الفصل الثامن
فيما يتعلّق بالصّحيحين
البخاري ومسلم
لما لهذين الكتابين من أهمّية بالغة لدى أهل السنّة والجماعة حتّى أصبحا عند عامّة المسلمين المرجعين الأساسيّين والمصدرين الأوّلين في كلّ المباحث الدينية وأصبح من العسير على بعض الباحصين أن يصرّحوا بما يجدوه من تهافت وتناقض ومنكراتٍ فيتقبّلونها على مضض ولا يكاشفون بها قومهم خشيةً منهم أو خشيته عليهم. لما في نفوسهم من احترام وتقديس لهذين الكتابين، والحقيقة أنّ البخاري ومسلم ما كان يوماً يحلمان بما سيصل إليه شأنهما عند علماء النّاس وعامّتهم.
ونحن إذا قدمنا على نقدهما وتخريج بعض المطاعن عليهم اليس ذلك إلا لتنزيه نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم وعدم الخدش في عصمته. وإذا كان بعض الصّحابة لم يسلم من هذا النقد والتجريح للغرض نفسه، فما البخاري ومسلم بأفضل من أولئك المقرّبين لصاحب الرسالة.
وما دمنا نهدف إلى تنزيه النّبي العربي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحاول جهدنا إثبات العصمة له وأنّه أعلم وأتقى البشر على الإطلاق ونعتقد أن الله سبحانه وتعالى اصطفاه ليكون رحمة للعالمين وأرسله للنّاس كافة من الإنس والجنّ، فلا شك أنّ الله يطالبنا بتنزيه وتقديسه وعدم قبول المطاعن فيه، ولذلك نحن وكلّ المسلمين مطالبون بطرح كلّ ما يتعارض والخلق
ولنا مع كل ذلك رضا وتعزيّة المؤمنين الصادقين الذين عرفوا قدر الله وقدر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يعرفوا قدر الحكّام والخلفاء والسّلاطين.
أذكر أنّي لقيت معارضة شديدة حتّى أتهمت بالكفر والخروج عن الدّين عندما انتقدت البخاري في تخريجه حديث لطم موسى لملك الموت وفقأ عينه، وقيل لي: من أنت حتى تنتقد البخاري؟ وأثاروا حولي ضجّة وضوضاء وكأني انتقدت آية من كتاب الله.
والحال أنّ الباحث إذا ما تحرّر من قيود التقليد الأعمى والتعصّب المقيت سوف يجد في البخاري ومسلم أشياء عجيبة وغريبة تعكس بالضّبط عقليّة العربي البدوي الذي ما زال فكره جامداً يؤمن ببعض الخرافات والأساطير، ويميل فكره إلى كل ما هو غريب، وليس هذا بعيب ولا نتّهمه بالتخلّف الذهني فليس عصره البدائي هو عصر الأقمار الصّناعية ولا التلفزيون والهاتف والصاروخ.
وإنّما لا نريد أن يلصق ذلك بصاحب الرسالة صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنّ الفرق كبير والبون شاسع، فهو الذي بعثه الله في الأميّين يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وبما أنه خاتم الأنبياء والمرسلين فقد علمه الله علم الأولين والآخرين.
كما نلفت القارىء الكريم بأنّ ليس كل ما في البخاري هو منسوب
أضرب لذلك مثلاً:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحيل باب في النكاح من جزء الثامن صفحة 62 قال:
* عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثّيب حتى تستأمر. فقيل: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: إذا سكتت، وقال بعض النّاس إن لم تستأذن البكر ولم تزوج فاحتال رجلٌ فأقام شاهدي زور أنه تزوجها برضاها فأثبت القاضي نكاحها والزوج يعلم أن الشهادة باطلة فلا بأس أن يطأها وهو تزويج صحيح، فانظر إلى قول البخاري (بعد حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال بعض النّاس! فلماذا يصبح قول بعض النّاس (وهم مجهولون) بأنّ النكاح بشهادة الزور هو نكاح صحيح، فيتوهّم القارىء بأنّ ذلك هو رأي الرّسول، وهو غير صحيح.
مثال آخر ـ أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق باب مناقب المهاجرين وفضلهم من جزئه الرابع صفحة 203 عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا في زمن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نفاضل بينهم.
إنّه رأي عبدالله بن عمر ولا يلزم به إلا نفسه، وإلا كيف يصبح علي بن أبي طالب وهو أفضل النّاس بعد رسول الله، لا فضل له ويعده عبدالله بن بن عمر من سوقة النّاس.
ولذلك تجد عبدالله بن عمر يمتنع عن بيعة أمير المؤمنين ومولاهم،
وسنبيّن للقارىء اللّبيب موقف البخاري في كل ما يتعلّق بعلي بن أبي طالب، وكيف أنّه يحاول جهده كتمان فضائله وإظهار المثالب له.
كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق باب حدّثنا الحميدي قال: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدّثنا جامع بن أبي راشدٍ حدثنا أبو يعلى عن محمّد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي النّاس خير بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
نعم هذا الحديث وضعوه على لسان محمد بن الحنفية وهو ابن الإمام علي بن أبي طالب، وهو كسابقه الذي روي عن لسان ابن عمر، والنتيجة في الأخير هي واحدة ولو خشي ابن الحنفية أن يقول أبوه: عثمان في الثالثة، ولكن ردّ أبيه «ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين» يفيد بأنّ عثمان أفضل منه لأنّه ليس هناك من أهل السنّة من يقول بأنّ عثمان ليس هو إلا رجلٌ من المسلمين بل يقولون كما تقدّم بأنّ أفضل الناس أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نفاضل بينهم، والنّاس بعد ذلك سواسية.
