الصفحة 31
واللاهدف ملابس الدعوة والهدف.

وبعد أن أعلن الشيطان الخط العريض، بأنه سيجلس على الصراط المستقيم. ذلك الصراط الذي يوصل الناس إلى ربهم الحق وينتهي بهم إلي سعادتهم في الدنيا والآخرة، أخبر سبحانه بأنه قال: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * وفي هذا إيضاح للخط العريض. قال المفسرون: عن مجاهد قال * (من بين أيديهم) * يعني من حيث يبصرون، وقيل:

من بين أيديهم أي الدنيا (1). وقيل: أي ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم، من الأمور التي تهواها النفوس، وتستلذه الطباع. وكل ما يتعلق بالآمال والأماني. فيأتيهم ليخوفهم من الفقر إذا هموا لينفقوا في سبيل الله. أو يخوفهم من ذم الناس أو لومهم إذا أمروا بمعروف أو إذا سلكوا سبيل من سبل الخير وعلى هذا جاء فقه التقوقع والترقيع والانسحاب، غلافه غلاف الدين ومحتواه لا علاقة له بالدين.

والمراد من خلفهم، قال المفسرون: أي أرغبهم في دنياهم (2)، وقيل:

أي آتيهم من ناحية الأولاد والأعقاب وذلك لأن الإنسان له فيمن يخلفه من أولاد، آمال وأماني ومخاوف ومكاره. ويخيل للمرء أنه يبقى ببقاء أولاده، ويسره ما يسرهم ويسوؤه ما يسوؤهم، فيجمع لهم المال من حلاله وحرامه، ويفسح لهم الطريق إذا كان ذا جاه وملك ليكونوا امتدادا له بعد وفاته.. وعلى قاعدة الأبناء جاء فقه السلطة الذي يمدح المستقبل لأنه ينتمي إلى حاضر القاضي والجلاد ويمدح الحاضر لأنه ينتمي إلى ماضي القاضي والجلاد إنه عالم * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) * (3)، عالم ينظر إلى المستقبل بعيون الماضي وإن كان آباؤهم في الماضي لا يعقلون شيئا، إنه عالم غلاف فقهه غلاف ديني أما محتواه فهو أقرب إلى المحافظة على الشذوذ.

____________

(1) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

(2) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

(3) سورة الزخرف: الآية 22.

الصفحة 32
والمراد بعن أيمانهم وعن شمائلهم، قال المفسرون: عن أيمانهم: أي أشبه عليهم أمر دينهم (1). وقيل: اليمين هو الجانب القوي الميمون من الإنسان، أي الدين. وإتيانه من جانب الدين، أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية والتكاليف بما لم يأمرهم الله.. وعلى هذا جاء فقه المبالغة والتنطع والمنفرين، الذين يدعون أنهم يعلمون كل شئ وهم لا يعلمون أي شئ. وعلى أكتافهم تتآكل الشرائع ويتراجع الدين، إن غلاف فقه المنفرين والمتنطعين والذين يتخذون الزهد والرهبنة طريقا ليأكلوا به أموال الناس بالباطل، غلاف يحمل ملامح دينية. أما محتواه فقد خطه أصحاب القضايا الرديئة، التي لا تصلح إلا لعالم اللادعوة واللاهدف * (وعن شمائلهم)، قال المفسرون: اشتهى لهم السيئات والمعاصي. وقيل: عن شمائلهم أي تأصيل الفحشاء والمنكر والدفاع عن اقتراف الذنوب بجعل الأهواء قانونا لهم.. وأمام هذا الفقه تقهقر اليمين وتقدم الشمال تحت لافتة تنادي بحقوق الإنسان، فالعنوان له ملامح طيبة " حقوق الإنسان " أما المحتوى فلا وجود فيه لإنسان الفطرة، إلا من رحم الله.

والمنهج الشيطاني لم يكتف بمحاصرة الإنسان من جهاته الأربع، وإنما خطط من أجل أن يجمع أتباعه تحت ثقافة واحدة، هي ثقافة الأهواء رغم تفرق سبلهم، وهذه الثقافة يعزفها الشيطان الرجيم على الجميع. أخبر الله تعالى بأنه قال: * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * (2). قال المفسرون: يقال، حنك الدابة بحبلها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. والمعنى: أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة، وهو مدة مكث بني آدم في الأرض، لألجمن ذريته إلا قليلا، أتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها، يطيعونني فيما آمرهم، ويتوجهون إلى حيث أشير لهم، من غير أي عصيان وجماح. إن الاحتناك فقه لتلجيم العقول وتكميم الأفواه

____________

(1) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

(2) سورة الإسراء: الآية 62.

