه فنٌّ معروف لديهما توخياه للحفاظ على كرامة الخلفاء الثلاثة، (ولنا معهما بحث في هذا الموضوع إن شاء الله سنوافيك به عمّا قريب).
إلاّ أن الروايات التي نمّقوها كافية للكشف عن حقيقة أبي بكر الذي
____________
(1) صحيح مسلم أيضاً في كتاب الجهاد باب قول النبي لا نورث ما تركنا فهو صدقة.
(2) صحيح البخاري أيضاً أخرج هذا الحديث في كتاب فرض الخمس باب فرض الخمس.
والذي غيّره البخاري ومسلم من الحقيقة هو أدّعاء فاطمة عليها السلام بأنّ أباها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاها فدك نحلة في حياته فليس هي من الأرث، وعلى فرض أنّ الأنبياء لا يورثون كما روى أبو بكر ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كذّبته فاطمة الزّهراء عليها السلام. وعارضت روايته بنصوص القرآن الذي يقول وورث سليمان داود، فإن فدك لا يشملها هذا الحديث المزعوم لأنّها نحلة وليست هي من الإرث في شيء.
ولذلك تجد كلّ المؤرخين والمفسّرين والمحدّثين يذكرون بأن فاطمة عليها السّلام ادّعت بأنّ فدك ملكاً لها فكذّبها أبو بكر وطلب منها شهوداً على دعواها فجاءت بعلي بن أبي طالب وأمّ أيمن فلم يقبل أبو بكر شهادتهما واعتبرها غير كافية. وهذا ما اعترف به ابن حجر في الصواعق المحرقة حيث ذكر بأنّ فاطمة ادّعت أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم نحلها فدكاً ولم تأتِ عليها بشهود إلاّ بعلي بن أبي طالب وأم أيمن فلم يكمل نصاب البيّنة(1) .
كما قال الإمام الفخر الرّازي في تفسيره. فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ادّعت فاطمة عليه السّلام أنّه كان ينحلها فدكاً، فقال لها أبو بكر: أنت أعزّ النّاس عليُّ وأحبّهم إليَّ غنى، لكنّي لا أعرف صحة قولك فلا يجوز أن أحكم لك، قال فشهدت لها أم أيمن ومولى لرسول الله
____________
(1) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي: 21 في الشبهة السابعة.
فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن(1) .
ودعوى فاطمة عليها السلام بأنّ فدكاً أنحلها لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّ أبا بكر ردّ دعوتها ولم يقبل شهادة علي وأم أيمن معلومة لدى المؤرّخين وقد ذكرها كل من ابن تيمية وصاحب السيرة الحلبية وابن القيم الجوزية وغيرهم.
ولكنّ البخاري ومسلم اختصراها ولم يذكرا إلاّ طلب الزّهراء بخصوص الإرث حتّى يوهما القارىء بأنّ غضب فاطمة على أبي بكر في غير محلّه، ولم يعمل أبو بكر إلاّ بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي ظالمة وهو مظلوم، كل ذلك حفاظاً منهما على كرامة أبي بكر فلا مراعاة للأمانة في النقل ولا لصدق الأحاديث التي كانت تكشف عن عورات الخلفاء وتنزيل الأكاذيب والحجب التي نمّقها الأمويون وأنصار الخلافة الراشدة، ولو كان ذلك على حساب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه أو بضعته الزّهراء سلام الله عليها. ومن أجل ذلك حاز البخاري ومسلم على زعامة المحدّثين عند أهل السنة والجماعة واعتبروا كتبهما أصح الكتب بعد كتاب الله. وهذا تلفيق لا يقوم على دليل علمي وسنبحثه إن شاء الله في باب مستقل حتّى نكشف الحقيقة لمن يريد معرفتها.
ومع ذلك فإننا نناقش البخاري ومسلم اللّذين أخرجا في فضائل فاطمة الزّهراء عليها السّلام الشيء اليسير ولكن فيه ما يكفي لإدانة أبي بكر الذي عرف الزّهراء وقيمتها عند الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أكثر ممّا عرفه البخاري ومسلم ومع ذلك كذّبها ولم يقبل شهادتها وشهادة بعلها الذي قال فيه رسول الله: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيث دار»(2) ولنكتفِ بشهادة
____________
(1) تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 8/125 تفسير سورة الحشر.
(2) تأريخ بغداد: 14/321. تاريخ ابن عساكر: 3/119. كنز العمّال: 5/30.