____________
(1) الصواعق المحرقة لابن حجر: 107.
(2) صحيح الترمذي: 5/297. مستدرك الحاكم: 3/124.
ألا تعجبون من هذه الأحاديث التي خرجها البخاري وكلّها ترمي إلى هدف واحد وهو تجريد علي بن أبي طالب من كل فضيلة ألا يفهم من ذلك بأنّ البخاري كان يكتب كل ما يرضي بني أمية وبني العبّاس وكل الحكّام الذين قاموا على أنقاض أهل البيت. إنّها حجج دامغة لمن أراد الوقوف على الحقيقة.
البخاري ومسلم يذكران أي شيء لتفضيل أبي بكر وعمر
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق باب حدّثنا أبو اليمان من جزئه الرابع صفحة 149.
وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
عن أبي هريرة قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الصّبح ثم أقبل على النّاس فقال: «بينما رجلٌ يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا؛ إنّما خلقنا للحرث فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلّم؟ فقال: «فإنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثم. «وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة، فطلبه حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: ها إنّك استنقذتها مني، فمن لها يوم السّبع، يوم لا راعي لها غيري؟» فقال النّاس، سبحان الله! ذئب يتكلم؟ قال: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثمّ.
وهذا الحديث ظاهر التكلّف وهو من الأحاديث الموضوعة في فضائل الخليفتين، وإلا لماذا يكذب النّاس وهم صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما يقوله لهم حتّى يقول في المرّتين: أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر ثم أنظر كيف يؤكّد الرّاوي على عدم وجود أبي بكر وعمر في المرّتين، إنها فضائل مضحكة ولا معنى لها، ولكنّ القوم كالغرقى يتشبثون بالحشيش،
ومسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصّحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
* عن عمرو بن العاص، أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي النّاس أحب إليك؟ قال: عائشة فقلت: من الرّجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من، قال: عمر بن الخطاب فعدّ رجالاً.
وهذه الرّواية وضعها الوضّاعون لمّا عرفوا أنّ التاريخ سجّل في سنة ثمان من الهجرة (يعني سنتين قبل وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث جيشاً فيه أبو بكر وعمر بقيادة عمرو بن العاص إلى غزوة ذات السّلاسل، وحتى يقطعوا الطريق على من يريد القول بأنّ عمرو بن العاص كان مقدّماً في المنزلة على أبي بكر وعمر، تراهم اختلقوا هذه الرواية على لسان عمرو نفسه للإشادة بفضل أبي بكر وعمر وأقحموا عائشة حتّى يبعدوا الشكّ من ناحية وحتّى تحظى عائشة بأفضلية مطلقة من ناحية أخرى.
ولذلك ترى الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم يقول: «هذا تصريح بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وفيه دلالة بيّنة لأهل السنّة في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة».
وهذه كأمثالها من الروايات الهزيلة التي لم يتورّع الدجّالون لوضعها حتّى على لسان علي بن أبي طالب نفسه ليقطعوا بذلك على زعمهم حجة
ومسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه.
* عن علي، عن ابن عبّاس قال: وضع عمر على سريره، فتكنّفه الناس، يدعون ويصلّون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي، فإذا علي، فترحّم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحبّ إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أنّي كنت كثيراً ما أسمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر.
نعم هذا وضع ظاهر يشم منه رائحة السّياسة التي لعبت دورها في إقصاء فاطمة الزهراء وعدم دفنها قرب أبيها رغم أنها أول اللاحقين به. وفات الرّاوي هنا أن يضيف بعد قوله ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وسأدفن أنا وأبو بكر وعمر.
ألا يتورع هؤلاء الذين يحتجّون بمثل هذه الروايات الموضوعة التي يكذبها التاريخ والواقع. وكتب المسلمين مشحونة بتظلّم علي وفاطمة الزهراء ممّا فعله أبو بكر وعمر طيلة حياتهما.
ثم تمعّن في الرواية لترى بأنّ الرّاوي يصوّر عليّاً وكأنّه رجلٌ أجنبي جاء ليتفرّج على ميّت غريب فوجد النّاس يكتظون عليه يدعون ويصلّون فأخذ بمنكب ابن عباس وكأنه همس في أذنه تلك الكلمات وانسحب، والمفروض أن يكون علي في مقدمة النّاس وهو الذي يصلّي بهم. ولا
ولما كان النّاس في عهد بني أميّة يتسابقون في وضع الحديث بأمر من «أمير المؤمنين» معاوية الذي أراد أن يرفع قدر أبي بكر وعمر مقابل فضائل علي بن أبي طالب، فقد جاءت أحاديث الفضائل هزيلة مضحكة ومتناقضة في بعض الأحوال حسب هوى الرّاوي فمنهم التيمي الذي كان لا يقدّم على أبي بكر أحداً ومنهم العدوي الذي لا يقدّم على عمر أحداً، وبنو أمية الذين كانوا معجبين بشخصية ابن الخطاب الجريء على النّبي والفظ الغليظ الذي لا يتورّع من شيء ولا يهاب شيء فكانوا كثيراً ما يمدحونه ويضعون الأحاديث التي تفضّله على أبي بكر.
