الصفحة 209
خيال عمر بن الخطاب وعلى فرض وجود هؤلاء القوم فلا وجه للمقارنة إذ أنّهم كتبوا كتباً من عند أنفسهم لتحريف كتاب الله فقد جاء في القرآن الكريم: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون) [البقرة: 79]. أمّا كتابة السنن فليست كذلك لأنها صادرة عن نبي معصوم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيّ يوحى وهي مبينة ومفسرة لكتاب الله. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للنّاس ما نزل إليهم) [النحل: 44]. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «أوتيت القرآن ومثله معه» وهذا أمرٌ بديهي لكلّ من عرف القرآن فليس هناك الصّلوات الخمس ولا الزكاة بمقاديرها ولا أحكام الصّوم ولا أحكام الحجّ إلا كثير من الأحكام التي بيّنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكل ذلك قال الله تعالى: (ما أتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) .

وقال: (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يُحببكم الله) .

وليت عمر عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه الامتثال إلى أوامر الرّسول ولا يناقشها ولا يطعن فيها(1) .

وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الكلالة(2) التي ما عرفها حتى مات وحكم فيها أيّام خلافته بأحكام متعدّدة ومتناقضة وليته عرف كتاب الله وأكبْ عليه ليتعلّم منه حكم التيمّم الذي ما عرفه حتّى أيام خلافته وكان يفتي بترك الصّلاة لمن لم يجد الماء(3) وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الطّلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

____________

(1) صحيح البخاري: 1/37 باب كتابة العلم. و: 5/138.

(2) سنن البيهقي وكنز العمال: 6/15. صحيح مسلم كتاب الفرائض باب ميراث الكلالة.

(3) صحيح البخاري: 1/90. ومسلم: 1/193 باب التيمّم.

الصفحة 210
والذي جعله هو طلقة واحدة(1) وعارض برأيه واجتهاده أحكام الله وضرب بها عرض الحائط.

والحقيقة التي لا مجال لدفعها هي أن الخلفاء منعوا من انتشار الأحاديث وهدّدوا من يتحدّث بها وضربوا عليها الحصار لأنها تفضح مخطّطاتهم وتكشف مؤامراتهم ولا يجدون مجالاً لتأويلها كما يتأولون القرآن، لأنّ كتاب الله صامتٌ وحمّالٌ أوجهٍ، أمّا السّنن النبويّة فهي أقوال وأفعال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا يمكن لأحد من النّاس دفعها. ولذلك قال أمير المؤمنين علي لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج: «لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً»(2) .

أبو بكر يسلّم الخلافة لصاحبه عمر
ويخالف بذلك النصوص الصّريحة

يقول الإمام علي عليه السّلام في هذا الموضوع بالذّات «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى، ينحدر عني السّيل ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا أرى تراقي نهباً حتّى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده (شتان ما يومي على كورها ويوم حيّان أخي جابر).

فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما

____________

(1) صحيح مسلم في كتاب الطلاق باب طلاق الثلاث من جزئه الأول.

(2) كتاب علي بن أبي طالب لابن عباس نهج البلاغة: 1/77.

الصفحة 211
تشطّرا ضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء يلغظ كلامها ويخشن مسّها ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها…. الخطبة(1) .

يعرف كل محقّق وباحث بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نصّ بالخلافة وعيّن علي بن أبي طالب قبل وفاته كما يعرف ذلك أغلب الصّحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر(2) ولهذا كان الإمام علي يقول: وإنه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب م الرحى ـ ولعلّ ذلك ما دعا أبو بكر وعمر أن يمنعا رواية الحديث عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما قدمنا في الفصل السّابق وتمسّكا بالقرآن لأن القرآن وإن كان فيه آية الولاية غير أنّ اسم علي لم يذكر صراحة كما هو الحال في الأحاديث النّبوية كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» و«عليّ مني بمنزلة هارون من موسى» و«علي أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي» و«عليّ منّي وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن بعدي»(3) .

وبذلك نفهم مدى نجاح المخطّط الذي رسمه أبو بكر وعمر في منع وحرق الأحاديث النبويّة وجعل كمّامات على الأفواه حتى لا يتحدث الصّحابة بها كما قدّمنا في رواية قرظة بن كعب، واستمرّ ذلك الحصار ربع قرن وهي مدة الخلفاء الثلاثة حتى إذا جاء علي للخلافة نرى أنه استشهد الصّحابة يوم الرحبة على حديث الغدير فشهد له ثلاثون صحابيّاً منهم سبعة عشر بدريّاً(4) .

وهذا يدلّ دلالة واضحة بأن هؤلاء الصّحابة وعددهم ثلاثون ما كانوا ليتكلموا لولا أن طلب منهم أمير المؤمنين ذلك فلو لم يكن عليّ خليفة

____________

(1) نهج البلاغة شرح محمد عبده: 1/ 84 ـ 87.

(2) الإمام الغزالي في كتابه سرّ العالمين.

(3) كل هذه الأحاديث أخرجها الطبري في الرياض النضرة والسنائي في الخصائص، وأحمد بن حنبل.

(4) أحمد بن حنبل: 1/119. وتاريخ دمشق لابن عساكر: 2/7.

الصفحة 212
وبيده القوة لأقعدهم الخوف عن أداء الشّهادة كما وقع ذلك فعلاً من بعض الصّحابة الذين أقعدهم الخوف أو الحسد عن الشهادة أمثال أنس بن مالك والبرّاء بن عازب وزيد بن أرقم وجرير بن عبد الله البجلي(1) فأصابتهم دعوة علي بن أبي طالب ولم ينعم أبو تراب عليه السلام بالخلافة فكانت أيامه كلّها محن وفتن ومؤامرات وحروب شنت عليه من كل حدب وصوب، وبرزت تلك الأحقاد والضغائن البدرية والحنينية والخيبرية حتى سقط شهيداً ولم تجد تلك السّنن النبوية أذاناً صاغية لدى الناكثين والقاسطين والمارقين والانتهازيين الذين ألفوا الفساد والرشوة وحب الدنيا أيام عثمان فلم يكن ابن أبي طالب ليصلح فساد وانحراف ربع قرن في ثلاث أو أربع سنوات إلا بفساد نفسه وهيهات منه ذلك وهو القائل: «والله إني لأعرف ماذا يصلحكم، ولكن لا أصلحكم بفساد نفسي».

ولم تطل المدة حتى إعتلى سدّة الخلافة معاوية بن أبي سفيان فواصل المخطّط كما قدّمنا في منع الأحاديث إلا ما كان في زمن عمر. وذهب شوطاً أبعد من ذلك فانتدب من الصّحابة والتّابعين زمرة لوضع الأحاديث فضاعت سنّة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في خضمّ تلك الأكاذيب والأساطير والفضائل المختلفة.

واستمرّ المسلمون على ذلك قرناً كامِلاً وأصبحتْ سنّة معاوية هي المتّبعة لدى عامّة المسلمين وإذا قلنا سنة معاوية فمعناه السنة التي ارتضاها معاوية من أفعال الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان وما أضافه هو وأتباعه من وضع وتزوير ولعن وسبّ لعلي وأهل بيته وشيعته من الصّحابة المخلصين.