أخرج مسلم في صحيحه الجزء السّابع باب فضائل أهل البيت قالت عائشة: خرج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فادخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) فإذا كانت فاطمة الزّهراء عليها السّلام هي المرأة الوحيدة التي أذهب الله عنها الرّجس وطهّرها من كلّ الذنوب والمعاصي في هذه الأمّة فما بال أبي بكر يكذّبها يطلب منها الشهود يا تُرى؟ فاطمة سيدة نساء المؤمنين وسيدة نساء هذه الأمّة
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السّابع في كتاب الاستئذان في باب من ناجى بين يدي النّاس ولم يخبر بسرّ صاحبه فإذا مات أخبر به. ومسلم في كتاب الفضائل عن عائشة أم المؤمنين قالت: إنّا كنّا أزواج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنده جميعاً لم تغادر منّاه واحدة فأقبلت فاطمة عليها السّلام تمشي لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلمّا رآها رحّب بها قال مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارّها فبكت بكاءً شديداً فلمّا رأى حزنها سارّها الثانية إذا هي تضحك فقلت لها أنا من بين نسائه: خصّك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالسرِّ من بيننا ثم أنتِ تبكين فلمّا قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سألتُها عمّا سارّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سرّه، فلمّا توفي قلت لها عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني قالت: أمّا الآن فنعم فأخبرتني قالت: أما حين سارّني في في الأمر الأول فإنّه
* فإذا كانت فاطمة الزهراء عليها السلام وهي سيّدة نساء المؤمنين كما ثبت ذلك عن رسول الله، يكذّبها أبو بكر في أدّعائها فدك ولا يقبل شهادتها فأي شهادة تقبل بعدها يا ترى؟؟ فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرابع في كتاب بدء الخلق باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة فإذا كانت فاطمة عليها السلام سيدة نساء أهل الجنّة ومعناه أنها سيدة نساء العالمين لأن أهل الجنة ليسوا أمّة محمّد وحدهم كما لا يخفى، فكيف يكذّبها أبو بكر الصديق؟ ألم يدّعوا بان لقب الصديق أحرزه لأنه كان يصدق كل ما يقوله صاحبه محمد! فلماذا لم يصدّقه فيما قاله بخصوص بضعته الزهراء؟؟ أم أن الأمر لم يكن يتعلّق بفدك وبالصّدقة والنّحلة بقدر ما يتعلق بالخلافة التي هي من حق علي زوج فاطمة، فتكذيب فاطمة وزوجها الذي شهد منها في قضية النّحلة أيسر عليه ليقطع بذلك عليهما الطريق للمطالبة بما وراء ذلك. إنه مكرٌ كبير تكاد تزول منه الجبال.
فاطمة بضعة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
والرّسول يغضب لغضبها
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرّابع من كتاب بدء الخلق في باب منقبة فاطمة عليها السّلام بنت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. قال: حدثنا
فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني.
فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها.
وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يغضب لغضب بضعته الزهراء ويتأذى بأذاها فمعنى ذلك أنها معصومة عن الخطأ وإلا لما جاز للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول مثل هذا، لأنّ الذي يرتكب معصية يجوز إيذاؤه وإغضابه مهما علت منزلته لأن الشرع الإسلامي لا يراعي قريباً ولا بعيداً، شريفاً أو وضيعاً غنيّاً أو فقيراً. وإذا كان الأمر كذلك فما بال أبي بكر يؤذي الزهراء ولا يبالي بغضبها بل يغضبها حتى تموت وهي واجدةٌ عليه بل ومهاجرته فلم تكلّمه حتى توفيت وهي تدعي عليه في كلّ صلاة تصلّيها كما جاء ذلك في تاريخ ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين؟!
نعم إنها الحقائق المرّة، الحقائق المؤلمة التي تهزّ الأركان وتزعزع الإيمان لأن الباحث المنصف المتجرد للحق والحقيقة لا مناص له من الاعتراف بأن أبا بكر ظلم الزهراء واغتصب حقّها، وكان بإمكانه وهو خليفة المسلمين أن يرضيها ويعطيها ما ادّعت لأنها صادقة والله يشهد بصدقها والنّبي يشهد بصدقها، والمسلمون كلّهم بما فيهم أبو بكر يشهدون بصدقها، ولكنّ السيّاسة هي التي تقلّب كلّ شيء فيصبح الصّادق كاذباً والكاذب صادقاً.
نعم إنّه فصل من فصول المؤامرة التي حيكت لإبعاد أهل البيت عن المنصب الذي اختاره الله لهم وقد بدأت بإبعاد علي عن الخلافة واغتصاب نحلة الزّهراء وإرثها وتكذيبها وإهانتها حتّى لا تبقى هيبتها في قلوب المسلمين. وانتهت بعد ذلك بقتل علي والحسن والحسين وكل أولادهم وسبيت نساؤهم، وقتل شيعتهم ومحبّوهم وأتباعهم ولعلّ المؤامرة متواصلة
نعم أي مسلم حرّ ومنصف سوف يعلم عندما يقرأ كتب التاريخ ويمحّص الحق من الباطل بأن أبا بكر هو أول من ظلم أهل البيت، وكيفيه قراءة صحيح البخاري ومسلم فقط لتنكشف له الحقيقة إذا كان من الباحثين حقّاً.