وإليك أيها القارىء بعض الأمثلة.
أخرج مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصّحابة باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه.
وأخرج البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.
* عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بينما أنا نائم رأيت النّاس يعرضون علي، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين.
وإذا كان تأويل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهذه الرؤيا، هو الدّين فمعنى ذلك ان عمر بن الخطاب أفضل من كل النّاس لأنّ الدّين بالنسبة إليهم لم يبلغ إلى الثدي وما تجاوز الدّين قلوبهم، بينما عمر مليء بالدّين من رأسه إلى أخمص قدميه وأكثر من ذلك فهو يجرّ الدين وراءه جراً. كما يجرّ القميص. فأين أبو بكر الصديق الذي يرجح إيمانه إيمان الأمّة بأكملها؟
كما أخرج البخاري في صحيحه من كتاب العلم باب فضل العلم. وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصّحابة باب فضائل عمر.
* عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت حتّى إنّي لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: العلم.
أقول فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وإذا كان ابن الخطاب قد فاق الأمة بأكملها أو النّاس بأجمعهم في الدّين بما فيهم أبو بكر، ففي هذه الرواية صراحة بأنّه فاقهم أيضاً في العلم فهو أعلم النّاس بعد الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
بقيت هناك فضيلة أخرى يتبارى النّاس في التحلّي بها والإنتماء إليها وهي من الصفات الحميدة التي يحبّها الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحبّها جميع النّاس ويحاولون الوصول إليها ألا وهي الشجاعة فلا بدّ للرّواة أن يضعوا فيها حديثاً لفائدة أبي حفص وقد فعلوا.
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب فضائل أصحاب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم باب قول النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لو كنت متخذاً خليلاً.
وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصّحابة باب من فضائل عمر.
* عن أبي هريرة: قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: بينما أنا نائم رأيتني على قليب، عليها دلوٌ، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطّاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن.
فإذا كان الدّين وهو مركز الإيمان والإسلام والتقوى والتقرب إلى الله
نعم كل هذا فضل عمر بن الخطاب في الحياة الدنيا فلا بدّ أن يضمنوا له الجنة في الآخرة أيضا بمرتبة أكبر وأفضل من صاحبه أبي بكر. وقد فعلوا.
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة وأنّها مخلوقة وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر.
* عن أبي هريرة: رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ قال: «بينما أنا نائم»، رأيتني في الجنّة، فإذا امرأةٌ تتوضّأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فولّيت مدبراً، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟.
أخي القارىء أظنّك فطنت إلى تنسيق هذه الروايات المكذوبة وقد سطّرت على كل منها تحت عبارة واحدة مشتركة في كل الروايات التي
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده وأخرج مسلم في صحيحه من كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر.
* عن سعد بن أبي وقّاص، قال: استأذن عمر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعنده نساءٌ من قريش يكلّمنه، ويستكثرنه، عالية أصواتهنّ، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله؟ قال: «عجبت من هؤلاء اللاّتي كن عندي فلمّا سمعن
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً أنظر إلى فظاعة الرّواية وكيف أنّ النّساء يهبن عمر ولا يهبن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرفعن أصواتهن فوق صوت النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يحترمنه فلا يحتجبن بحضرته وبمجرد سماع صوت عمر سكتن وابتدرن الحجاب، عجبت والله من أمر هؤلاء الحمقى الذين لا يكفيهم كل ذلك حتى ينسبون إليه أنّه فظٌّ غليظ بكل صراحة. لأنّ عمر أفظّ وأغلظ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهي من أفعال التفضيل فإن كانت هذه فضيلة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فعمر أفضل منه. وإن كانت رذيلة فكيف يقبل المسلمون وعلى رأسهم البخاري ومسلم مثل هذه الأحاديث.
ثم لم يكفهم كل ذلك حتّى جعلوا الشيطان يلعب ويمرح بحضرة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يخافه فلا شك أنّ الشيطان هو الذي استفزّ النسوة حتى يرفعن أصواتهنّ ويخلعن حجابهنّ، ولكنّ الشيطان هرب وسلك فجّاً آخر بمجرد دخول عمر بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
هل رأيت أيّها المسلم الغيور ما هي قيمة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عندهم، وكيف أنهم يقولون من حيث يشعرون أو لا يشعرون بأنّ عمر أفضل منه. وهو بالضبط ما يقع اليوم عندما يتحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعدّدون أخطاءه المزعومة ويبرّرون ذلك بأنّه بشر غير معصوم وبأنّ عمر كثيراً ما كان يصلح أخطاءه، وأنّ القرآن كان ينزل بتأييد عمر في العديد من المرّات، ويستدلّون بعبس وتولّى وبتأبير النخل وبأسرى بدر وغيرها.
ولكنّك عندما تقول أمامهم بأنّ عمر أخطأ في تعطيل سهم المؤلفة قلوبهم. أو في تحريم المتعتين أو في التفضيل في العطاء فإنّك ترى أوداجهم تنتفخ وأعينهم تحمّر ويتّهمونك بالخروج عن الدّين ويقال لك من أنت يا هذا حتى تنتقد سيدنا عمر الفاروق الذي يفرق بين الحقّ والباطل. وما عليك إلا أن تسلّم ولا تحاول الكلام معهم ثانية وإلاّ قد يلحقك منهم الأذى.