ولذلك أعود وأكرر بأن أبا بكر وعمر نجحا في هذا المخطّط لطمس السّنن النبويّة بدعوى الرجوع إلى القرآن فإنك ترى اليوم وبعد مرور أربعة

____________

(1) أنساب الأشراف: 1/156. السيرة الحلبية: 3/337. المعارف لابن قتيبة: 194.

الصفحة 213
عشر قرناً إذا ما حاججت بالنّصوص النّبوية المتواترة التي تثبت بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عيّن عليّاً خليفةً له، فسيقال لك دعنا من السنّة النبوية التي أختلف فيها وحسبنا كتاب الله، وكتاب الله لم يذكر بأنّ علياً هو خليفة النّبي، بل قال وأمرهم شورى.

وهذه هي حجّتهم فما كلّمت أحداً من علماء أهل السنّة إلا وكانت الشورى هي شعارهم وديدنهم.

ويقطع النّظر على أنّ خلافة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها(1) فلم تكن عن مشورة كما يدّعي البعض بل كانت بالغفلة وبالقوة والقهر والتهديد والضرب(2) وتخلّف عنها وعارضها الكثير من خيرة الصّحابة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة وعمّار وسلّمان والمقداد والزبير والعبّاس وغير هؤلاء كثيرون كما يعترف بذلك جلّ المؤرّخين لهذا الحدث، ولنغضّ الطّرف عنها ونأتي إلى استخلاف أبي بكر لعمر بعده ونسأل أهل السنة الذين يتشدقون بمبدأ الشورى، لماذا عيّن أبو بكر خليفة وفرضه على المسلمين بدون أن يترك الأمر شورى بينهم كما تدّعون؟

ولمزيدٍ من التّوضيح وكالعادة لا نستدل إلا بكتب أهل السنة أقدّم إلى القارىء كيفية استخلاف أبي بكر لصاحبه.

ينقل ابن قتيبة في كتابه تاريخ الخلفاء. في باب مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما. قال:

… ثم دعا عثمان بن عفّان فقال: أكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، إنّي

____________

(1) البخاري: 8/26 كتاب المحاربين من أهل للكفر والردّة باب رجم الحبلى من الزنا.

(2) الإمامة والسياسة لابن قتيبة استخلاف أبي بكر.

الصفحة 214
استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدلاً فيكم فذلك ظنّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت، ولا أعلم الغيب ـ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».

ثم ختم الكتاب ودفعه، فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته، وعلمت بواثقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنّا، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر: لئن سألني الله لأقولن: استخلفت عليهم خيرهم في نفسي(1) .

ويذكر بعض المؤرخين كالطّبري وابن الأثير أنّ أبا بكر لما استدعى عثمان ليكتب عهده أغمي عليه أثناء الإملاء فكتب عثمان اسم عمر بن الخطاب ـ فلمّا أفاق قال: اقرأ ما كتبت فقرأ وذكر اسم عمر، فقال: أنى لك هذا؟ قال: ما كنت لتعدوه، فقال أصبت.

فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة، فقال له: ما أنت قائل لربّك غداً وقد وليت علينا فظّاً غليظاً، تفرق منه النّفوس وتنفضّ عنه القلوب؟

فقال أبو بكر: اسندوني وكان مستلقياً. فأسندوه فقال لطلحة: أبا لله تخوّفني إذا قال لي ذلك غداً قلت له: وليت عليهم خير أهلك(2) .

وإذا كان المؤرّخون يتّفقون على استخلاف أبي بكر لعمر بدون استشارة الصّحابة فلنا ان نقول بأنّه استخلفه رغم أنف الصّحابة وهم له كارهون وسواء أقال ابن قتيبة، دخل عليه المهاجرون والأنصار فقال: قد علمت بواثقه فينا، أو كما قال الطبري دخل عليه قوم من الصّحابة منهم

____________

(1) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة المعروف بالإمامة والسياسة: 1/24.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الخطبة الشقشقية.

الصفحة 215
طلحة فقال له: ما أنت قائل لربّك وقد وليت علنيا فظّاً غليظاً تفرق منه النفوس وتنفضّ عنه القلوب فالنتيجة واحدة وهي أن الصّحابة لم يكن أمرهم شورى ولم يكونوا راضين عن استخلاف عمر وقد فرضه عليهم أبو بكر فرضاً بدون استشارتهم والنتيجة هي التي تنبأ بها الإمام علي عندما شدّد عليه عمر بن الخطاب ليبايع أبا بكر فقال له: أحلب حلباً لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً.

وهذا بالضبط ما قاله أحد الصّحابة لعمر بن الخطاب عندما خرج بالكتاب الذي فيه عهد الخلافة: فقال له ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال: لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع. فقال الرّجل: لكني والله أدري ما فيه، أمّرته عام أول، وأمّرك العام(1) .

وبهذا يتبيّن لنا بوضوح لا شكّ فيه بأنّ مبدأ الشورى الذي يطبّل له أهل السنة لا أساس له عند أبي بكر وعمر أو بتعبير آخر أن أبا بكر هو أوّل من هدم هذا المبدأ وألغاه وفتح الباب أمام الحكّام من بني أميّة أن يعيدوها ملكية قيصرية يتوارثها الأبناء عن الآباء، وكذلك فعل بنو العبّاس من بعدهم وبقيت نظرية الشورى حلماً يراود أهل السنة والجماعة لم ولن يتحقق.

وهذا يذكّرني بمحاورة دارت بيني وبين عالم من علماء الوهّابية السعوديين في مسجد نيروبي بكينيا، على مشكلة الخلافة وكنت من أنصار النّص على الخليفة وأن الأمر كله لله يجعله حيث يشاء ولا دخل لاختيار الناس في ذلك.

وكان هو ن أنصار الشورى ويدافع عنها دفاعاً مستميتاً وكان حوله مجموعة من الطّلبة الذين يأخذون العلم عنه وهم يؤيّدونه في كل ما يقول بدعوى أن حجّته من القرآن الكريم إذ يقول تعالى لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وشاورهم في الأمر) ويقول: (وأمرهم شورى بينهم) .

____________

(1) الإمام والسياسة لابن قتيبة: ج1 باب استخلاف أبي بكر لعمر.

الصفحة 216

ولمّا عرفت أنّني مقهور مع هؤلاء لأنهم تعلّموا من أستاذهم كل الأفكار الوهّابية، كما عرفت أنهم غير قابلين للاستماع إلى الأحاديث الصّحيحة وهم يتشبثون ببعض الأحاديث التي يحفظونها وأغلبها من الموضوعات، عند ذلك استسلمت لمبدأ الشورى وقلت لهم ولأستاذهم.

هل لكل أن تقنعوا حكومة جلالة الملك عندكم بمبدأ الشورى حتّى يتنازل عن عرشه ويقتدي بسلفكم الصّالح ويترك للمسلمين في الجزيرة العربية حريّة اختيار رئيساً لهم وما أظنه يفعل ذلك فآباؤه وأجداده لم يملكوا الخلافة فحسب بل والجزيرة العربية أيضاً أصبحت من ممتلكاتهم حتّى أطلقوا على أرض الحجاز كلها أسم المللكة السعودية.

