وعلى طريق دعم فكرة تعريف الصحابي التي تفوح منها رائحة السياسة ابتدع أهل السنة فكرة عدالة جميع الصحابة التي شملت كبارهم وصغارهم، عالمهم وجاهلهم، صالحهم وفاسدهم، فجميعهم سواء يروى عنهم ولا يجوز الطعن فيهم(1).
من هنا وعلى ضوء ما سبق فإن أهل السنة وفق عقيدتهم في الأحاديث والروايات وفكرة الصحابي وعدالته يكون مبرر لديهم اعتقاد كونهم الفرقة الناجية، ذلك الاعتقاد الذي أشاعوه بين المسلمين ليكسبوا عطفهم وتأييدهم به ليتحقق لهم ما أسموه بالسواد الأعظم الذي أشارت إليه روايات الفرقة الناجية.
والسواد الأعظم هو جمهور المسلمين ليس على العموم وإنما المتمسكين بالسنة منهم وهذا التقييد من عند أهل السنة، فهم لا يعجبهم أن يكون جمهور المسلمين خارج دائرتهم غير مقيد بعقيدتهم، وهذا يعني أن جمهور المسلمين لا يستحق أن يكون من الفرقة الناجية إلاّ إذا كان مع أهل السنة.
والسؤال هنا: ما هو الدليل على أن المقصود بالسواد الأعظم ـ أهل الفرقة الناجية ـ جمهور أهل السنة دون جمهور الفرق الأخرى؟
والجواب عند أهل السنة هو أن هذا الجمهور هو الملتزم بعقيدة الفرقة الناجية عقيدة أهل السنة والجماعة أي السواد.
وهذا الجواب يفرض سؤالا آخر: ما هو الدليل على أن عقيدة أهل
____________
1- قاعدة أهل السنة في الجرح والتعديل أن من ثبتت صحبته ثبتت عدالته. فيجوز تجريح رواة السند عدا الصحابي فلا يجوز تجريحه.
وجواب أهل السنة ينحصر في كم الأحاديث والروايات التي يتبنونها والتي هي محل شك الفرق الأخرى وهم بهذا يشهدون لأنفسهم ولا يشهد الغير لهم.
وعدم شهادة الغير لهم لكونهم لا يرون فيهم ما يميزهم عنهم ولا يساويهم بهم بل هم محل سخرية وتسفيه الآخرين(1).
وبالنظر إلى الإثنى عشر رواية السابقة نرى التناقض واضح بين نصوصها.
فالرواية الأولى حددت الافتراق على ثلاث وسبعين فرقة.
والرواية الثانية حددت الافتراق على ثلاث وسبعين ملة.
والرواية الرابعة حددت الافتراق على ثنتين وسبعين فرقة.
والرواية الخامسة حددت الفرق الناجية في ثلاث فرق.
والرواية السابعة لم تشر إلى الفرقة الناجية.
والرواية العاشرة حددت الافتراق على ثنتين وسبعين فرقة.
والرواية الثانية عشر حددت الافتراق على بضع وسبعين فرقة.
والفرق كبير وشاسع بين معنى الفرقة الذي ورد في الرواية الأولى، ومعنى الملة الذي ورد في الرواية الثانية.
معنى الفرقة هو أن الأمر ما زال فى دائرة الإسلام.
ومعنى الملة هو أن الأمر خارج دائرة الإسلام.
وهذا الخلل في تحديد المراد من النص إنما يشكك فيه، وما دام النص
____________
1- الفرق الأخرى تطلق على أهل السنة اسم المشبهة والنواصب والشكاكون والحشوية.
كذلك الأمر فيما يتعلق بتحديد عدد الفرق فهو يقودنا إلى نفس النتيجة، وهي الارتياب في النص، خاصة إن الرواية السابعة لم تشر إلى الفرقة الناجية، وأن تحديدها فى دائرة الصحابة أمر غير مقبول عقلا ولا تسانده الوقائع التاريخية كما أشرنا سابقاً.