البخاري يدلّس الحديث حفاظاً على كرامة عمر بن الخطاب
نعم إنّ الباحث إذا ما تتّبع أحاديث البخاري لا يفهم الكثير منها وتبدوا كأنها ناقصة أو مقطّعة وأنّه يخرج نفس الحديث بنفس الأسانيد ولكنّه في كل مرّة يعطيه ألفاظاً مختلفة في عدّة أبواب. كل ذلك لشدة حبه لعمر بن الخطاب. ولعلّ ذلك هو الذي رغّب أهل السنّة فيه فقدّموه على سائر الكتب رغم أن مسلماً أضبط وكتابه مرتب حسب أبواب، إلا أن البخاري عندهم أصحّ الكتب بعد كتاب الله لأجل هذا ولأجل انتقاصه فضائل علي بن أبي طالب، فالبخاري عمل من جهة على تقطيع الحديث وبتره إذ كان فيه مسّ بشخصية عمر، كما عمل نفس الأسلوب مع الأحاديث التي تذكر فضائل علي. وسنوافيك ببعض الأمثلة على ذلك قريباً إن شاء الله.
بعض الأمثلة على تدليس الحديث التي فيها
حقائق تكشف عن عمر بن الخطاب
1 ـ أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الحيض باب التيمم قال: جاء رجل إلى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً؟ فقال عمر: لا تصلّ فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرّية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأما أنت فلم تصلّ، وأما أنا فتمعّكت في التّراب وصلّيت فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك، فقال عمر: إتّق الله يا عمّار! قال: إن شئت لم
ولكنّ البخاري خان الأمانة أمانة نقل الحديث كما هو ومن أجل الحفاظ على كرامة عمر دلّس الحديث لأنه لم يعجبه أن يعرف النّاس جهل الخليفة بأبسط قواعد الفقه الإسلامي وإليك الرواية التي تصرّف فيها البخاري.
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب التيمّم باب المتيمم هل ينفخ فيهما.
* قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إنّي أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنّا كنّا في سفرٍ أنا وأنت… الحديث.
وهو كما ترى حذف منه البخاري «فقال عمر: لا تصلّ» لأنها أربكت ولا شك البخاري فحذفها وتخلّص منها لئلا يكشف للنّاس عن مذهب عمر الذي كان يرتئيه في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واجتهاده مقابل نصوص القرآن والسنّة. وبقاءه على مذهبه هذا حتّى بعد ما أصبح أميراً للمؤمنين وأخذ ينشر مذهبه في أوساط المسلمين وقد قال ابن حجر: «هذا مذهب مشهور عن عمر» والدّليل على أنّه كان يشدّد على ذلك قول عمار له: إن شئت لم أحدّث به. فاقرأ وأعجب.
2 ـ أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك من جزئه الثاني صفحة 514 وصحّحه الذهبي في تلخيصه.
* عن أنس بن مالك قال: إن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر قوله: فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبّاً، قال: كل هذا عرفناه فما الأب، ثم قال: هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن لا تدري ما الأبُّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم
وهذه الرّواية قد نقلها أغلب المفسّرين في كتبهم وتفاسيرهم لسورة عبس كالسّيوطي في الدر المنثور والزمخشري في الكشاف، وابن كثير في تفسيره. والرّازي في تفسيره والخازن في تفسيره.
ولكنّ البخاري وكعادته حذف الحديث وأبتره لئلا يعرف النّاس جهل الخليفة بمعنى الأبّ فروى الحديث كالآتي.
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه قول الله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم.
* عن أنس بن مالك قال: كنّا عند عمر فقال: نهينا عن التكلّف. نعم هكذا يفعل البخاري بكل حديث يشمّ منه انتقاصاً من عمر فكيف يفهم القارىء من هذا الحديث المبتور حقيقة الأشياء فهو يستر جهل عمر بمعنى الأب ويقول فقط قال: نهينا عن التكلّف.
3 ـ أخرج ابن ماجة في سننه: 2/227 والحاكم في المستدرك: 2/59، وأبو داود في سننه: 2/402 والبيهقي في سننه: 6/264 وابن حجر في فتح الباري وغيرهم.
* عن ابن عباس أنه قال: أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها علي بن أبي طالب فقال: ما شأنها؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم قال: ارجعوا بها ثم أتاه فقال: ألم تعلم أنّ القلم رفع عن المجنون حتّى يعقل، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصّبي حتّى يحتلم؟
فخلّى عنها عمر وقال: لولا عليّ لهلك عمر (ابن الجوزي في تذكرته ص75). ولكن البخاري أربكته هذه الرواية فكيف يعرف النّاس جهل عمر
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة باب لا يرجم المجنون والمجنونة «قال البخاري بدون ذكر أي سند».
* وقال علي لعمر أما علمت أنَّ القلم رفع عن المجنون حتّى يفيق وعن الصبيّ حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ.
نعم هذا مثالٌ حيٌّ لتصرف البخاري في الأحاديث فهو يبتر الحديث إذا كان في فضيحة لعمر.
ويبتر الحديث أيضاً إذا كان فيه فضيلة أو منقبة للإمام علي فلا يطيق تخريجه.