فها هو البخاري وكذلك مسلم يعترفان عفواً بأنّ أبا بكر يصدّق أي واحد من الصّحابة العادّيين في ادّعائه، ويكذّب فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة ومن شهد لها الله بإذهاب الرّجس والطّهارة وكذلك يكذّب علياً وأم أيمن! فاقرأ الآن ما يقوله البخاري ومسلم.
أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الثالث من كتاب الشّهادات باب من أمر بإنجاز الوعد.
ومسلم في صحيحه من كتاب الفضائل باب ما سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً قط فقال لا، وكثرة عطائه.
«عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهم قال: لمّا مات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرميّ فقال أبو بكر: من كان له على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دينٌ أو كانت له قِبله عدة فليأتنا، قال جابر فقلت: وعدني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرّات قال جابر، فعدّ في يديّ خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمئائة.
فهل من سائل لأبي بكر يسأله لماذا صدّق جابر بن عبدالله في ادّعائه بأنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعده أن يعطيه هكذا وهكذا وهكذا، فيملأ أبو بكر يديه ثلاثة مرّات بما قدره ألف وخمسمائة بدون أن يطلب منه شاهد واحد على ادّعائه؟ وهل كان جابر بن عبدالله أتقى لله وأبرّ من فاطمة سيّدة نساء العالمين؟ والأغرب من كل ذلك هو ردّ شهادة زوجها علي بن أبي
أضف إلى ذلك بأن البخاري نفسه أخرج حادثة أخرى تعطينا صورة حقيقية عن ظلم الزهراء وأهل البيت.
فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب لا يحلّ لأحد أن يرجع في هبته وصدقته من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، قال: أنّ بني صهيب مولى ابن جذعان ادّعوا بيتين وحُجرة وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطى ذلك صهيباً، فقال مروان: من يشهد لكُما على ذلك قالوا: ابن عُمر! فدعاه فشهد لأعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صهيباً بيتين وحجرة، فقضى مروان بشهادته لهم(2) .
* أنظر أيها المسلم إلى هذه التصرّفات والأحكام التي تنطبق على البعض دون البعض الآخر، أليس هذا من الظلم والحيف، وإذا كان خليفة المسلمين يحكم لفائدة المدّعين لمجرّد شهادة ابن عمر فهل لمسلم أن يتساءل لماذا ردّت شهادة علي بن ابي طالب وشهادة أم أيمن معه؟ والحال أن الرجل والمرأة أقوى في الشهادة من الرجل وحده، إذا ما أردنا بلوغ النّصاب الذي طلبه القرآن. أم أنّ أبناء صهيب أصدق في دعواهم من بنت المصطفى عليها السّلام؟ وأنّ عبدالله بن عمر موثوق عند الحكّام بينما علي غير موثوق عندهم؟! وأمّا دعوى أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يورّث، وهو الحديث الذي جاء به أبو بكر، وكذّبته فاطمة الزّهراء وعارضته بكتاب الله، وهي الحجة التي لا تدحض أبداً فقد صحّ عنه صلّى الله عليه
____________
(1) صحيح مسلم: 1/61 باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان وعلامة بغضهم من علامات النفاق. صحيح الترمذي: 5/306. سنن النسائي: 8/116.
(2) صحيح البخاري: 3/143.
ولا شكّ أنّ هذا الحديث تعارضه الآيات العديدة من القرآن الكريم فهل من سائل يسأل أبا بكر ويسأل المسلمين كافة، لماذا تُقبل شهادة أبي بكر وحده في رواية هذا الحديث الذي يُناقض النقل والعقل ويعارض كتاب الله. ولا تقبل شهادة فاطمة وعلي التي توافق النقل والعقل ولا تتعارض مع القرآن.
أضف إلى ذلك بأنّ أبا بكر مهما علتْ مرتبتُه ومهما انتحل له مؤيدوه والمدافعون عنه من فضائل. فإنّه لا يبلغ مكانة الزّهراء سيدة نساء العالمين ولا مرتبة علي بن أبي طالب الذي فضّله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على كلّ الصّحابة في المواطن كلّها، أذكر منها على سبيل المثال يوم إعطاء الرّاية عندما أقرّ له النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنّه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله وتطاول لها الصّحابة كلّ يرجى أن يعطاها فلم يدفعها إلاّ إليه(1) . وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «إنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو ليٌّ كل مؤمن بعدي»(2) .