الصفحة 33
وتعصيب العيون، عن كل حق أو حقيقة. إن الاحتناك قانون يضرب بسياطه الغوغاء والرعاع والديهماء.

وفي عالم الاحتناك تتلقى الدواب أوامر الضلال والأماني وتغيير خلق الله، بدون اعتراض وبلا أدنى تفكير. قال تعالى وهو يخبر في كتابه عن خطة الشيطان * (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * (1). قال المفسرون: * (ولأضلنهم) * أي عن طريق الحق، * (ولأمنينهم) * أي أزين لهم ترك التوبة * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) * يعني بشق آذانها، * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * يعني دين الله (2).

والمعنى: أي لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله، واقتراف المعاصي، ولأغرينهم بالأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم، ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله، ولآمرنهم بتغيير خلق الله.

وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحاق. وقيل: المراد بتغيير خلق الله، الخروج عن حكم الفطرة، وترك الدين الحنيف. قال تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) * (3). والخروج على حكم الفطرة، غير تبديل الفطرة. فالفطرة لا تبدل لأنها حجة بذاتها على الإنسان.

وهكذا قطع البرنامج الشيطاني الطريق على الرسل والفطرة والدعوة، والله غالب على أمره. لقد طلب الشيطان الامهال إلى يوم الوقت المعلوم، فأعطاه الله ذلك، وتوعد ذرية آدم بالإغواء والتزيين والاحتناك وغير ذلك. ولأن برنامجه لا يقصده إلا شر الدواب عنه الله، زاده الله فقال له تعالى: * (اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان

____________

(1) سورة النساء: الآية 118 - 119.

(2) تفسير ابن كثير: 556 / 1.

(3) سورة الروم: الآية 30.

الصفحة 34
إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) (1). قال المفسرون: أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم بصوتك، وصح عليهم لتسوقهم إلى المعصية بأعوانك وجيوشك، فرسانهم ورجالتهم. وشاركهم في الأموال فيجمعونها من خبيث وينفقونها في حرام، وشاركهم في الأولاد أي يمجسونهم ويهودونهم وينصرونهم ويصبغونهم غير صبغة الإسلام. (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) أخبر سبحانه، بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال (وكفى بربك وكيلا) أي حافظا ومؤيدا ونصيرا (2).

إن برنامج الشيطان تنسفه العبادة الحق نسفا. فالشيطان لا يستطيع أن يجبر إنسان على معصية، إنه يزين ويغوي وينادي فقط، والذي يلبي نداءه يكون في الحقيقة قد اختار، ومن اختار طريق الشيطان فهو بعيد عن الله، وبرنامج الشيطان يسير اتباعه عكس اتجاه الفطرة، ولا يقصدوا إلا ما خلفوه وراء ظهورهم.

والإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة، كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه، لم ينل إلا شرا أو فسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، وليس بفالح أبدا. وذلك لأنه مطارد من الله ولا بقاء لشئ يطارده الله إن أتباع برنامج الشيطان لن يهديهم الله، ما داموا يتزودون من زاد برنامج الضلال. (والله لا يهدي القوم الظالمين) (3) (والله لا يهدي القوم الفاسقين) (4) (والله لا يهدي القوم الكافرين) (5) (إن الله لا يهدي من يضل) (6) (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) (7) (إن الله لا يهدي من هو

____________

(1) سورة الإسراء: الآية 63 - 64 - 65.

(2) تفسير ابن كثير: 50 / 3.

(3) سورة التوبة: الآية 19.

(4) سورة المائدة: الآية 108.

(5) سورة البقرة: الآية 264.

(6) سورة النحل: الآية 37.

(7) سورة غافر: الآية 28.

الصفحة 35
كاذب كفار) * (1) فهؤلاء جميعا دخلوا باختيارهم إلى دائرة مقفولة على الغاوون.

فمن لم يأخذ بالأسباب وخرج من هذه الدائرة، هلك وخسر الدنيا والآخرة، إن العودة إلى سبيل الفطرة، لا يكون إلا بالاتجاه أولا نحو الفطرة، ثم السير على سبيلها وفقا لما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى الخطوة الأولى يأتي مدد الله العزيز الحكيم، قال تعالى: * (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) * (2).

4 - حصار برنامج الشيطان:

لقد عمل الشيطان وقطاع الطرق على امتداد التاريخ الإنساني، من أجل التشكيك في كل رسول ونبي، رافعين في وجوههم أعلام الاستكبار والتحقير.