4 ـ أخرج مسلم في صحيحه من كتاب الحدود باب حدّ شارب الخمر.
* عن أنس بن مالك، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أُتي برجلٍ قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر، استشار النّاس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخفّ الحدود ثمانين، فأمر به عمر.
والبخاري كعادته لا يريد إظهار جهل عمر بالحكم في الحدود وكيف يستشير النّاس في حدّ معلوم فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم فعله بعده أبو بكر.
أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحدود باب ما جاء في ضرب شارب الخمر.
* عن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ضرب في الخمر بالجريد والنّعال وجلد أبو بكر أربعين.
5 ـ أخرج المحدّثون والمؤرخون الذين أرّخوا مرضى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ووفاته وكيف طلب منهم أن يكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً وهو ما سمّي برزية يوم الخميس، وكيف أنّ عمر بن الخطّاب عارض وقال بأنّ رسول الله يهجر ـ والعياذ بالله ـ.
وقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الجهاد باب هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم.
وأخرجه مسلم في صحيحه من كتاب الوصية باب ترك الوصيّة لمن ليس له شيء يوصي فيه.
* عن ابن عبّاس رضي الله عنه، أنّه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتّى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجعه يوم الخميس، فقال: «ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازعٌ، فقالوا: هجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «دعوني فالذي أنا فيه خيرٌ مما تدعوني إليه» وأوصى عند موته بثلاث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» ونسيت الثالثة.
نعم هذه هي رزية يوم الخميس التي لعب فيها عمر دور البطولة فعارض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنعه أن يكتب وبتلك الكلمة الفاحشة التي تعارض كتاب الله ألا وهي أن النّبي يهجر والبخاري ومسلم نقلاها هنا بالعبارة الصحيحة التي نطق بها عمر ولم يبدِّلاها ما دام اسم عمر غير وارد ونسبة هذا القول الشنيع للمجهول لا يضرّ.
ولكن عندما يأتي اسم عمر في الرواية التي تذكر بأنّه هو الذي تلفّظ بها يصعب ذلك على البخاري ومسلم أن يتركاها على حالها لأنها تفضح
* عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: هلّم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده. فقال عمر: إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النّبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللّغو والاختلاف عند النّبي قال لهم: قوموا ـ قال عبدالله بن مسعود ـ فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرّزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1) .
وبما أن مسلماً. أخذها عن أستاذه البخاري فنحن نقول للبخاري مهما هذّبت العبارة ومهما حاولت تغطية الحقائق فإنّ ما أخرجته كافٍ وهو حجةٌ عليك وعلى سيّدك عمر. لأن لفظ «يهجر» ومعناه يهذي ـ أو «قد غلب عليه الوجع» ـ تؤدّي إلى نفس النتيجة لأن المتمعّن يجد أنّ النّاس حتّى اليوم يقولون «مسكين فلان تغلّبت عليه الحمّى حتى أصبح يهذي».
وخصوصاً إذا أضفنا إليها كلامه «عندكم القرآن حسبنا كتاب الله»
____________
(1) صحيح البخاري كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني: 7/9. صحيح مسلم في كتاب الوصية باب ترد الوصي: 5/76.
وأنا أتحدّى كل عالم له ضمير أن يتمعّن فقط في هذه الواقعة بدون رواسب وبدون خلفيات فسوف تثور ثائرته على الخليفة الذي حرم الأمة من الهداية وكان سبباً مباشراً في ضلالتها.
ولماذا نخشى من قول الحق ما دام فيه دفاعٌ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالتالي عن القرآن وعن المفاهيم الإسلامية بأكملها، قال تعالى: (فلا تخشوا النّاس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44]. فلماذا يحاول بعض العلماء حتى اليوم في عصر العلم والنور جهدهم تغطية الحقائق بما يختلقونه من تأويلات متكلّفة لا تسمن ولا تغني من جوع.
فإليك ما ابتكره العالم محمد فؤاد عبدالباقي في شرحه لكتاب «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان» عند إيراده لحديث رزيّة يوم الخميس قال «يشرح الواقعة»(1) .
ـ ائتوني بكتاب: أي ائتوني بأدوات كتاب كالقلم والدواة، أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو الكاغد والكتف؛ والظاهر أن هذا الكتاب الذي أراده إنّما هو في النصر على خلافة أبي بكر لكنّهم لما تنازعوا واشتدّ مرضه صلّى الله عليه وآله وسلّم عدل عن ذلك، معوّلاً على ما أصَّله من استخلافه في الصّلاة. (ثم أخذ يشرح معنى هجر). قال: هجر: ظنّ ابن بطّال أنّها بمعنى اختلط، وابن التين أنها بمعنى هذى؛ وهذا غير لائق بقدره الرفيع، ويحتمل أن يكون المراد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هجركم، من الهجر الذي هو ضد الوصل، لما قد ورد عليه من الواردات الإلهية، ولذا قال: في الرفيق الأعلى، وقال ابن الأثير إنّه على سبيل
____________
(1) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: 2/166.