ومهما شكّك المتعصّبون والنّواصب في صحة هذه الأحاديث، فلن يشكّكوا في أنّ الصّلاة على علي وفاطمة هي جزء من الصّلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا تقبل صلاة أبي بكر وعمر وعثمان والمبشّرين بالجنّة وكل الصّحابة ومعهم كل المسلمين إذا لم يُصلّوا على محمد وآله محمد الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم كما جاء ذلك في صحاح أهل السنّة
____________
(1) صحيح البخاري: 4/5 و4/20. صحيح مسلم: 7/121 باب فضائل علي بن أبي طالب.
(2) صحيح الترمذي: 5/296 وخصائص النسائي. مستدرك الحاكم: 3/115 والإصابة لابن حجر: 2/509.
فإذا كان هؤلاء يجوز عليهم الكذب والادعاء بالباطل فعلى الإسلام السّلام وعلى الدنيا العفا. أمّا إذا سألت لماذا تقبل شهادة أبي بكر وترد شهادة أهل البيت؟ فالجواب: لأنه هو الحاكم وللحاكم أن يحكم بما يشاء والحقّ معه في كل الحالات، فدعوى القويّ كدعوى السّباع من النّاب والظّفر برهانها.
وليتبين لك أيها القارىء الكريم صدق القول فتعال معي لتقرأ ما أخرجه البخاري في صحيحه من تناقض بخصوص ورثة النّبي الذي قال حسبما رواه أبو بكر: «نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» والذي يصدّقه أهل السنّة جميعاً ويستدلّون به على عدم استجابة أبي بكر لطلب فاطمة الزّهراء.
وممّا يدلك على بطلان هذا الحديث وأنه غير معروف، أن فاطمة عليها السلام طالبت بإرثها وكذلك فعل أزواج النّبي أمّهات المؤمنين فقد بعثن لأبي بكر يطالبنه بميراثهن(2) . فهذا ما أخرجه البخاري وما يستدلّ به على عدم توريث الأنبياء. ولكنّ البخاري ناقض نفسه واثبت بأن عمر بن الخطاب قسّم ميراث النّبي على زوجاته. فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الوكالة من باب المزارعة بالشطر ونحوه. عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أخبره عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير، فقسم عمر خيبر فخيّر أزواج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطع لهنّ
____________
(1) صحيح البخاري: 6/27 باب إن الله وملائكته يصلّون على النبيٍ من سورة الأحزاب.
(2) صحيح مسلم: 2/16 كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي.
(3) صحيح البخاري: 5/24 باب حديث بني النضير من كتاب المغازي.
(4) صحيح مسلم: 5/135 باب قول النبي لا نورث من كتاب الجهاد والسيّر.
وهذه الرواية تدلّ بوضوح بأنّ خيبر التي طالبت الزهراء بنصيبها منها كميراث لها من أبيها وردّ أبو بكر دعوتها بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يورّث، وهذه الرواية تدلّ أيضاً بوضوح بأنّ عمر بن الخطّاب قسّم خيبر في أيّام خلافته على أزواج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخيّرهن بين امتلاك الأرض أو الوسق وكانت عائشة ممن اختار الأرض ـ فإذا كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يورّث، فلماذا ترث عائشة الزوجة. ولا ترث فاطمة البنت؟!
أفتونا في ذلك يا أولى الأبصار ولكم الأجر والثواب. أضف إلى ذلك أنّ عائشة ابنة أبي بكر استولت على بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأكلمه ولم تحظ أي زوجة أخرى بما حظيت به عائشة، وهي التي دفنت أباها في ذلك البيت ودفنت عمر إلى جانب أبيها ومنعت الحسين أن يدفن أخاه الحسن بجانب جدّه ممّا حدى بابن عبّاس أن يقول فيها: تجمّلت تبغّلت ولو عشت تفيّلت. لك التسع من الثمن وفي الكلّ تصرّفت وعلى كل حال فأنا لا أريد الإطالة في هذا الموضوع فإنّه لا بدّ للباحثين من مراجعة التاريخ ولكن لا بأس بذكر مقطع من الخطبة التي ألقتها فاطمة الزهراء عليها السّلام بمحضر أبي بكر وجلّ الصّحابة لهلك من هلك منهم عن بيّنة وينجو من نجا منهم عن بيّنة. قالت لهم:
«أعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول (وورث سليمان داود) ، وقال فيما اقتصّ من خبر زكريّا (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّاً) وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال: (يوصيكم الله في
____________
(1) صحيح البخاري: 3/68.
أبو بكر يقتل المسلمين
الذين امتنعوا عن إعطائه الزّكاة
أخرج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدّين باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردّة ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس. عن أبي هريرة قال: لما توفّي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على الله؟، قال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزّكاة فإنّ الزّكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقاتلتهم على منعها. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحقّ.