وعلى امتداد التاريخ لم ينقل إلينا أن هناك نبيا أو رسولا قد هزم وإنما نقل إلينا أن الاستكبار هزم في كل مكان وكل زمان، هزم تحت طين الطوفان أيام نوح عليه السلام. وهزم تحت الرياح العاصفة أيام هود عليه السلام. وهزم تحت صاعقة من السماء أيام صالح عليه السلام وهزم تحت قصف الحجارة من السماء أيام لوط عليه السلام. وهزم تحت أمواج البحر المتلاطمة أيام موسى عليه السلام. وما زال يهزم حتى يومنا هذا تحت شهادة الدعوة الخاتمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) * (3).

إن الباطل هو الذي يهزم وفي هزيمته آية لكل من له سمع وبصر وعبرة لمن أراد الاعتبار * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) * (4).

ولقد عمل الشيطان وقطاع الطرق من أجل تدمير الدعوة، ولكن هيهات،

____________

(1) سورة الزمر: الآية 3.

(2) سورة محمد: الآية 7.

(3) سورة غافر: الآية 51.

(4) سورة الأنبياء: الآية 18.

الصفحة 36
منذ آدم عليه السلام وحتى محمد صلى الله عليه وسلم والتوحيد يسري في الوجود. لقد ذهب الجبابرة وأبناء الجبابرة الذين ادعوا أن دماء الآلهة تجري في عروقهم، ذهبوا، وذهب من بعدهم الجلادون الذين أرادوا أن تكون للشذوذ قداسة. ذهبوا وما زالوا يذهبون، ودعوة الحق راسخة في النفوس رسوخ الجبال * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) * (1).

ولقد عمل الشيطان وقطاع الطرق من أجل تدمير الفطرة. والفطرة التي استهدفوها يقدروا على تبديلها وفي هذا انتكاس لهم. أما تغيير الطريق الفطري، فإن الشيطان لم يمكن من إجبار الناس على المعاصي، هو يدعو إليها فقط. وهذا الباب أغلقته حجج الله على عباده في عالم الذر والخلق، وفي عالم المشاهدة المنظور. ولقد جاء رسل الله عليهم السلام بالدين الحق، وللدين طريقة خاصة في الحياة، وبه يميز الناس أي الطرق يسلكون إلى حياة طيبة في الدنيا والآخرة، والدين الصحيح لا يكون إلا بحفظ الصلة بالله تعالى وإخلاص العبادة له. فمن أخلص العبادة لله تكون له حياة طيبة والله تعالى يحيي في الدنيا الذين آمنوا حياة غير الحياة التي يعطيها للآخرين، فحياة المؤمنين والمجرمين وموتهما لا يتساويان. قال تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) * (2).

ومن أعظم الحجج على الإنسان، أن الله ما ترك دعوة جاء بها رسول من رسله، إلا وأخبر فيها عن مكائد الشيطان، كي يحذر الجنس البشري من عمليات الاغواء والتزيين وغير ذلك. أليس في هذا تعرية لبرنامج الشيطان، والرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، أفاض فيها سبحانه في هذا الجانب، وكشف كل مكر يقوم به الشيطان وأتباعه حتى يوم الوقت المعلوم.

____________

(1) سورة الصف: الآية 8 - 9.

(2) سورة الجبائية: الآية 21.

الصفحة 37
أليس في هذا حجة إضافية على ما عند الإنسان من حجج. إن الأخبار بما مضى حجة دامغة * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * (1).

لقد أخبر سبحانه عن أمره ونهيه تعالى فقال: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * (2)، وبين سبحانه أن الشيطان سيعمل على طريق ما نهى الله عنه، فقال إنه (يأمر بالفحشاء والمنكر) * (3) ولأنه كذلك جاء التحذير من الحركة الشيطانية فقال سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) * (4) وقال: * (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) * (5). إنه الحصار المضروب على برنامج الشيطان، حصار هدفه تحرير الإنسان ووضعه على طريق الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. والحياة الدنيا لا تساوي ساعة واحدة أمام الحياة الآخرة.

وكما حاصر كتاب الله أعمدة البرنامج الشيطاني، الفحشاء والمنكر، حاصر قطاع الطرق الذين وجدوا في الطاغوت ضالتهم. فقال تعالى: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) * (6) وفي مقابل هذه الولاية قال سبحانه:

* (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى) * (7).

وقال تعالى: * (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) (8)، ثم حذر سبحانه فقال: * (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا

____________

(1) سورة يس: الآية 60 - 61.

(2) سورة النحل: الآية 90.

(3) سورة النور: الآية 21.

(4) سورة الأعراف: الآية 33.

(5) سورة الأنعام: الآية 151.

(6) سورة البقرة: الآية 257.

(7) سورة الزمر: الآية 17.

(8) سورة الأعراف: الآية: 27.

الصفحة 38
مبينا) * (1)، وقال * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (2).