ونحن نردّ عليك يا سيادة العالم الجليل أن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً ويكفينا اعترافك بأنّ قائل هذا الفحش هو عمر! ومن أنبأك بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد أن يكتب خلافة أبي بكر؟ وهل كان عمر ليعترض على ذلك؟ وهو الذي شيّد أركان الخلافة لأبي بكر وحمل النّاس عليها غصباً وقهراً حتّى هدّد بحرق بيت الزّهراء وهل هناك من ادّعى هذا غيرك يا سيادة العالم الجليل؟
والمعروف عند العلماء قديماً وحديثاً بأنّ عليّاً بن أبي طالب هو المرشح للخلافة من قبل الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إن لم يعترفوا بالنّص عليه. ويكفيك ما أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الوصايا من جزئه الثالث صفحة 186، قال: ذكروا عند عائشة أنّ عليّاً رضي الله عنهما كان وصيّاً فقالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري فدعا بالطسّت فلقد أنخنت في حجري فما شعرت أنّه قد مات فمتى أوصى إليه؟
والبخاري أخرج هذا الحديث لأنّ فيه إنكار الوصيّة من طرف عائشة وهذا ما يعجب البخاري، ولكن نحن نقول بأنّ الذين ذكروا عند عائشة أنّ رسول الله أوصى لعلي، صادقين لأنّ عائشة لم تكذّبهم ولم تنف هي نفسها الوصية ولكنها سألت كالمستنكرة متى أوصى إليه؟ ونجيبها بأنّه أوصى إليه بحضور أولئك الصحابة الكرام وفي غيابها هي، ولا شك بأنّ أولئك الصّحابة ذكروا لها متّى أوصى إليه ولكنّ الحكّام المتسلطين منعوا ذكر مثل هذه المحاججات كما منعوا ذكر الوصيّة الثالثة ونسوها، وقامت السياسة على طمس هذه الحقيقة على أنّ عمر نفسه صرّح بأنّه منع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من كتابة الكتاب لعلمه بأنه يختصّ بخلافة علي بن أبي طالب، وقد أخرج ابن أبي الحديد، الحوار الذي دار بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عبّاس،
فلماذا تتهرّب يا سيادة العالم من الواقع، وبدلاً من إظهار الحقّ، بعدما ولّى عصر الظلمات مع بني أميّة وبني العبّاس، ها أنتم تزيدون تلك الظلمات غشاوة وأستاراً فتحجبوا غيركم عن إدراك الحقيقة والوصول إليها، وإن كنت قلت الذي قلت عن حسن نيّةٍ فإني أسأل الله سبحانه أن يهديك ويفتح بصيرتك.
6 ـ كما أنّ البخاري فعل الكثير من أجل تبديل وتدليس وتخليط الأحاديث النّبوية التي يشعر من خلالها أنّ هناك توهيناً وانتقاصاً لهيبة أبي بكر وعمر، فها هو يعمد إلى حادثة تاريخية مشهورة قال فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حديثاً لم يعجب الإمام البخاري فأعفاه تماماً وكمالاً، لأنّه يرفع مكانة علي على حساب أبي بكر.
فقد روى علماء السنّة في صحاحهم ومسانيدهم، كالترمذي في صحيحه والحاكم في مستدركه وأحمد بن حنبل في مسنده والإمام النسائي في خصائصه، والطبري في تفسيره، وجلال الدّين السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور، وابن الأثير في تاريخه، وصاحب كنز العمّال والزمخشري في الكشاف، وغير هؤلاء كثيرون، أخرجوا كلهم:
* أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث أبا بكر رضي الله عنه وأمره ان ينادي بهؤلاء الكلمات (وهي براءة من الله ورسوله..)، ثم ابتعه عليّاً رضي الله عنه وأمره أن ينادي بها هو. فقام عليٌّ رضي الله عنه في أيام التشريف فنادى: «إنّ الله برىء من المشركين ورسوله، فسيحوا في الأرض
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 12/21 وذكر ابن أبي الحديد أنّ الخبر نقله أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.
لكنّ البخاري كعادته دائماً أخرج الحادثة بطريقته المعروفة والمألوفة، قال في صحيحه من كتاب تفسير القرآن باب قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر.
* قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشركٌ ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبدالرحمن ثم أردف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذّن ببراءة، قال أبو هريرة فأذّن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة وأنّ لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان(1) .
فانظر أيها القارىء كيف تتمُّ عملية التشويه للأحاديث والأحداث حسب الأغراض والأهواء المذهبية، فهل هناك شبهٌ بين ما رواه البخاري في هذه القضية، وما رواه غيره من المحدّثين والمفسّرين من علماء أهل السنة.
والبخاري هنا يجعل أبا بكر هو الذي بعث أبا هريرة ومؤذّنين يؤذّنون بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريانٌ، ثم يدخل قول حميد بن عبدالرحمن بأنّ رسول الله أردف بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذّن ببراءة.
ثم يأتي من جديد قول أبي هريرة بأنّ علي شاركهم في الأدان يوم النحر ببراءة وأن لا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
وبهذا الأسلوب قضى البخاري على فضيلة علي بن أبي طالب في أنّه
____________
(1) صحيح البخاري: 5/202 كتاب تفسير القرآن سورة براءة.