وليس هذا بغريب على أبي بكر وعمر اللّذَيْن هدّدا بحرق بيت الزّهراء سيّدة النّساء بمن فيه من الصّحابة المتخلّفين عن البيعة(1) وإذا كان حرق علي وفاطمة والحسن والحسين ونخبة من خيرة الصّحابة الذين امتنعوا عن
____________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة. العقد الفريد: ج2 حديث السقيفة. والطبري في تاريخه والمسعودي في مروج الذهب. وأبو الفداء والشهرستاني وغيرهم.
أمّا وقد استتب الأمر لهم وقويت شوكتهم ولم يعدْ هناك معارضة تذكرة بعد موت الزّهراء ومصالحة علي لهم. فكيف يسكتون عن بعض القبائل التي امتنعت عن دفع الزّكاة لهم بحجّة التريّث حتى يتبيّنوا أمر الخلافة وما وقع فيها بعد نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك الخلافة التي اعترف عمر نفسه بأنّها فلتة(1) .
إذن ليس بالغريب أن يقوم أبو بكر وحكومته بقتل المسلمين الأبرياء وانتهاك حرماتهم وسبي نسائهم وذريتهم وقد ذكر المؤرّخون بأنّ أبا بكر بعث بخالد بن الوليد فأحرق قبيلة بني سليم(2) وبعثه إلى اليمامة، وغلى بني تميم وقتلهم غدراً بعدما كتّفهم وضرب أعناقهم صبراً وقتل مالك بن نويرة الصّحابي الجليل الذي ولاّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على صدقات قومه ثقة به، ودخل بزوجته في ليلة قتل زوجها. فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
وما ذنب مالك وقومه إلا أنهم لمّا سمعوا بما حدث من أحداث بعد موت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما وقع من إبعاد علي وظلم الزّهراء
____________
(1) صحيح البخاري كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة باب رجم الحبلى من الزنا.
(2) الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 1/100.
والمؤسف حقّاً أنك تجد من يدافع عن أبي بكر وحكومته بل ويصحّح أخطاءه التي اعترف هو بها(1) ويقول كقول عمر: والله ما هو إلاّ أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وهل لنا أن نسأل عمر عن سرّ اقتناعه بقتال المسلمين الذين شهد هو نفسه بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرّم قتالهم بمجرّد قولهم لا إله إلا الله. وعارض هو نفسه أبا بكر بهذا الحديث فكيف انقلب فجأة واقتنع بقتالهم وعرف أنه الحق بمجرد أن رأى أن قد شرح الله صدر أبي بكر فكيف تمت عمليّة شرح الصّدر هذه وكيف رآها عمر دون سائر الناس؟ وإن كانت علمية الشرح هذه معنوية وليست حقيقيّة فكيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم لأحكامه التي رسمها على لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكيف يقول الله لعباده على لسان نبيّه من قال لا إله إلا الله حرامٌ عليكم قتله، وحسابه عليٌّ. ثم يشرح صدر أبي بكر وعمر قتالهم؟ فهل نزل وحيّ عليهما بعد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم هو الاجتهاد الذي اقتضته المصالح السيّاسية والتي ضربت بأحكام الله عرض الجدار؟
أمّا دعوى المدافعين، بأن هؤلاء ارتدّوا عن الإسلام فوجب قتلهم، فهذا غير صحيح ومن له أي اطّلاع على كتب التّاريخ يعلم علم اليقين أنّ
____________
(1) عندما اعتذر لأخي مالك متمم وأعطاه ديّة مالك من بيت مال المسلمين وقال إن خالد تأول فأخطأ.
وحاول البعض الآخر تأويل الحديث كما تأوّله أبو بكر بانّ الزكاة هي حقّ المال، وهو تأويل في غير محلّه. أوّلاً لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرّم قتل من قال لا إله إلا الله فقط، وفي ذلك أحاديث كثيرة أثبتها الصّحاح سنوافيك بها.
ثانياً: لو كانت الزكاة حق المال فغن الحديث يبيح في هذه الحالة أن يأخذ الحاكم الشرعي الزكاة بالقوة من مانعها بدون قتله وسفك دمه. ثالثاً: لو كان هذا التأويل صحيحاً لقاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثعلبة الذي امتنع عن أداء الزكاة له (القصّة معروفة لا داعي لذكرها)(2) رابعاً: إليك ما أثبته الصّحاح في حرمة من قال لا إله إلا الله وسأقتصر على البخاري ومسلم وعلى بعض الأحاديث روماً للاختصار.
____________
(1) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب قول النبي سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
(2) راجع كتاب «ثم اهتديت»: 183.
(أ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.
والبخاري في صحيحه في كتاب المغازي باب حدّثني خليفة عن المقداد بن الأسود أنّه قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفّار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسّيف فقطعها؟ ثم لاذ منّي بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تقتله» فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يديَّ ثم قال ذلك بعدما قطعها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».