وآيات القرآن التي تحاصر الشيطان وحزبه، وتبشر المؤمنين بالفوز، آيات كثيرة. أما من ناحية تمكين الشيطان كي يزين للناس المعاصي، فإن الله تعالى زين الإيمان في قلوب الذين آمنوا. قال تعالى: * (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) * (3) وجعل سبحانه لمن آمن نورا يمشي به في الناس، قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) (4). وإذا كان الشيطان قد أمهل حتى يوم الوقت المعلوم، فإن الله أيد الإنسان بتتابع الأنبياء والرسل والأئمة المهدين والملائكة الباقين ببقاء الدنيا. وهكذا، زينة في مواجهة زينة، وحياة في مواجهة حياة، ومنهج في مواجهة منهج.

منهج الله حيث التوحيد، وإعانة الله لعباده، والتسبيح، والتطهير، والحرية، والحلال، والحكمة، والخشوع، والعبادة الحق، والشكر، والشهادة، والخلود. ومنهج الشيطان حيث الاختلاف، والأزلام، والاستبداد، والاستعباد، والتفاخر، والتكذيب، والجهل، والجريمة، والفحشاء والمنكر، والخرافات، والطاغوت، والضلال، والفسق، والظلم والكفر، والنار.

____________

(1) سورة النساء: الآية 119.

(2) سورة النحل: الآية 99.

(3) سورة الحجرات: الآية 7.

(4) سورة الأنعام: الآية 122.

الصفحة 39

ثانيا: النور والسحب الداكنة

على امتداد المسيرة الإنسانية، أقام الله تعالى حجته على خلقه بإرسال الأنبياء والرسل ومعهم الهدى. وعلى امتداد نفس المسيرة والشيطان وأولياؤه يعملون من أجل الضلال والنار، وبعد رحيل النبي المؤيد بالوحي، ينشط الشيطان وتلاميذه في العمل على أرضية الصدر الأول في كل رسالة، وذلك لأن هذه التربة تعتبر مخزنا هاما تستمد منه الأجيال وقودها الذي تنطلق به إلى المستقبل، فالشيطان إذا دق شذوذا في الأرضية الأولى، ضمن لهذا الشذوذ قداسة على امتداد المسيرة البشرية. ومن أجل هذا تنشط حركته على امتداد هذه المساحة، وبالرغم من أن هذه المساحة تكون مشبعة بالعلم، إلا أن الشيطان يواجه هذا العلم دائما بالبغي، وما يلبث الذين يفي قلوبهم مرض أن يهيمنوا ببغيهم الذي يغذيه الزخرف والتزيين والإغواء، فبهذه التغذية يتراجع العلم ويعبر البغي إلى عالم الفتن. ولقد أخبرنا الله في كتابه أن الاختلاف بعد الرسل ما جاء إلا بعد أن أقيمت عليهم الحجة بالعلم، وهذا الاختلاف ما ترعرع إلا على تربة البغي التي يترتب عليها العقاب * (وما اختلف أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * (1).

قال المفسرون: أي بغي بعضهم مع بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم

____________

(1) سورة آل عمران: الآية 19.

الصفحة 40
وتباغضهم وتدابرهم. فحمل بعضهم بغض البعض الآخر، على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا (1). وقيل: اختلاف أهل الكتاب في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، لم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر، بل كانوا عالمين بذلك. وإنما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر، وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر وحقيقته. لا بالله، فإنهم يعترفون به، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه وآخرته أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه. وأما في الآخرة فبأليم عذاب النار، والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين: (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) (2).

وإذا كان البغي قد أثمر شجرة الاختلاف. فإنه أثمر أيضا شجرة الافتراق، قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (3). قال المفسرون: أي وما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم وتركهم الاتفاق، إلا حال كون تفرقهم آخذا أو ناشئا من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم (4). وقال ابن كثير: أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم. وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد (5).

إن الشيطان ينشط في تربة العلم، حيث القافلة الأولى. فإن استطاع أن يدق له وتدا أو ينصب له خيمة، ضمن البغي والاختلاف والفرقة. ومن هذه الأشجار سيأكل كل قادم ملجم العقل من بني الإنسان تحت لافتات عدة تزينها سنة الآباء الأوائل، التي يدافعون عنها حتى ولو خرجت منها رائحة الفواحش.

____________

(1) تفسير ابن كثير: 354 \ 1.

(2) تفسير الميزان: 121 \ 3.

(3) سورة الشورى: الآية 14.

(4) الميزان: 31 \ 18.

(5) تفسير ابن كثير: 109 \ 4.