أما الرواية الحادية عشر والثانية عشر فقد كشفت لنا أبعاداً جديدة فيما يتعلق بالفرقة الناجية، فقد أشارت الأولى إلى أن واحدة من الثلاث وسبعين فرقة ـ في الجنة وسائرهن في النار دون أن تشير إلى جهة محددة كما أشارت الروايات الأخرى.
ومن جهة أخرى فإن الراوي عوف بن مالك لم يسأل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الفرقة الناجية وإنما سأله عن توقيت الافتراق؟
وكان الجواب هو: إذا كثرت الشرط وملكت الإماء وقعدت الحملان على المنابر واتخذ القرآن مزامير وزخرفت المساجد ورفعت المنابر.
وهذه هي علامات فرق النار التي تتمثل في كثرة أعوان السلطان والضرب والقتل وتملك الإماء وسيطرة دعاة السوء والجهالة والضلالة على المنابر واتخاذ القرآن مزامير للتغني به دون توقيره والاستفادة منه وزخرفة المساجد والإخلال بدور المنابر في توعية الأمة وتوجيهها.
وهذه العلامات لا تنطبق على فرقة من الفرق سوى أهل السنة الذين تحققت لهم السيادة والتمكن في ظل حكومات الأمويين والعباسيين والأيوبيين وغيرهم، تلك الحكومات التي سادت في ظلها هذه الشرور
ومن هنا يمكن القول أن هذه الرواية ليست في صالح أهل السنة بل تدينهم وكان من الأولى بهم أن يتخلصوا منها.
والرواية الثانية ـ الثانية عشر ـ جاءت عن طريق عوف بن مالك أيضاً، وقد نصت على أن أعظم الفرق فتنة على الأمة تلك التي تقيس الأمور بالرأي وتحرم الحلال وتحلّ الحرام.
وهذه الرواية تتناقض مع الرواية السابقة التي جاءت عن طريق نفس الراوي، ومن جهة أخرى هي تدين أهل السنة فهم أئمة القياس بالرأي وهم الذين حرموا الحلال وأحلو الحرام تحت وطأة السياسة والروايات.
لقد وضع أهل السنة القياس من بين مصادر الفقه وأصوله بعد الكتاب والسنة والاجماع، كذلك أضافوا إلى أصول الفقه الاستحسان، وهو امتداد للقياس وكلاهما ـ القياس والاستحسان ـ مجالهما الرأي(1).
وهل يمكن أن يكون الرأي أحد مصادر التشريع؟
وهل يمكن طاعة الحكام الفجار وإضفاء المشروعية عليهم؟
إن التاريخ يروي لنا جرائم ومنكرات وانتهاكات لحقوق الإنسان على يد الحكام الأمويين والعباسيين وغيرهم، الذين باركهم أهل السنة وزينوهم في أعين الجماهير المسلمة، بل جعلوا طاعتهم والجهاد معهم وعدم الخروج عليهم من العقائد التي يتوجّب على المسلمين الالتزام بها(2).
____________
1- انظر كتب أصول الفقه.
2- انظر كتب العقائد.
الانحرافات العقائدية والفقهية عند أهل السنة:
وسوف نورد هنا نماذج من الانحرافات العقائدية والفقهية التي وقعت فيها فرق أهل السنة والتي نتج عنها تحريم الحلال وإباحة المحرمات.
ففيما يتعلق بالمحظورات التي أباحوها، نعرض التالي:
ـ اعتبارهم طاعة الحكام الفجار الظلمة واجبة واعتبارهم أئمة(1).
ـ إباحتهم الجهاد من ورائهم وتسليمهم زكاة الأموال والحج معهم(2).
ـ إباحة التوضأ بالنبيذ(3).
ـ إباحة القصر في سفر المعصية(4).
ـ إباحة المسح على الخفين(5).
ـ إباحة الصيد للمحرم(6).
____________
1- انظر كتب العقائد. وانظر باب فرق الماضي. وكتابنا أهل السنة شعب الله.
2- انظر المراجع السابقة.
3- قال بذلك أبو حنيفة. انظر بداية المجتهد ج1/25. وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2/386.
4- قال بذلك مالك وأبو حنيفة. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج1/475.