هذا الحديث يفيد بأنّ الكافر الذي لا إله إلا الله ولو بعد اعتدائه على مسلم بقطع يده فإنه يحرم قتله. وليس هناك اعتراف بمحمّد رسول الله ولا إقامة الصّلاة ولا إيتاء الزكاة ولا صوم رمضان ولا حج البيت، فأين تذهبون وماذا تتأوّلون؟
(ب) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المغازي باب بعث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة وصحيح مسلم في كتاب الإيمان في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم، فلمّا غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكفّ الأنصاري عنه، وطعنته برمحي حتّى قتلته، فلمّا قدمنا، بلغ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» قلت: كان متعوذاً: فما زال يكرّرها حتّى تمنّيت أني لم أكنْ أسلمت قبل ذلك اليوم.
وهذا الحديث يفيد قطعاً بأنّ من قال لا إله إلا الله يحرم قتله ولذلك
(ت) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب اللّباس، باب الثياب البيض. وكذلك مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلاّ دخل الجنّة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرٍّ».
وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: وإن رغم أنف أبي ذرّ. وهذا الحديث هو الآخر يثبت دخول الجنّة لمن قال لا إله إلا الله، ومات على ذلك فلا يجوز قتلهم. وذلك رغم أنف أبي بكر وعمر وكلّ أنصارهم الذين يتأوّلون الحقائق ويقبلونها حفاظاً على كرامة أسلافهم وكبرائهم الذين غيّروا أحكام الله.
وبالتأكيد أنّ أبا بكر وعمر يعرفان كل هذه الأحكام فهما أقرب منّا لمعرفتها وألصق بصاحب الرسالة من غيرهما ولكنّهما ومن أجل الخلافة تأوّلا جلّ أحكام الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم على علم وبيّنة.
ولعلّ أبا بكر لمّا عزم على قتال مانعي الزّكاة وعارضه عمر بحديث الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يحرم ذلك، أقنع صاحبه بأنّه هو الذي حمل الحطب ليحرق بيت فاطمة بنفسه وأنّ فاطمة أقل ما يقال بحقها أنّها كانت تشهد أن لا إله إلا الله، ثم أقنعه بأن فاطمة وعلي لم يعد لهما كبير شأن في عاصمة
أبو بكر يمنع من كتابة السنّة النبوية
وكذلك يفعل بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان
إن الباحث إذا ما قرأ كتب التّاريخ وأحاط ببعض الخلفيّات التي توخّتها حكومة الخلفاء الثلاثة علم عِلم اليقين بأنّهم هم الذين منعوا من كتابة الحديث النّبوي الشريف وتدوينه بل منعوا حتى التحدّث به ونقله إلى النّاس لأنهم بلا شك علموا بأنّه لا يخدم مصالحهم أو على الأقل يتعارض ويتناقض مع الكثير من أحكامهم وما تأوّلوه حسب اجتهاداتهم وما اقتضته مصالحهم. وبقي حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والذي هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بل هو المفسّر والمبيّن للمصدر الأول ألا وهو القرآن الكريم. بقيّ ممنوعاً ومحرَّماً على عهدهم. ولذلك اتفقت كلمة المحدّثين والمؤرّخين على بداية جمع الحديث والتدوين في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أو بعده بقليل. فقد نقل البخاري ف صحيحه في كتاب العلم باب كيف يقبض العلم قال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أنظر ما كان من حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا يقبل إلا حديث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وليفشوا العلم وليجلسوا حتّى يعلّم من لا يعلم فإنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّاً.
فهذا أبو بكر يخطب في النّاس بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلاً لهم: «إنّكم تحدثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله
عجيبٌ والله أمر أبي بكر ها هو وبعد أيام قائل من ذلك اليوم المشؤوم الذي سمّي برزيّة يوم الخميس يوافق ما قاله صاحبه عمر بن الخطاب بالضّبط عندما قال إن رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا.
وها هو يقول: لا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. والحمد لله على اعترافه صراحة بأنّهم نبذوا سنّة نبيّهم وراء ظهورهم وكانت عندهم نسياً منسياً.
والسّؤال هنا إلى أهل السنّة والجماعة الذين يدافعون عن أبي بكر وعمر ويعتبرانهما أفضل الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإذا كانت صحاحكم كما تعتقدون تروي بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «تركت فيكم خليفتين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً كتاب الله وسنّتي» وعلى فرض أنّنا سلّمنا بصحّة هذا الحديث، فما بال أفضل الخلق عندكم يرفضان السنّة ولا يقيمان لها وزناً بل ويمنعان النّاس من كتابتها والتحدّث بها؟؟ وهل من سائل يسأل أبا بكر في أي آية وجد قتال المسلمين الذين يمنعون الزكاة وسبي نسائهم وذراريهم؟
فكتاب الله الذي بيننا وبين أب بكر يقول في حقّ مانعي الزكاة: (ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله، لنصدّقنّ ولنكوننّ من الصالحين، فلمّا أتاهم من فضله بخلوا به، وتولّوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)(2) . وباتفاق جميع المفسّرين فإن هذه الآيات نزلت بخصوص ثعلبة الذي منع الزكاة على عهد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أضف إلى ذلك بأنّ ثعلبة منع الزكاة وامتنع من أدائها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه أنكرها وقال هي جزية. وقد
____________
(1) تذكرة الحفاظ الجزء الأول والصفحة الثالثة. للذهبي.