وكيف لا يتنبّه الباحث لهذا الدّس والتزوير وخيانة الأمانة العلمية خصوصاً وهو يقرأ أنّ أبا هريرة يقول: بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين بعثهم يوم النحر! فهل كان أبو بكر هو الذي يسيّر الأمور حتى في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وكيف أصبح المبعوث هو الباعث الذي يختار مؤذّنين من بين الصحابة يا ترى؟
وتمعّن في أسلوب البخاري كيف قلّب كل شيء فأصبح علي بن أبي طالب ـ المبعوث من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأداء تلك المهمّة التي لا يصلح لها سواه ـ أصبح شريك النّداء مع أبي هريرة وبقية المؤذّنين دون التعرّض لعزل أبي بكر ولا رجوعه يبكي (كما في بعض الروايات) ولا التعرّض إلى قول النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جاءني جبرئيل فقال: لن يؤدّي عنك إلا أنت أو رجلٌ منك.
لأن ذلك الحديث هو بمثابة وسام الشّرف الذي قلّده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن عمّه ووصيّه على أمّته علي بن أبي طالب، ثم هو صريح بأنّ ذلك ماجاء به جبرئيل حسب الحديث النّبوي، فلا يبقى بعده مجال للمتأوّلين أمثال البخاري في أنّه رأي محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو كسائر البشر والذي يخطىء لغيره، فالأولى للبخاري حينئذ أن يبعد هذه الرواية ويطرحها كلّياً من حسابه كما طرح غيرها.
فتراه يخرج في صحيحه في كتاب الصلح باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان قول الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي بن أبي طالب «أنت منّي وأنا منك» في قضية اختصام علي وجعفر وزيد على ابنة
7 ـ أضف إلى ذلك أن الإمام مسلم أخرج في صحيحه من كتاب الإيمان باب الدّليل على أنّ حب الأنصار وعليّ من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النّفاق.
* عن عليّ قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأمي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق.
وأكّد المحدّثون وأصحاب السنن قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي «ولا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافقٌ».
أخرجه الترمذي في صحيحه والنسائي في سننه، ومسند أحمد بن حنبل والبيهقي في سننه والطبري في ذخائر العقبى ـ وابن حجر في لسان الميزان ولكنّ البخاري رغم ثبوت هذا الحديث عنده والذي أخرجه مسلم ورجاله كلّهم ثقاة، لم يخرج هذا الحديث لأنّه فكّر ثم قدّر، بأنّ المسلمين سيعرفون نفاق كثير من الصّحابة ومن المقرّبين للرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
بهذه الإشارة التي رسمها من لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى، كما أن الحديث في حدّ ذاته فضيلة كبرى لعلي وحده دون سائر الناس إذ به يفرق الحقّ من الباطل ويعرف الإيمان من النّفاق، فهو آية الله العظمى وحجّته الكبرى على هذه الأمة وهو الفتنة التي يختبر الله بها أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد نبيّها، ورغم أن النّفاق هو من الأسرار الباطنية التي لا
____________
(1) سنن ابن ماجة: 1/44. الجامع الصحيح للترمذي: 5/300. النسائي في الخصائص 20. مسند أحمد: 5/30. المناقب للخوارزمي: 79. تذكرة الخواص لابن الجوزي: 36. الصواعق المحرقة لابن حجر: 120.
وأضرب لذلك مثالاً واحداً على ذكاء البخاري وفطنته من هذه النّاحية، ولذلك أعتقد شخصيّاً بأنّ أهل السنّة من الأسلاف فضّلوه وقدّموه لهذه الخاصيّة التي يمتاز بها على غيره، فهو يحاول جهده أن لا يتناقض بأحاديث تخالف مذهبه الذي اختاره وتبنّاه.
فقد أخرج في صحيحه من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها باب هبة الرّجل لامرأته والمرأة لزوجها.
* قال: أخبرني عبيد الله بن عبدالله قالت عائشة رضي الله عنها: لما ثقل النّبي صلّى الله عليه ,آله وسلّم فاشتدّ وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين تخطّ رجلاه الأرض وكان بين العبّاس وبين رجلٍ آخر. فقال عبيد الله فذكرت لابن عبّاس ما قالت عائشة، فقال لي وهل تدري من الرّجل الذي لم تسمّ عائشة؟ قلت: لا! قال: هو عليّ بن أبي طالب.
وهذا الحديث بالضبط أخرجه ابن سعد في طبقاته بمسند صحيح في جزئه الثاني في صفحة 29 وكذلك صاحب السيرة الحلبية وغيرهم من أصحاب السنن وفيه «إن عائشة لا تطيب له نفساً بخير».
والبخاري أسقط هذه الجملة التي يستفاد منها أنّ عائشة تبغض عليّاً ولا تطيق ذكر اسمه. ولكن فيما أخرجه كفاية ودلالة واضحة لمن له دراية بمعارض الكلم؛ وهل يخفى على أيّ باحث قرأ التاريخ ومحّصة بغض أم المؤمنين لسيّدها ومولاها(1) علي بن أبي طالب حتّى أنها عندما وصل إليها
____________
(1) أخرج ابن حجر في الصواعق المحرقة: 107. قال اختصم أعرابيان إلى عمر فالتمس من علي القضاء بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر وأخذ بتلاييبه، وقال: ويحك ما تدري من هذا؟ هذا مولاك ومولى كل مؤمن ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن.