5- جوز ذلك جميع فقهاء فرق أهل السنة مع مخالفته الصريحة لآية الوضوء في سورة المائدة. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج1/135 وبداية المجتهد ج1/14.
6- قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة. انظر كتب الفقه وتفسير الخازن ج1/529.
ـ إباحة تطليق الزوجة وهي حائض(2).
ـ القول بطهارة المني(3).
ـ إباحة بيع الخمر للمسلم بتوكيل ذمي عنه في البيع(4).
ـ اعتكاف المرتد لا يبطل بعد ارتداده(5).
ـ إباحة تطليق الزوجة تطليقاً بائناً لا رجعة فيه إذا ما طلّقها زوجها ثلاث تطليقات مرة واحدة(6).
ـ إباحة الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها بالنكاح الفاسد(7).
ـ إباحة الحيل في الطلاق(8).
ـ إباحة وقوع الطلاق قبل الزواج وكذلك الظهار(9).
____________
1- قال بذلك الشافعي. انظر الأم ج5/25، وبداية المجتهد ج2/29.
2- قال بذلك الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج4/300 وما بعدها. وانظر بداية المجتهد ج2/52.
3- انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج1/13، وبداية المجتهد ج1/64.
4- انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج1/13، وبداية المجتهد ج1/64.
5- قال بذلك الشافعي. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج1/587.
6- قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة ومالك، انظر بداية المجتهد ج2/50 والفقه على المذاهب الأربعة ج4/297.
7- بداية المجتهد ج2/48، والفقه على المذاهب الأربعة ج4/117.
8- قال بذلك أبو حنيفة، انظر كتب الفقه الحنفي، وانظر أعلام الموقعين ج4/16.
9- قال بذلك أبو حنيفة. انظر بداية المجتهد ج2/69، وانظر الفقه على المذاهب الأربعة ج4/493، وقال بذلك مالك أيضاً انظر الموطأ.
ـ وقوع طلاق المكره(1).
ـ إباحة الصلاة وراء الفاجر(2).
ـ إباحة رضاعة الكبير(3).
ـ إباحة الصلاة في الأرض المغصوبة(4).
ـ إباحة التجسيم والتشبيه(5).
ـ تحريم جمع الصلاة في الحضر(6).
ـ تحريم الحج على المرأة بدون محرم وبدون استئذان الزوج(7).
ـ تحريم الوصية للوارث(8).
____________
1- قال بذلك أبو حنيفة، انظر الهداية شرح بداية المبتدى ج1/167 و ج2/41.
2- انظر كتب العقائد، وانظر الفقه على المذاهب الأربعة ج1/429.
3- انظر مسلم كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير. وانظر شرح النووي.
4- هو ما عليه جميع فرق أهل السنة، وانظر الفقه على المذاهب الأربعة.
5- استناداً لكم من الروايات التي تتعلق بصفات الله، وأبرز فرق أهل السنة التي تبنت التجسيم والتشبيه فرقة الحنابلة، انظر درء شبه التشبيه لابن الجوزي وهو يرد فيه على الحنابلة، وانظر السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل للسبكي، وانظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر ج1/144، ترجمة ابن تيمية وتبنيه للتجسيم والتشبيه.
6- قال بذلك الأحناف، وانظر بداية المجتهد ج1/134 والفقه على المذاهب الأربعة ج1/485 وما بعدها.
7- بداية المجتهد ج1/260، وانظر الهداية ج1/97.
8- بداية المجتهد ج2/280، وانظر التاج الجامع للأصول ج2/266.
ـ إسقاط فريضة الخمس في الأموال بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
ـ تحريم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها(3).
ـ تحريم نكاح المتعة(4).
ـ التوبة لا تسقط الحد(5).
ـ تحريم الرضاع ولو بقطرة واحدة(6).
ـ تعطيل سهم المؤلفة قلوبهم(7).