(2) سورة التوبة: 75 ـ 77.
ثم أنّ أمر أبي بكر أغرب وأعجب عندما نبذ كتاب الله وراء ظهره وقد احتجّت به عليه فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين، وتلت على مسامعه آيات بيّنات محكمات من كتاب الله الذي يقرّ وراثة الأنبياء، فلم يقبل بها ونسخها كلّها بحديث جاء به من عنده لحاجة في نفسه، وإذا كان يقول: إنّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً. فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه فلماذا لم يفعل هو بما يقول عندما اختلف مع بضعة المصطفى الصدّيقة الطّاهرة، في حديث النّبي «نحن معشر الانبياء لا نورث» ولم يحتكم معها إلى كتاب الله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه؟ والجواب معروف، في تلك الحالة سوف تجد كتاب الله ضدّه، وسوف تنتصر عليه فاطمة في كل ما ادّعته ضدّه، وإذا ما انتصرت عليه يومها فسوف تحاججه بنصوص الخلافة على ابن عمّها وأنّى له عندئذ دفعها وتكذيبها، والله يقول بهذا الصدد: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) .
نعم لكلّ ذلك ما كان أبو بكر ليرتاح إذا ما بقيت أحاديث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متداولة بين النّاس يكتبونها ويحفظونها ويتناقلونها من بلد لآخر ومن قرية لأخرى وفيها ما فيها من نصوص صريحة تتعارض والسّياسة التي قامت عليها دولته. فلم يكن أمامه حلاًّ غير طمس الأحاديث وسترها بل ومحوها وحرقها(1) . فها هي عائشة ابنته تشهد عليه. قالت: جمع
____________
(1) كنز العمال: 5/237. وابن كثير في مسند الصديق. والذهبي في تذكرة الحفاظ: 1/5.
عمر بن الخطاب يتشدّد اكثر من صاحبه في الحديث عن رسول الله
ويمنع النّاس من نقله
لقد رأينا سياسة أبي بكر في منع الحديث حتّى وصل به الأمر أن أحرق المجموعة التي جمعت على عهده وهي خمسمائة حديث لئلا تتفشّى عند الصّحابة وغيرهم من المسلمين الذين كانوا يتعطشون لمعرفة سنة نبيّهم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولما ولي عمر الخلافة بأمرٍ من أبي بكر، كان عليه أن يتوخّى نفس السّياسة ولكن بأسلوبه المعروف بالشدّة والغلظة، فلم يقتصر على حظر ومنع تدوين الحديث ونقله فحسب بل تهدّد وتوعّد وضرب أيضاً واستعمل فرض الحصار هو الآخر.
روى ابن ماجة في سننه من الجزء الأول باب التوقّي في الحديث. قال: عن قرظة بن كعب، بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيّعنا فمشى معنا إلى موضع صرار، فقال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قال: قلنا لحقّ صحبة رسول الله، ولحقِّ الأنصار، قال: لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا أصحاب محمّد!. فأقلّوا الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم أنا شريككم.
فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدّثنا، قال: نهانا عمر(2) . كما روى
____________
(1) كنز العمال: 5/237. وابن كثير في مسند الصديق. والذهبي في تذكرة الحفاظ: 1/5.
(2) الذهبي في تذكرة الحفاظ: 1/3 ـ 4.
قال أبو سعيد الخدري كنا في مجلس عند أبي بن كعب فاتى أبو موسى الأشعري مغضباً حتى وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحدٌ منكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع قال أبي وما ذاك، قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أنّي جئت بالأمس فسلمت ثلاثاً ثم انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك، قلت استأذنت كما سمعت رسول الله صلّى الله عيه وآله وسلّم: قال فوالله لأوجعنّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمن يشهد لك على هذا، فقال أبي بن كعب فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنّاٌ قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول هذا.
وروى البخاري هذه الحادثة ولكنّه كعادته بترها وحذف منها تهديد عمر بضرب أبي موسى كعادته حفاظاً على كرامته(1) . مع أن مسلم في صحيحه زاد قول أبي بن كعب لعمر: يا ابن الخطاب فلا تكوننّ عذاباً على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقد روى الذهبي في تذكرة الحفاظ من جزئه الأول الصفحة الرابعة عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: أكنت تحدث في زمان عمر هذا؟ فقال: لو كنت أحدّث في زمان عمر مثل ما أحدّثكم لضربني بمغفقته.