الصفحة 41
والنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، عندما بعث كانت سنة الآباء الضالين لها أعلام في كل مكان من عالم الفرقة والاختلاف. لقد دعاهم إلى الحق، فواجهوه بالباطل (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) (1) (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (2). جاء الرسول الخاتم ليواجه شريحة من الكفار في رسالته الخاتمة تحمل نفس الملامح التي حملها كفار قوم نوح عليه السلام في صدر الإنسانية، فقديما شكا نوح عليه السلام قومه لله تعالى وقال: (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) (3) في الرسالة الخاتمة قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) (4) (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) (5).

لقد جاء النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في وقت كانت سياسة الاغواء والتزيين والاحتناك قد وصلت بأصحابها إلى دركات هوة عميقة.

1 - من مداخل الدعوة الخاتمة:

إن الداعي إلى الله تعالى صلى الله عليه وسلم، جاء ليذكر ويغذي الإرادة.

ويعمق الإخلاص ويشيع الأخلاق الفاضلة، ويبشر بما عند الله للذين آمنوا في الحياة الدنيا والآخرة. ويحذر دوائر الانحراف والاختلاف والفرقة والضلال من عذاب يوم عظيم. وكانت أصول دعوته تستند إلى أهم الأمور الفطرية، ألا وهو لا إكراه في الدين. فنوح عليه السلام قال في صدر البشرية

____________

(1) سورة المائدة: الآية 104.

(2) سورة الأعراف: الآية 28.

(3) سورة نوح: الآية 7.

(4) سورة فصلت: الآية 5.

(5) سورة الفرقان: الآية 60.

الصفحة 42
لقومه (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (1). قال المفسرون: أي إذا كنت على بينة من ربي، على يقين ونبوة صادقة، وخفيت عليكم فلم تهدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها (أنلزمكموها) أي: أنغصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون (2). وقال في الميزان: معناه عندي ما يحتاج إليه رسول الله في رسالته، وقد أوقفتكم عليه، لكنكم لا تؤمنون به طغيانا واستكبارا، وليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه. والآية من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين، وتدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع، وهي شريعة نوح عليه السلام. وهذا الحكم باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ (3).

كان هذا في شريعة صدر البشرية الأول، وفي عصر الرسالة الخاتمة. قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (4). قال المفسرون: نفي الدين الإجباري.. فالاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والإجبار. فإن الاكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية، أما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية (5).

فالدعوة تقف على أرضية لا إكراه في الدين، والداعية يقف على أرضية الخلق العظيم، قال تعالى لرسوله (وإنك لعلى خلق عظيم) (6) ومحاورة صاحب الخلق العظيم لخصومه تشع بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى:

(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (7).

____________

(1) سورة هود: الآية 28.

(2) تفسير ابن كثير 43 \ 2.

(3) الميزان 207 \ 10.

(4) سورة البقرة: الآية 256.

(5) الميزان: 345 \ 2.

(6) سورة القلم: الآية 4.

(7) سورة النحل: الآية 125.

الصفحة 43
ومن أرضية لا إكراه في الدين حاور صاحب الخلق العظيم خصومه وأخبرهم بما أمر به الله. (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (1). قال المفسرون: أمره تعالى أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه، هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم، وسبيل واضح لا تخلف فيه ولا اختلاف. دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام. لكونه مبنيا على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا، مائلا عن التطرف بالشرك. إلى اعتدال التوحيد (2)، وأمره الله تعالى أن يخبرهم بأن طريقه هو طريق العبادة الحق. (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (3). قال المفسرون: أمره تعالى أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه، وسائر به. كما أنه مأمور بذلك، وأمره أن يقول لهم: إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ومحياي بجميع ما له من الشئون.. ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره، جعلتها كلها لله رب العالمين. من غير أن أشرك به فيها أحد، فأنا في جميع شئوني في حياتي ومماتي لله وحده. وجهت وجهي إليه، لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ولا أسير في سير حياتي ولا أرد مماتي إلا له. فإنه رب العالمين، يملك الكل ويدبر أمرهم، وقد أمرت بهذا النحو من العبودية، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة (4).

كان هذا مدخل من مداخل دعوة الإسلام العظيم، ولكن جحافل الليل وخفافيش الظلام خرجوا من عالم الاحتناك حيث خيام تلجيم العقول وتعصيب العيون للصد عن سبيل الله بفرسانهم ورجالاتهم وأموالهم.

2 - عواصف الصد عن سبيل الله:

وقفت الدعوة الإسلامية في مواجهة أصحاب السبيل والاختلاف، رافعة

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 161.

(2) الميزان: 394 \ 7.

(3) سورة الأنعام: الآية 162 - 163.