____________
1- استناداً إلى الرواية المنسوبة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على لسان أبي بكر: لا نورث ما تركناه صدقة. وعلى أساس هذه الرواية صودر ميراث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ملكه بحق الخمس من قبل الخلفاء وحجب عن السيدة فاطمة(عليها السلام) ونساء النبي، انظر مسلم كتاب الجهاد والبخاري كتاب المغازي والخمس.
2- فريضة الخمس للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولذي القربى من أبناء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كما نصت على ذلك آية سورة الأنفال (واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) رقم 41 انظر تفسير سورة الأنفال في كتب التفسير والبخاري كتاب الخمس. وشرحه في فتح الباري. وانظر كتب السنن.
3- استناداً إلى رواية منسوبة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تقول: لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. انظر البخاري ومسلم كتاب النكاح.
4- استناداً إلى فتوى عمر بن الخطاب وروايات تقول بتحريمها. انظر البخاري ومسلم كتاب النكاح. وانظر كتب السنن الأخرى. وتكتظ هذه الكتب بروايات تقول بإباحة هذا الزواج. انظر لنا كتاب: زواج المتعة حلال في الكتاب والسنة.
5- قال بذلك الشافعية. انظر الأم ج6/165.
6- قال بذلك الأحناف. انظر أحكام القرآن ج2/124. وانظر كتب التفسير.
7- استناداً إلى فتوى عمر بن الخطاب الذي اجتهد على النص الصريح.
ـ تحريم جهاد الحكام الطغاة والفجار(2).
ـ تحريم النظر في كتب المخالفين(3).
ـ تحريم دفن تارك الصلاة في مقابر المسلمين(4).
ـ تحريم نكاح المخالفين(5).
ـ تحريم الخوض في الصحابة(6).
وذلك غير تضليلهم المسلمين عن حقيقة أهل البيت(عليهم السلام)وتشويههم والحط من قدرهم، وهذا قمة المحرمات التي تتناقض مع النصوص الصريحة في حقهم.
ومن هذا يتبين لنا أن أهل السنة تنطبق عليهم مواصفات الفرقة الهالكة
____________
1- اعتمد التحريم على رواية: لا تشد الرحال إلاّ لثلاثة مساجد. انظر مسلم كتاب الحج والبخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.
2- انظر العقيدة الطحاوية وشرحها وانظر كتب العقائد الأخرى الخاصة بفرق أهل السنة. وانظر مسلم كتاب الإمارة وشرح النووي له. وانظر البخاري كتاب الأحكام وشرح ابن حجر له في فتح الباري. وانظر كتابنا: أهل السنة شعب الله المختار.
3- انظر الاعتصام للشاطبي والطرق الحكمية لابن القيم ونقص المنطق لابن تيمية وأصول الدين للبغدادي.
4- قال بذلك الحنابلة. وتارك الصلاة كافر في منظورهم على أساس بعض الروايات. انظر كتب الفقه الحنبلي. وفتاوى رموز الوهابية المعاصرين.
5- أفتى بذلك الحنابلة والوهابيون المعاصرون. وانظر كلام البغدادي السابق.
6- انظر كتب العقائد مثل العقيدة الطحاوية والعقيدة الواسطية لابن تيمية وعقيدة أهل السنة لابن حنبل. وعقيدة أهل السنة للأشعري.
وهذا كلّه يعود إلى كونهم رفضوا تحكيم العقل بداية ونبذوه ونسجوا كهفاً من أوهامهم عاشوا فيه وتحصنوا به في عزلة عن الآخرين.
إلاّ أن حصن أهل السنة ـ كما تبين مما سبق عرضه ـ هو أوهى من بيت العنكبوت، فلا يصلح أن يأوى إليه المسلمون طلباً للأمن والأمان في الدنيا والآخرة.
والمتأمل في نصوص التحريم والإباحة التي عرضناها، يتبين أنها لا تخرج عن كونها رد فعل لأطروحات الفرق المخالفة، فهي لا تستند على نصوص بقدر ما تستند على مواقف لفقهاء فرق أهل السنة لا تتحلى بما يميّزها عن الفرق الأخرى، وإذا سلّمنا بتساويها مع الآخرين فهذا يعنى فقدانها صفة النجاة ويعني مشاركتهم لها في هذه الصفة، والحقيقة أن فرق أهل السنة هي أقل منهم طرحاً وعقلا وأكثرهم خللا.