كما أن عمر بعد منع الحديث والتهديد بالضرب أقدم هو الآخر على
____________
(1) صحيح البخاري في كتاب الاستئذان باب التسليم والاسئذان ثلاثاً.
ولمّا أعيته الحيلة ورغم تهديده ووعيده ومنعه وتحريمه وحرقه كتب الأحاديث بقي بعض من الصّحابة يحدثون بما سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالنّاس اللذين يسألونهم عن أحاديث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى عمر أن يحبس هؤلاء النفر في المدينة ويضرب عليهم حصاراً وإقامة جبريّة. فقد روى ابن إسحاق عن بعد الرحمن بن عوف. قال: والله ما مات عمر حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبدالله بن حذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر الغفاري وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق، قالوا: تنهانا؟ قال: لا أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت(2) .
ثم جاء بعده ثالث الخلفاء عثمان الذي اتّبع نفس الطريق وسلك ما سطّره له صاحباه من قبل. فصعد على المنبر وأعلن صراحة قوله:
لا يحلّ لأحدٍ أن يروي حديثاً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر(3) .
____________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد: 5/188 والخطيب البغدادي في تقييد العلم.
(2) كنز العمال: 5/239.
(3) مسند الغمام أحمد بن حنبل: 1/363.
وهكذا دام الحصار طيلة حياة الخلفاء الثلاثة وهي خمسة وعشرون عاماً ويا ليته كان حصاراً في تلك المدّة فحسب ولكنّه تواصل بعد ذلك وعندما جاء معاوية للحكم صعد المنبر هو الآخر وقال: إيّاكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد عمر فإنّ عمر كان يخيفُ الناس في الله عز وجلّ. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه. في كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة من جزئه الثالث.
ونهج الخلفاء الأمويون على هذا المنوال فمنعوا أحاديث الرسول الصحيحة وتفنّنوا في وضع الأحاديث المزوّرة والمكذوبة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى ابتلي المسلمون في كل العصور بالمتناقضات وبالأساطير والمخاريق التي لا تمتّ للإسلام بشيء، وإليك ما نقله المدائني في كتابه «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته (يقصد علي بن أبي طالب) فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.
ثم كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، ثم كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا فلا يأتي أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه، فلبثوا بذلك حيناً. ثم كتب
فقرأت كتبه على النّاس، فرويت أخباراً كثيرة في مناقب الصّحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتّى علمّوه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:
«أنظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته، فأمحوا إسمه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه» ثم شفع ذلك بنسخة أخرى:
«من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره» فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة، حتّى أنّ الرّجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمنّ عليه. فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم النّاس بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقرّبوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين، الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها»(1) .
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/46.
وأقول بأن المسؤولية في كل ذلك يتحمّلها أبو بكر وعمر وعثمان الذين منعوا من كتابة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بدعوى خوفهم بأن لا تختلط السنة بالقرآن هذا ما يقوله أنصارهم والمدافعون عنهم وهذه الدّعوى تُضحك المجانين وهل القرآن والسنة سكر وملح إذا ما اختلطا فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وحتى السّكر والملح لا يختلطان لأن كل واحد محفوظ في علبته الخاصّة به فهل غاب عن الخلفاء أن يكتبوا القرآن في مصحف خاص به والسنّة النّبوية في كتاب خاص بها كما هو الحال عندنا اليوم ومنذ دوّنت الأحاديث في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فلماذا لم تختلط السنّة بالقرآن رغم أن كتب الحديث تعدّ بالمئات فصحيح البخاري لا يختلط بصحيح مسلم وهذا لا يختلط بمسند أحمد ولا بموطأ الإمام مالك فضلاً عن أن يختلط القرآن الكريم.
فهذه حجّة واهية كبيت العنكبوت لا تقوم على دليل بل الدليل على عكسها أوضح فقد روى الزهري عن عروة أن عمر بن الخطاب أرادَ أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً فقال: إنّي كنت أريد أن أكتب السّنن، وإنّي ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً(1) .
أنظر أيها القارىء إلى هذه الرواية كيف أشار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على عمر بان يكتب السّنن، وخالفهم جميعاً واستبدّ برأيه. بدعوى أن قوماً قبلهم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها. وتركوا كتاب الله، فأين هي دعوى الشورى التي يتشدّق بها أهل السنّة والجماعة، ثم أين هؤلاء القوم الذين أكبّوا على كتبهم وتركوا كتاب الله. لم نسمع بهم إلا في
____________
(1) ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله. كنز العمال: 5/239. وابن سعد من طريق الزهري.