(4) الميزان: 394 \ 7.

الصفحة 44
هامتها. وقام النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بإنذار خصوم العبادة الحق وإخبارهم أن عبادتهم اتباع للهوى، واتباع الهوى ينافي صفة الاهتداء في نفس الإنسان، ويمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به. (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم) (1) وذكرهم بما حرم الله عليهم ووصاهم به. ومما وصاهم به، أن لا يتبعوا السبل التي دون هذا الصراط المستقيم الذي لا يقبل التخلف والاختلاف، فإن اتباع السبل يفرقهم عن سبيل الله. فيتخلفون فيه فيخرجون من الصراط المستقيم. والصراط المستقيم، لا اختلاف بين أجزائه ولا بين سالكيه. (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون) (2).

ووجد الساهرين على برنامج الشيطان أن برنامجهم في مهب الريح، فكان لا بد من توجيه ضربات إلى الداعي إلى الله وإلى منهج الدعوة وإلى الذين آمنوا.

فهذه المحطات الثلاث اتخذها الشيطان هدفا له منذ أن طرده الله ولعنه، ودوائر الصد عن سبيل الله التي سنسلط عليها الضوء في بحثنا هذا هي (دائرة النجس) و (دائرة الرجس) وبالإضافة إلى هاتين الدائرتين يوجد تيار كان من نسيج الذين آمنوا. لكنه نسيج عبئ عليهم، وهذا الصنف وضعته تحت عنوان (تيار الذين في قلوبهم مرض).

أولا - دائرة النجس:

وفي هذه الدائرة يجلس طابور الشرك كله، قال تعالى: (إنما المشركون نجس) (3). قال في المجمع: كل مستقذر نجس. يقال: رجل نجس وامرأة

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 56.

(2) سورة الأنعام: الآية 153.

(3) سورة التوبة: الآية 28.

الصفحة 45
نجس وقوم نجس لأنه مصدر. وأدخلت في دائرة النجس الكفار نظرا لأنهم جميعا حزمة واحدة لها هدف واحد حدده برنامج واحد. وإذا كان القرآن قد ضرب على المشركين بالنجس فإنه شبه الكفار بالأنعام لأنهم لم يكونوا أهلا لسماع الحق وتعقله. وأهل هذه الحزمة الواحدة استهدفوا الرسل فرموه بالسحر (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) (1) ورموه بالجنون (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (2)، ورفضوا بشرية الرسول فقالوا (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) (3).

ووفقا لبرنامج الشيطان استهدفوا الدعوة فقالوا عن القرآن الكريم: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (4). وخرج الذين تقلبوا في نعيم الترف والزينة وتعلقت قلوبهم بحب الدنيا فرأوا السعادة فيها والعذاب في فقدها. خرجوا ليجلدوا الذين آمنوا، على اعتبار أنهم خرجوا عن سنة الآباء القومية التي تحمل شذوذ المسيرة الإنسانية من عهد نوح عليه السلام. وتحت السياط واللهيب سارت الدعوة الحق تضرب بحججها وجوه الجاحدين والظالمين أعداء العبادة الحق. ولم يجد هؤلاء في جعبتهم من الحجج إلا ما تلقيه الشياطين على عقولهم الفارغة. قال تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون * وقالوا له شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (5). إن سلتهم قد طفحت بأشواك زينت بلون الورود، لقد جاءهم الشيطان من جهاتهم الأربعة ونصب خيامه على دروب الآمال والأماني وتغيير خلق الله، وزين لهم الفواحش، قال تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا

____________

(1) سورة ص: الآية 4.

(2) سورة الحجر: الآية 6.

(3) سورة الفرقان: الآية 7.

(4) سورة الفرقان: الآية 5.

(5) سورة الزخرف: الآية 19 - 22.

الصفحة 46
عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) (1).

لقد عبدوا الملائكة، وساروا بلجام الاحتناك وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم. إنه فقه الصم البكم العمي، لأن عبادتهم للملائكة لو كانت بمشيئة الله وبرضاه، ما جاءهم رسول من الله يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأن يوحدوه ولا يعبدوا الشركاء. ثم إنهم لا حجة لهم على عبادة الملائكة، لا من طريق العقل ولا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها. ولا دليل لهم على حقية عبادتهم سوى أنهم متشبثون بتقليد آبائهم وفي درب آخر من دروبهم فعلوا الفواحش وقالوا وجدنا عليها الآباء والله أمرنا بها. وذلك افتراء على الله وقول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي.

إن الله تعالى أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه، والله جل شأنه لو كان مجبرا لعبده على فعل ما برأ من أفعال المشركين قال سبحانه: (أن الله برئ من المشركين) (2). فهو سبحانه لم يتبرأ من خلق أبدانهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم. قال تعالى: (فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون) (3)، وقال: (قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون) (4).