وليس من السهل أن يسلّم العقل بأن الفرقة التي تجانب العقل وتوالي الحكام الفجار وتلتزم المسلمين بطاعتهم وتتبنى التجسيم والتشبيه فيما يتعلق بصفات الله سبحانه، وتقوم على فقه الرجال الذين تعددت مذاهبهم وطغت على النصوص الصريحة، وتقدّس الرواية إلى الحد الذي يجعلها تعتدى على القرآن، وفوق هذا كله هي لا تلتزم بخلق الإسلام فى مواجهة الخصوم والمخالفين، فتسبهم وتلعنهم وتكفّرهم وتفتري عليهم القول، ليس من السهل ولا من الممكن أن يسلم العقل أن مثل هذه الفرقة هي
بصمات السياسة:
جاء أهل السنة برواية جديدة تدعمهم وتمنحهم صفة جديدة فوق صفة الفرقة الناجية ألا وهي صفة الطائفة المنصورة.
وكأن أهل السنة أرادوا الاستحواذ على الدنيا والآخرة معاً.
في الدنيا هم الطائفة المنصورة.
وفي الآخرة هم الفرقة الناجية.
إلاّ أن فكرة الطائفة المنصورة هذه تفوح منها رائحة السياسة بشكل فاضح، وهو ما يظهر من خلال استعراض روايات الطائفة المنصورة.
روى المغيرة بن شعبة عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون(1).
وروى معاوية: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، ما يضرّهم من كذّبهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
فقال مالك بن يخامر: سمعت معاذاً يقول: هم بالشام.
فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: هم بالشام(2).
وعن ثوبان: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من
____________
1- البخاري كتاب المناقب، وانظر مسلم كتاب الإمارة.
2- المرجع السابق كتاب التوحيد، وانظر مسلم.
وعن سعد بن أبي وقاص: لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة(2).
وعن معاوية: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، وإني لأرجو أن تكونوا هم يا أهل الشام(3).
وعن قرة بن إياس المزني: إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة(4).
وروى من عدة طرق، وآخره نص يقول: عقر دار المؤمنين الشام(5).
وفي روايات أخرى: هم أهل الشام(6).
وغير هذه الروايات روايات أخرى تتحدث عن الطائفة المنصورة أنها طائفة مقاتله(7).
ورغم ذلك فإن فقهاء أهل السنة شهدوا أن الطائفة المنصورة لا صلة لها بالقتال.
قال عبد الله بن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث(8).
____________
1- مسلم كتاب الإمارة، وانظر أبو داود والترمذي في كتاب الفتن.
2- مسلم.
3- مسند أحمد ج4/369.
4- الترمذي باب ما جاء في الشام.
5- انظر النسائي كتاب الخيل وأبي يعلى وابن حبان.
6- البخاري، التاريخ الكبير ج4/62.
7- انظر المراجع السابقة.
8- انظر شرف أصحاب الحديث.
وقال المديني: هم أصحاب الحديث(3).
وقال أحمد بن سنان: هم أهل العلم وأصحاب الأثر(4).
وقال البخاري: لا تزال طائفة من أمتي... يعني أصحاب الحديث(5).
وفي قول آخر له: هم أهل العلم(6).
وقال ابن حبان في معرض حديث الطائفة المنصورة: ذكر إثبات النصرة لأهل الحديث إلى قيام الساعة(7).
وجاء آخرون فقالوا إن الطائفة المنصورة مفرقة بين أنواع المؤمنين: المجتهدون في الأحكام والعقائد، أو المرابطون في الثغور والمجاهدون لإعلان الدين، أو الزهاد، أو المحدثون(8).
وأصحاب هذا القول جاؤوا لإحداث التوازن في الموقف تجاه هذه
____________
1- المرجع السابق.
2- المرجع السابق، وانظر المجروحين لابن حبان ج1/89.
3- انظر شرف أصحاب الحديث.