وعندئذ تكلّم سيّدهم العالم ليقول: نحن لا شغل لنا في السيّاسة، ونحن في بيت الله الذي أمر أن يذكر فيه أسمه وأن تقام فيه الصّلوات.

قلت: وكذلك لطلب العلم، قال: نعم وهو كذلك نحن نعلّم الشباب هنا ـ قلت: كنا في بحث علمي! قال: لقد أفسدته بالسيّاسة.

خرجت مع مرافقي وأنا أتحسّر على شباب المسلمين الذين استولت الوهّابية على أفكارهم بكل الطّرق فأصبحوا حرباً على آبائهم، وكلّهم من معتنقي المذهب الشافعي وهو أقرب المذاهب إلى أهل البيت على ما أعتقد. وكان للشيوخ احترام ووقارٌ لدى المثقفين وغير المثقفين باعتبار أن أغلبهم من السّادة المنحدرين من السّلالة الطّاهرة، فجاء الوهابيون للشباب واستغلّوا فقرهم فأغروهم بالأموال والإمكانيات الماديّة، وقلّبوا نظرتهم بأنّ ما يفعلونه من احترام للسّادة هو شرك بالله لأنه تقديس للبشر، فأصبح الأبناء نقمة على الآباء. وهذا ما يحدث في كثير من البلدان الإسلاميّة في أفريقيا. للأسف.

ونعود لوفاء أبي بكر لنجد أنه وقبل موته ندم على ما اقترفت يداه، فقد نقل ابن قتيبة في تاريخ الخلفاء قوله: أجل والله ما آسى إلا على ثلاث

الصفحة 217
فعلتهن ليتني كنت تركتهن ـ فليتني تركت بيت علي وفي رواية لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أعلنوا عليّ الحرب، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير، وليتني حين أتيت ذي الفجاءة والسلمي أسيراً أني قتلته ذبيحاً أو أطلقته نجيحاً ولم أكن أحرقته بالنار(1) .

ونحن نضيف، ليتك يا أبا بكر لم تظلم الزهراء ولم تؤذها ولم تغضبها وليتك ندمت قبل موتها وأرضيتها، هذا بخصوص بيت علي الذي كشفته وأبحت حرقه.

أما بخصوص الخلافة فليتك تركت صاحبيك وعضديك أبا عبيدة وعمر وضربت على يد صاحبها الشرعي الذي استخلفه صاحب الرسالة فكان هو الأمير. إذاً لكان العالم اليوم غير ما نشاهده ولكان دين الله هو الذي يسود الكرة الأرضية، كما وعد الله ووعده حق.

وأمّا بخصوص الفجاءة السلمي الذي أحرقته بالنّار، فيا ليتك لم تحرق السّنن النبويّة الّتي جمعتها ولكنت تعلّمت منها الأحكام التشريعية الصحيحة وما التجأت إلى الاجتهاد بالرأي.

وخيراً وأنت على فراش الموت ليتك إذا فكّرت في الاستخلاف أرجعت الحقّ إلى نصابه إلى من كان محلّه منها محلّ القطب من الرّحى فأنت أعلم النّاس بفضله وفضائله وزهده وعلمه وتقواه وأنه كان كنفس النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخصوصاً أنّه سلّم لك الأمر ولم يناجزك حفاظاَ على الإسلام، فكان حريّاً بك أن تنصح لأمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتختار لها من يصلح شأنها ويلمّ شعثها ويوصلها إلى ذروة المجد.

____________

(1) تاريخ الطبري: 4/52. ابن عبد ربه في العقد الفريد: 2/254. المسعودي مروج الذهب: 1/414.

الصفحة 218
وندعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لك ذنوبك ويرضي عنك فاطمة وأباها وزوجها وبنيها فقد أغضبت بضعة المصطفى والله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها. كما وأن من من آذى فاطمة فقد آذى أباها بنص حديثه صلّى الله عليه وآله وسلّم والله تعالى يقول (والذين يؤذون رسول الله لهم لهم عذاب أليم) .

ونعوذ بالله من غضب الله ونسأله أن يرضى عنّا وعن جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.

عمر بن الخطّاب يعارض كتاب الله باجتهاده

إنّ للخليفة الثاني عمر تاريخاً حافلاً من اجتهاده مقابل النّصوص الصريحة من القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة.

وأهل السنة يجعلون ذلك من مفاخرة ومناقبه التي يمدحونه لأجلها والمنصفون منهم يلتمسون لذلك أعذاراً وتأويلات باردة لا يقبلها عقل ولا منطق. وإلا كيف يكون من يعارض كتاب الله وسنّة نبيّه من المجتهدين، والله يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) [الأحزاب: 36].

وقال عز من قائل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون…) [المائدة: 44 ـ 45 ـ 47].

وأخرج البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة في باب ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلّف القياس ولا تقف ولا تقل ما ليس لك به علم. قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اإنّ الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناسٌ جهّال يستفتون

الصفحة 219
فيفتون برأيهم فيضلّون ويضلّون(1) .

كما أخرج البخاري في صحيحه من نفس الكتاب في الباب الذي يليه «ما كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يسئل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يجب حتّى ينزل عليه الوحي ولم يقل برأي ولا قياس لقوله تعالى: (بما أراك الله)(2) .

وقد قال العلماء قديماً وحديثاً قولاً واحداً: أنّه من قال في كتاب الله برأيه فقد كفر» ـ وهذا بديهي من خلال الآيات المحكمات ومن خلال أقوال وأفعال الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فكيف تنسى هذه القاعدة إذا ما تعلّق الأمر بعمر بن الخطّاب أو بأحد الصّحابة أو أحد أئمة المذاهب الأربعة، فيصبح القول بالرّأي في معارضة أحكام الله اجتهاداً يؤجر عليه صاحبه أجراً واحداً إن أخطأ وأجران إن أصاب.

ولقائل أن يقول: إنّ هذا ما اتّفقت عليه الأمّة الإسلامية قاطبة سنّة وشيعة للحديث النّبوي الشريف الوارد عندهم.

أقول: هذا صحيح ولكن اختلفوا في موضوع الاجتهاد، فالشيعة يوجبون الاجتهاد في ما لم يرد بشأنه حكم من الله أو من رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم. أما أهل السنة فلا يتقيّدون بهذا، واقتداءً بالخلفاء والسّلف الصالح عندهم لا يرون بأساً في الاجتهاد مقابل النّصوص، وقد أورد العلامة السيد شرف الدّين الموسوي في كتابه «النص والاجتهاد» أكثر من مائة مورد خالف فيه الصّحابة وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة، النّصوص الصريحة من القرآن والسنّة، فعلى الباحثين مطالعة ذلك الكتّاب.

____________

(1) صحيح البخاري: 8/148.

(2) المصدر السابق.