إن طابور الشرك والكفر والاحتناك لا علم عنده، لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما يصلح أخلاقه. والطريق الوحيد لإصلاح الأخلاق والحصول على الملكات الفاضلة هو التوحيد الحق في العبادة الحق.

وإذا كان للمشركين والكفار في مكة عمود في دائرة النجس. فإن للمشركين والكفار من أهل الكتاب عمود عتيق في هذه الدائرة. لأنهم حملوا

____________

(1) سورة الأعراف: الآية 28.

(2) سورة التوبة: الآية 3.

(3) سورة الشعراء: الآية 216.

(4) سورة هود: الآية 54.

الصفحة 47
برنامج الشيطان وصدوا به عن سبيل الله. ولكن على طريقتهم، فاستهدفوا الرسول والدعوة والذين آمنوا، قال تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) (1)، فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعدما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن. لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة. وإنما يلغوا ويهذوا بما قدمت له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد أو يثبت على أساس (2). إن هدفه الصد عن السبيل بالتشكيك في الرسول، أما الدعوة فقد استهدفوها من جذورها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلن على أسماع الجميع أن دعوته مبنية على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، فقام المشركين من أهل الكتاب بالمتاجرة على حساب أنهم أولى الناس بإبراهيم.

يريدون من وراء ذلك إبعاد الناس عن الدعوة، فنزل قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) (3). قال المفسرون: ضمت كل طائفة منهم إبراهيم إلى نفسها، فتدعي اليهود أنه كان يهوديا، وتدعي النصارى أن كان نصرانيا. ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية، إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والإنجيل، وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم عليه السلام. فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا أو نصرانيا. فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال: إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه. والإسلام الذي وصف به إبراهيم، هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إنه أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (4).

وكما استهدفوا الرسول والدعوة استهدفوا أيضا القوة الإسلامية بعد

____________

(1) سورة النساء: الآية 153.

(2) الميزان: 130 \ 5.

(3) سورة آل عمران: الآية 65.

(4) سورة آل عمران: الآية 67 - 68.

الصفحة 48
الهجرة، فقام اليهود بتغذية الساحة بالمكائد وإشعال الحرب وكان الغرض من هذه الحروب كسر شوكة المسلمين وتجريدهم من قوتهم لحساب المنافقين ولحساب أهل مكة ومن حولهم الذين أخبر تعالى أنهم لا يهتدون ويستوي عليهم الانذار أو عدم الانذار (1).

* حصار دائرة النجس:

لقد استهدف الكفار والمشركين الداعي إلى الله صلى الله عليه وسلم ودعوته والمؤمنين بها. فأما الداعي إلى الله فلم يصل كيدهم إليه لأن الله ينصر رسله ولو كره الكافرون. وأما كتاب الدعوة وهو القرآن الكريم فقد تولى الله حفظه فقال جل شأنه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون) (2). وأما أتباع الدين فإن حفظهم يكون بمقدار اقترابهم من الداعي إلى الله صلى الله عليه وسلم وكتابه. فكلما كانوا أقرب عمهم الأمن والأمان ودخلوا في رحاب النصر والحفظ وكلما ابتعدوا عمهم البغي والاختلاف والافتراق، ودخلوا في خيام برنامج الشيطان. وآيات الكتاب الحكيم التي تحفظ أتباع الدين الحق، آيات كثيرة تحفظهم من وساوس الشيطان وخطواته وتحفظهم من حركة أتباع منهج الشيطان ودسائسهم.

لقد حثتهم آيات الله على الاتحاد والأمانة والتقوى والجهاد والدعاء والذكر والصدقة والعلم والفكر والفهم. إلى غير ذلك من الأمور التي تجعل منهم قوة لا تنفذ إليها سهام دائرة النجس. والأكثر من هذا أن آيات الكتاب الحكيم كشفت برنامج الكفار والمشركين الذي يستمد قوته من برنامج الشيطان. وكشف هذا البرنامج للمؤمنين هو في نفس الوقت حجة عليهم يوم القيامة. وأهم الأعمدة التي يقوم عليها برنامج المشركين من أهل الكتاب قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا

____________

(1) راجع سورة ياسين: الآية 10.

(2) سورة الحجر: الآية 9.

الصفحة 49
نصير) (1). قال المفسرون: إن هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم، ونظموها بآرائهم. ثم أمره تعالى بالرد عليهم بقوله: قل إن هدى الله هو الهدى. أي إن الاتباع إنما هو لغرض الهدى. ولا هدى إلا هدى الله. وهو الحق الذي يجب أن يتبع وغيره - وهو ملتكم - ليس بالهدى.