4- المرجع السابق.
5- المرجع السابق.
6- البخاري ج8/149.
7- الإحسان ج1/232.
8- انظر شرح النووي على مسلم ج13/67، وفيض القدير ج6/396.
ومن الملاحظ أن بعض نصوص هذه الروايات جاء عن طريق معاوية بن أبي سفيان، وهي في أغلبها تركزت حول الشام معقل معاوية واتباعه، والروايات التي جاءت عن طرق أخرى لم تشر إلى الشام قام الفقهاء بتأويلها نحو الشام.
ومعنى أن بعض هذه الروايات جاءت عن طريق معاوية وأشارت إلى الشام معقله ورواتها الآخرون من الصحابة هم من اتباعه وحلفائه مثل المغيرة بن شعبة ومالك بن يخامر وأبي هريرة ـ معنى هذا أنها روايات سياسية اخترعت لنصرة معاوية وخطة وإضفاء المشروعية على نهج أهل الشام خصوم الإمام علي وأهل الكوفة.
والظاهر أن وقت ظهور هذه الروايات هو الفترة الأموية، ولو كانت هذه الروايات قد ظهرت في العصر العباسي لاتجهت بالطائفة المنصورة نحو بغداد.
إلاّ أنه يمكن القول أن تفسيرات فقهاء فرق أهل السنة للطائفة المنصورة وحصرها في دائرة أهل الحديث برزت في العصر العباسي فترة ظهور أهل الحديث الذين لم يكن لهم وجود في العصر الأموي.
ولم تلق هذه الروايات ما لاقت روايات الفرقة الناجية من طعن في سندها إذ إنها رويت في صحاح القوم وعلى رأسها البخاري ومسلم، فلا مجال للكلام في سندها هنا مادام القوم لم يطعنوا في سندها من الأصل كما طعنوا في سند روايات الفرقة الناجية.
ولما كان الشيعة هم الخصم الأكبر لأهل السنة على مر الزمان وحتى اليوم الذي اختفت فيه الفرق الأخرى المناوئة لهم تقريباً، فقد حصّن أهل السنة أنفسهم برواية في مواجهتهم، رووها على لسان الإمام علي حتى تكون الحجة قوية ورادعة في منظورهم أو على الأقل تكون مطمئنة للاتباع.
روى أبو موسى الأشعري: اجتمع عند علي رأس النصارى ورأس اليهود.
فقال الرأس: تجادلون على كم افترقت اليهود؟
وقال الآخر: على إحدى وسبعين فرقة.
فقال علي: لتفترقن هذه الأمة على مثل ذلك، وأضلها فرقة وشرها الداعية إلينا ـ أهل البيت ـ آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر(1).
وهذه الرواية المختلقة لم تحظ باحترام القوم، إذ لم تروها كتبهم المعتمدة وإن كانت قد اشتهرت وسلطت عليها الأضواء في زمان ظهورها واختراعها حيث كانت القوى الحاكمة وأهل السنة في حاجة ماسة لدعم
____________
1- رواه ابن بطة في كتاب الإبانة الكبرى ج1/1229، وفي رواية اخرى: شرها فرقة تنتحل حبنا وتخالف أمرنا.
وجملة: شرها الداعية إلينا آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر، تفوح منها المذهبية والسياسة في آن واحد.
أما من جهة المذهبية فهي تبدو ظاهرة من خلال تحديد علامة الفرق بالدعوة إلى أهل البيت وربطها بالشر، فربط الشر بدعوة أهل البيت هو قمة التعصب المذهبي وقمة التشوية والتضليل.
ومن جانب آخر فإن تحديد دائرة أهل البيت(عليهم السلام) يعني أن هذه الرواية موجهة إلى خصوم بعينهم وهم الشيعة الفئة الوحيدة بين المسلمين التي ترفع راية أهل البيت(عليهم السلام) وتدعو إلى مذهبهم.
ثم أن الإشارة إلى أبي بكر وعمر تؤكد النزعة المذهبية الفرقية لأهل السنة الذين يعتقدون بقداسة هذين الرمزين دون بقية الفرق الأخرى، وقد وجهوا هذه الرواية نحو الشيعة التي تتبنى موقفاً رافضاً لهذين الرمزين(1).