الصفحة 220

وما دمنا في هذا الموضوع بالذّات فلا بدّ لنا من إيراد بعض النّصوص التي خالف فيها عمر صريح النّص، وذلك إمّا جهلاً منه بالنّصوص، وهذا أمرٌ عجيبٌ لأنّ الجاهل ليس له أن يحكم فيحلّل ويحرّم من عند نفسه، قال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب، هذا حلال وهذا حرامٌ، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) [النحل: 116].

وليس للجاهل أن يتقلّد منصب الخلافة لقيادة أمّةٍ بأكملها قال تعالى: (أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدي إلا أن يهدى ما لكم كيف تحكمون) [يونس: 35].

وإمّا أنّه لا يجهل النّصوص ويعرفها ولكنّه يتعمّد الاجتهاد لمصلحة اقتضاها الحال حسب رأيه الشخصي. لا يعد أهل السنة هذا كفراً ومروقاً، كما لابد أن يكون جاهلاً بوجود من يعرف الأحكام الصحيحة من معاصريه. وهذا باطل لمعرفته بإلمام علي عليه السلام بالكتاب والسنة إلماماً تاماً وإلا لما استفتاه في كثير من المعضلات حتى قال فيه: «لولا علي لهلك عمر»، فلماذا يا ترى لم يستفته في المسائل التي اجتهد فيها برأيه الذي يعرف قصوره؟

وأعتقد بأنّ المسلمين الاحرار يوافقون على هذا لأن هذا النوع من الاجتهاد هو الذي أفسد العقيدة وأفسد الأحكام وعطّلها وتسبّب في اختلاف علماء الأمّة وتفريقها إلى الفرق والمذاهب المتعدّدة ومن ثم النزاع والخصام، فالفشل وذهاب الرّيح والتخلّف المادّي والروحي.

ولنا ان نتصوّر حتّى بوجود أبي بكر وعمر على منصّة الخلافة وإزاحة صاحبها الشرعي، نتصوّر لو أن أبا بكر وعمر جمعا السنن النبويّة وحفظاها في كتاب خاص بها لوفرا على أنفسهما وعلى الأمة الخير العميم ولما دخلت في السنّة النبويّة ما ليس منها ولكان الإسلام بكتابه وسنّته واحداً،

الصفحة 221
ملة واحدة وأمة واحدة وعقيدة واحد ولكان لنا اليوم كلام غير هذا.

أمّا وأنّ السّنن قد جمعت وأحرقت ومنعت من التدوين ومن النّقل حتى شفوياً فهذه هي الطّامة الكبرى وهذه هي البائقة العظمى فلا حول ولا قوى إلا بالله العلي العظيم.

وإليك بع النّصوص الصريحة التي اجتهد فيها عمر بن الخطاب في مقابل القرآن.

(أ) يقول القرآن: (وإن كنتم جنباً فأطّهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيداً طيّباً…) [المائدة: 6].

والمعروف في السنّة النبويّة بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علّم الصّحابة كيفية التيمّم وبحضور عمر نفسه.

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التيمّم في باب الصّعيد الطيّب وضوء المسلم يكفيه عن الماء. قال: عن عمران قال: كنا في سفرٍ مع النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّا أسرينا حتّى إذا كنّا في آخر الليل وقعنا وقعةً ولا. وقعة أحلى عند المسافر منها. فما أيقظنا إلا حرّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلانٌ ثم فلانٌ يسمّيهم أبو رجاءٍ فنسي عوفٌ ثم عمر بن الخّطاب الرّابع وكان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ لأنّا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلمّا استيقظ عمر ورأى ما أصاب النّاس وكان رجلاً جليداً فكبّر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبّر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلمّا استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: لا خير ولا يضير ارتحلوا، فارتحل فسار غير بعيد ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضّأ ونودي بالصّلاة فصلّى بالنّاس فلمّا انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلّ مع القوم. قال: ما منعك يا فلان

الصفحة 222
أن تصلى مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء! قال: عليك بالصّعيد فإنه يكفيك…(1) .

ولكنّ عمر يقول معارضة لكتاب الله وسنّة رسوله من لم يجد الماء لا يصلّ.. وهذا مذهبه سجّله عليه أغلب المحدّثين. فقد أخرج مسلم في صحيحه ج1 من كتاب الطّهارة باب التيمّم أنّ رجلاً أتى عمر فقال إنّي أجنبت فلم أجد ماء فقال: لا تصلّ فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأمّا أنت فلم تصلّ وأما أنا فتمعكت في التراب وصلّيت فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّما كان يكفيك أن نضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك، فقال عمر: اتّق الله يا عمّار! قال: إن شئت لم أحدِّث به(2) .

سبحانه الله! لم يكتف عمر بمعارضته للنّصوص الصريحة من الكتاب والسنّة حتى يحاول منع الصّحابة من معارضته في رأيه. ويضطّر عمّار بن ياسر أن يعتذر للخليفة بقوله: إن شئت لم أحدث به وكيف لا أعجب ولا تعجبون من هذا الاجتهاد وهذه المعارضة وهذا الإصرار على الرأي رغم شهادة الصّحابة بالنّصوص فإن عمر لم يقتنع إلى أن مات وهو مصرٌ على هذا الاعتقاد وقد أثر مذهبه هذا في كثير من الصحابة الذين كانوا يرون رأيه ـ بل ربّما كانوا يقدمونه على رأي رسول الله فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الطّهارة باب التيمّم من جزئه الأول صفحة 192 قال: عن شقيق: كنت جالساً مع عبدالله وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد لرحمن أرأيت لو أنّ رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصّلاة؟ فقال عبدالله: لا يتيمّم وإن لم يجد الماء شهراً!

فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة: (فلم تجدوا ماءً

____________

(1) صحيح البخاري: 1/88.

(2) صحيح البخاري: 1/87.

الصفحة 223
فتيمّموا صعيداً طيّباً) فقال عبدالله: لو رخّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا بالصّعيد.

فقال أبو موسى لعبدالله: ألم تسمع قول عمّار: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله ولم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصّعيد كما تمرغ الدّابة، ثم أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرت ذلك له فقال: إنّما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.

فقال عبدالله: أو لم تر عمر لم يقنع بقول عمّار(1) . ونحن إذا تأمّلنا في هذه الرواية التي أثبتها البخاري ومسلم وغيرهم من الصّحاح نفهم من خلالها مدى تأثير مذهب عمر بن الخطاب على الكثير من كبار الصّحابة ومن هذا نفهم أيضاً مدى تناقض الأحكام، وتهافت الروايات وتضاربها، ولعلّ ذلك هو الذي يفسّر استخفاف الحكّام الأمويين والعبّاسيين بالأحكام الإسلامية ولا يقيمون لها وزناً، ويسمحون بتعدّد المذاهب المتعارضة في الحكم الواحد ولسان حالهم يقول لأبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي: قولوا ما شئتم بآرائكم فإذا كان سيّدكم وإمامكم عمر يقول برأيه ما شاء(2) مقابل القرآن والسنّة فلا لوم عليكم فما أنتم إلاّ تابعون وأتباع التابعين ولستم مبتدعين.