انتقاص أهل البيت روايات تعجب البخاري
ومع الأسف الشديد أنّ الإمام البخاري اختار طريقه وسلك سبيله ضمن مدرسة الخلفاء التي شيدتها السلطة الحاكمة، أو أن تلك المدرسة هي التي اختارت البخاري وأمثاله وصنعت منهم ركائز وأركان ورموز لتدعيم سلطانهم وترويح مذهبهم وتصريف اجتهاداتهم التي أصبحت في عهد الأمويين والعباسيين سوقاً رائجة وسلعة رابحة لكلّ العلماء الذين تسابقوا وتباروا لتأييد الخليفة بكل أساليب الوضع والتّدليس الذي يتماشى والسّياسة القائمة، كل ذلك لينالوا عند الحاكم الجاه والمال، فباعوا أخراهم بدنياهم فما ربحت تجارتهم ويوم القيامة يندمون ويخسرون.
فالناس ناس، والزمان زمان، فأنت ترى اليوم نفس الأساليب ونفس السّياسة، فكم من عالم جليل هو حبيس داره لا يعرفه النّاس. وكم من جاهل تربّع على منبر الخطابة وإمامة الجماعة والتحكّم بمصير المسلمين لأنّه من المقرّبين الذين نالوا رضاء النظام وتأييده وإلاّ قل لي بربّك كيف يفسّر عزوف البخاري عن أهل بيت النبي الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهيراً؟ كيف يفسّر عداء البخاري لهدي الأئمة الذين عاصر وعايش البعض منهم زمن البخاري ولم يروِ عنهم إلاّ ما هو مكذوب عليهم للحطّ
ثم إنّ البخاري ولّى وجهه شطر النّواصب والخوارج الذين حاربوا أهل البيت وقتلوهم فتراه يروي عن معاوية وعن عمرو بن العاص وعن أبي هريرة وعن مروان بن الحكم وعن مقاتل بن سليمان الذي عرف بالدّجال، وعن عمران بن حطّان عدوّ أمير المؤمنين وعدوّ أهل البيت، شاعر الخوارج وخطيبهم الذي كان يتغنّى بمدحه لابن ملجم المرادي على قتله علي بن أبي طالب.
كما كان البخاري يحتج بحديث الخوارج والمرجئة والمجسمة وبعض لمجاهيل الذين لا يعرفون الدّهر لهم وجوداً.
وقد جاء في صحيحه إضافة إلى الكذب والتدليس من الرّواة المشهورين بذلك، بعض الرّوايات السّخيفة والبشعة. مثال ذلك ما رواه في صحيحه من كتاب النكاح باب ما يحلّ من النّساء وما يحرم وقوله تعالى: (حرّمت عليكم أمّهاتكم…) إلى آخر الآية.
قال في آخر الباب: لقوله تعالى (وأحلّ لكم ما وراء ذلكم) ، وقال عكرمة عن ابن عبّاس إذا زنى بأخت أمرأته لم تحرم عليه أمرأته، ويروى عن يحيى الكندي عن الشعبي وأبي جعفر فيمن يلعب بالصبيّ إن أدخله فيه فلا يتزوّجنّ أمّه.
وقد علّق على هذا الكلام شارح البخاري في الهامش بقوله: اللاّئق بمنصب العلماء أن يجلّوا قدرهم عن كتب مثل هذا الكلام والتفوّه به.
كما أخرج في صحيحه من كتاب تفسير القرآن باب نساؤكم حرث لكم عن نافع قال كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتّى يفرغ منه، فأخذت عليه يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكانٍ،
وعن نافع عن ابن عمر، فأتوا حرثكم أنّى شئتم قال: يأتيها في… وعلّق الشارح بقوله: قوله في… بحذف المجرور وهو الظرف أي في الدّبر، قيل وأسقط المؤلف ذلك لاستنكاره كذا في الشارح(2) .
كنت يوماً في جامعة السربون بباريس أتحدّث عن أخلاق النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلقه العظيم الذي تحدث عنه القرآن وعرف به النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قبل البعثة فسمّوه الصّادق الأمين ودامت المحاضرة ساعة تقريباً أوضحت خلالها بأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن محارباً ولا غاصباً لحقوق الإنسان في تقرير مصيره، وفرض دينه بالقوة والقهر كما يدّعي بعض المستشرقين.
وخلال المناقشة التي شارك فيها نخبةٌ من الأساتذة والدكاترة المختصّين بالإسلام وتاريخ المسلمين وجلّهم مستشرقون. وانتصرت نوعاً ما على المناوئين الذين أثاروا بعض الشبهات، ولكنّ أحدهم وهو عربي مسيحي طاعنٌ في السنّ (أعتقد أنه لبناني) اعترض عليّ بأسلوب فيه خبث ودهاء فكاد يقلب انتصاري إلى هزيمة نكراء.
قال هذا الدكتور بلسان عربي فصيح، بأنّ ما ذكرته في المحاضرة فيه كثير من المبالغة وبالخصوص فيما يتعلّق بعصمة النبي إذ أنّ المسلمين أنفسهم لا يوافقونك على ذلك، وحتّى محمد نفسه لا يوافق على ذلك، فقد قال عديد المرّات، بأنّه بشرٌ يجوز عليه الخطأ وقد سجّل له المسلمون أخطاءً عديدة نحن في غنىً عن التعريف بها وكتب المسلمين الصحيحة والمعتمدة عندهم تشهد على ذلك، ثم قال: وأما بخصوص الحروب فما
____________
(1) صحيح البخاري: 6/127.