ومن جهة السياسة فإنه يمكن القول أن هذه الرواية من اختراع العصر العباسي، حيث كان الصراع على أشده بين العباسيين الذين ركبوا موجة أهل البيت ووصلوا إلى الحكم عن طريقها ـ وشيعة أهل البيت المنافسين لهم على مستوى واقع المسلمين الذين كانوا يمثلون فيه ثقلا كبيراً آنذاك.
من هنا كان العباسيون في حاجة ماسة إلى الشرعية التي وجدوها في جيل الفقهاء الذين نموا وترعرعوا في العصر الأموي الذي سادت فيه القيم
____________
1- من هنا أطلق على الشيعة اسم الرافضة، والشيعة هم الطائفة الوحيدة التي تملك نظرية نقدية للصحابة دون بقية الفرق والاتجاهات الأخرى.
هذه هي قصة نشأة أهل السنة وبروز رواياتهم وفرقهم.
وهذا هو دافع خصومتهم وعدائهم للفرق الأخرى فقد وجد فيهم العباسيون ضالتهم المنشودة ليس في مواجهة الشيعة فقط بل في مواجهة جميع القوي المعارضة الأخرى.
ووجدوا هم في العباسيين الأمن والدعم والحماية، وكان لابد لهم من الحفاظ على هذه المكاسب ودفع الثمن بإعلان الحرب على الفرق والاتجاهات الأخرى وتشويهها وتخويف المسلمين منها وتشكيكهم في عقائدها وأفكارها.
ولا شك أن الفرق والاتجاهات الأخرى لا تشكّل خطراً على أهل السنة وحدهم بل على العباسيين أيضاً.
وهكذا كان الدافع المصلحي هو مبرر الارتباط بين العباسيين وأهل السنة فكلاهما ارتبط مصيره ومستقبله بالآخر.
وعلى ضوء هذه المصلحة ارتبط أهل السنة بالحكام من بعد العباسيين وقاموا بتقنين العلاقة بين الرعية والحكام وجعلوا طاعتهم وعدم الخروج عليهم من العقائد.
وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نتبين أهمية فكرة الطائفة المنصورة والفرقة الناجية بالنسبة لأهل السنة وللحكام.
وفي الوقت نفسه تضفي القدسية والمشروعية عليهما.
وقد وردت الكثير من الروايات في تفضيل أهل الشام كما وردت روايات أكثر في تفضيل الإمام علي بن أبي طالب وأهل البيت(1).
واحتار فقهاء أهل السنة في حسم هذا التناقض بين الروايات، فتفضيل أهل الشام يعني رفع معاوية وخفض الإمام علي، وتفضيل الإمام علي يعني الحط من أهل الشام وخفض معاوية.
ولو انحاز أهل السنة بفكرة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة نحو أهل البيت(عليهم السلام)لضرب الخط السائد نهج معاوية والعباسيين من بعده ولضاع أهل السنة أيضاً ولم يصبح لهم وجود ويلحقون بكثير من الفرق التي أصبحت في ذمة التاريخ، وأمام هذا الأمر اضطر أهل السنة إلى التوفيق بين الروايات وتبني الحل الوسط الذي يحفظ كيانهم وكيان الحكام.
يقول ابن تيمية: أما قوله(صلى الله عليه وسلم) لا يزال أهل الغرب ظاهرين.. ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم فهكذا وقع، وهذا هو الأمر، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين.
وأما قوله(صلى الله عليه وسلم): لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله. ومن هو ظاهر فلا
____________
1- انظر تاريخ دمشق لابن عساكر ج1 وقد حشد فيه عشرات الروايات التي تمجد في الشام وأهله وانظر الترمذي كتاب الفتن باب ما جاء في الشام. وانظر كتب السنن أبواب الفضائل. وباب فضل أهل البيت في مسلم. وفضل الإمام علي في هذه الكتب. وخصائص الإمام علي للنسائي.