والأعجب من كل ذلك قول عبدالله بن مسعود لأبي موسى: لا يتيمّم وإن لم يجد الماء شهراً. وعبدالله بن مسعود من أكابر الصّحابة يرى أن المجنب إذا لم يجد الماء يترك الصّلاة شهراً كاملاً ولا يتيمّم ويبدو أن أبا موسى حاول إقناعه بالآية الكريمة النّازلة بخصوص هذا الموضوع في سورة

____________

(1) كما أخرجه البخاري في صحيحه: 1/91 كتاب التيمّم باب التيمّم ضربة.

(2) كما جاء ذلك في صحيح البخاري: 5/158 من كتاب تفسير القرآن باب قوله وأنفقوا في سبيل الله.

الصفحة 224
المائدة، فأجابه بأنه: لو رخّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا بالصّعيد.

ومن هذا نفهم أيضاً كيف يجتهدون في النّصوص القرآنية على حسب ما يرونه، وما يرونه مع الأسف هو الشدّة والتعسير على الأمة في حين يقول الله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة: 185].

يقول هذا المسكين: لو رخّص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد الماء أن يتيمّموا. فهل وضع نفسه مبلّغاً عن الله ورسوله؟ وهل هو أحرص وأرأف على العباد من خالقهم ومربّيهم؟

وبعد ذلك يحاول أبو موسى أن يقنعه بالسنّة النبويّة التي رواها عمّار وكيف علّمه رسول الله التيمّم. فيردّ عبدالله هذه السنّة النبويةّ المشهورة بأنّ عمر بن الخطّاب لم يقنع بقول عمّار !

ومن هنا نفهم أن قول عمر بن الخطاب هو الحجّة المقنعة لدى بعض الصحابة وأنّ قناعة عمر بالحديث أو الآية هي المقياس الوحيد لصحّة الحديث أو لمفهوم الآية وإن تعارض مع أقوال وأفعال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولذلك نجد أن كثيراً من أفعال الناس اليوم تتناقض مع القرآن والسنّة سواء في الحليّة والحرمة، لأن اجتهاد عمر في مقابل النصوص أصبح مذهباً متبعاً ولمّا رأى بعض المتزلّفين ومن لهم دراية بأنّ الأحاديث التي منعت في عهد الخلفاء، قد دوّنت فيما بعد وسجّلها الرواة والحفاظ وهي تتعارض مع مذهب عمر بن الخطاب، اختلقوا روايات أخرى من عندهم ونسبوها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ليؤيدوا بها مذهب أبي حفص كمسألة زواج المتعة وصلاة التراويح وغيرها فجاءت الروايات متناقضة وبقيت حتّى اليوم محل خلاف بين المسلمين وستبقى ما دام هناك من يدافع عن عمر لأنه عمر ـ ولا يريد البحث من أجل الحق وأن ثقول لعمر أخطأت يا عمر فإن الصّلاة لا تسقط بفقدان الماء. وأن

الصفحة 225
هناك آية التيمّم مذكورة في كتاب الله وهناك حديث التيمم مذكور في كل كتب السنّة فجهلك بهما لا يسمح لك باعتلاء منصة الخلافة ولا قيادة أمّة وعلمك بهما يكفّرك إذا عارضت أحكامهما فما كان لك إن كنت مؤمنا، إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لك الخيرة. فتحكم بما تشاء وتردّ ما تشاء وأنت أعلم منّي بأنّ من يعصي الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً.

(ب) قال الله تعالى: (إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السّبيل، وفريضة من الله والله عليم حكيم) [التوبة: 60].

وكان من السنة النبوية المعروفة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخصّ المؤلّفة قلوبهم بسهمهم الذي فرضه الله لهم كما أمره الله تعالى ولكنّ عمر بن الخطاب أبطل هذا العطاء المفروض في خلافته واجتهد مقابل النّص وقال لهم: لا حاجة لنا بكم فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم. بل لقد عطّل هذا الحكم في خلافة أبي بكر إذ جاءه المؤلفة قلوبهم جرياً على عادتهم مع رسول الله فكتب لهم أبو بكر بذلك فذهبوا إلى عمر ليأخذوا نصيبهم ـ فمزّق عمر الكتاب وقال لهم: لا حاجة لنا بكم فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم فإن أسلمتم وإلا فالسّيف بيننا وبينكم، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: أأنت الخليفة أم هو؟ فقال: بل هو إن شاء الله. وتراجع أبو بكر فيما كتب موافقاً لرأي صاحبه عمر(1) .

والعجيب أيضاً أنّك تجد حتّى اليوم من يدافع عن عمر في هذه القضية ويعتبرها من مناقبه وعبقريّاته ومن هؤلاء الشيخ محمد المعروف بالدواليبي إذ يقول في كتابه أصول الفقه في ص239: «ولعل اجتهاد عمر رضي الله عنه في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعاً لتغير المصلحة بتغير الأزمان

____________

(1) الجوهرة النيّرة في الفقه الحنفي: 1/164.

الصفحة 226
رغم أن النّص القرآني في ذلك لا يزال ثابتاً غير منسوخ. ثم أخذ بعد ذلك يعتذر لعمر بأنّه نظر إلى علّة النصّ لا إلى ظاهره. إلى آخر كلامه الذي تفهمه العقول السّليمة، ونحن نقبل شهادته بأن عمر غيّر الأحكام القرآنية تبعاً لرأيه بأنّ المصلحة تتغير بحسب الأزمان. ونرفض تأويله بأنّ عمر نظر إلى علّة النّص ولم ينظر إلى ظاهره ونقول له ولغيره بأنّ النّصوص القرآنية والنّصوص النبوية لا تتغيّر بتغيّر الأزمان، فالقرآن صريح بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه ليس من حقّه أن يبدّل قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقائي نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم) [يونس: 15]. والسنة النبويّة الطّاهرة تقول: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

ولكن على زعم الدواليبي ومن يرى رأيه من أنصار الاجتهاد فإنّ الأحكام تتغير بتغير الزمان ولا لوم إذن على بعض الحكّام الذين غيّروا أحكام الله بأحكام الشعب وبأحكام وضعيّة اقتضتها مصالحهم وهي مخالفة لأحكام الله فمنهم من قال: أفطروا لتقووا على عدوّكم ولا حاجة بالصّوم في الوقت الحاضر الذي نجاهد فيه التخلف والفقر والجهل. والصّوم يقعدنا عن الإنتاج ومنع تعدد الزوجات لأنه يرى في ذلك ظلماً وتعدّياً على حقوق المرأة وقال: بأن في زمن محمّد كانت المرأة تعتبر «شقفة بول» أمّا الآن فقد حرّرناها وأعطيناها حقوقها كاملة.

ونظر هذا الرئيس إلى النّص من حيث العلّة ولم ينظر إلى ظاهره كما نظر عمر فقال: إنّ الميراث يجب أن يقسم الآن للذكر والأنثى على حدّ سواء، لان الله أعطى للرجل سهمين باعتبار أنّه هو الذي يعول الأسرة في حين كانت المرأة معطّلة، أمّا اليوم وبفضل جهود فخامته أصبحت المرأة تشتغل وتعول أسرتها وضرب للشعب مثلاً بزوجته التي أنفقت على أخيها

الصفحة 227
وأصبح وزيراً بفضلها وعنايتها.