فهي أهوائكم، ألبستموها لباس الدين. وسميتموها باسم الملة.

ففي قوله (قل إن هدى الله).. جعل الهدى كناية عن القرآن، ثم أضيف إلى الله، فأفاد صحة الحصر في قوله (إن هدى الله هو الهدى)، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى. وأفاد ذلك كونها أهواءا لهم. واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما، وكون ما عندهم جهلا. واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم * ما لك من الله من ولي ولا نصير) فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة ووجود البلاغة على إيجازه. وسلاسة البيان وصفائه (2).

إن الدخول في مساحة هؤلاء يترتب عليها أمور على رأسها (ما لك من الله من ولي ولا نصير) إن مساحتهم بها الزخرف والإغواء والأهواء. والآخذ منهم شيئا لن يأخذه إلا إذا كان حذاؤه قد حمل غبار طريقهم وعقله قد حمل بصمة احتناكهم. وإذا كان القرآن الكريم قد حذر من هذه المساحة العريضة التي يتربع فيها المشركين من أهل الكتاب. إلا أنه في الوقت نفسه حذر من مساحة أخرى يتربع فيها المتخصصون من هؤلاء. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) (3). إنه الفريق الناعم الذي يجيد الاختراق، ويمهد الطريق لمساحته الواسعة كي تفرض سياسات التخويف والتجويع على الأمة، من أجل تنفيذ

____________

(1) سورة البقرة: الآية 120.

(2) الميزان: 265 \ 1.

(3) سورة آل عمران: الآية 100 - 101.

الصفحة 50
برنامج النجس والعار.

وكتاب الله وهو يكشف هذه الأهداف بين أن مخططات هؤلاء ستتحطم إذا اعتصمت الأمة بكتاب الله (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) قال المفسرون: أمر سبحانه بالاعتصام بالحق والإنصات إلى آيات الله، والتدبر فيها وإرجاع ما خفي منها إلى الرسول وسنته. فالآيات وبخت طريق الكفر وسالكيه. وأثبتت أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.. فقوله تعالى: (وفيكم رسوله) يشمل أيضا وفيكم سنته التي بين لكم ما خفي عنكم من تأويل آيات الكتاب.

وكما حذر كتاب الله من المخططات الكبرى لأهل الكتاب، حث المؤمنين على حفظ ثقافتهم الإسلامية في أي مكان تواجدوا فيه. فحذر من ثقافة الآباء والأقارب إن استحبوا الكفر. ونهى عن موادة من حاد الله ورسوله ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والنبوة والأخوة وسائر أقسام القرابة، قال تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هو الظالمون) (1)، وقال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (2). إن حفظ الثقافة والعقيدة في الدائرة الأضيق مطلب إسلامي. كما أن حفظها في الدائرة الأوسع فيه دفاع عن الفطرة أمام الشهوات والأهواء المتعددة. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (3). قال المفسرون: المراد هو النهي عن موادتهم الموجبة لتجاذب الأرواح والنفوس. فإن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية على اتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة

____________

(1) سورة التوبة: الآية 23.

(2) سورة المجادلة: الآية 22.

(3) سورة المائدة: الآية 51.

الصفحة 51
الشيطان، والخروج عن صراط الحياة الفطرة (1).

لقد أقام الله حجته على حركة المسلمين على امتداد التاريخ، وقام القرآن الكريم بإظهار الداء وتشخيص الدواء. كي لا تختلط الثقافات وتنتج في النهاية صنفا لا علاقة له بالإسلام أو بأهل الكتاب. صنفا لا من هؤلاء ولا من هؤلاء مهمته الوحيدة الوقوف في دائرة الاحتناك يقدم خدماته لمن يلقف رغيفا أو شهوة تافهة.

ثانيا - دائرة الرجس:

قال تعالى وهو يذم المنافقين (فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم) (2)، وقال سبحانه: (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (3). والرجس هو كل قذر وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح واللعنة والكفر. قال الزجاج: الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل (4) والقرآن الكريم اهتم بالمنافقين، فذكرهم نظرا لخطورة العمل الذي عزموا عليه. فذكر مساوئ أخلاقهم، وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم. والفتن التي أقاموها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى المسلمين وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم وقد وعدهم الله أشد الوعيد. ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وفي الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار. وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم. فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه. ويكفيك

____________

(1) الميزان: 373 \ 5.

(2) سورة التوبة: الآية 95.

(3) سورة التوبة: الآية 125.

(4) لسان العرب: 159 \ 18.