كما وأنّه أباح الزنا واعتبره حقّاً شخصياً لمن بلغ سنّ الرشد ما لم يكن غصباً أو حرفةً للعيش، وفتح دوراً لحضانة الأطفال الذين يولدون من الزنا معلّلاً ذلك بأنه رحيمٌ بأولاد الزنا الذين كانوا يدفنون أحياء خوف العار والفضيحة، إلى غير ذلك من اجتهاداته المعروفة والغرب أنّ هذا الرئيس كان لحدٍ ما معجباً بشخصية عمر فقد ذكره مرّة بإعجاب وذكره مرّة بأنّه لم يتحمّل المسؤولية حيّاً وميّتاً بينما هو «الرئيس» سيتحمّلها حيّاً وميتاً، ومرّة أخرى وكأنه بلغه بان المسلمين انتقدوا اجتهاداته فقال: إن عمر بن الخطاب كان من أول وأكبر المجتهدين في عصره فلماذا لا أجتهد أنا في عصري الجديد فقد كان عمر رئيس دولة وأنا أيضاً رئيس دولة.

والأغرب أن هذا الرئيس كان عندما يذكر محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ترى في كلامه سخرية واستهزاء فقد قال في خطابه بأنّ محمداً كان لا يعرف حتّى الجغرافيا فقد قال: «أطلبوا العلم ولو كان في الصين» ظنّاً منه بأنّ الصين هي آخر الدنيا، فما كان محمد يتصوّر بأنّ العلم سيصل إلى هذه الدرجة وأن أطناناً من الحديد ستطير في الهواء فما بالك لو قيل له أو حدّثوه عن الأورانيوم ـ والبوتاسيوم والعلوم الذريّة والأسلحة النوويّة.

هذا ولا ألوم شخصيّاً هذا المسكين الذي ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله شيئاً ووجد نفسه يوماً يحكم دولة باسم الإسلام وهو يسخر من الإسلام ويجري وراء الحضارة الغربية ويريد أن يصنع من بلاده دولة أوروبية متطوّرة بالمفهوم الذي يراه هو. وقد حذا حذوه كثيرٌ من الرؤساء والملوك لما حصل عليه من تأييد الدول الغربية واللائكية ومدحهم وإطرائهم له، حتى لقّبوه بالمجاهد الأكبر ثم لا ألومه فالشيء من مأتاه لا يستغرب وكل إناء بالذي فيه ينضح وإذا كنت منصفاً فسألقي باللّوم على أبي بكر وعمر وعثمان الذين فتحوا هذا الباب من يوم وفاة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتسبّبوا في كل الاجتهادات التي دأب عليها الحكّام الأمويون والعبّاسيون وما

الصفحة 228
أكثرهم، سبع قرون خلت وكلّها طمس لحقائق الإسلام بنصوصه وأحكامه واستفحل الأمر في القرون التي أعقبتها، حتّى وصل الأمر بأن يخطب الرئيس أمام شعبه المسلم مستهزئاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا ينكرُ عليه أحد لا في الداخل ولا في الخارج.

وهذا ما قلته وما أقواله لبعض الإخوة من الحركة الإسلامية: إن كنتم تنكرون اليوم على الرئيس عدم اتّباع النّصوص القرآنية والسنّة النبويّة فواجبٌ عليكم أن تنكروا على من سنّ هذه البدعة في الاجتهاد مقابل النّصوص، إن كنتم منصفين وتريدون فعلاً اتباع الحق. فلا يقبلون منّي هذا الكلام ويعيبون عليَّ كيف أقارن الرؤساء اليوم بالخلفاء الرّاشدين، وأجيبهم بأنّ الرؤساء اليوم وملوك اليوم هم النتيجة الحتمية لما وقع في التاريخ، ومتى كان المسلمون يوماً أحراراً منذ وفاة الرّسول وحتى اليوم؟ فيقولون أنتم الشيعة تفترون وتشتمون الصّحابة، ولو وصلنا يوماً إلى الحكم فسنحرقكم بالنّار، فأقول: لا أراكم الله ذلك اليوم.

(ت) قال الله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا ممّا أتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون، فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّاً أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقومٍ يعلمون) [البقرة: 230].

والسنة النبوية الشريفة فسّرت بغير لبس بأنّ المرأة لا تحرم على زوجها إلاّ بعد ثلاثة تطليقات ولا يحقّ لزوجها أن يراجعها إلاّ بعد أن تنكح زوجاً آخر فإذا طلّقها هذا الأخير عند ذلك يمكن لزوجها أن يتقدم لخطبتها

____________

(1) صحيح مسلم: 2/184. والبيهقي: 7/336. وأبو داود في كتاب الطلاق.

الصفحة 229
من جديد كبقية الرّجال وعليها أن تقبل أو ترفض فالخيرة لها.

ولكنّ عمر بن الخطاب وكعادته تخطّى حدود الله التي بيّنها لقوم يعلمون فأبدل هذا الحكم بحكمه الذي يقول طلقة واحدة فعلية بلفظ الثلاثة تحرّم على الزوج زوجه. وخالف بذلك القرآن الكريم والسنّة النبوية.

فقد جاء في صحيح مسلم في كتاب الطّلاق باب طلاق الثّلاث عن ابن عبّاس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاثة واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.

عجباً والله كيف يجرؤ الخليفة على تغيير أحكام الله بمحضر من الصحابة فيوافقون على كل ما يقول وما يفعل ولا من منكرٍ ولا من معارض، ويموّهون علينا نحن المساكين بأن أحد الصّحابة قال لعمر: «والله لو رأينا فيك إعوجاجاً لقوّمناك بحدّ السيف» فهذا زور من القول وبهتان ليتشدقوا بأنّ الخلفا كانوا المثل الأعلى في الحرية والديمقراطية والتاريخ يُكذّبهم بواقعه العملي ولا عبرة بالأقوال إذا كانت الأعمال على نقيضها.

أو لعلّهم كانوا يرون الاعوجاج في الكتاب والسنة وأنّ عمر بن الخطاب هو الذي قوّمها وأصلحها. نعوذ بالله من الهذيان. وكنت في مدينة قفصة كثيراً ما أفتي للرجال الذين حرّموا نساءهم بكلمة: «أنت حرامٌ بالثلاث»، ويفرحون عندما أعرّفهم بأحكام الله الصحيحة التي لم يتصرف فيها الخلفاء باجتهاداتهم. ولكنّ من يدّعون العلم يخوفونهم بأنّ الشيعة عندهم كل شيء حلال وأتذكّر بأن أحدهم جادلني مرّة بالحسنى وسألني: إذا كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدل حكم الله في هذه القضية وفي غيرها ووافق الصّحابة على ذلك فلماذا لم يعارض سيّدنا علي كرّم الله وجهه ورضي الله عنه ولم ينكر على سيدنا عمر؟ وأجبته بجواب الإمام علي

الصفحة 230
عليه السلام عندما قالت قريش بأنّه رجلٌ شجاع ولكن لا علم له بالحرب ـ فقال:

لله أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراساً، وأقدم فيها مقاماً منّي! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنذا قد ذرفت على السّتين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع. (الخطبة 27 من نهج البلاغة). نعم وهل استمع المسلمون لرأي علي، غير شيعته الذين آمنوا بإمامته فقد عارض تحريم المتعة وعارض بدعة التراويح وعارض كل الأحكام التي غيّرها أبو بكر وعمر وعثمان ولكن بقيت آراؤه محصورة في أتباعه وشيعته، أمّا غيرهم من المسلمين فقد حاربوه ولعنوه وحاولوا جهدهم القضاء عليه ومحو ذكره، ولا أدلّ على معارضته من موقفه العظيم البطولي عندما دعاه عبد الرحمن بن عوف الذي رشّحوه لاختيار الخليفة بعد موت عمر فاشترط عليه ـ بعد أن اختاره ليكون هو الخليفة ـ أن يحكم فيها بسنّة الخليفتين أبو بكر وعمر، فرفض علي عليه السلام هذا الشرط وقال: أحكم بكتاب الله وسنة رسوله. وعلى هذا تركوه واختاروا عثمان بن عفان الذي قبل شرط الحكم بسنّة الخليفتين فإذا كان علي عليه السّلام لا يقدر على معارضة أبي بكر وعمر وهما ميّتان فكيف يعارضهما وهما على قيد الحياة؟؟

ولذلك ترى اليوم بأنّ باب مدينة العلم الذي كان أعلم النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقضاهم وأحفظهم لكتاب الله وسنة رسوله، متروكاً عند أهل السنة والجماعة، فيقتدون بمالك وأبي حنيفة والشّافعي وابن حنبل ويقلّدونهم في كلّ أمور الدّين من العبادات والمعاملات ولا يرجعون في شيء للإمام علي وكذلك فعل أئمّتهم في الحديث كالبخاري ومسلم فتراهم يروون عن أبي هريرة وعن ابن عمر وعن الأقرع والأعرج وعن كل قريب وبعيد مئات الأحاديث ولا يروون عن علي إلا بضعة أحاديث مكذوبة عليه وفيها مسّ بكرامة أهل البيت. ثم هم لا يكتفون بذلك فيستنكرون ويكفّرون من قلّده، واقتدى به من شيعته المخلصين وينبزونهم بالرّوافض

الصفحة 231
وبكل ما يشين، والحقيقة أنّ هؤلاء ليس لهم ذنبٌ إلاّ أنهم اقتدوا بعلي الذي كان منبوذاً ومبعداً في عهد الخلفاء الثلاثة، ثم هو ملعون ومحارب في عهد الأموييّن والعبّاسيّين، وكل من له إلمام ومعرفة بالتّاريخ سيدركُ هذه الحقيقة واضحة جليّة، وسيفهم الخلفيات والمؤامرات التي حيكت ضده وضد أهل بيته وشيعته.

عثمان بن عفان يتّبع سنّة صاحبيه
في مخالفة النّصوص

لعلّ عثمان بن عفان عندما عاهد عبد الرحمن بن عوف غداة بيعته بالخلافة أن يحكم فيهم بسنّة الخليفتين أبي بكر وعمر، كان يرمي بأنّه سيجتهدُ كما اجتهد ويغيّر النّصوص القرآنية والنّصوص النبويّة كما كانا يفعلان ومن تتبّع سيرته أيام خلافته يجده قد ذهب أشواطاً بعيدة في الاجتهاد حتّى أنسى النّاس اجتهادات صاحبيه أبي بكر وعمر، وأنا لا أريد الإطالة في هذا الموضوع الذي ملأ كتب التاريخ قديماً وحديثاً وما أحدثه عثمان من أمور غريبة سبّبت الثورة عليه وأودت بحياته ولكنّي سأقتصر على بعض الأمثلة الوجيزة كالعادة ليتبين للقارىء ولكل باحث ما أحدث أنصار الاجتهاد في دين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(أ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثمّ أتمّها في الحضر، فأقرّت صلاة السّفر على الفريضة الأولى.

كما أخرج مسلم في صحيحه في نفس الكتاب المذكور أعلاه، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب، ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فقد أمن النّاس! فقال: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته».

الصفحة 232

كما أخرج مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها عن ابن عبّاس، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحضر أربعا وفي السّفر ركعتين وفي الخوف ركعة.

كما أخرج مسلم في صحيحه عن انس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين.

وعنه أيضاً قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع، قلت: كم أقام بمكّة؟ قال: عشراً.

ومن خلال هذه الأحاديث التي اخرجها مسلم في صحيحه يتبيّن لنا بأنّ الآية الكريمة التي نزلت بخصوص تقصير الصّلاة في السّفر فهم منها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفسّرها قولاً وعملاً بأنها رخصة تصدّق الله بها على المسلمين ويجب قبولها. وبهذا تبطل دعوى الدواليبي ومن كان على شاكلته في التماس العذر لعمر وتصحيح أخطائه بأنّه نظر إلى علّة الحكم ولم ينظر إلى ظاهره، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علّمه بمناسبة نزول آية قصر الصّلاة عندما تعجّب عمر، بأنّ النّصوص الثابتة لا تتوقّف على علّتها وبذلك تقصر الصّلاة في السّفر ولو أمِن النّاس ولم يخافوا أن يفتنهم الذين كفروا. ولكن عمر له رأي آخر غير الذي يرتئيه الدّواليبي وعلماء أهل السنّة بحسن ظنّهم.

ولننظر إلى عثمان بن عفّان فلا بد له هو الآخر أن يجتهد في النّصوص القرآنية والنبويّة حتّى يلحق بركب الخلفاء الرّاشدين، فما أن استتبّ له الأمر حتّى أتمّ الصّلاة في السّفر وأبدلها بأربع ركعات عوض ركعتين.

وكم بقيت أتساءل عن السّبب في تغيير هذه الفريضة والزّيادة فيها وما

الصفحة 233
هي الدوافع لذلك ولم أرَ إلا أنّه أراد أن يوهم النّاس وبالخصوص بني أميّة بأنّه أبرّ وأتقى لله من محمّد وأبي بكر وعمر.

فقد أخرج مسلم في صحيحه في باب صلاة المسافرين وقصر الصّلاة بمنى قال: عن سالم بن عبدالله عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه صلّى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين، وأبو بكر وعمرٍ وعثمان ركعتين صدراً من خلافته ثم أتمّها أربعاً.

كما جاء في صحيح مسلم أيضاً أنّ الزّهري قال قلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السّفر؟ قال: إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان.

* وهكذا يصبح دين الله بأحكامه ونصوصه خاضعاً لتأوّل المتأولين وتفسير المفسّرين.

(ب) كما أنّ عثمان اجتهد برأيه لتأييد ما ذهب إليه عمر من تحريم متعة الحجّ أيضاً كما حرّم متعة النساء. فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحج في باب التمتع والإقران، عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليّاً رضي الله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلمّا رأى عليّ أهل بهما لبيك بعمرةٍ وحجة وقال: ما كنت لأدع سنّة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقول أحدٍ.

وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب الحج باب جواز التمتّع عن سعيد بن المسيّب قال: اجتمع عليّ وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال عليّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك فلمّا رأى عليّ ذلك أهلّ بهما جميعاً.

نعم هذا هو عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه، فما كان ليدع سنة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقول أحد من النّاس والرواية الثانية تفيدنا بأنّ شجاراً دار بين علي وعثمان وقول عثمان لعلي دعنا منك، فيه ما فيه من

الصفحة 234
مخالفته في كل شيء وعدم اتباعه فيما يرويه عن ابن عمّه صلّى الله عليه وآله وسلّم. كما أن الرواية مبتورة إذا تقول: فقال علي إني لا أستطيع أن أدعك فلمّا رأى علي ذلك ما هو الذي رآه علي؟

لا شك أن الخليفة ورغم تذكير علي له بالسنة النبوية أصرّ على رأيه في مخالفتها ومنع النّاس من التمتّع عند ذلك خالفه عليّ وأهلّ بهما جميعاً يعني الحج والعمرة.

(ت) كما أن عثمان بن عفّان اجتهد أيضاً أجزاء الصّلاة فكان لا يكبّر في السّجود ولا في الرّفع منه.

فقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: 4/440 عن عمران بن حصين قال:

صلّيت خلف عليّ صلاة ذكرتني بصلاة صلّيتها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والخليفتين، قال: فانطلقت فصلّيت معه فإذا هو يكبّر كلّما سجد ورفع رأسه من الركوع فقلت: يا أبا نجيد من أول من تركه؟ قال: عثمان رضي الله عنه حين كبر وضعف صوته تركه.

نعم هكذا تضيع السنن النبويّة وتتبدّل بسنن خلفائية وسنن ملوكية وسنن صحابيّة وسنن أموية وسنن عبّاسية وكلها بدع مبتدعة في الإسلام، فكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار كما قال صاحب الرسالة عليه وآله أفضل الصّلاة وأزكى السّلام.

ولذلك فأنت ترى اليوم أشكالاً وألواناً في صلاة المسلمين وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى لأنهم يصطفّون للصلاة صفّاً واحداً فترى هذا سادلٌ يديه وذاك قابض وآخر له شكلاً خاصّاً في القبض فهو يضع يديه فوق السرّة وذاك يضعها قرب قلبه.. واحدٌ جامع بين قدميه وآخر مفرّق بينهما ـ وكلّ واحد يعتقد بأنّه هو الحق، وإذا ما تكلّمت في ذلك فسيقال لك: يا أخي إنها شكليات فلا تهتم بها وصلّ كما تريد فالمهم هو أن تصلّي.

الصفحة 235

نعم هذا صحيح إلى حد ما فالمهم هي الصلاة ولكن يجب أن تكون صلاة مطابقة لصلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلّي»، فعلينا أن نجتهد في البحث عن صلاته صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن الصلاة عمود الدين. (ث) عثمان الذي استحت منه ملائكة الرحمن

قال البلاذري في أنساب الأشراف: 5/54.

لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال: رحمه الله. فقال عمّار بن ياسر: نعم فرحمه الله من كلّ أنفسنا، فقال عثمان لعمّار: يا عاضّ أير أبيه أتراني ندمت على تسييره، وأمر فدفع في قفاه وقال: إلحق بمكانه.

فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلّم عثمان فيه، فقال له علي: يا عثمان إتّق الله فإنك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره؟

وجرى بينهما كلام حتّى قال عثمان لعلي: أنت أحقّ بالنّفي منه فقال علي: رُم ذلك إن شئت.

واجتمع المهاجرون إلى عثمان فقالوا: إن كنت كلّما كلّمك رجل سيّرته ونفيته فإن هذا شيء لا يسوغ. فكفّ عن عمّار.

وفي رواية اليعقوبي من تاريخ: 2/147 أنّ عمار بن ياسر صلّى على المقداد ودفنه ولم يؤذن بذلك عثمان بوصية من المقداد، فاشتد غضب عثمان على عمّار وقال: ويلي على ابن السوداء أما لقد كنت به عليماً.

أفيمكن للحييّ الذي تستحي منه الملائكة أن يتفحّش في الأقوال، ولخيرة المؤمنين؟

ولم يكتف عثمان بشتم عمّار وقوله له فحشاً من القول: كقوله يا

الصفحة 236
عاضّ أير أبيه: حتّى أمر غلمانه فمسكوا عماراً ومدوا بيديه ورجليه ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفّين على مذاكيره فأصابه الفتق، وكان ضعيفاً كبيراً فغشي عليه، وهذه قصّة معروفة عند المؤرخين(1) عندما كتب جمع من الصحابة كتاباً وأمروا عمّار أن يوصله له.

وكذلك فعل عثمان مع عبدالله بن مسعود إذا مر به أحد جلاوزته وهو عبدالله بن زمعة فاحتمله ابن زمعة حتّى جاء به باب المسجد وضرب به الأرض فكسّر ضلعاً من أضلاعة(2) ، لا لشيء إلا أن عبدالله بن مسعود استنكر على عثمان أن يعطي بني أمية الفسقة أموال المسلمين بغير حساب.

وقامت الثورة على عثمان وكان ما كان حتّى ذبح ومنعوا دفنه ثلاثة أيام وجاء من بني أمية أربعة ليصلّوا عليه فمنعهم بعض الصّحابة من الصّلاة عليه فقال أحدهم: ادفنوه فقد صلّى الله عليه وملائكته، فقالوا لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً. فدفنوه في حش كوكب، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم. فلما ملكت بنو أمية ادخلوا ذلك الحش في البقيع.

هذه نبذة يسيرة من تاريخ الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان وهي وإن كانت يسيرة لأنّنا رمنا الاختصار وإعطاء بعض الأمثلة فقط، ولكنّها كافية لكشف السّتار عن تلكم الفضائل المزعومة والمناقب المخترعة التي لا يعرفها الخلفاء الثّلاثة ولا حلموا بها يوماً في حياتهم.

والسّؤال الذي يطرح هو: ما يقول أهل السنّة والجماعة في هذه الحقائق؟

والجواب عند أهل الذكر هو: إن كنتم تعرفونها ولا تنكرونها لانّ

____________

(1) البلاذري في أنساب الأشراف: 5/49. والاستيعاب: 2/422. وابن قتيبة في الإمامة والسياسة: 1/29. وابن أبي الحديد في شرح النهج: 1/239. العقد الفريد: لابن عبد ربه: 2/272.

(2) البلاذري في أنساب الأشراف وكذلك الواقدي. تاريخ اليعقوبي: 2/147. وشرح النهج لابن أبي الحديد: 1/237.

الصفحة 237
صحاحكم أثبتتها على حقيقتها رغم التعتيم فقد أسقطتم بذلك أسطورة الخلافة الراشدة.

وإن كنتم تنكرونها ولا تثقون في صحّتها فقد أسقطتم صحاحكم وكتبكم المعتبرة التي أخرجتها وبذلك أسقطتم كل معتقداتكم.

الصفحة 238

الصفحة 239